إسلام ويب

قل لا يستوي الخبيث والطيبللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أخبر الله عز وجل بأنه لا يستوي الخبيث والطيب، وقد بدأ بذكر الخبيث لأن النفوس تتشوفه وتنخدع به فقدمه اعتناء واهتماماً به، ثم أخبر الله عز وجل أن المقياس في الأشياء ليست الكثرة فقال: (ولو أعجبك كثرة الخبيث)، وضرب الله المثل للخبيث والطيب بالأرض، فالطيب منها يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا.

    1.   

    مظاهر الخبيث والطيب

    الحمد لله رب العالمين, نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! في هذه اللحظات نقف مع توجيه رباني أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يبلغه إلى أفراد هذه الأمة, قال جل شأنه في سورة المائدة: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].

    هذه الآية من قواعد الشرع العامة, التي أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بإبلاغها إلى أفراد المدعوين, أي: قل يا محمد! لكل من تدعوه: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100], قد تقرر في النفوس وتواطأت العقول الصحيحة على أنه لا بد من الفرق بين الطيب والخبيث, وليس ثم فطرة سليمة, ولا عقل مستقيم يقول: بأن الخبيث والطيب سواء, فهذا مما تواطأت عليه العقول والفطر المستقيمة, وليس مراد الآية: الإخبار بأن الخبيث لا يساوي الطيب, إنما المراد: تفضيل الطيب على الخبيث, كأنه يقول: بل الطيب هو الأفضل, وليس هذا المراد وحده, فإن هذا مما تدركه النفوس السليمة والعقول الصحيحة أيضاً, ولكن المراد ما هو أهم من ذلك وأعظم, المراد استنزال العقل إلى مواطن الفهم حتى يدعو الإنسان نفسه إلى ضرورة التحقق من كون الشيء خبيثاً أو طيباً, ينظر إلى صفاته, ينظر إلى حقيقته, ليرى أهو من الخبيث أم من الطيب؟ فإذا بان له الأمر على حقيقته, فإن الفطرة السليمة تدعوه إلى اختيار الطيب ونبذ الخبيث.

    لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100], إنه التحذير من الوقوع في هوة الالتباس والإشكال, حتى لا تلتبس عليك الأمور, فإن الخبيث يظهر للناس في ملبس الحسن, يَتَزَيّا بزي الحسن, فيغر الأعين الضعيفة, التي لا تعرف الحقائق, يغرها بما تزيا به من مظهر الطيب, وهو في حقيقته خبيث, ومن هذه المظاهر الغارَّة:

