إسلام ويب

شرح لمعة الاعتقاد [1]للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تعد لمعة الاعتقاد للموفق ابن قدامة، من الكتب السلفية النافعة في معرفة اعتقاد أهل السنة في أصول الإيمان، فقد بين فيها منهج السلف الصالح تجاه الآيات والأحاديث الواردة في أسماء الله وصفاته، وموقفهم من المحكم والمتشابه، وغيرها من عقيدة أهل السنة.

    1.   

    شرح مقدمة المؤلف رحمه الله

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين ،وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول الإمام موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى:

    [ الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، ونفذ حكمه في جميع العباد، لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، له الأسماء الحسنى والصفات العلى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:6-7]، أحاط بكل شيء علماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، ووسع كل شيء رحمة وعلماً: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110] موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم ].

    سنقرأ فيه إن شاء الله تعالى هذه العقيدة المباركة التي ألفها الإمام الموفق عبد الله بن محمد بن قدامة المقدسي رحمه الله، وهذا المتن المختصر من متون الاعتقاد، هو متن (لمعة الاعتقاد) وهو كتاب مختصر في العقيدة ألفه مؤلفه رحمه الله، وضمَّنه مباحث فيما يتعلق بالإيمان بالله عز وجل، والإيمان بكتبه، والإيمان برسله، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر، وهذا هو أغلب ما ذكره المؤلف رحمه الله في هذا الكتاب.

    وقد جرت سنة أهل العلم من أهل السنة والجماعة فيما يؤلفونه من مؤلفات في الاعتقاد أنهم ينسجون مؤلفاتهم ويرتبون كتبهم التي يكتبونها في مسائل الاعتقاد على ضوء ما جاء في حديث جبريل في ذكر أصول الإيمان؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وعلى وآله وسلم عندما سأله جبريل عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) .

    فإذا تأملت في المؤلفات والمتون والعقائد التي كتبها أهل العلم فستجدها منسوجة على نحو هذه الأصول، فإن العلماء يكتبون في الإيمان بالله، ثم في الإيمان بالملائكة، ثم في الإيمان بالكتب، ثم في الإيمان بالرسل، ثم في الإيمان باليوم الآخر، ثم في الإيمان بالقدر خيره وشره.

    وقد يركزون في مؤلفاتهم على نوع من أنواع الإيمان؛ نتيجةً لشدة الحاجة إلى بيان ما يتعلق بذلك الأصل، أو جواباً على شبهة شاعت في هذا الأصل، لكنهم من حيث الأصل إذا تناولوا مسائل الاعتقاد فإنهم يأتون ببيان أصول الإيمان التي جاءت في حديث جبريل.

    ولا غرابة في هذا؛ فإن مباحث الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة مبنية على شرح الأصول الستة: الإيمان بالله والإيمان بالكتب والإيمان بالرسل والإيمان بالملائكة والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره.

    ولكن لما كان بعض هذه الأصول ليس فيه خلاف كبير، ولم تنتشر فيه المخالفات؛ قلَّ كلام أهل العلم فيه في هذه المتون وفي هذه المؤلفات التي ألفت في العقائد.

    فمثلاً: الإيمان بالملائكة لا يتكلم عنه المؤلفون في كتب العقائد كلاماً موسعاً، بل يختصرونه ويقتصرون على جمل فيه، وبعضهم قد لا يذكره بالكلية؛ بناءً على وضوحه وظهوره.

    وهكذا كل المؤلفات في العقيدة، الغالب أنها جاءت استجابة للحاجة إلى التأليف؛ إما لبيان وتجلية منهج أهل السنة والجماعة وما كان عليه السلف الصالح، ليتميز عن طريق أهل البدع، وإما جاءت في الجواب والرد على الشبه التي يثيرها هذا السبيل -سبيل أهل السنة والجماعة- فيما يتعلق بمسائل الاعتقاد.

    وهذه العقيدة هي من العقائد المشهورة المعروفة عند أهل العلم، وهي من تأليف الإمام عبد الله بن محمد بن قدامة ، وهو من أئمة فقهاء الحنابلة وعلمائهم، وله مؤلفات مشكورة مشهورة في الفقه، وأما هذا المؤلف فهو مما يتعلق بالاعتقاد، كما أنه رحمه الله كتب عدة كتابات في مسائل الاعتقاد في غير هذا المؤلف، فمما كتبه في ذلك واشتهر عنه: كتاب (ذم التأويل) فإنه من الكتب المشهورة التي يستفاد منها في رد وإبطال شبه المنحرفين عن السنة والجماعة في مسائل الاعتقاد؛ لأنه ألفه في بيان ذم التأويل، وذكر أدلة ذلك من الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة.

