إسلام ويب

كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين [1]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • المسح على الخفين من أبرز مباحث الطهارة، وتواترت النصوص فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم -قولاً وفعلاً- حتى قيل: إن رواة المسح على الخفين نحو ثمانين صحابياً.. وقد خالف فيه أهل البدع حتى صار شعار أهل السنة المسح على الخفين، وشعار غيرهم عدمه. ولهذا الباب مسائل وأحكام وشروط وضوابط وأحوال تناولها أهل العلم بالبحث في مصنفاتهم في ضوء الأحاديث الواردة عن خير الأنام محمد عليه الصلاة والسلام..

    1.   

    مشروعية المسح على الخفين

    بسم الله الرحمن الرحيم

    والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    [ عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما) متفق عليه.

    وللأربعة عنه إلا النسائي : (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله) وفي إسناده ضعف ].

    هذا الباب بعنوان (المسح على الخفين)، والخفان: هما لباس القدمين، ومناسبة هذا الباب لما قبله من مباحث الوضوء، أن مسح الخفين يتعلق بغسل القدمين، وهما من أعمال الوضوء، فكان مبحث المسح على الخفين من تتمة أبحاث الوضوء.

    تواتر الأدلة على جواز المسح على الخفين

    والمسح على الخفين قد يكون من أبرز مباحث الطهارة، وبلغت فيه النصوص حد التواتر، ولم يخالف في مشروعية المسح إلا من خالف أهل السنة، حتى صار شعار غير أهل السنة أنهم لا يمسحون على الخفين، وشعار أهل السنة أنهم يمسحون على الخفين، والمسح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، أما من حيث القول - كما يقول البيهقي وغيره - فقد وصل عدد رواة المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى نحوٍ من ثمانين صحابياً، ولذا قال الكرخي : أخشى الكفر على من أنكر المسح على الخفين. أي: لأنه ثابت بهذه القوة من عدد الرواة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    رد دعوى النسخ أو التعارض فيما يتعلق بغسل القدمين ومسحهما

    وقع شبه توقف أو تساهل في بادئ الأمر لموضوع آية المائدة التي فيها الأمر بغسل القدمين، حتى جاء جرير بن عبد الله وروى المسح على الخفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هل رأيته مسح قبل آية المائدة أو بعدها؟ - آية المائدة : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة:6] - فقال مجيباً: وهل أسلمت إلا بعد آية المائدة؟!

    ويقولون: إن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع، في قضية العقد، والمريسيع إنما كانت في السنة الرابعة، وقالوا: إن إسلام جرير بن عبد الله البجلي كان في عام الفتح، فيكون ذلك متأخراً بأربع سنوات، فكان البعض يظن أن آية المائدة نسخت المسح، حتى نقلوا عن علي رضي الله عنه أنه قال: سبق الكتاب المسح. وقالوا: الكتاب: هو آية الوضوء، وفيها الغسل. وأجابوا عن ذلك بقولهم: إن كان الكتاب سبق، فتكون الآية سابقة ومتقدمة، ويكون المسح متأخراً عن الكتاب، والمتأخر لا ينسخ بالمتقدم، فعلى روايتكم أنتم أيضاً عن علي : سبق الكتاب المسح. يكون المسح ثابتاً بعد الكتاب؛ لأن الكتاب سابق، أي: متقدم عليه.

    وكانوا أيضاً يقولون: إن أحاديث تعليم الوضوء ليس فيها مسح، وجاء أيضاً الحث على غسل الرجلين في أحاديث: ( ويل للأعقاب )، أي: مَنْ مَسَحَ العقب ولم يغسله بالماء، وجاءت قراءة الآية الكريمة: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] ، فقالوا: إن قراءة: ( وأرجلِكم ) بالجر عطف على مسح الرأس، فتكون الأرجل تمسح بذاتها، ولم يأت فيها ذكر الخف.