    مظهر الكثرة, قد يظهر لك الخبيث بمظهر الكثرة فيغتر به بعض أهل الغفلة, والله يدعونا في هذه الآية إلى إعمال العقل, وإعمال الفكر, للتفكر في حقائق الأشياء ونهاياتها, نتفكر فيها بعيداً عما تتزيا به من المظاهر: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100], فالخبيث قد يعجب بعض الناس بما يتزيا به من العوارض, قد يظهر بمظهر الكثرة, وقد يظهر بمظهر السهولة واليسر, ولكن هذه المظاهر لا تغير حقيقته, ولا تبدل صفته, ولا تغير مآلاته وعواقبه, يبقى الخبيث خبيث النهاية والمآل, يبقى الخبيث يحمل لك في طياته الندامة, ويحمل لك في داخله العاقبة السيئة, فلا يدعوك ما تزيا به من الحسن إلى تفضيله على الطيب, واستصحب دوماً هذه القاعدة العامة: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100], هذه الآية نزلت بعد آيات سابقة تحدث الله فيها مع الصحابة عن نوع من أنواع الرزق الذي ساقه إليهم, اختبرهم وامتحنهم بأن سخر لهم الصيد وهم محرمون, فالصيد حرام على المحرم, يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95], فحرم عليهم الصيد, فساق إليهم الصيد بالكثرة التي لا يألفونها, وبالسهولة التي لا يعرفونها, قال لهم: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة:94], الصيد اليوم على خلاف كل يوم, يدخل على الرجل في خيمته, ويستطيع أن يمسكه بيده, وإذا فر يستطيع أن يدركه برمحه, فالوصول إليه سهل يسير, والجمع منه والاستكثار أسهل وأيسر, ولكن المشكلة التي فيه أنه خبيث؛ لأنه حرام, وفي هذه الآية يذيل لهم بهذه القاعدة العامة: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100], قد يعجبك الخبيث لأمر ما, لكنك إذا أعملت عقلك سترى أنه خبيث, وأنه يحمل مآلات خبيثة, الرزق الخبيث ليس كالرزق الحلال, فإن الرزق الخبيث وراءه أنواع الندامات؛ كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أحمد وغيره: ( ولا يكسب عبد كسباً حراماً فينفق منه فيبارك له فيه -لا بركة حين تنفق منه- ولا يتصدق منه فيقبل منه, ولا تركه وراء ظهره إلا كان له زاداً إلى النار ), هذا الرزق الخبيث كيفما قلبته لتنتفع به فإنه يجر إليك الوبال من حيث لا تشعر, إذا أنفقت أنفقت بغير بركة, وإذا تصدقت تصدقت بغير قبول, وإذا تركته وراء ظهرك تركت زادك إلى النار؛ لأن الناس ينتفعون به وأنت تحاسب عليه, وفي حياتك أعمالك محجوبة دون باب السماء بسبب الكسب الخبيث؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: ( وذكر الرجل أشعث, أغبر, يطيل السفر, يمد يديه إلى السماء, يقول: يا رب! يا رب! وملبسه حرام, ومشربه حرام, وغذي بالحرام, فأنى يستجاب له؟ ), كيف يستجاب له وقد أكل الحرام، ودخل عليه الحرام من جميع المنافذ؟! بخلاف الكسب الطيب, فالكسب الطيب لن تنفق منه نفقة إلا كتبت لك به صدقة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام لـسعد : ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها, حتى ما تجعله في فِيِّ امرأتك ), حتى اللقمة اليسيرة التي تجعلها في فم امرأتك تكتب لك صدقة, وإن الله طيب كما جاء في الحديث, ( من تصدق بالطيب ولا يقبل الله إلا الطيب, أخذها الله بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ), كما يربي أحدكم الصغير من الإبل, كذلك الصدقة بالشيء اليسير من الطيب يأخذها الله بيمينه ويربيها وينميها لهذا الإنسان حتى تعظم وتكبر؛ كما يربي أحدكم الفلو والفصيل, ولن تترك درهماً طيباً لورثتك إلا جعله الله عز وجل سبباً للبركة في أرزاقهم, وفي أعمالهم, وفي أخلاقهم, فإن الجسم الذي ينمو من الحرام النار أولى به, (أيما جسم نبت على السحت فالنار أولى به), العبرة بالحقائق والمعاني, لا بالصفات والمباني, لا يعجبك الخبيث ولو تزيا لك بالمظهر الحسن.

    1.   

    أنموذج الكسب الطيب والكسب الخبيث وعاقبة كل منهما

    يحكى أن الواعظ مقاتل بن سليمان رحمه الله دخل على أبي جعفر المنصور يوم بويع بالخلافة, والناس يدخلون عليه بالقصر جماعات ووحداناً يهنئونه ويبايعونه, فلما دخل الواعظ مقاتل بن سليمان حدث أبو جعفر نفسه، وقال: جاء مقاتل ليكدر علينا صفو هذا اليوم, لكن سأبتدره قبل أن يبتدرني, سأبدأ أنا, فقال: يا مقاتل! عظنا, أسرع إلينا بالموعظة, قال: أعظك بما رأيت أم بما سمعت؟ فالذي يراه الإنسان إنما يرى ما كان موجوداً في زمانه وفي جيله, والمعرفة التي تعتمد على الرؤية أقل وأضعف بكثير من المعرفة التي تعتمد على السماع, فالإنسان يسمع عن أخبار وتجارب لا تحصى, فهو يطلب من الأمير أن يحدثه عما سمع أو عما رأى, فأراد الأمير أن يضيق على نفسه حتى لا تطول الموعظة, قال: حدثني بما رأيت, عظني بالأشياء التي رأيت, فقال له: يا أمير المؤمنين! توفي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله وخلف ثمانية عشر ديناراً ذهبياً, هذا كل ميراث الأمير, كفن منها بخمسة, واشتري له قبر بأربعة, وقسمت تسعة على سائر الورثة, ثم قال: ورأيت هشام بن عبد الملك توفي فأخذت الواحدة من زوجاته ثمانين ألف ديناراً غير البساتين والقصور, وكان متزوجاً أربع نسوة, الواحدة أخذت -التي تأخذ ربع الثمن- ثمانين ألف ديناراً ذهبية, غير القصور والبساتين, ولكن ليست العبرة هنا, هنا تقف أنظار المغفلين, قال مقاتل : ولم أمت حتى رأيت الواحد من أبناء عمر بن عبد العزيز يحمل على مائة فرس في سبيل الله, الواحد من أولئك يتصدق بالمائة من الفرس محملة في سبيل الله, ولم أمت حتى رأيت أحد أولاد هشام بن عبد الملك يتسول ويسأل الناس, العبرة بالنهايات, كيف يئول الرزق الطيب؟ وإلى ماذا ينتهي الرزق الخبيث؟

    لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100], لا تغتر بالخبيث وإن تزيا بمظهر الحسن, حتى الكلمات, فالكلمات الطيبة ليست كالكلمات الخبيثة, فالكلمة الخبيثة وإن جرت إلى الإنسان منافع, لكن من ورائها الوبال, من ورائها الخسران, ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ), وبعكس ذلك الكلمة الطيبة, فإنها فور خروجها من لسانه تكتب له صدقة, (والكلمة الطيبة صدقة), وأبلغ من ذلك أنه يتكلم بها فيكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه, يعيش حياة الرضا في دنياه, وحياة الرضا في قبره, حياة الرضا يوم يخرج الناس للقاء الله, حتى يلقى الله بسبب كلمة طيبة, قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ [المائدة:100].

    وكذلك الأعمال تنتج عن هذه الأجساد, ولكن لا مساواة, ولا مماثلة, ولا مقارنة, ولا مشابهة بين خبيث الأعمال وطيبها, الطيب من الأعمال يصعد إلى الله سبحانه وتعالى, فيثاب به الإنسان عاجلاً وآجلاً, والخبيث يرتكب به الإنسان منازل, يهوي به في النار دركات.

    1.   

    التحذير من الخبيث والاغترار بمظاهره

    لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100], هذه الآية فيها تحذير من الخبيث:

    التحذير الأول: لأن الله عز وجل بدأ بذكره قبل ذكر الطيب, قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ [المائدة:100], مع أن الطيب أشرف, وينبغي أن يقدم في الذكر, ويعتنى به في اللفظ؛ ولكن لأن الناس ينخدعون بالخبيث قدم اعتناءً واهتماماً به.

    والتحذير الثاني: فتح أعين القلب قبل أعين الوجه إلى النظر في حقيقة هذا الشيء قبل الاغترار بظاهره, وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100], أنت لسذاجتك, أنت لأنك مجبول على إيثار العاجل, على محبة النقد, على محبة (الكاش) كما نقول, على إيثار الشيء العاجل على الآجل, قد تغتر بالخبيث لسبب ما, ولكن الله يحذرك أن تغتر به لسبب من الأسباب.

    هذه الآية فيها تعليم أن العبرة بالكيف لا بالكم, العبرة بحقائق الأشياء لا بعددها, العبرة بحقائق الأشياء لا بصفاتها, حتى أعمالك أيها الإنسان! أعمال دينك, العبرة أيضاً بكيفيتها, وفي ثلاثة مواضع من كتاب الله ينبهنا الله عز وجل إلى أن موضع الاختبار وموضع الامتحان في أعمالنا هو كيفية العمل لا عدده, قال سبحانه وتعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7], ليس محل الاختبار كثرة العمل, بل جودة العمل, كيفية العمل الذي تؤدي به عملك هو محل اختبارك؛ لأن العبرة ليست بالمظهر, إنها العبرة بالحقيقة والمعنى, لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7].

    وقد سئل بعض السلف عن أحسن العمل, فقال: أخلصه وأصوبه, أخلصه لله وأوفقه لشرع الله, فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل, وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل, فلا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً, لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7].

    قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100], القرآن يكرر هذا المعنى في مواطن عديدة, يقارن فيه بين الخبيث والطيب, ويبين أنه لا سواء, وأن الإنسان مأمور بالميل إلى كفة الطيب, وأنه عند النظر الصحيح سترجح كفة الطيب وإن قل عدده, البشر خلقهم الله عز وجل جميعاً من أصل واحد, ولكن كما جاء في الحديث: ( خلق الله عز وجل آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض, فجاء بنو آدم على قدر الأرض, منهم الأحمر, والأبيض, والأسود, ودون ذلك, ومنهم الحزن, والسهل, -يعني: الصعب- ومنهم دون ذلك, ومنهم الخبيث والطيب ), بنو آدم فيهم الخبيث وفيهم الطيب, جاءوا على قدر الأرض؛ لأن الأرض فيها خبيث وطيب, والقرآن يقرر في غير موضع بأن الخبيث من بني آدم أكثر من الطيب, فلا تغتر بالكثرة, فالعبرة بحقائق الرجال, بمعادن الرجال, لا بأعدادهم, ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الناس, أو عن أكرم الناس؟ قال: ( عن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: لا, قال: أفضلهم في الجاهلية أو أكرمهم في الجاهلية أكرمهم في الإسلام إذا فقهوا ), إذا انضمت إلى حقيقة الإنسان الطيبة قبول الدين الحق والعمل به, والإذعان والاستسلام لتوجيهاته, وتنفيذ أوامره وطلباته؛ فإنه يرتقي إلى أعلى درجات سلم الطيب, (إذا فقهوا).

    1.   

    مثل القلوب الطيبة والخبيثة

    وقد ضرب الله عز وجل مثالاً للقلوب الخبيثة والقلوب الطيبة في بني آدم بموقفهم من الوحي, بموقفهم من التشريع, أيهم يقبل هذا الدين فيلبي نداءه, ويستجيب لأمره, ويخضع لسلطانه, حتى تطيب نفسه, ويطيب قلبه وبدنه؟ وأيهم يعاند ويصر فيمر القرآن على أذنيه مر الكرام, لا يؤثر في سمعه ولا في قلبه؟ فقال: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا [الأعراف:58], كما أن الأرض فيها طيب وخبيث, فالطيب تقبل الماء إذا نزل فتنبت بإذن ربها, فتخرج للناس أنواع النفع وأنواع المكاسب, والخبيث بخلاف ذلك, تنزل عليها السيول فتمر عليها مر الريح, لا تتأثر بها إلا رِيَّاً وقت مرورها, ثم تعود إلى ما كانت عليه من القحل والضمور, وهذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم، قلوب بني آدم مع القرآن.

    كذلك لا تغتر بكثرة الخبيث الذين تمر عليهم هذه الآيات دون أن يذعنوا لها وينتفعوا بها, وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116], لا تنخدع بالكثير من أي شيء ما لم ينضم إلى الكثرة الطيب, فإن العبرة بحقيقة الأشياء, وأخطأ الشاعر حين قال:

    إنما العزة للكاثر

    هذا ميزان أعوج, إنما يستقيم إذا انضم إلى الكثرة طيب المعدن, طيب الخُلق, طيب العمل, طيب الصفات, فإذا انضم إلى ذلك هذا صارت العزة للكاثر.

    قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].

    1.   

    الحث على اختيار المرأة الطيبة

    حتى المرأة, القرآن يحثنا على اختيار المرأة الطيبة, ولا ينبغي لنا أن نساوي وأن نماثل بين المرأة الطيبة والمرأة الخبيثة ولو أعجبتنا الخبيثة, فإن المآلات وخيمة, تحمل في طياتها أنواع الندامات.

    المرأة الخبيثة إذا غبت عنها خانتك, وإذا لم تأمرها فرطت في بيتك ومالك, بخلاف المرأة الطيبة, جاء في وصفها: (إن نظر إليها سرته, وإن غاب عنها حفظته, وإن أمرها أطاعته), المرأة الطيبة معدن لإخراج الجيل الطيب, فولدها صالح طيب؛ لأنه نشأ في أحضان طيبة, والمرأة الخبيثة بخلاف ذلك, فالعاقل هو من يستنزل فهمه للنظر في حقائق الأمور, فلا يغتر بالخبيث لسهولته, ولا يغتر بالخبيث لكثرته, ولا يغتر بالخبيث لحسن منظره, ولا يغتر بالخبيث لعارض ما عرض له, فإنه لا يستوي هو والطيب على الإطلاق, وهكذا قس أمورك في سائر حياتك, فإن هذه قاعدة عامة تتناول كل فرد من أفرادك وتصرفاتك في حياتك.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    التقوى مناط الفلاح

    الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! ختم الله عز وجل هذه الآية بألفاظ ينبغي أن نأخذ منها حظنا من العناية والتدبر والاهتمام, قال في آخرها: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100], ثلاث جمل ينبغي أن ندرسها دراسة معتنية, فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100], فالخطاب أولاً يوجه إلى أولي الألباب, و(الألباب) جمع, والواحد: لب, واللب يعني: العقل الخالص, العقل الصافي, الذي تجرد وتصفى من الشهوات التي تغير فيه الموازين, وتحرف فيه الاتجاهات والميول, العقل حين يكون خالصاً, حين يكون مجرداً ينظر إلى الأشياء بعين الإنصاف, وينظر إلى حقائق الأشياء, هذا العقل الخالص إذا قرن ومزج بالتقوى, وهي: الخوف من الله, بأن تجعل بينك وبين عقاب الله حاجزاً ووقاية, إذا انضم للإنسان هذان الأمران: عقل خالص, وتقوى من الله, خوف من الله, فإنه لن يختار إلا الطيب, كل ما في الخبيث من لذة جعل الله عز وجل عوضاً عنها في الطيب, والمطلوب من العبد أن يخاطب نفسه بلسان العقل, لا بلسان الهوى, العقل يملي عليك إذا استعملته حين يتجرد أن تكون في صف الطيب, وأن تختار الطيب, وأن ترجح لديك كفة الطيب حين يتخلص عقلك من الهوى, وحين ينضم إليه التقوى, وحينها ستصل إلى النتيجة الثالثة, وهي: الفلاح.

    والفلاح معناه باختصار: الفوز بكل مطلوب, والنجاة من كل مرغوب, فكلما تتمناه وتصبو إلى الوصل إليه في دنياك فإنك ستصل إليه حين تستعمل عقلك المجرد وتقف عند حدود الله, تقف عند أوامر الله ونواهيه, وكلما تفر منه من المخاوف في دنياك أو في آخرتك ستسلم منه وتنجو حين تستعمل عقلك المجرد مستصحباً تقوى الله, حينها ستسلم لك العاقبة دنيا وآخرة, ولكن إذا أصيب هذا العقل بالغبش, وخالطته الأهواء والأمزجة, حينها ينتكس الإنسان, ويفضل الخبيث مع رؤيته للطيب, لكنها ليست الحقيقة, إنه الانخداع الآني, الانخداع العارض بشيء من أوصاف الخبيث, حين فتر العقل عن العمل على وجه الحقيقة, الله ينادينا في هذه الآية إلى استعمال اللب, والوقوف عند حدود الله لنختار لأنفسنا العاقبة الحميدة؛ ولنحيا حياة هنيئة؛ ولنعيش حياة سعيدة, هذا طريقك وهذا سبيلك, وحين يتنكب الإنسان لهذه الحقائق لا يجر الوبال إلا على نفسه, والموفق من استمع القول فاتبع أحسنه.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه, ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    اللهم يا حي! يا قيوم! برحمتك نستغيث, أصلح لنا شأننا كله, ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك, وأغننا بفضلك عمن سواك.

    اللهم يا حي! يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا, وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا, وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا, اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير, واجعل الموت راحة لنا من كل شر, رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه, وافتح للموعظة قلبه وأذنيه.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين, واخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين.

    اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين, اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أنج المستضعفين من المسلمين في سوريا يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً, ومن كل ضيق مخرجاً, ومن كل بلاء عافية, اللهم أعنهم ولا تعن عليهم, اللهم أعنهم ولا تعن عليهم, اللهم أعنهم ولا تعن عليهم, وانصرهم ولا تنصر عليهم, وامكر لهم ولا تمكر عليهم يا قوي! يا عزيز! اللهم اعصم دماءهم, اللهم اعصم دماءهم, واحم حرماتهم يا أرحم الراحمين! اللهم لا تجعلهم فتنة للقوم الظالمين, اللهم لا تجعلهم فتنة للقوم الظالمين, اللهم لا تجعلهم فتنة للقوم الظالمين, ونجهم برحمتك يا أرحم الراحمين!

    اللهم يا ودود! يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعالاً لما تريد! نسألك بعزك الذي لا يرام, وبملكك الذي لا يضام, وبنورك الذي ملأ أركان عرشك، أن تفرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما هي فيه يا رب العالمين! اللهم اجمع كلمتهم على الهدى, اللهم اجمع كلمتهم على الهدى, وقلوبهم على التقى, وعزائمهم على خير العمل يا أرحم الراحمين! اللهم يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين! أصلح لنا شأننا كله، برحمتك يا ذا الجلال والإكرام!

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756672448