إسلام ويب

مكر الماكرين وتخطيطات المجرمين [6]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • على الرغم من الخطر العظيم الذي يشكله أعداء الدين والأمة ممن يقولون بأن دين الإسلام ليس هو شريعة الرحمن، إلا أن خطرهم يتضاءل وشرهم يتقاصر إذا ما قارناهم بفئة أخرى جاءت بقوانين وضعية وشرائع بشرية وقالت: هذه هي شرعة رب البرية، وقد روج لهذه الدعوى صنفان من الناس من هذه الأمة: علماء سوء جعلوا الدين مطية، وحكام هوى وضلالة اعتمدوا لذلك وسائل شيطانية، فجروا على أمة محمد عليه الصلاة والسلام الشرور والآثام.

    1.   

    ملخص لما جاء في منهج الداعين إلى فصل الدين عن الحياة صيانة لجنابه من الدنس بزعمهم

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    إخوتي الكرام! لا زلنا في مدارسة مقدمة لتفسير آيات القرآن التي سنبدأ إن شاء الله بها في هذا العام تحت عنوان دروس التفسير، وهذه المقدمة دارت حول أمرٍ خطير خطير، لعلنا إن شاء الله نكمل الكلام عليه في هذه الموعظة، وننتقل بعدها إلى متابعة دروسنا في التفسير، هذا الأمر الخطير هو -كما قلت إخوتي الكرام- أساليب الماكرين في هذا الزمان نحو كلام ذي الجلال والإكرام، وقلت: إن تلك الأساليب أخذت ثلاثة أشكال:

    الشكل الأول: دعا إلى إهمال القرآن، ونبذه وراء الظهر على حسب زعمه بما تقدم في هذا العصر، وقد قال قائلهم:

    سلامٌ على كفرٍ يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم

    وقد وصل الأمر باللعين الصليبي جميل معلوف الذي هلك سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، وهو من نصارى لبنان من بلاد زحلة، ثم هاجر بعد ذلك إلى مستنقعٍ آسن وهو نيويورك، وأصدر مع عمه هناك جريدة الأيام، يقول هذا اللعين الصليبي: بلاء الشرق من الأديان، ومصيبة الشرقيين تكمن في اتباعهم للنبيين عليهم صلاة الله وسلامه، ولذلك إذا خير الواحد منا -كما يقول هذا الملعون- بين الإيمان والكفر فإنه سيختار الكفر؛ لأن الكفر يوحد بين أبناء الوطن، والإيمان يفرق بينهم، هذه الدعوة الأولى، دعوا إلى نبذ القرآن، وإلى طرحه وراء الظهر لنتقدم في هذا العصر، فلا قرآن، ولا إسلام، ولا اتباع لنبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام، كما قال قائلهم:

    كذب الداعي بما ادعى البعث لن يتصدعا

    لا تسل عني ولا عن مذهبي أنا بعثي اشتراكي عربي

    هذه الدعوة الأولى، وهذه الدعوة إخوتي الكرام! قلت: إن كفرها ظاهرٌ مكشوف، فهي أظهرت الكفر وما تسترت وراء ستارٍ ولا وراء جدار، وإذا كان كفرها معلوماً بالضرورة قلت: لن نشتغل في مناقشتها، يكفيها إعلانها بكفرها، ويكفيها أنها دللت على سخف عقولها، وأي عقلٍ أسخف ممن لا يرضى باتباع ربه، ويرضى بأن يتبع الغربيين؟ لن يعتمد على الله، ولم يعول على نفسه، إنما رضي بالتبعية لغيره، فعلامة سخف عقله أنه هو لم يعتمد على نفسه، سخيف العقل، كافرٌ بالله، فلذلك سنهمله ولن نشتغل في مناقشته.

    والأسلوب الثاني دعا إليه شرذمةٌ من الناس، وهو خطيرٌ حقير، خلاصته: بأنه ينبغي أن نفصل الدين عن الحياة، فالدين على تعبيرهم شيءٌ جليلٌ جميل، ينبغي أن يكون محله في القلب، وأما هذه الحياة فتترك للبرلمان ولمجلس الوزراء ومجلس الأمة ومجلس الشعب لينظم شئون الحياة بما يوجده من أنظمةٍ وقوانين، فصل الدين عن السياسة، فصل الدين عن الدولة، فصل الدين عن الحكم، وهذه الدعوة قلت: إخوتي الكرام! إنها ردةٌ قوية، وهي أعظم من ردة الرعية، فالرعية إذا ارتدت وكفرت والحكومة مؤمنةٌ بالله العظيم فبإمكانها أن ترد الرعية إلى صراط الله المستقيم، لكن الأمر إذا انعكس، فالرعية عندها إيمان، والحكومة والت الشيطان، وخرجت من الإسلام، فرد الحكومة صعبٌ.. صعبٌ.. صعب، ولذلك هناك ردةٌ قوية، وهناك ردةٌ ضعيفة، الردة القوية هي ارتداد الحكومة، وفصل الدين عن الدولة، والردة الضعيفة هي ردة الرعية، فإذا ارتدت الرعية، فمع شناعة هذه الفعلة المنكرة إلا أن هذه الردة فيها هوادة وخفة، وبإمكان السلطان أن يردعها، وأن يعيدها إلى حظيرة الإسلام.

    وبينت إخوتي الكرام خطورة فصل الدين عن الدولة والسياسة، وأن الدعوة إلى ذلك ردةٌ ومروقٌ من الإسلام، وختمت الكلام على هذه المسألة بأمر ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا طرفة عين، وهو أنه إذا فصلنا الدين عن الحياة ضعنا في هذه الحياة قبل أن نشقى بعد الممات.

    ما ينبغي توافره في القوانين لتصلح بها شئون العباد في الدنيا والدين

    ولذلك قلت: إخوتي الكرام! إن القانون ينبغي أن يكون فيه خمسة أمور ليسعد الناس، وهذه الأمور لا توجد.. بل لا يوجد واحدٌ منها في غير كلام الله جل وعلا، ولذلك من أعرض عن كتاب الله وشرعه وهديه ضل وتخبط في هذه الحياة، وشقي وعذب بعد الممات، وهذه الأمور الخمسة ذكرتها إخوتي الكرام، وقررتها بأدلة، وما أعلم هل علقت بأذهانكم، أو علق شيءٌ منها، أولها: القداسة، ينبغي أن يكون النظام والقانون مقدساً، وقلنا: أي قداسةٍ أعظم من كون هذا القرآن من عند ربنا الرحمن! لا قداسة فوقها، إذاً هذا قانونٌ مقدس، وما عداه قانونٌ مدنس، ولذلك لا تميل النفس إلى أخذه ولا إلى قبوله.