    وأجاب الجمهور أن القراءتين إذا كانتا ثابتتين؛ فهما بمثابة آيتين مختلفتين، ونبه على ذلك والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أضواء البيان عند قضية غسل القدمين وقراءة المسح؛ لأن بعض الطوائف المنتمية إلى الإسلام لا تغسل القدمين، وإنما تمسحهما دون أن تكونا في خفين، فيمسح القدم بأصابعه ويكتفي بذلك، بناء على قراءة: ( وأرجلِكم )، على أنها معطوفة على مسح الرأس فتمسح، وأجاب ابن جرير الطبري وغيره بأن القراءة المشهورة هي قراءة النصب: ( اغسلوا وجوهَكم )، ( اغسلوا أيديَكم )، ( اغسلوا أرجلَكم ). وقراءة الجر قالوا: بالمجاورة، والمحل محل نصب، ولكن جاءت قراءة: ( وأرجلِكم ) بالجر للمجاورة لمسح الرأس.

    ويبين موضوع قراءة النصب استمرارية فعله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يغسل قدميه، وقالوا: إن قراءة الجر مع قراءة النصب لا تعارض بينهما؛ لأن قراءة النصب التي تقتضي الغسل هي حينما تكون القدمان عاريتين، وقراءة الجر التي تقتضي المسح هي حينما تكون القدمان داخلتين في الخفين، فنمسح على الخف بقراءة الجر. ومن هنا قال بعض العلماء: إن المسح على الخفين ثابت بالكتاب كما هو ثابت بالسنة.

    ولكن يغنينا عن هذا كله ما تواتر فيه النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    المسح على الخفين سمة لأهل السنة

    وبهذا تكون مشروعية المسح على الخفين سمة من سمات أهل السنة، ويكون المنع من المسح سمة من سمات تلك الطوائف التي تغاير أهل السنة، ومن الطرف أن الحسن بن علي بن زيد عتب على كاتب عنده فحبسه وصادر ماله، فكتب إليه هذا الكاتب من السجن يعتذر في أبيات، ومما قاله في هذه الأبيات - وكان قد اتهم بالتشيع -:

    إلى الله أشكو ما لقيت محبة قوم بهم بليت

    إلى أن قال:

    أمسح خفي ببطن كفي ولو على جيفة وطيت

    فجعل كونه يمسح على خفه تبرئة له من تلك الطوائف التي اتهم بها، ودليل أنه من أهل السنة أنه يمسح على خفيه.

    إذاً: أخذ موضوع المسح على الخفين حيزاً واسعاً، وإن كان المسح رخصة - كما سيأتي في حديث صفوان بن عسال : ( رخص لنا ) - فإن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يرى وجوب المسح عند قوم ينكرونه ليظهر السنة عندهم.

    والبحث في المسح على الخفين يتناول؛المشروعية - وقد أشرنا إليها بأحاديث التواتر -، وكيفية المسح، ونوعية الممسوح عليه، والتوقيت له حضراً وسفراً، وزمن الرخصة فيه، ومن أي شيء يمسح عليه - الحدثان الأصغر والأكبر، أم الأصغر فقط -، وبأي الطهارتين؛ المائية والترابية، أم المائية فقط، هذه جوانب مباحث المسح على الخفين.

    نأتي إلى هذا الحديث الأول الذي صدر به المؤلف رحمه الله هذا الباب؛ لأنه يعتبر الأصل في المشروعية، وفي الكيفية، وفي بعض الشروط له.

    يقول: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم) ، متى كان معه، وفي أي مكان؟ تأتي نصوص أخرى أن ذلك كان في غزوة تبوك، وغزوة تبوك متى كانت؟ كانت في السنة التاسعة، وآية المائدة متى نزلت؟ نزلت في غزوة المريسيع سنة أربع، إذاً: فحديث المغيرة بعد نزول آية المائدة بخمس سنوات، فلا يمكن أن يدعى بأن المسح نسخ بآية المائدة؛ لأن آية المائدة نزلت قبل زمن، ثم بعد خمس سنوات يأتي المغيرة وينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح، إذاً: فلا مجال لادعاء النسخ هنا أبداً، وانتهت قضية الإشكال في الخلاف أو النزاع، إلا من أصر واتخذ جانباً لنفسه.