    كذلك له رسالة في (العلو)، وكذلك له كتاب باسم (تحريم النظر في كتب أهل الأهواء).

    منهج السلف في تأليف كتب العقائد

    أيها الإخوة! إن النصوص التي حث الله جلَّ وعلا فيها الأمة على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم كثيرةٌ جداًً، ولا نستطيع أن نأتي على أكثر مما ذكرنا لِقِصَر الوقت، إلَّا أن في سيرة الصحابة وفيما عملوه، وما حفظته دواوين السنة لنا من هديهم في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جنوا به من البركات والخيرات؛ شاهدٌ على ذلك، فإن جيل الصحابة أكمل الأجيال، وهو خير القرون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) خيريتهم لم تكن لأنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وفلان وفلان من الصحابة، إنما خيريتهم حصلت لما كانوا عليه من العمل والمسابقة إلى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة لهم تمام الانقياد لما كان يفعله صلى الله عليه وسلم.

    ومن ذلك نموذج حفظته السنة وهو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يصلي بأصحابه في إحدى المرات فخلع نعليه وهو في الصلاة، فما كان من الصحابة رضي الله عنهم إلَّا أن خلعوا نعالهم) تأسياً واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، لبس الخاتم فلبسوه، خلع الخاتم فخلعوه، وهكذا كانوا ينظرون إليه صلى الله عليه وسلم، حتى أنهم حفظوا لنا حركة لحيته وهو يصلي؛ لشدة تأسيهم به؛ ونظرهم إلى أفعاله ليقتدوا بها ويتأسوا.

    ومن عجيب ما حفظوه لنا: عدد ما في رأسه ولحيته من الشيب! فحفظوا أن في رأسه ولحيته سبع شعرات من الشيب فقط لا غير، وهذا دليل على أن الصحابة جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت المجهر عندهم، يرقبون فعله، وينظرون إلى ما يفعل، وليس نظر ترفُّه وتفكُّه وحب استطلاع، وإنما هو نظر اتباع واقتداء، فكانوا يهتدون ويقتدون به في دقيق الأمر وجليله.

    معنى عنوان الكتاب وسبب تسميته

    وهذا الاعتقاد الذي في هذه الرسالة هو اعتقاد مختصر؛ ولذلك سماه المؤلف رحمه الله بـ( لمعة الاعتقاد ) واللمعة هي: البلغة والشيء اليسير من العيش، هذا التعريف من حيث اللغة.

    وهذا الكتاب فيه نبذة يسيرة مما يعتقده أهل السنة والجماعة؛ لأنه ذكر فيه نبذاً مختصرة في مسائل الاعتقاد.

    وقال بعض أهل العلم: إن سبب تسمية المؤلف رحمه الله لهذا الكتاب بـ(لمعة الاعتقاد)؛ لأن ما ذكره فيه من العقائد ظاهر واضح، تدل عليه الأدلة من الكتاب والسنة، فأدلته من أظهر ما يكون وأوضح ما يطلب؛ ولذلك سماها (لمعة)، من لمعان الشيء؛ وهو ظهوره وعدم خفائه.

    وعلى كل حال: فإنه يصح أن يكون المقصود من هذا الاسم المعنيين، فيصح أن يكون قصده من تسمية هذا الكتاب بـ(لمعة الاعتقاد) أنه نبذة مختصرة، وأنه نبذة ظاهرة واضحة بل جلية في تقرير اعتقاد أهل السنة والجماعة.

    أما (الاعتقاد): فالاعتقاد هو الحكم الذهني الجازم، ولا يلزم من الاعتقاد أن يكون صحيحاً، لكنه اعتقاد وحكم ذهني جازم، أي: لا تردد فيه ولا ارتياب عند صاحبه.

    وقد يكون مطابقاً للواقع فيكون اعتقاداً صحيحاً، وقد يكون مخالفاً للواقع فيكون اعتقاداً فاسداً، فالاعتقاد إذا كان موافقاً للحق فيوصف بأنه اعتقاد صحيح، وإذا كان مجانباً للصراط المستقيم وللحق؛ فيكون اعتقاداً باطلاً فاسداً، والمراد أنه لا يلزم أن يكون الاعتقاد في جميع مواده صحيحاً.

    وقول المؤلف رحمه الله في تسمية هذا الكتاب: (لمعة الاعتقاد) أي: بيان ما ظهر من مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة.

    قال رحمه الله:( الهادي إلى سبيل الرشاد): الهادي، أي: الدال والمبين والموضح.

    إلى سبيل الرشاد؛ أي: إلى الطريق الذي يحصل به الرشد.