    والأمر الثاني: قلت: ينبغي أن يكون القانون مصوناً من التغيير والعبث، والقوانين الوضعية الوضيعة عرضة للتغيير ما بين الحين والحين، وأما كلام رب العالمين فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميد، ولا يحق لأحدٍ أن يتصرف في لفظٍ من ألفاظه، ولا في حكمٍ من أحكامه.

    والأمر الثالث إخوتي الكرام! قلت: ينبغي أن تكون نصوص القانون شاملةً لكل ما يقع في هذه الحياة، ولا وجود لهذا إلا في النصوص الشرعية في الآيات المحكمات، وفي أحاديث خير البريات عليه صلوات الله وسلامه.

    والأمر الرابع: ينبغي أن تكون أحكام ذلك القانون فيها إنصافٌ وعدل بين جميع عباد الله وبين جميع المخلوقات، ولا وجود لهذا إلا في نظام رب الأرض والسموات.

    وآخر الأمور، وهو مسك الختام في الأمور الخمسة: أن هذا القرآن مع كونه نظام دولة، ودين حياة، هو جنسيةٌ فوق الجنسيات، ربط بين العالمين أجمعين برباطٍ محكمٍ متين، فجعلهم إخوةً متحابين، ربط بين الأحياء والأموات، وربط بين هذه الأمة وبين الأمم الغابرة الماضية منذ أن خلق الله آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه إلى هذا الحين، إلى ما سيأتي: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، فهم أسرةٌ واحدة، وربٌ إلهٌ واحد، لا إله إلا هو سبحانه وتعالى.

    فساد رباط الاشتراكية الشيوعية ومصادمته للفطرة السوية

    هذه الأمور الخمسة إخوتي الكرام -كما قلت- تبين لنا سلامة نظام ربنا، وتبين لنا سفاهة الأنظمة الوضعية الوضيعة، ولذلك آخر الأمور، وهو أن هذا القرآن جنسيةٌ فوق الجنسيات، بإمكان لا أقول: مائة ألف، أو مليون، أو مائة مليون، بإمكان البشرية بأجمعهم أن يكونوا مسلمين بكلمةٍ واحدة، فيصبحوا إخوةً متحابين، وهل هذا الأمر موجودٌ في نظامٍ من أنظمة الأرض؟ هل يمكن للناس أن يكونوا بريطانيين بكلمةٍ واحدة؟ وهل يمكن للبشر أن يكونوا سوريين بكلمة واحدة؟ وهل يمكن للبشرية أن يكونوا مصريين.. وهكذا سائر الجنسيات العفنة بكلمةٍ واحدة؟ لا، أما الجنسية الإسلامية فإذا قلت: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله عليه الصلاة والسلام، أخذت تابعية الدولة الإسلامية، ولذلك هذا الرباط هو الذي يربط بين القلوب، وأما الروابط الأخرى فقلنا: إنها عدوةٌ للبشر، فرقت بينهم وجعلتهم متناحرين متخاصمين متباغضين، وقلت: هذه الرابطة لا توجد إلا في نظامين: نظام الحق، وهو القرآن، ونظام باطل أذن الله بزواله في هذه الأيام، وهذه من أعظم البشارات لنا معشر أهل الإسلام، وهي الرابطة الاشتراكية الشيوعية، نعم بإمكان أهل الأرض جميعاً أن يكونوا شيوعيين، والنظام الشيوعي يسعهم، لكن ليس بإمكان النظام الأمريكي ولا البريطاني ولا الفرنسي ولا العربي، أي دولةٍ على وجه الأرض، ليس بإمكانها أن تشمل جميع العالم، هذا لا يوجد إلا في نظام الرحمن، وفي نظام الشيوعية العفنة، وهي أيضاً مع أن نظامها متسع، لكنه من فضل الله يصادم الفطرة، ولذلك زال في هذه الحياة، ونسأل الله جل وعلا أن يلحق الأنظمة البشرية الأخرى به، إنه على كل شيءٍ قدير، وفي نهاية الأمر: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32].

    هذه الدعوة الثانية والأسلوب الثاني ناقشناه إخوتي الكرام! على التفصيل في المواعظ المتقدمة.

    1.   

    دعوى من يقولون بأن القوانين الوضعية هي ذاتها الشريعة الربانية

    والآن سنناقش الأسلوب الثالث والدعوة الثالثة، وهي التي تبنت أسلوب الفصل مع المكر، فصلت الدين عن الحياة، فصلت الدين عن السياسة، فصلت الدين عن الدولة، وأنكرت الفصل، قالت: فصلنا إيمان، كفرنا طاعةٌ للرحمن، جاهليتنا شرعية، ضلالنا هدى، فصلت ثم أنكرت الفصل، الفرقة الأولى والأسلوب الأول قلنا: مكشوف، ما استحى من الله ولا من الناس، والأسلوب الثاني هو نفس الأسلوب الأول، ولكن سلك طريق المخادعة، هو كفر، لكنه سلك طريق المخادعة وتخدير البشر، فقال لهم: هذا النظام.. هذا القرآن دعوه في قلوبكم يا بني الإنسان، هذا شيءٌ عظيم، لا تدنسوه في هذه الحياة، افصلوا الدين عن السياسة، هي نفس الدعوة الأولى؛ لكن مع شيءٍ -كما قلت- من الخداع، وهناك مجاهرة، وأما هذه فيها أعظم أنواع التلبيس، فضللت ضلالها وكفرها، وجعلت ضلالها هدى، وكفرها إيماناً، عندنا فصل مع مكر، أي: أتت بشريعةٍ مبدلة، وقالت: هذه الشريعة المبدلة هي شريعة الله المنزلة.