    من شروط المسح على الخفين لبسهما على طهارة

    كان صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ثم حانت صلاة الفجر، يقول المغيرة رضي الله عنه: فذهب النبي صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته، وكان من عادته إذا كان في الفلاة بيعد حتى لا يراه الرائي، فتبعه المغيرة بإداوة من ماء، وتنحى عنه حتى قضى حاجته، ثم جاء يصب عليه الماء ليتوضأ، كما ذكر مالك في الموطأ: شرع ليخرج يديه من كم الجبة فضاق الكم عليهما، فأخرجهما من تحت الجبة، وغسلهما، وهذا يعني: أن الكم الضيق موجود من قديم، لكن ليس بـ (الكبك) الذهب أو الفضة.

    يقول المغيرة رضي الله عنه: (فأهويت لأنزع خفيه) ، من أجل أن يغسل القدمين، وهذا من باب المساعدة في الطهارة أو في الوضوء، وخاصة لذوي الشأن فلا بأس في ذلك، (فقال: دعهما)، أي: اتركهما في مكانهما في القدمين، (فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما)، فقوله رضي الله تعالى عنه: فأهويت لأنزع الخفين من قدميه صلى الله عليه وسلم، أي: ليغسل القدمين على ما هو الأصل، فنهاه صلى الله عليه وسلم، أو أمره ألا ينزعهما، وأخبره بما يتم المسح به: (فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما)، وتتمة الحديث -ثم نعود إلى محل الشاهد-: أنهما أتيا القوم فوجدا أن القوم استبطئوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وفي الخبر بأنهم ترددوا ماذا يفعلون، فقد جاء وقت الصلاة والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأتهم، فهل ينتظرون حتى لو خرج الوقت، أم يقدمون واحداً منهم يصلي بهم، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم حاضراً، لكن ليس موجوداً عندهم الآن؟ أخيراً استقر رأيهم على أن قالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم بظروفه، وهو في غيبته لا نحكم عليه بشيء، ونحن مكلفون بأداء الصلاة وقد جاء وقتها، فلنصل. وهذا كما سبق التنبيه عليه في بعض المحاضرات في الجامعة الإسلامية للشيخ أبي الحسن الندوي ، قال: هناك مواقف في الإسلام يتردد فيها المسلم بين الحكم العقلي وبين دواعي العاطفة، فذكرت له هذه القضية، فقال: نعم.

    وهنا الصحابة رضي الله عنهم -حسب مقتضى العقل- يقولون: الصلاة واجبة فعلينا أن نصلي قبل أن يخرج الوقت. ومنطق العاطفة يقول: ننتظر حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي بنا؛ لأن صلاة أحدنا بنا ليست كصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن أي الجانبين غلّبوا؟ أغلّبوا المنطق والعقل، أم غلّبوا العاطفة؟ قدّموا منطق العقل بأداء الصلاة في وقتها، فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المغيرة والناس في الصلاة، وفي بعض الروايات أن المغيرة همّ أن ينبه الإمام ليرجع، وعند الفقهاء إذا تأخر الإمام الراتب وقدم القوم رجلاً منهم وحضر الإمام الراتب فهو أحق بالإمامة، ولو كان الذي قدموه صلى بعض الصلاة، فيأتي الإمام الراتب ويتقدم ويصلي بالناس، ويعتبر ما بدأ به بداية لصلاته، وهم يبنون على ما تقدم من صلاتهم، وكل يكمل صلاته، ثم هم يجلسون عند إتمام صلاتهم، وهو يقوم لإتمام ما فاته، ثم يسلم فيسلمون معه، فهنا كان من فقه المغيرة أن ينبه الإمام ليتقدم الإمام الراتب، وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من حقه ذلك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاه، وقال له: اتركه، وهذا أيضاً يدل على أن من حق الإمام الراتب أن يتنازل عن حق، ويقر من قدموه للصلاة بهم؛ لأن مدار الإمامة على رضا الجمهور، فإذا ارتضوا هذا الإنسان كان إمامهم، وعندنا حديث في المحراب: (تخيروا لوفادتكم؛ فإن إمامكم وافدكم إلى الله) ، الإمام وافدنا إلى الله، يتقدم بنا إلى الله، فينبغي أن يكون على أعلى مستوى؛ لأنه يسأل الله لنا، فيقول: اهدنا الصراط المستقيم... ونحن نقول: آمين.