    وقوله: (الرشاد) هو: ضد الغي، والهداية هي: ضد الضلال، فجمع المؤلف رحمه الله في وصف كتابه وتسميته هذه الأوصاف، وهي الهداية والرشاد والوضوح والظهور.

    شرح البسملة

    يقول رحمه الله في افتتاح هذه الرسالة المباركة:

    (بسم الله الرحمن الرحيم).

    وهذه الجملة جملة تامة، ومعنى جملة تامة: أنها كاملة تحصل بها الفائدة، مع أنه من حيث النظر الإعرابي للكلمات الموجودة، لا تستقل الكلمات الموجودة بإفادة المعنى، إذ لابد فيها من تقدير، واختلف العلماء رحمهم الله هذا المقدر على قولين: فمنهم من قدره باسم، ومنهم من قدره بفعل، وهذا الاختلاف ناشئ عن الاختلاف في: هل جملة البسملة جملة فعلية أو جملة اسمية؟ فمن قال: إنها جملة فعلية قدره بفعل، ومن قال: إنها جملة اسمية قدره باسم.

    وكلا الوجهين صحيح مقبول، فيصح أن يقدر باسم، ويصح أن يقدر بفعل، والمسألة قريبة والاختلاف فيها ليس بكبير الشأن.

    وأكثر العلماء رجحوا تقديره بالفعل، وذهب جماعة من العلماء إلى تقديره بالاسم، لكن ينبغي في هذا المقدر أن يكون مناسباً، أي: أن يكون تقديره مناسباً لحال القائل، أو لحال الكاتب لهذه الجملة.

    فمثلاً: عند قراءة كتاب نقدر: بسم الله الرحمن الرحيم قراءتي أو أقرأ، وعند دخول المسجد: بسم الله الرحمن الرحيم دخولي أو أدخل، وعند الذبح: بسم الله الرحمن الرحيم ذبحي أو أذبح، وعند الكتابة: بسم الله الرحمن الرحيم كتابتي أو أكتب وهلم جراً.

    وهذا التقدير يناسب أن يكون في آخر الكلام لا في أوله؛ تيمناً بالبداءة بـ(بسم الله الرحمن الرحيم).

    ويصح أن يتقدم - أي: يصح أن يأتي مقدماً- كما في قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، ولم يقل: باسم ربك اقرأ؛ لأن التقديم في هذه الصورة مناسب، وذلك أن المقصود الأكبر هو القراءة؛ فلذلك قدمه على البسملة.

    لكن الأنسب في غالب موارد البسملة أن يكون المقدر المضمر مؤخراً، فتقول: بسم الله الرحمن الرحيم قراءتي، أو: بسم الله الرحمن الرحيم أقرأ.

    الحمد والثناء على الله عز وجل بصفات الكمال وتنزيهه عن صفات النقص

    قال المؤلف: (الحمد لله المحمود بكل لسان)؛ وهذا شروع في الرسالة بالحمد بعد البسملة.

    واعلم أن الرسائل والكتب والكلام يفتتح: إما بالبسملة، وإما بالحمد غالباً، وإما أن يفتتح بهما كما فعل المؤلف رحمه الله في هذه الرسالة، فإنه افتتح هذه الرسالة بالبسملة، وافتتحها أيضاً بالحمد.

    والحمد هو: الإخبار بمحاسن المحمود محبة وتعظيماً.

    فقول القائل: الحمد لله، أي: أنه يخبر بمحاسن المحمود وهو الله جل وعلا؛ محبة وتعظيماً له جل وعلا؛ ولذلك يلاحظ أنه بعد ذكر الحمد في كتاب الله عز وجل، وفي غالب الكلام أن يأتي بعده ذكر أوصاف المحمود، أو ذكر أفعاله، والأفعال هي في معنى الصفات.

    وهنا قال المؤلف رحمه الله:( الحمد لله المحمود بكل لسان)، أي: أن من صفاته جل وعلا أنه محمود بكل لسان، وهذا يدل على عظيم استحقاقه للحمد؛ لأنه ما من لسان إلا يحمد الله جل وعلا، واللسان هنا يشمل في الأصل والابتداء لسان المقال، ويشمل لسان الحال، فما من أحد إلا وهو حامد لله عز وجل بلسان الحال وبلسان المقال.

    قال: (المعبود في كل زمان)؛ أي: المستحق للعبادة في كل زمان، فهو جل وعلا المعبود على مر العصور وتعاقب الدهور وتوالي الأيام وكر الليالي، فهو جل وعلا المستحق أن يعبده العابدون من الإنس والجن والملائكة، وغيرهم من خلق الله عز وجل على توالي الزمان.