    الفرقة التي قبل هذا مع كفرها ولعنتها قالت: هذه الشريعة ليست بشريعةٍ لله، هذه من إنتاج عقول البشر، لكن البشر ينظمون شئون الحياة، والله ينظم شئون الآخرة، فالله يعلم ما يصلح آخرتنا، والبشر يعلمون ما يصلح دنيانا، ما لـقيصر لـقيصر، وما لله لله.. ما للدولة للدولة، وما لله لله، الله تعبده في المسجد، وفي السوق وفي الشرطة وفي الجيش هناك نظام للدولة، لكن ما قالت: هذا النظام هو إسلام، أما هنا أتت بشريعةٍ مبدلة وقالت: إنها محكمةٌ منزلة، هذا الكفر هو الإيمان الذي جاء به نبينا محمدٌ عليه الصلاة والسلام، ولذلك هذه الدعوة هي أخطر الدعوات وأخبثها، وهي الموجودة في هذه الأوقات.

    تقسيم الشريعة إلى أقسام ثلاثة

    إخوتي الكرام! كنت ذكرت لكم: أن الشريعة تنقسم إلى ثلاثة أقسام، وهذا الكلام الذي ذكرته قلت لكم: قرره أئمة الإسلام الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، وهو موجودٌ في عددٍ من أجزاء مجموع الفتاوى، فانظروه في الجزء الثالث صفحة ثمان وستين ومائتين، وفي الجزء التاسع عشر صفحة ثلاثمائة وثمان عشرة، وانظروه في الجزء الخامس والثلاثين صفحة خمسٍ وتسعين وثلاثمائة، وهو آخر شيءٍ في الكتاب الروحي للإمام ابن القيم ، فختم الإمام ابن القيم كتابه الروح ببيان أقسام وأنواع الشريعة، لفظ الشريعة يطلق على ثلاثة أمور: على شريعةٍ منزلة، وهي نصوص الكتاب والسنة، وقلنا: وهذه حقٌ، ويستدل بها، وهي حجةٌ على ما عداها، شريعةٌ منزلة، وشريعةٌ مؤولة، ذكرت هذا إخوتي الكرام، شريعةٌ مؤولة يراد بها اجتهادات علماء الإسلام في الإسلام، فهذه الاجتهادات كما هو في فقه أئمتنا عليهم رحمة الله، هذه الاجتهادات ليست لها قداسة الشريعة المنزلة، وليست أيضاً بضلالٍ، فليست شريعةً مبدلة، إنما يجوز اتباعها، فلا يجب ولا يحرم، فالشريعة المؤولة وهي اجتهادات أئمتنا عليهم رحمة الله يجوز اتباعها ويسوغ، ولكن هذه يستدل لها لا بها، أي: يستدل لها وعليها بنصوص الشرع، فيقال: قال أبو حنيفة كذا، وحجته.. ويشهد له.. ويدل على قوله قول الله وقول رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو استنبط هذا من هذه الآية أو من ذلك الحديث، هذه شريعة مؤولة، قد يقع فيها خطأ، أما الشريعة المنزلة لا خطأ فيها، هذا بشر يخطئ ويصيب، لكن إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، ونحن نجزم أنه لا يوجد أحدٌ من أئمة الإسلام يتعمد مخالفة حكمٍ من أحكام شريعة الله المطهرة، لكن قد يخطئ وقد يغيب عنه الدليل، وقد يبلغه حديثٌ ضعيفٌ فلا يأخذ به، ويكون هذا الحديث قد صح عند غيره، المقصود له عذرٌ من الأعذار إذا خالف قوله حكماً شرعياً، فهذه شريعةٌ مؤولة يستدل لها وعليها، ولا يستدل بها، فليست حجة على أحدٍ من خلق الله.

    والشريعة الثالثة وهي الشريعة المبهدلة، الشريعة المبدلة، وهي التي لم تستند إلى نصوصٍ شرعية، ولم تؤخذ من الشريعة الإسلامية، إنما أخذت من الأهواء والأعراف والأوضاع البشرية، هي قوانين وضعية، ثم ادعى واضعها أنها حقة عادلةٌ شرعية، فهذه شريعة مبدلة، من زعم أنها حق، وأن فيها هدى فهو كافرٌ مرتد خارجٌ من الإسلام وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، الشريعة الدولية التي يطنطن بها في هذه الأيام، ويريد البقر لا البشر أن يحتكموا إليها، من أي أنواع الشرائع؟ شريعةٌ مبدلة من احتكم إليها أو رضي بها فهو كافر خارجٌ من الإسلام، شريعةٌ مبدلة، فماذا بعد الحق إلا الضلال! شريعةٌ منزلة، شريعةٌ مؤولة، شريعةٌ مبدلة، الشريعة المبدلة هذه ضلالٌ وباطل، من زعم أن فيها هدى ويجوز الاحتكام إليها فقد كفر.

    ولا تظنوا إخوتي الكرام أن هذه المسألة من الأمور المختلف فيها، لا نزاع بين أئمة الإسلام ولا خلاف عند أهل الإيمان أن من زعم أن قانوناً من القوانين الوضعية، ونظاماً من الأنظمة البشرية الذي لم يؤخذ من النصوص الشرعية، من زعم أن ذلك القانون وذلك النظام فيه هدى وخيرٌ لبني الإنسان فهو مرتدٌ بالإجماع، إذاً شريعةٌ منزلة، وشريعةٌ مؤولة، وشريعةٌ مبدلة.

    نحن الآن أمام شريعة مبدلة، أراد من وضعوها أن يضيفوا إليها قداسة الشريعة المنزلة، فقالوا: هذه الشريعة المبدلة هي شريعةٌ منزلة ينبغي الأخذ بها، لا على طريق فصل الدين عن الحياة، إنما عن طريق أن هذا الفصل الذي عن الله تتسع له نصوص الشريعة، وبذلك نحن نرضي ربنا ولا نخرج عن ديننا، فهذا الضلال هدى، وهذا الكفر إيمان، وهذه المعصية طاعة، وهذا أخبث الأساليب، وحقيقةً به تزول الشخصية الإسلامية من الوجود، حيث يصبح المسلم كافراً وهو لا يدري، وتتحقق بذلك أمنية الكفار: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89].