    إذاً: من حق الإمام أن يتقدم ويأخذ مكانه، ومن حقه أيضاً ترك الإمامة لمن اختاروه، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبر المغيرة معه، وكان ابن عوف قد صلى ركعة وبقيت ركعة للجماعة، فلما أتموا صلاتهم سلموا، وقام النبي صلى الله عليه وسلم ومعه المغيرة يكملان ما بقي عليهما من صلاتهما، فلما رأى الناس رسول الله فزعوا، ولسان حالهم: كيف تقدمنا على رسول الله؟ وكيف يصير مأموماً وراءنا؟ فلما سلم وأنهى صلاته قال: (لا عليكم، ما قبض الله روح نبي إلا بعد أن يصلي خلف رجل من أمته) ، ولو أننا أخذنا المسألة على مجرد أحكام، وعلى فقه، وعلى (يصح أو لا يصح) لانتهينا، ولكن كما يقولون: السنة كنز وافر. وهذه العملية توحي بما وراء الصلاة، وتوحي بأمور عديدة جداً، لماذا ما قبض حتى يصلي خلف واحد من أمته؟ كون النبي يرضى أن يأتمّ بواحد من أصحابه، فإلى أي مدى وصل أصحابه؟ وإلى أي مدى أثمرت تربيته لأصحابه؟ وإلى أي مدى كان تأثيره في تنشئة هذه الأمة؟ كانوا أعراباً، فأصبحوا الآن أئمة، إذاً: هذا يشعر بأن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنوات التسع بعد الهجرة؛ لأن سنوات ما قبل الهجرة كانت سنوات كفاح، ومصادمات.. إلخ، لكن هنا في الحياة العملية، كأنه في تسع سنوات تخرج على يديه صلى الله عليه وسلم الآلاف من الرجال كل منهم يصلح أن يكون إماماً، ونظن أن الدنيا كلها ما شهدت مثل هذا الإنجاز! إذاً: ما دام أنه قد أصبح كل أصحابه صالحين للإمامة، فهو بذلك يكون قد أنهى المهمة، وأدّى الواجب؛ ولذا جاءت السورة الكريمة: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً [النصر:1-2] تكون قد انتهيت، فسبح بحمد ربك وتهيأ للقائه، كما قال ابن عباس : نَعَتْ إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا، لأنه إذا جاء نصر الله، وجاء الفتح، وأصبح الناس يدخلون طواعية في دين الله أفواجاً، فما الحاجة بعد هذا لرسول يقوم فيهم؟ انتهت المهمة، إذاً يتهيأ لملاقاة ربه؛ لينال الجزاء الأوفى على رسالته، وهنا يظهر معنى قوله: (ما قبض الله روح نبي إلا بعد أن يصلى خلف رجل من أمته).

    اشتراط طهارة القدمين معاً عند لبس الخفين

    قوله صلى الله عليه وسلم: (دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين)، الفاء هنا تدل على السببية والعلة. (فمسح عليهما)، لماذا يدعهما ويمسح عليهما؟ لأنه أدخلهما طاهرتين. فمفهوم المخالفة لو أنه لبس الخفين في قدمين غير طاهرتين فلا يصح المسح عليهما، وكان ينبغي نزعهما وغسل القدمين، ولهذا قالوا: إن من شروط صحة المسح على الخفين أن يكون الماسح قد لبسهما على طهارة كاملة، ومعنى (كاملة) من منطوق (أدخلتهما) أي: معاً، مكتملتي الطهارة، قالوا: (طاهرتين) لا تصدق فيها إلا الطهارة المائية، للنزاع الموجود في التيمم، وهل هو مبيح أم رافع؟