    قال: (الذي لا يخلو من علمه مكان) أي: لا يشغر ولا يتعطل مكان من الأمكنة عن علمه، بل أحاط جل وعلا علمه بكل شيء، ووسع كل شيء رحمة وعلماً.

    قال: (ولا يشغله شأن عن شأن)؛ وهذا من بديع صفات الله عز وجل، وهو أنه لا يشغله أمر عن أمر، فالشأن هنا بمعنى الأمر، أي: لا يشغله أمر عن أمر، فهو جل وعلا الذي لا تكثر عليه المسائل، ولا تشغله المطالب، يسمع سؤال كل سائل، ويعطي كل من سأله ودعاه.

    وهو جل وعلا يدبر أمر الكون، فما يكون شيء إلا بمشيئته وتقديره سبحانه وتعالى، لا يشغله إعطاء هذا عن إعطاء غيره، ولا إحياء هذا عن إماتة غيره، ولا تدبير هذا عن تدبير غيره، بل كل شيء بقضاء وقدر، فهو على كل شيء قدير، أحاط جل وعلا بكل شيء، فلا خروج لشيء من خلقه عن قدره ومشيئته وعلمه، كما قال تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3].

    قوله: (جل عن الأشباه): أي عظم عن الأشباه، فهو جل وعلا عظيم عن أن يشبهه شيء، أو أن يكون له ند.

    والأشباه: جمع شبيه، والأنداد: جمع ند، فالله سبحانه وتعالى متعالٍ عن أن يكون له مثيل، ومتعالٍ عن أن يكون له ند، والند يطلق على المثل ويطلق على الضد، فهو ليس له مثيل وليس له مضاد، بل هو الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد.

    قال رحمه الله: (وتنزه)، أي: تقدس (عن الصاحبة)، أي: الزوجة، (والأولاد) أي: تنزه عن أن يتفرع منه شيء سبحانه وتعالى، وعن أن يكون له ولد، فليس له ولد جل وعلا، كما قال سبحانه وتعالى عن نفسه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:1-3].

    قال: (ونفذ حكمه في جميع العباد) أي: مضى، والحكم هنا حكمه القدري، فحكم الله جل وعلا القدري نافذ في كل أحد، فلا خروج لأحد عن حكم الله عز وجل، وكل شيء بقضاء وقدر، وما من شيء إلا ويجري عليه حكم الله جل وعلا.

    قوله: (لا تمثله العقول بالتفكير) أي: لا تدرك العقول مثالاً له، ومهما أمضت من الوقت في النظر والتأمل والتفكر والتدبر؛ فإنها لا تصل إلى تمثيله، فالمعنى: أنه لا تصل العقول إلى مثله بالتفكير.

    (ولا تتوهمه القلوب بالتصوير) أي: لا تستطيع القلوب أن تدرك صورته جل وعلا، أي: أن تجعله سبحانه وتعالى في صورة من الصور، فالقلوب تعجز عن تصويره سبحانه وتعالى، قال جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]؛ أي: أنه جل وعلا ليس له مثيل؛ فليس له ما يمثل به ولا ما يلحق به في الصورة: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وقد قال الله جل وعلا في نفي المثل عنه: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65]، أي: ليس له سمي، وليس له نظير كما قال سبحانه: ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4] وقوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً [البقرة:22]، وما أشبه ذلك من الآيات التي نفى الله جل وعلا فيها عن نفسه الكفؤ والند والنظير.

    معنى كون أسمائه عز وجل حسنى وصفاته عليا

    ثم قال: (له الأسماء الحسنى، والصفات العلى) أي: ما تقدم من كونه سبحانه وتعالى ليس له شبيه، وليس له صاحبة ولا ولد، وأنه لا تمثله العقول، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير؛ لا يعني أنه لا يوصف، ولا يعني أنه ليس له أسماء ولا صفات، بل له جل وعلا الأسماء والصفات.

    ولذلك بعد أن ذكر ما تقدم من نفي المثل والند والشبيه، وأنه سبحانه وتعالى لا تمثله العقول، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير، قال: (له الأسماء الحسنى، والصفات العلى)، فذكر أن له أسماء وصفات.

    والأسماء الحسنى، أي: البالغة المنتهى في الحسن، فلا حسن فوق أسمائه، وقد انتهت أسماؤه إلى الحسن جل وعلا، فجمعت كمال المعنى وجمال اللفظ.

    قال: (والصفات العلى) فله جل وعلا الصفات العليا التي لا شيء فوقها.

    ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:5-7])، ذكر المؤلف رحمه الله هذه الآيات لبيان شيء من أسماء الله وصفاته التي يثبتها أهل السنة والجماعة.