    في الحالة الثانية عندما يقال: هذا نظام البشر، البشر قد يعودون إلى رشدهم في يومٍ من الأيام، فيقولون: أليس من العار أن يحكمنا عبيدٌ مثلنا؟ ينبغي أن نعود إلى شريعة ربنا، إذاً هناك مع خطورة الأمر وفظاعته يوجد كما يقال: خطٌ للرجعة في المستقبل، والأمر الأول كفرٌ بواح، إذا عاد الإنسان إلى عقله وآمن بربه، يعرض عن كفره ويقول: كيف تركت كتاب الله وراء ظهري؟! وأما هنا فليس للإنسان أن يعود على الإطلاق، يشمله قول الله: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104]، هو يعبد الشيطان، ثم يسول له الشيطان في قرارة نفسه أنه يعبد الرحمن، وأن له عند الله غرف الجنان، فكيف سيعود إلى صوابه وإلى الإسلام!

    أصناف الناس المروجين للقوانين الوضعية على أنها شريعة إلهية

    ولذلك هذا الطريق وهذا الأسلوب -الذي سنتدارسه في هذه الليلة المباركة إن شاء الله- هو أخبث الطرق وأشنع الأساليب، وإذا أردنا أن نتحقق من فظاعته وخبثه وشدة فساده فسيظهر لنا هذا عندما نعلم أن الذي قام بهذا الطريق صنفان من الأنام، يتوقع من هذين الصنفين أن يعيدوا بني الإنسان إلى الإسلام وإلى شاطئ الأمان إذا تخطفهم الشيطان، لكن هذان الصنفان قادا الناس إلى الضلال والكفران، ثم زينوا للناس أنهم على هدىً وعلى إيمان، الصنف الأول علماء السوء طهر الله الأرض منهم بفضله ورحمته ومنه وكرمه، الصنف الأول علماء السوء، والصنف الثاني: الحكام الماكرون، وهذان الصنفان إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، والأثر روي مرفوعاً عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه في كتاب الحلية لـأبي نعيم ، ورواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه: ( صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء )، والحديث تقدم معنا إخوتي الكرام وقلت: إنه ضعيف، كما نص على ذلك الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء في الجزء الأول في صفحة اثنتي عشرة، لكن معناه صحيح، وثبت هذا الأثر من كلام سفيان الثوري عليه رحمة الله موقوفاً عليه من قوله في كتاب حلية الأولياء في الجزء السابع صفحة خمسة، يقول سفيان الثوري عليه رحمة الله: لله قراء، وللشيطان قراء، وصنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: السلطان والقراء. هذا ثابتٌ عن سفيان الثوري عليه رحمة الله في كتاب الحلية، والأثر الذي روي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه من ناحية الصناعة الحديثية ضعيف الإسناد، لكن معناه صحيحٌ حقٌ بلا شك.

    الصنف الأول: علماء السوء

    أما الصنف الأول وهم العلماء المفسدون الذين بدلوا شريعة الحي القيوم، فقد خشي علينا نبينا صلى الله عليه وسلم من هذا الصنف أعظم خشية، ففي معجم الطبراني الكبير، ومسند البزار بسندٍ صحيحٍ كالشمس، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافقٍ عليم اللسان )، قلبه خبيث، لكنه تعلم العلم الشرعي، كحال بعض طلبة العلم في هذه الأيام الذين أخذوا أعلى شهادات وأطولها وأعرضها، لكن أشكالهم كأشكال إبليس، وقلوبهم بعد ذلك أخبث وأخس، يحرفون دين الله وكلام الله عن مواضعه، ويبدلون أحكام الله، ويشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، وقد وصل الحال ببعض العتاة من هذا الصنف في هذا الوقت أنه قال عن طاغوت بلاده: إنه لا يسأل عما يفعل! ومن الذي لا يسأل عما يفعل؟ هذا واحدٌ فقط، وهو الله جل وعلا، الذي هو بكل شيءٍ عليم، وعلى كل شيءٍ قدير، وإذا أراد أمراً فإنما يقول له: كن فيكون، هذا الذي لا يسأل عما يفعل، وأما جبريل الذي هو خير الملأ الأعلى، ونبينا محمدٌ عليه الصلاة والسلام الذي هو خير العالمين، هذا وذاك وسائر المخلوقات يسألون عما يفعلون، وهذا الضال المضل يقول عن طاغوت بلاده: إنه لا يسأل عما يفعل! أي: هذا خليفة الله ونائبه، فمهما أصدر ومهما شرع نسلم ونفوض، وكلامه حق ٌمطلق، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء:23].

    ( إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافقٍ عليم اللسان)، يحرف كلام الله عن مواضعه، ويتلاعب بالنصوص الشرعية كما سيأتينا، كيف برروا هذه الأنظمة الوضعية الكفرية، وألقوا عليها القداسة الشرعية، وقالوا: هذه القوانين الوضعية شريعةٌ إسلامية؟! كيف هذا؟ سيأتينا إن شاء الله نماذج من تحريفهم وتلاعبهم بدين ربهم؛ لنرى أن تلاعب النصارى واليهود بالكتاب الذي نزل عليهم، لعله يقل عن تلاعب بعض العتاة في هذه الأمة بكلام الله وكتابه، ولولا أن الله جل وعلا قيظ لهذه الأمة وفيها طائفةً لا يزالون ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة، فالتحريف والتبديل أصاب الأديان السابقة من زمن، ولكن الله تعهد لهذه الأمة وتكفل بأنه لا تزال فيهم طائفةٌ ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله، وكتابهم تعهد سبحانه أنه يحفظه من كل تبديلٍ وتغيير، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

    ( إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان )، وثبت في مسند الإمام أحمد والبزار ومسند أبي يعلى بسندٍ حسن، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ( حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل منافقٍ عليم اللسان )، منافق لكنه على علمٍ بالنصوص الشرعية، فهذا يتلاعب بها ويغوي البرية، ولذلك التحذير منه ينبغي أن يكون شديداً أكيداً؛ لئلا يضل الناس وراء علماء السوء، ( حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل منافقٍ عليم اللسان )، والحديث كما قلت في مسند الإمام أحمد ومسند البزار وأبي يعلى وإسناده حسن، قال الإمام الهيثمي في المجمع: رجاله موثقون.