    التيمم مبيح للصلاة لا رافع للحدث

    أعتقد أن الراجح في هذه القضية أنه مبيح وليس برافع؛ لأنه يترتب على ذلك أشياء كثيرة، والدليل على أن التيمم مبيح وليس برافع، قضية المزادتين، لما كان صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات، وانتهى ماء الجيش، فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه ورجلاً معه ليتحسسا الماء، فسارا في طريقهما والمسلمون ينتظرون، وعند قرب الزوال لقيا امرأة -ضعينة- بين مزادتين فسألاها عن الماء الذي سقت منه، فقالت: عهدي به أمس الساعة، يعني: مشيت من على الماء أمس في مثل هذا الوقت من الظهر، معنى هذا أنه مضى عليها منذ تركت موضع الماء أربعة وعشرون ساعة، فهل يا ترى يذهبون للبحث عن ذلك الماء؟! فاختصرا الطريق وقالا: هلم بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي معها مزادتان، والمزادة: هي القربة الكبيرة المصنوعة من جلد البعير أو الثور، فقالت: إلى ذاك الصابي؟! قالا: ذاك الذي تعنين، واقتاداها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبراه بالأمر، قال: أنزلاها، وأخذ من كل مزادة جزءاً من الماء، ودعا فيه وبرّك عليه، وأعاد الماء إلى المزادتين، ثم دعا الجيش: هلم فاملئوا أوعيتكم، فملأ كل إنسان ما عنده من قربة أو أداوة أو أي شيء، وتوضئوا، وسقوا دوابهم، واكتفوا من كل الجوانب بالماء.

    وكان في صلاة الصبح رجل معتزل الصلاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لك لم تصل معنا؟ ألست مسلماً؟ قال: بلى يا رسول الله! ولكني أجنبت ولا ماء، قال: عليك بالصعيد، فتيمم وصلى)، فلما جاءت المزادتان وتوفر الماء قال: (أين صاحب الجنابة؟ قال: أنا، فأعطاه إناء به ماء وقال: خذ فأفرغه على جسمك).

    وهناك حديث عمر وعمار رضي الله تعالى عنهما: (إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته) فما حكم السنوات العشر التي كانت بالتيمم ألم تكن طهارة؟ بلى، ولكن كانت مبيحة، وهنا في قضية المزادتين، حينما أعطى الرسول الماء للرجل وقال: (خذ فأفرغه على جسمك)، فهل كان ذلك لجنابة جديدة بعدما صلى الصبح، أم للجنابة الأولى التي امتنع عن صلاة الصبح بسببها، ثم تيمم وصلى الصبح؟ الجواب: للأولى. فإن قيل: ولكنه تيمم وصلى، فيرد عليه: التيمم لم يرفع الجنابة -الحدث- ولكن أباح له الصلاة من أجل الوقت.

    إذاً: التيمم ليس طهارة كاملة، فقوله: (أدخلتهما طاهرتين) يتعين أن يكون ذلك بطهارة مائية.

    وقوله: (أدخلتهما) بضمير التثنية، يتفق الجمهور - ما عدا الإمام أبا حنيفة رحمه الله على أن الإنسان لو توضأ كما أمره الله، ولما غسل القدم اليمنى أدخلها في خفها، ثم غسل اليسرى فأدخلها في خفها، في هذه الحالة يكون أدخلهما طاهرتين، أم أدخل الأخيرة وهي اليسرى وهما طاهرتان؟ وهل يصح المسح على مثل هذا أم لا يصح؟ قالوا: لا يصح؛ لأنه لم يدخلهما معاً وهما طاهرتان. لكنه غسل اليمنى وطهرها؟ قالوا: لا. الطهارة في الوضوء لا تتجزأ، ولا تكمل طهارة القدم اليمنى إلا بعد إتمام غسل القدم اليسرى ويكتمل الوضوء، فحينئذ تكون قد طهرت أعضاء الوضوء، فلبسه اليمنى قبل يكون قبل أن تطهر اليمنى؛ لأنه بغسلها قبل اليسرى ما تمت طهارتها، ولا تتم طهارة اليمنى إلا بإكمال غسل اليسرى، أي: بإكمال الوضوء. ولهذا قالوا: يشترط في المسح على الخفين أن يدخل القدمين معاً بعد وفاء الطهارة لهما، ولا يكون ذلك إلا بعد إكمال غسلهما قبل أن يلبس الخف في إحداهما، والإمام أبو حنفية رحمه الله يجوز أن يغسل القدمين فيلبس الخفين ثم يكمل الوضوء، وهذا بناء على النزاع المتقدم في الترتيب، هل هو واجب أو غير واجب؟ والذي عليه الجمهور أنه -كما تقدم- لا يتم المسح إلا إذا أكمل الوضوء وغسل القدمين ثم لبسهما بعد تمام الغسل.