    وثبوت أسماء الله عز وجل جاء من أدلة كثيرة، من ذلك قوله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الأعراف:180]، وثبوت الصفات العلى له سبحانه جاء من أدلة كثيرة، ومنها قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60]، المثل معناه: الصفة، وقوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى [الروم:27] أي: له الصفة العليا.

    قال رحمه الله:(أحاط بكل شيء علماً)؛ أي: فما من شيء من الخلق إلا وقد أحاط به علم الرب جل وعلا، فلا خروج لشيء عن علم الله، وعلم الله أحاط بالماضي والمستقبل، وأحاط بالممكن والمستحيل، ولذلك قال العلماء: صفة العلم هي أعظم وأوسع الصفات تعلقاً؛ فهي تتعلق بكل شيء: تتعلق بالماضي والمستقبل، وبالممكن والواجب والمستحيل، وتتعلق بما كان وبما لم يكن؛ فالله جل وعلا أحاط علمه بكل شيء، فلا شيء يخرج عن علم الله عز وجل.

    قال رحمه الله:(وقهر كل مخلوق عزة وحكماً)؛ وهذا فيه كمال صفاته، مع ما تقدم من الصفات، فهو جل وعلا العزيز الحكيم، لا خروج لأحد عن عزته، ولا خروج لأحد عن حكمه، (ووسع كل شيء رحمة وعلماً، كما قال سبحانه: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110]).

    الإيمان وأقسامه من حيث الإجمال والتفصيل

    وبعد هذه المقدمة التي ذكر المؤلف رحمه الله فيها الصفات العظيمة للرب جل وعلا على وجه الإجمال، ابتدأ رحمه الله ذكر ما يتعلق بالأصل الأول من أصول الإيمان؛ وهو الإيمان بالله عز وجل فقال:

    [ موصوف بما وصف به نفسه في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم ].

    هذا إثبات للصفات على وجه الإجمال، وهذا المسلك تلاحظه في كلام العلماء في عديد من الكتب والمؤلفات، فإنهم إذا ذكروا العقيدة يذكرون في أول اعتقادهم الإيمان المجمل، أعني: الذي ينتظم كل شيء، والذي لا يخرج عنه شيء، بحيث يكون كالمظلة التي يستظل بها جميع ما جاء من مسائل في هذا الأمر.

    ففيما يتعلق بالصفات: يجب على المؤمن أن يؤمن بما وصف الله به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وهذا إيمان مجمل يشمل كل ما يتعلق بصفات الله عز وجل مما أدركه الإنسان وعلمه، أو خفي عنه ولم يعلمه، أو أنه لم يتبين له معناه، فهذا هو الإيمان المجمل.

    وقد ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث جبريل؛ فإن حديث جبريل تضمن الإيمان المجمل الذي يجب على كل أحد.

    والإيمان من حيث الإجمال والتفصيل ينقسم إلى قسمين:

    إيمان مجمل: وهو الإيمان بكل ما جاءت به الرسل.

    وإيمان مفصل: وهو الإيمان بتفاصيل ما جاءت به الرسل.

    فإذا قال الإنسان كما قال المؤلف رحمه الله:( موصوف بما وصف به نفسه في كتابه، وعلى لسان نبيه الكريم)، فهذا هو الإيمان المجمل بجميع الصفات، والإيمان بكل ما أخبر الله به عن نفسه، وبكل ما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم عن ربه.

    وأما الإيمان المفصل فهو: أن تعلم بأن الله سميع بصير قدير عليم قوي متين، وأن له وجهاً ويدين، وما إلى ذلك من سائر ما جاء به التفصيل في الكتاب والسنة.

    ففي أول عتبات الإيمان يجب على المؤمن أن يؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله، مما يتعلق بالأسماء والصفات وغيرها.

    ونحن نتكلم فيما تكلم به المؤلف رحمه الله مما يتعلق بالإيمان بالصفات.

    فنؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله مما جاء في الكتاب أو صحت به السنة.

    1.   

    الواجب في النصوص المتعلقة بالأسماء والصفات

    قال المؤلف رحمه الله: [وكل ما جاء في القرآن أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل، والتشبيه والتمثيل، وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً، وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله، ونجعل عهدته على ناقله، اتباعاً لطريق الراسخين في العلم، الذين أثنى الله عليهم في كتابه المبين بقوله سبحانه وتعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، وقال في ذم مبتغي التأويل لمتشابه تنزيله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ [آل عمران:7]، فجعل ابتغاء التأويل علامة على الزيغ، وقرنه بابتغاء الفتنة في الذم، ثم حجبهم عما أمَّلوه، وقطع أطماعهم عما قصدوه، بقوله سبحانه: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ [آل عمران:7] ].