    إخوتي الكرام! كان غاية ما يخشى على العالِم في العصور المتقدمة أن يخالف عمله علمه، فلا يقتدي الناس بعلمه، ولا ينتفعون بقوله عندما يخالف عمله علمه، ما كان يخطر ببال سلفنا أنه سيأتي على هذه الأمة وقتٌ تخفى فيه الأمور المعلومة من الدين بالضرورة على بعض العلماء، ويحصل التلبيس من بعضهم في دين الله بما لا يمكن أن يصدر من جاهلٍ أحمقٍ ضالٍ خبيث، ما كان هذا يخطر ببالهم، غاية ما كانوا يتوقعون ويخافون على العالم ألا يعمل بعلمه، وأما أن تخفى عليه الأمور المعلومة من الدين بالضرورة وأن ما عدا شريعة الله ضلال، وأن تخفى عليه أن هذه الشريعة الوضعية هي من صنع البشرية ولا يجوز أن نقول: إنها شرعية، هذا ما كان يخطر ببالهم، لكن صرنا حقيقةً في هذه الأيام لا نخشى على العالم فقط أن يخالف عمله علمه، بل نخشى على العالم في هذه الأيام الكفر، وإذا سلم العالم من الكفر في هذه الأيام فهذه منقبةٌ عظيمةٌ له، كما إذا سلمت الأمة من الكفر في هذه الأيام فهذه حقيقةً منقبةٌ عظيمةٌ لها، ونسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    إذاً المنافق الذي هو عليم اللسان، هذا هو الصنف الأول الذي تولى تبرير الأنظمة الوضعية والأحكام الشيطانية.

    يا معشر القراء يا ملح البلد لا يصلح الملح إذا الملح فسد

    الملح هو الذي يصلح غيره، فإذا فسد الملح من الذي يصلحه؟! هذه بلية البلايا، ورزية الرزايا.

    الصنف الثاني: الحكام المضلون

    وأما الصنف الثاني الذي تولى الفصل مع المكر، وألقى على القوانين الوضعية الصبغة الشرعية، فهم الحكام الذين انحرفوا عن شريعة الرحمن، وقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من فتنة هؤلاء وضلالهم، وخشي هذا الصنف على الأمة ما خشي الصنف الأول علها، وخشيته من الصنف الثاني على الأمة أعظم من خشيته من الدجال على هذه الأمة، ثبت في مسند الإمام أحمد بسندٍ جيد، من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: ( كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لغير الدجال أخوفني على أمتي من الدجال ، لغير الدجال أخوفني على أمتي من الدجال ، لغير الدجال أخوفني على أمتي من الدجال، فقلت: من يا رسول الله هذا الذي تخشى منه أكثر مما تخشى من الدجال على هذه الأمة -من هو هذا الذي هو أخطر من الدجال؟- قال عليه الصلاة والسلام: الأئمة المضلون )، حكامٌ مضلون، وهناك عالمٌ منافق عليم اللسان، خبيث الجنان، ( الأئمة المضلون ).

    وثبت في مسند الإمام أحمد بسندٍ حسن من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه، عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: ( إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لا يرفع عنهم إلى يوم القيامة )، وهذا الذي حصل بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وعن سائر الصحابة الكرام، ( وإذا وضع السيف في أمتي لا يرفع عنهم إلى يوم القيامة )، إراقة دماء في جميع الأوقات، ( إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين )، وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد كما قلت بسندٍ حسن عن شداد بن أوس ، رواه الإمام أحمد والطبراني من حديث ثوبان ، ورواه أبو يعلى من حديث علي ، ورواه الإمام الطبراني من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنهم أجمعين، وألفاظهم متقاربة، وفيها يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين ).

    ولذلك ثبت في المسند بسندٍ رجاله ثقات عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لـكعب الأحبار : إني سأسألك يا كعب عن مسألةٍ فلا تكتمني، فقال: يا أمير المؤمنين! لا أكتمك شيئاً أعلمه فسل عما تريد، فقال: من أخوف ما تخافه على أمة محمدٍ عليه الصلاة والسلام؟ من تخافه على هذه الأمة؟ فقلت: أخوف ما أخافه على هذه الأمة الأئمة المضلون، فقال عمر رضي الله عنه: صدقت يا كعب ، لقد أسر إليّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وعلمنيه، أي: أعلمني أن أخشى ما يخشى على هذه الأمة إمامٌ ضال، كما يخشى عليها من عالمٍ منافق عليم اللسان، لكنه خبيث الجنان.

    الأئمة المضلون، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمور ستتغير في آخر الزمان، وسيكون حالة الحكام في حالةٍ مزريةٍ خبيثةٍ منكرة، ففي معجم الطبراني الأوسط، ومعجم الطبراني الصغير بسندٍ رجاله ثقات، عن ابن عباس رضي الله عنهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يكون عليكم أمراء هم شرٌ عند الله من المجوس )، الذين يعبدون النار ولا يؤمنون بالعزيز القهار، هؤلاء شرٌ منهم، والله إنهم شرٌ منهم، كما تقدم معنا الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها مثلهم كمثل الحمار، فالذي حمل هذا القرآن وأعرض عنه، هل هو حمارٌ أو أحط من الحمار؟ أحط من الحمار قطعاً، ولذلك قلت: من أعرض عن هذا القرآن فهو روثة حمار، ومن أعرض عن التوراة فهو حمار، فإذاً ( يكون عليكم أمراء هم شرٌ عند الله من المجوس )، وهم الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، ثم يقولون: حكمنا هذا هو شريعة الله، ( يكون عليكم أمراء هم شرٌ عند الله من المجوس ).

    إذاً الفريق الأول منافقٌ عليم اللسان، عالمٌ خبيث الجنان، والثاني أميرٌ إمامٌ حاكمٌ متسلطٌ يحكم بغير شريعة الرحمن، الأول إذا فسد من الذي يصلحه والأصل أنه هو يصلح الناس؟! والثاني إذا فسد من الذي سيقومه؟

    وراعي الشاء يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها ذئاب

    هذه البلية التي ليس بعدها بلية.