    إذاً: فحديث المغيرة يعتبر هو الأصل في هذا الباب، فإنه أثبت المشروعية بعد آية الوضوء قطعاً، ثم بين لنا الشرط، ثم نص على الممسوح عليه وهو الخف، وسيأتي النزاع في شكلية وصفات الخف الذي يصح المسح عليه، ثم الشرط في جواز المسح، وهو أن يكون قد لبسهما على طهارة.

    مداخلة: فإذا توضأ وغسل القدم اليمنى ثم أدخلها في الخف، ثم غسل اليسرى وأدخلها في الخف.. ما حكم وضوئه؟!

    الشيخ: يكون قد توضأ وضوءاً كاملاً، لكن هذا الخف الذي لبسه بهذه الصفة لا يصح المسح عليه.

    مداخلة: هل من الممكن أن ينزع خفيه ثم يلبسهما بعد غسله لقدمه اليسرى؟!

    الشيخ: ينزع الخف عن القدم اليمنى، وينزع الخف عن اليسرى، ثم يبدأ لبس الخف بعد إتمام طهارة القدمين، فهو لبس اليمنى قبل أن يغسل اليسرى، فلبسه لليمنى يكون قبل إتمام طهارتها، فينزعه، وبعد أن يكمل غسل اليسرى يلبس الخفين، سواء ألبس اليسرى أم اليمنى فلا وجود للترتيب هنا، فيكون لبس الخفين بعد تمام غسلهما معاً.

    1.   

    كيفية المسح على الخفين

    قال: [ وعن علي رضي الله عنه أنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه). أخرجه أبو داود بإسناد حسن ].

    حديث علي رضي الله تعالى عنه هذا في بيان كيفية المسح وموضعه، فيقول علي رضي الله تعالى عنه: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الخف من أعلاه) .

    هذا النص كونه عن علي رضي الله تعالى عنه، وكما قال المؤلف: بإسناد حسن، يجعل طالب العلم يتمهل ويتوقف، ولكن ما دام ليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والجزء الأخير من الحديث مرفوع إلى النبي: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر الخف)، هذا النقل عنه صلى الله عليه وسلم، فنقول: محل المسح ظاهر الخف، لكن استنتاج علي رضي الله تعالى عنه: (لو كان الدين بالرأي). يرى بعض المحققين أن الرأي الصحيح لا يتنافى ولا يتعارض مع الدين الصحيح، أي: الثابت الصريح. فالعقل السليم لا يتنافى مع الدين الصحيح، والدين لا يتعارض مع العقل الصحيح السليم، إذا كان النص صحيحاً صريحاً لا يمكن أن يتنافى مع العقل الصحيح الصريح، قد يعجز العقل عن الإدراك، لكن لا يتناقض مع الدين. فمثلاً: العقل لا يدرك لماذا كانت الصبح ركعتين والظهر أربعاً، ولكن ليس عنده ما يناقضه، وعجز عن إدراك الحكمة في ذلك، والعجز ليس تناقضاً.. إلى غير ذلك.

    ولما قال القائلون: أنتم تفرقون بين المتماثلين، وهذا منافٍ للعقل، قيل لهم: لا يوجد أبداً تفريق بين متماثلين لمحض المماثلة، وإذا وجدت تفرقة بين متماثلين في نظرك فاعلم أن هناك فرقاً قطعاً، وذكروا الرش من بول الغلام والغسل من بول الجارية، فقالوا: كلاهما رضيع، فكيف ترش هذا وتغسل هذا؟ إما أن ترش الاثنين، أو تغسل الاثنين. فهذا منطق العقل، قيل لهم: هناك سبب، وقد كشف المحققون من المتقدمين - كـالمتولي من الشافعية - بأن بول الجارية أشد كثافة ولزوجة من بول الغلام، والآن حقق العلم في تحليلاته بأن في بول الجارية من الهرمونات ما لا يوجد في بول الغلام، فعُلم أن هناك فارقاً.