    ذكر المؤلف رحمه الله في هذا المقطع ما يجب العمل به فيما يتعلق بالأسماء والصفات، فقال رحمه الله:(وكل ما جاء في القرآن، أو صح عن المصطفى عليه السلام من صفات الرحمن وجب الإيمان به) أي: وجب اعتقاده، والإقرار به، والطمأنينة له.

    والإيمان هو: الإقرار المستلزم للإذعان والقبول، ولذلك قال:(وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل).

    فالواجب فيما يتعلق بخبر الله في كتابه، أو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من صفات الله عز وجل هو الإيمان بذلك، وأن نقر به ونصدقه، وأن تطمئن قلوبنا له، وأن نقبله كما ذكر المؤلف رحمه الله، أي: نتلقاه بالتسليم والقبول.

    الطريق التي زاغ بها أهل الضلال والانحراف عن نصوص الكتاب والسنة

    ثم بعد أن بيَّن الواجب فيما يتعلق بالأسماء والصفات في كلام الله وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ذكر المؤلف رحمه الله ضلال من ضلَّ، وطريق من أخل بمنهج أهل السنة والجماعة- منهج الصحابة- الذين تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    قال رحمه الله:(وجب الإيمان به، وتلقيه ، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل).

    وهذه الطرق التي ذكرها رحمه الله هي أربع طرق: الرد والتأويل والتشبيه والتمثيل، وحقيقتها ترجع إلى طريقين: التعطيل والتمثيل. فهذا التفصيل: (الرد والتأويل والتشبيه والتمثيل)، يرجع إلى طريقين بهما يحصل الزيغ فيما يتعلق بخبر الله عن نفسه، أو خبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه.

    الأول: التعطيل: وهو إبطال ما جاءت به النصوص؛ إما إبطالاً كلياً، أو إبطالاً جزئياً.

    والثاني: التمثيل: هو أن يجعل ما أخبر الله به عن نفسه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم عن ربه نظير ومثل ما للمخلوق، وهذا لا شك أنه من أعظم المحرمات؛ لأنه شرك بالله عز وجل.

    فالمؤلف أحسن في بيان ما يجب،حيث قال:(وجب الإيمان به، وتلقيه بالتسليم والقبول)، ثم ذكر بعد ذلك طرق الغي والضلال والزيغ فيما يتعلق بمسائل الاعتقاد فقال:(وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل).

    قال ابن القيم رحمه الله في نونيته وهو يبين زيغ طريق أهل الضلال، وسلامة طريق أهل الحق قال:

    فالجحد والإعراض والتأويل والتـ ـجهيل حظ النص عند الجاني

    فذكر أربع طرق: الجحد والإعراض والتأويل والتجهيل. وقوله: حظ النص، أي: نصيب النص، وهكذا يقابل أهل الزيغ نصوص الكتاب والسنة: إما بالجحد، وإما بالإعراض، وإما بالتأويل، وإما بالتجهيل، وكل هذا مؤداه واحد؛ وهو ترك العمل بالنص.

    هذا حظ النص عند الجناة من أهل التأويل الذين خالفوا طريق أهل السنة والجماعة- طريق سلف الأمة- في معرفة ما يجب لله عز وجل، وما أخبر الله به في كتابه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته.

    ثم قال ابن القيم رحمه الله:

    لكن لدينا حظ التسليم مع حسن القبول وفهم ذي إحسان

    وقوله: لكن لدينا أي: أهل السنة والجماعة.

    فطريق أهل السنة والجماعة هو التسليم مع حسن القبول، فهو ليس تسليماً مع ضيق وضجر وقلق ورفض، بل تسليم مع حسن قبول، ولذلك قال بعد التسليم: (مع حسن القبول وفهم ذي إحسان).

    وهكذا ينبغي أن نعامل النصوص.

    يقول رحمه الله: (وترك التعرض لها بالرد)؛ والرد منه التكذيب، ومنه الإبطال.

    والتأويل هو: صرف اللفظ عن ظاهره، وتفسيره بما لم يرده الله ورسوله، هذا هو التأويل، ومعنى التأويل هنا هو: تفسير النص هنا بما لم يُرده الله ورسوله.

    صحة نفي التمثيل وإثبات التشبيه

    والتشبيه والتمثيل متقاربان، والمقصود بالتشبيه هو: أن تجعل لله عز وجل شبيهاً فيما لا يجوز أن يكون له فيه شبيه.