    وراعي الشاء يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها ذئاب

    إذا كان الهادي معادياً، إذا كان الحامي حراميها، كيف سيكون حال الأمة؟ هاديها معاديها، وراعيها حراميها، صنفان أفسدا دين الإسلام: عالمٌ فاجرٌ خبيث، وحاكمٌ شريرٌ لا يخاف الله جل وعلا، هذان الصنفان أفسدا دين الإسلام فقال عن هذه الشريعة المبدلة عن القوانين الوضعية: إنها شريعةٌ إسلامية، كيف هذا بثلاثة أشكال فعلت من أهل الضلال! من علماء السوء ومن الحكام الذين لا يخافون الله.

    الشكل الأول الذي طرحه علماء السوء وحكام الضلال لإبدال الشريعة بالقوانين الوضعية هو أن الشعب هو صاحب السيادة والسلطة والتشريع

    الشكل الأول الذي دعوه وقرروه وبثوه ونشروه، وحاولوا أن يقنعوا به الأمة، شكلٌ كفري لكن جعلوه شرعياً، قالوا: الأمة لها السيادة، وهي مصدر السلطات، هذه الأمة هي صاحبة السيادة، وهي مصدر السلطات، وهذا في الأصل هو مبدأ الديمقراطية نسبةً إلى ديمقراط ، كما تقدم معنا الفيلسوف الذي ليس سقراط ولا أفلاطون الآن التي فيها قبرص، ماذا يقال لها؟ الفيلسوف اليوناني الذي ينكر وجود الله، ديمقراط ، فيلسوفٌ يوناني يقول: لا إله والحياة مادة، والدين خرافة، والأنبياء لصوصٍ كذابون، هذا ديمقراط ، هذه خلاصة دعوته: أن الأمة هي مصدر السلطات ولها السيادة، هذا كلام كفر، ودعا إليه هذا الفيلسوف اليوناني، فكيف أنتم قلتم: إنه رحماني؟! الأمة لها السيادة!

    انظر ماذا يقول الشيخ السوري محمود اللببيدي ، لتسمع كلاماً لعل الشيطان الرجيم لا يمكن أن يأتي بهذا الإفك المبين، يقول عند آية النسخ: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106]: لا يتوهمن أحدٌ أن هذه الآية قد بطل حكمها، وأن النسخ قد زال بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، النسخ لم يزل، كيف النسخ لم يزل، من الذي سينسخ أحكام القرآن؟ يقول: لأن القرآن نص على أن السيادة للأمة، وليست لله، سبحان الله العظيم! صار السيد عبداً والعبد سيداً! يقول: لأن القرآن نص على أن السيادة للأمة وليست لله، محمود اللببيدي شيخٌ سوري، السيادة للأمة، وليست لله، أين نص القرآن على هذا؟! يقول: كانت السيادة لله ابتداءً، ثم جعلها للأمة انتهاءً، وذلك في قول الله جل وعلا: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]، فالأمة عندما تقرر هذا الحكم فهو شرعي؛ لأن الله فوض إليهم أن يختاروا في أمور حياتهم ما تستقر عليه مشورتهم.

    هذه الآية لم تنسخ، وما بطل حكم النسخ، لا زال عندنا أمة تنسخ القرآن، إن أرادت أن تنسخ القرآن من أوله لآخره فلا حرج؛ لأن القرآن يقول: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]، فعندنا إذاً مجلس الشعب -الذي هو في الحقيقة مجلس الكذب- إذا قرر أن الزنا حلال ننسخ الآيات التي تحرم الزنا، ثم نحن في نسخنا عاصين أو مطيعين؟! مطيعين لرب العالمين.

    وهذه البلية، لو قال: نحن نسخنا هذا، وهذا من باب شططنا وسفاهتنا وعتونا وضلالنا وكفرنا، نقول: عليك كفرك، ولعل الله يطهر الأرض منك عما قريب، أما أن تأتي وتقول: هذا الكفر إيمان، ونحن أطعنا الرحمن عندما نسخنا أحكام الإسلام، وتبرر هذا بآياتٍ من القرآن، وتقول: الأمة هي مصدر السلطات، هي التي تشرع ما شاءت، فلها أن تنسخ، وأن تحكم، وأن تلغي، وأن تزيد، وأن تحذف على حسب ما تراه مصلحة، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]، فكانت السيادة لله ابتداءً، ثم صارت للشعب انتهاءً، فالشعب يقرر بعد ذلك ما شاء.

    انظر لهذا التزوير الذي يستحي -كما قلت لكم- منه الشيطان الحقير، هنا السيادة للأمة، والأمة هي مصدر السلطات، وهي التي تقرر.

    أولاً: هذا كذبٌ على الأمة، وضحكٌ على ذقونها، هل أخذ رأي واحدٍ من الأمة في التشريعات الوضعية؟! أما التشريعات الوضعية التي تنفذ في البلاد العربية ما وضعها إلا واحدٌ ملحد عداده من المسلمين، ومعه أعوانه من النصارى الملعونين ثم فرضت على الموحدين، هل أخذ رأي واحدٍ منا في تشريعٍ وضعي؟ فقوله: الأمة مصدر السلطات، وهي التي تشرع، هذا خيال أو حقيقة؟ الديمقراطية، وهكذا السيادة للشعب، وهكذا الحكم للشعب، وهكذا حكم الشعب بالشعب، كلها شعاراتٌ غربيةٌ مزيفة براقة ليس من ورائها حقيقةٌ ولا ظل من الحقيقة، في أمريكا وفي بريطانيا وفي فرنسا وفي غيرها من دول الكفر من الذي يشرع، الشعب أم كل قبيلة تتحكم في الشعب كما تريد؟ الشعب هو الذي يشرع أم هؤلاء الذين يدعون أنهم يمثلون ويتخذون اتجاه الميمنة والميسرة، وتتدخل بعد ذلك المصالح في حكم الشعب بالقصر والقوة؟ من الذي يشرع الشعب أم فئةٌ قليلةٌ منه؟ فقوله: الشعب هو مصدر السلطات وله السيادة، هذا أولاً كذبٌ على الشعب، وهذا ضحكٌ على ذقون الشعب.