    وقالوا: توضأتم من لحم الجزور ولم تتوضئوا من لحم الغنم. قلنا: نعم، هذا ما جاء به النص، ونحن نقبله، ثم تبين بعد ذلك أنهما ليسا متماثلين، والبحث في ذلك طويل، فهنا لو كان الدين بالرأي، ولو فسحنا المجال للاستفهام -لا للاعتراض على علي رضي الله عنه- وقيل: إن الرأي الصحيح السليم لا يتنافى مع الشرع؛ لأن الإسلام جاء يخاطب العقول السليمة، قائلاً: ( يا أولي الألباب )...

    إذاً: لماذا كان المسح على ظاهر الخف، وليس على باطنه، كما قال علي ؟ لقائل أن يقول: مقتضى العقل أيضاً أن يكون المسح على ظاهر الخف لا على باطنه، لماذا؟ ليس لمحض العقل، ولكن لنصوص الشرع، لقد جاءت النصوص بالصلاة في النعلين، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم إلى المسجد فلينظر أسفل نعليه، فإن كان فيهما أذى فليمسحهما في التراب) ، وهذا حينما كانت المساجد بها الحصباء والتراب، بخلاف المساجد اليوم، وكذلك في ثوب المرأة، لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإسدال المرأة ثوبها قال: (ترخيه شبراً، قيل: إذاً تنكشف قدماها، قال: فذراعاً؛ ولا تزد عليه)، فقالوا: المرأة تجر ثوبها أو عباءتها خلفها في الطريق، وقد تمر على نجس، فقيل: ألا تمر على طاهر بعده، قالوا: بلى، قالوا: هذا يطهر ذاك، أي: الثوب يمر على التراب، والتراب يأخذ ما علق به من مكان آخر، وييبسه فيطهر بذلك، وذلك لضرورة ستر المرأة، فإذا كان الإنسان قد لبس النعلين وجاء إلى المسجد ونظر فيهما فوجد فيهما أذى، الرسول قال: (فليمسحهما في التراب) ، لكن لا يوجد الآن حول المسجد تراب لتحكهما فيه، وقد انتفت هذه المسألة ولا يتيسر للإنسان أن يحقق السنة فيها، فإذا كان هناك أذى وحكهما في التراب، وتوضأ وأراد أن يمسح عليهما، فإذا مرت اليد المبللة على ذاك الأذى الذي جفف بالتراب، سيُحدِث تغييراً أم لا؟ يحدِث تغييراً، فاليابس الذي طهره التراب، واكتفى الشرع به، أنت أثرته بالرطوبة، فعاد رطباً من جديد، وقد يعلق في اليد شيء مما كان في أسفل النعلين، فإذاً: ما دام أن أسفل النعلين قد جف، وجاء الأمر بالمسح؛ فاجعل المسح في الأعلى بعيداً عن تلك الاحتمالات.

    إذاً: المسح على ظهر الخفين هو عين العقل، وهو الذي جاء به الشرع، ويهمنا في هذا الموضع أن علياً رضي الله عنه نقل لنا كيفية مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أنه مسح على ظاهر الخف، لكن نجد بعض العلماء أو المذاهب يقولون: المسح على ثلاث صور: مسح في أسفل الخف فقط، ومسح في أعلى الخف فقط، ومسح على أعلاه وأسفله. فيجمعون على أن الاكتفاء بالمسح على أسفله لا يجزئ، ولا تصح به الصلاة، ويجمعون على أن المسح على ظاهر الخف فقط يجزئ، وتصح به الصلاة، ولكن هناك من يقول -كالمالكية والشافعية-: الاكتفاء بالمسح على ظاهر الخف مجزئ، ولكن الأفضل أن يمسح على أعلاه وأسفله، ولعل قولهم ذلك في حال إذا ما كان الخف يلبس في نعلين، ولم يباشر الأرض بالمشي، وقالوا في الصفة: اليد اليمنى فوق ظهر الخفين تبدأ من جهة الأصابع وتمضي باتجاه الساق، واليد اليسرى تحت الخفين تأتي من جهة الكعبين وتمضي باتجاه الأصابع، ولكن يجمعون على أن الاكتفاء بالمسح على أعلى الخفين مجزئ للصلاة، وبعضهم ينقل عن مالك رحمه الله في التوقيت وفي هذه الصور روايات، وابن عبد البر يقول: الصحيح ما وافق الجمهور، والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757426210