    وانظر إلى قولنا: فيما لا يجوز؛ لأنه ليس كل تشبيه ممنوعاً، ولذلك استعمل بعض العلماء من المحققين لفظ التمثيل؛ لأنه هو الذي جاء في الكتاب والسنة، ولم يستعملوا لفظ التشبيه؛ لأن التشبيه لفظ غير مطابق للواقع، فإن ما أخبر الله به عن نفسه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم عنه؛ لابد فيه من قدر من المشابهة في المعنى العام الذي يحصل به فهم النص، فليس كل مشابهة منتفية، ولذلك ليس في القرآن لفظ أنه لا شبيه له، بل الذي في القرآن: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، والمماثلة أمر زائد على مطلق المشابهة؛ لأن المماثلة هي المساواة من كل وجه، أما المشابهة فهي اتفاق من بعض الوجوه.

    فمثلاً: علو الله عز وجل مفهوم المعنى، وهو: الارتفاع عن الغير، لكن ما لله من العلو ليس كما للمخلوق من العلو. والسمع مفهوم المعنى، وهو إدراك الأصوات، فسمع الله معناه إدراك الأصوات، لكن الصفة التي اتصف بها سبحانه وتعالى ليست هي كسمع المخلوق.

    إذاً: ينحصر المحظور في التمثيل، أما التشبيه فلابد منه في قدر، وهذا القدر هو الاشتراك في المعنى العام. ونقول: إن مراد المؤلف رحمه الله بالتشبيه هنا هو التمثيل؛ ولذلك قال رحمه الله فيما تقدم: (جل عن الأشباه والأنداد) ومقصوده: أنه تعاظم عن أن يكون له مثيل سبحانه وتعالى.

    فملخص ما في هذه النقطة هو أن نقول: إن طريق أهل السنة والجماعة هو إثبات النصوص كما أثبتها الله أو أثبتها رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فلا نكيف صفات الله، ولا نمثل الله بخلقه، ولا نعطل النصوص بتحريف أو تأويل، بل نثبت النصوص كما جاءت في الكتاب والسنة، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

    العمل فيما أشكل من نصوص الصفات

    بعد أن بين المؤلف رحمه الله الواجب في أسماء الله وصفاته انتقل رحمه الله إلى بيان أن ما جاءت به النصوص مما يتعلق بصفات الله عز وجل؛ منه ما هو مشكل، ولذلك قال:(وما أشكل من ذلك وجب إثباته لفظاً).

    والنصوص من حيث دلالتها تنقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: نصوص واضحة الدلالة بينة، ليس فيها لبس؛ فهي واضحة في اللفظ، وواضحة في المعنى، وهذه هي التي تسمى المحكمة.

    القسم الثاني من النصوص: ما فيه اشتباه، بمعنى: أن معناه فيه نوع غموض وخفاء، وهذا الغموض والخفاء يرجع شيء منه إلى اللفظ، كأن يكون اللفظ مجملاً ويرجع شيء منه إلى الفهم والعلم.

    فالمتشابه من النصوص هو ما احتمل أكثر من معنى. والواجب في المحكم الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً؛ هو الإيمان به وإثباته، أما المتشابه فالواجب فيه هو ما ذكره المؤلف رحمه الله فيما سيأتي من كلامه.

    وقبل أن نفرغ من هذه النقطة نقول: إن النصوص في القرآن والسنة من حيث الدلالة والمعنى تنقسم إلى قسمين: القسم الأول منها: ما هو محكم، وهذا النوع هو الواضح الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً، والنوع الثاني من النصوص: هو الذي يحتمل أكثر من معنى.

    والمحكم مثل قول الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فهذا النص محكم لأنه يدل على معنى واحد، وهو أن الله أحد جل وعلا، فقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] معناه واضح يدركه كل من عرف لسان العرب.

    ومن النصوص التي يمثل بها العلماء للنص المتشابه قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فالمتكلم بالقرآن والمنزل له واحد، وهنا يقول:(إنا نحن) فأتى بضمير الجمع، فهذا الضمير يحتمل أن المنزل للقرآن أكثر من واحد، وأن المتكلم بالقرآن أكثر من واحد، ويحتمل أنه أراد تعظيم نفسه وبيان عظيم قدره؛ لأن العرب تستعمل ضمير الجمع في حق من كان عظيم القدر، رفيع المنزلة والمكانة، فهذا يحتمل هذا المعنى، ويحتمل هذا المعنى.

    والنصارى يقولون: إنكم تقرُّون التعدد، وأن الله ليس بواحد، والدليل قوله في كتابكم: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] ، و(إنا) لا يمكن أن تدل على واحد، فهذا من المتشابه.