    هذا كالشعار الذي ينادي في هذه الأيام بتحرير المرأة، عبدوا المرأة لكنهم في الحقيقة استعبدوها، من أي شيءٍ ستحررها؟ تحررها من الفضيلة؟ تحررها من السيادة التي هي في بيتها وهي ملكة الأسرة؟ من أي شيءٍ ستحررها؟ ستحررها من العفة والطهارة؟ إنك تطالب على زعمك بحقوقها، وتريد أن ترفعها، وتريد أن تعبدها، لكن في الحقيقة ماذا تريد؟ أن تستعبدها، إن الغرب عبد المرأة، ويريد من عبادته لها أن يستعبدها، وأن يرتع في عرضها، وأن يجعلها سلعةً رخيصةً بلا ثمن كل ذميمٍ يرتع في عرضها، إذاً عبدها من دون الله، لكن في الحقيقة استعبدها وأشقاها، فمن أي شيءٍ ستحررها؟ وهنا سنعطي السيادة للشعب، هل حصلت السيادة للشعب؟ أو حكم الشعب بالقصر، وزج به في السجون، وقتل من قتل منه؟! هذا حكم الشعب بالشعب، أو حكم شرذمةٍ للشعب؟ أين حكم الشعب للشعب؟ إن الشعوب الإسلامية لو خليت واختيارها لما رضيت بغير الإسلام بديلاً، ولذلك كل من يطالب بتحكيم الإسلام في هذه الأيام يضرب بغير رحمة، أين حكم الشعب بالشعب؟ وأين إذاً الاختيار للشعب؟ وأين السيادة للشعب؟ كلامٌ مزيف كذب لا حقيقة له.

    إذاً قوله: السيادة للشعب، وهو مصدر السلطات، هذا كفر، لكن هو جاء وبرره بآياتٍ شرعية، وقال: هذا الفصل إيمان بالرحمن، ونحن نحصل ثواباً عند ذي الجلال والإكرام؛ لأن الله خولنا التشريع بعد النبي عليه الصلاة والسلام، فلنا أن ننسخ وأن نغير وأن نبدل!

    إذاً: أولاً: هذه الدعوى -كما قلت- مغالطة مكذوبة، الأمر الثاني: لو قدر هذا من باب الفرض الممتنع المستحيل الذي لا حقيقة له، هلا يجوز للشعب أن يشرع؟ يجوز للبشر أن يشرعوا؟ أما تقدم معنا إخوتي الكرام أنه لا يجوز للبشر أن يشرعوا، وإذا شرعوا لأنفسهم تاهوا وضلوا في هذه الحياة وتخبطوا قبل أن يعذبوا بعد الممات، فلا يصلح أن يضع لهم نظاماً إلا الذي خلقهم، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك:14]، وبمجرد ما يشرع البشر فقد ضل، ثم استعبد بعضهم بعضاً.

    إن ديننا أيها المهوس يا محمود اللببيدي يقوم على دعامتين اثنتين بعد إيماننا برب العالمين: الأولى: متابعة، والثانية: إخلاص، نتبع نبينا عليه الصلاة والسلام في جميع شئون حياتنا، ( ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، ( ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، كما ثبت الحديث في الصحيحين عن أمنا عائشة رضي الله عنها، عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، إذاً متابعة.

    والأمر الثاني: إخلاصٌ لله جل وعلا، ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، وهذان الركنان هما مدلول كلمة الإسلام: لا إله إلا الله، لا معبود إلا هو، فنخلص له في العبادة. محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، لا متبع إلا هو، وأنت ستأتينا الآن بمتبعين غير نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، يتغيرون ما بين الحين والحين، وعلى شريعة الله يغيرون، فسنجعل هذه الشريعة المحكمة عرضةً للتبديل والتغيير ما بين الحين والحين، البشر لا يصلح له أن يشرع، وإذا وكل البشر إلى نفسه هلك، وإذا وكل البشر إلى غيره من البشر ضاع، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19]، إذا وكلك إلى نفسك هلكت، وإذا وكلك إلى غيرك من بني جنسك ضعت، وإذا حفظك وتولى أمورك سعدت في الحياة وبعد الممات، فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38]، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124].

    ولذلك أعظم الدعاء الذي يدعو به الإنسان ربه: يا حي يا قيوم! برحمتك استغيث، فأصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، إذا وكلك إلى نفسك هلكت، وإذا وكلك إلى غيرك من بني جنسك ضعت، ونسأل الله ألا يكلنا إلا إليه بفضله ورحمته، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    إذاً هذه الطريقة الأولى، فصل مع مكر، شكلٌ أول للفصل، الأمة مصدر السلطات، وهي التي ستشرع، الأمة لا يمكن أن تشرع بأسرها، نختار أفراداً منهم ليشرعوا لها ما يصلحها، إذاً من الذي شرع الأمة أو الأفراد؟ أفراد، الأفراد معصومون أم غير معصومين؟ ليسوا معصومين قطعاً، تكون فيهم الأهواء والنزوات والرغبات والاحتيال، ولذلك لا يحتال على النظام إلا من وضع النظام، إذاً هذا لا يصلح، وجعلنا البشر يتخبط، وضع فئةٌ من الأمة لهم نظاماً، وهذه الفئة جعلت لنفسها ما ليس لغيرها، ثم أي قداسةٍ لهذا المخلوق الذي هو مثلي، ويساويني في البشرية أن يكون فوقي يضع لي نظاماً وأنا آخذ به؟! أوليس هذا احتقاراً لي ولمن هو على شاكلتي؟ من الذي فضلك علينا لأجل أن تضع نظاماً لنا؟ هذه هي الطريقة الأولى والشكل الأول للفصل مع المكر، الأمة مصدر السلطات، والشعب هو الذي يشرع، وكانت السيادة لله ابتداءً، ثم صارت للأمة انتهاءً، فصار المخلوق خالقاً، والخالق مخلوقاً، فصار السيد عبداً، والعبد سيداً، تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا، ولا يشرك في حكمه أحداً.