    الواجب في المتشابه أن نرده إلى المحكم، والمحكم في كلام الله عز وجل هنا هو قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فالمتيقن أن الضمير في قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، أنه للتعظيم، ونظائر هذا كل ما جاء من الألفاظ التي عبر الله عز وجل فيها عن نفسه بضمير الجمع، فإن ذلك جاء على وجه التعظيم؛ لأن العرب تستعمل هذا الأسلوب.

    إذاً: النصوص الواضحة يجب الإيمان بها، والنصوص المتشابهة يجب ردها إلى المحكم والإيمان بها.

    معنى المحكم والمتشابه في القرآن

    وهنا إشكال: وهو أن الله وصف القرآن بأنه محكم؛ قال الله تعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، فأخبر بأن القرآن محكم، وأخبر أيضاً بأن القرآن متشابه فقال سبحانه وتعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً [الزمر:23]، بينما في آية سورة (آل عمران) قسم الله عز وجل القرآن إلى قسمين: محكم ومتشابه، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، فقسم آيات القرآن إلى قسمين: محكم ومتشابه، والجواب: أنه لا تعارض؛ لأن الإحكام والتشابه ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: إحكام عام، وتشابه عام.

    والقسم الثاني: إحكام خاص، وتشابه خاص.

    فالإحكام العام والتشابه العام المراد به؛ إدخال الكلام وتصديق بعضه لبعض، وليس فيه تعارض، فقول الله تعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1]أي: أتقنت آياته، وقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً [الزمر:23]المقصود به: أنه يصدق بعضه بعضاً وليس فيه تعارض، فليس فيه أن آخره ينقض أوله، أو أن بعضه يرد على بعض، بل يصدق بعضه بعضاً كما قال الله جل وعلا: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82].

    فالقرآن لا اختلاف فيه، بل يصدق بعضه بعضاً، كما قال سبحانه: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، كل هذا من حيث الوصف العام للقرآن.

    لكن الآيات؛ منها ما هو محكم، ومنها ما هو متشابه، فالإحكام والتشابه الخاص؛ هو أن بعضها واضح المعنى جلي المقصد والغاية، وبعضها يحتمل أكثر من معنى، فلا تعارض بين الإحكام العام والتشابه العام، وبين الإحكام الخاص والتشابه الخاص.

    فما أشكل يجب رده إلى ما تبين، والمشكل وغير المشكل هو في حق الآيات من حيث المعنى، أما من حيث تصديق الكلام بعضه لبعض، ومن حيث اتفاق المعاني وتوافقها؛ فهذا وصف لكل القرآن.

    1.   

    الأسئلة

    الفرق بين الإحكام الخاص والتشابه الخاص والإحكام العام والتشابه العام

    السؤال: ما هو الفرق بين الإحكام الخاص والتشابه الخاص؟

    الجواب: الإحكام الخاص، يعني: أن الآية ليس لها إلا معنى واحد، والتشابه الخاص، يعني: أن الآية تحتمل أكثر من معنى، كما مثلنا بقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وبقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فإن الآية الأولى لا تحتمل إلا معنى واحداً.

    والآية الثانية يحتمل الضمير فيها معنيين كما تقدم.

    أما التشابه العام فهو الذي يعم القرآن كله، والإحكام العام هو الذي يعم القرآن كله، ومعناه: أنه متقن وأنه يصدق بعضه بعضاً، ويندرج تحته الإحكام الخاص والتشابه الخاص، والله قد وصف القرآن بالإحكام في قوله: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1]،ووصفه كله بأنه متشابه في قوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً ٍ [الزمر:23]، وفي آية (آل عمران) قسم الله الآيات إلى قسمين فقال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، أي: بعض آياته محكمات والأخرى متشابهات، ولا تعارض، فالإحكام العام بمعنى الإتقان، والتشابه العام بمعنى أن يصدق بعضه بعضاً، فليس فيه اضطراب ولا اختلاف، كما قال تعالى: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42].

    وأما التشابه الخاص الذي ذكره الله في آية (آل عمران)، والإحكام الخاص، فالإحكام الخاص هو: الآيات واضحة المعنى التي لا إشكال في معناها.

    وأما قوله: وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]، فهي التي تحتمل أكثر من معنى، أو في معناها خفاء وعدم وضوح، فالإحكام العام والتشابه العام يندرج تحته الإحكام الخاص والتشابه الخاص.

    الفرق بين التعطيل والتمثيل

    السؤال: ما الفرق بين التعطيل والتمثيل؟

    الجواب: الفرق بين التعطيل والتمثيل أن التعطيل: إبطال ما دلت عليه النصوص، أو إلغاء ما دلت عليه النصوص؛ إما إلغاءً كلياً أو جزئياً.

    والتمثيل: هو أن يجعل لله مثيل.

    والله تعالى أعلم.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756670940