    الحرية المزعومة التي يتنادى إليها وينادي بها أعداء الدين

    إذاً هذه الدعوى أولاً: دعوى مكذوبة لا حقيقة لها، وهكذا كل ما عند الغربيين ألفاظ فقط، ألفاظ رنانة، لكن ليس تحتها مدلول نافع، كل ما عند الغرب شكلي، حرية.. حرية.. أي حرية؟ يقول: إن القانون حرية ضمن القانون، إذا كان هناك قانون قيدت الناس به فلا حرية، ونحن نقول أيضاً: الإنسان حر ضمن نظام الإسلام، إذاً أي حريةٍ تريد؟ لكن انظروا لحريتهم الملعونة التي تنفذ في كثيرٍ من البلاد العربية، امرأةٌ أرادت أن تتحجب تمنع وتضرب، ولا يسمح لها أن تدخل معاقل التعليم، وامرأة أرادت أن تخرج عارية كما ولدت، لو اعترض عليها معترض يضرب، يقال له: حرية، عارية سوأتها المغلظة بادية! حرية، أما إذا سترت جسمها فممنوع لأن ذلك وحشية!

    يا إخوان القردة والخنازير عليكم غضب الله العزيز، إذا كفرتم فخذوا أيضاً بالتساوي في كفركم، فكما قلتم: حرية، وتركتم المرأة تخرج عارية ولا يعترضها أحد، فاتركوا من تريد أن تخرج متحجبة ولا يعترضها أحد، لكن كما قلت لكم: كل هذا شكلي، هذه حرية من أجل إفساد الشريعة الإسلامية، إذا كان الفرد في الجيش وأراد أن يحلق لحيته يقال: حرية، أما إذا أراد أن يعفيها فإنه يضرب على رأسه برصاص، وانظروا إلينا نحن معشر المسلمين! كيف نمتهن في الأنظمة الوضعية؛ لأنه لا يوجد مسئولٌ عنا! في بعض البلدان التي تدعي الإسلام لو كان الفرد الذي في الجيش في تلك البلاد من ملةٍ ليست إسلامية، أي: هو من السيخ الذين يعفون شعورهم ولا يأخذونها، يسمح له في الجيش أن يعفي لحيته، وإذا كان من المسلمين محظورٌ عليه أن يعفي لحيته، سبحان الله العظيم! لم ذاك كافر يسمح له؟ ذاك وراءه منظمات، وأما المسلم ما وراءه إلا رب الأرض والسموات، وهم لا يعظمون الله، مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13]، ليس لله قيمة عند أهل الأرض، ولذلك على من يعتدى في هذه الأيام؟ هل رأيتم شرطياً يعتدى عليه؟ هذا ابن الحكومة، وكم رأيتم من الأئمة والخطباء من يعتدى عليهم لا أقول من المسئولين، بل من المصلين؟ يعترض عليهم، يسبون حتى في بيوت الله، يبصق عليهم، أحياناً يلعنون، وعندما يبلغ الأمر للمسئولين وأرادوا أن يطيبوا خاطره يقولون: يا شيخ! يا مطوع! وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134]، طيب! لم إذا سب الشرطي لا تقولون: (والعافين عن الناس)؟ هناك يقولون: أهنت الدولة، هذا شرطي، رغم أنه لا يعرف يمينه من شماله، بل ولا يعرف أحياناً يده من رجله، ولا يعرف أن يمسك القلم، لكن لما لبس شعار الدولة أوى إلى ركنٍ شديد، وهذا عبدٌ لله المجيد.. إمام.. خليفة للنبي عليه الصلاة والسلام يسب في بيت الرحمن ثم لا ينتصر له أحد، ويعترض عليه الصعاليك ولا يثأر له أحد، لماذا؟ ذاك يأوي إلى ركنٍ شديد وهذا إلى من يأوي؟ إلى رب مجيد، وهم لا يعظمون الله، ولذلك السيخي الكافر يسمح له بأن يعفي لحيته، والمسلم يجبر على حلق لحيته، وهذا النظام ما أقوله خيالاً إخوتي الكرام موجودٌ في أفغانستان وفي غيرها، إذا كان من السيخ يعفي اللحية.

    يخبرني بعض إخواننا الصالحين أنه لو كان في بلاد الغرب وحلق لحيته يعاقب، إذا كان في الجيش فيقال له: أنت من السيخ لا يجوز أن تحلق لحيتك، إن هذا شعار عندكم في دينكم، طيب ونحن ديننا لا عبرة به؟

    في الطائرات الآن الطعام الذي يقدم إذا قدم للمسلمين يقدم من طعام الحاضرين كيفما كان، إلا إذا كان هناك يهودي في الطائرة فهذا من شعب الله المختار، يقدم له طعام خاص، هذا باتفاق الخطوط العالمية، هذا وراءه منظمة عظيمة لها شأن تهدد العالم بأسره، يهودي هذا على حسب ديانته ينبغي أن يوضع له طعام خاص رغم أنفهم.

    وأما هذا المسلم قد يقول لهم: هذا لم يذك ذكاة شرعية، فيقال له: الآن ليس وقت الحلال والحرام، دعنا منك ومن إسلامك، لكن اليهودي الذي غضب الله عليه ولعنه، وجعله من أمة هي أذل أمة، يقدم له طعام خاص في الخطوط العالمية.

    أليس من الحقارة الاجتماعات التي تجري بين اليهود والمسلمين، أننا في يوم الجمعة نترك شعائر ديننا، لا أقول: لأننا في غير اجتماعاتنا معهم نحافظ عليها، لكن انظروا لاحتقارنا، يوم الجمعة نجتمع معهم فنلغي صلاة الجمعة، ومستعدين لأن نلغي القرآن، فإذا صار يوم السبت يقولون: ليس عندنا اجتماعات، لم؟ يقولون: نحن نعظم ديننا، طيب نحن تركنا ديننا من أجلكم، يقولون: أما نحن فلا نتنازل عن ديننا (الضال)، هذه حقارتنا في هذه الأيام، وهذا ضياعنا، ووالله لو كان لهذه الأمة خشيةٌ من الله، ولها مسئول يخاف الله لرجفت دول الأرض أمامها؛ لأن الله معنا، ولكن عندما تخلينا عنه تخلى عنا، فلا يبالي في أي وادٍ هلكنا.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756456506