إسلام ويب

تفسير سورة الفيلللشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حاول أبرهة الحبشي أن يصرف العرب عن الكعبة المشرفة فبنى القلّيس في صنعاء، فجاء أحد الأعراب ولطخه بالعذرة، فعزم أبرهة على تدمير الكعبة، وجهز جيشاً عرمرماً تتقدمه مجموعة من الفيلة، وقطع الفيافي والقفار حتى وصل إلى مكة وفيها نزل به عقاب الله، فكان مع جنوده عبرة للمعتبرين.

    1.   

    قصة أصحاب الفيل

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن سورتنا الليلة لسورة مباركة ميمونة، إنها سورة الفيل.

    وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:1-5].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هل تعرفون الفيل؟ الفيل: حيوان إفريقي .. هندي. وجمعه: فيلة وأفيال. وأنثاه: فيلة.

    وحادثة الفيل حادثة تاريخية مسجلة في القرآن الكريم، وتمت هذه الحادثة قبل ولادة نبينا صلى الله عليه وسلم بخمسين يوماً. أي: شهران إلا عشرة أيام من مولد أبي القاسم صلى الله عليه وسلم في مكة.

    وهذا الحادث الجلل مرتبط بـأبرهة الأشرم ، ومعنى الأشرم: مشقوق الأنف والوجه؛ وسبب ذلك أنه قام بحرب مع وال آخر فشرم الأول الثاني وشق وجهه، والآخر تسلط عليه آخر فقتله واستولى على اليمن هذا أبرهة الأشرم ، وهو يعمل والياً عاماً في المنطقة والحاكم الأصلي والملك هو ملك الحبشة.

    إذاً: هذا أبرهة الأشرم أراد أن يتملق لملك الحبشة فذكر له أنه سيبني كعبة في صنعاء ويصرف وجوه العرب كلهم إليها من أجل أن تصبح صنعاء كمكة تحج كل عام فترتفع التجارة ونسبة الأرباح، فبنى هذا البيت في صنعاء وسموه بالقليس. والقليس: مأخوذ من القلنسوة، أي: بناء عال رفيع إذا رفعت رأسك سقطت قلنسوتك؛ من علوها، وقد بناها بناءً عجباً.

    فلما فرغ من بنائها وشاعت الأخبار -والإعلام موجود- إذا بقرشي هاشمي يدخل صنعاء فيسمع بذلك فقال: لأمكرن به. فلما جاء الليل دخل القليس فتغوط فيها ولطخها بالعذرة؛ ليعلم أبرهة أن هذا باطل ولن يكون ولن يحج أحداً إلى هذا البيت.

    تغوط فيه ولطخ جدرانه بالعذرة، ومعنى ذلك: أنه يتكلم بلسان العرب، وأنهم لا يقبلون هذا ولن يحج أحد منهم إليه، وبلغ الخبر الزعيم أبرهة وثارت ثائرته وغضب غضبته وقال: لأهدمن كعبتهم انتقاماً للقليس.

    وجهز أبرهة جيشاً عرمرماً فيه قرابة الثلاثة عشر فيلاً، وهناك فيل يقال له: محمود هو أعظم تلك الفيلة.

    وقد كان أبرهة يرمي إلى أنه سيأتي إلى الكعبة ويشدها بالسلاسل ويربطها بالفيل ويضربه فيجرها معه فيهدمها ويلصقها بالأرض، تماماً كما تهدون الآن بهذه الآلة، وقد سبقكم بهذا أهل اليمن.

    إذاً: هو فكر في أن هذا الفيل محمود القوي يأتي به إلى المسجد الحرام ويربط الكعبة بالسلاسل ثم يعلقها به ويدفع الفيل فيسحبها فتسقط في لحظة.

    إذاً: خرج متجهاً إلى الكعبة، وكان العرب يتلقونه بالحرب فيهزمهم، وما من قبيلة تتعاون على قتاله إلا ويضربها ويأخذ رئيسها أسيراً معه، فلا طاقة لهم بحرب دمرت ودبرت، فلما وصل وانتهى إلى مشارف مكة أجرى سفارة بينه وبين زعيم مكة: عبد المطلب جد نبينا صلى الله عليه وسلم، وكان شيخ مكة ورئيسها، وكان جيش أبرهة قد استولى على إبل لـعبد المطلب قوامها مائتا بعير وأخذها للجيش ليأكل، فلما جاء السفير إلى عبد المطلب قال: إن أبرهة يدعوك للتفاهم أو التشاور في كيفية دخول مكة وهدم الكعبة. فجاء عبد المطلب وجلس إليه فعرف غرضه وهدفه وأنه يريد هدم الكعبة حتى لا تحج ولا يجتمع عليها العرب ويحجون بيت القليس في صنعاء، فما كان من عبد المطلب إلا أن قال له: أنا أدعوك أن ترد علي إبلي، وأما البيت فله رب يحميه. أي: هو الذي يحميه.

    فتعجب أبرهة وقال: ما كنت أظن أنك بهذا الهبوط والسقوط وأنت زعيم ورئيس مكة، وتطلب رد الإبل فقط وتترك بيت شرفك وشرف أجدادك وآبائك يحطم؟! قال: نعم. إن للبيت رباً يحميه، أما أنا فأطالب بإبلي فقط، فرد عليه الإبل.

    إذاً: وما كان من عبد المطلب الحكيم إلا أن أمر سكان مكة أن يأخذوا نساءهم وأطفالهم وأموالهم وينزلوا على قمم جبال مكة خشية المعرة؛ لأن الجيش الغازي عندما يدخل قد يفعل بهم الفواحش والمناكير.

    فقال لهم: من الخير أن تتركوا البلاد لهذا الطاغية وتصعدوا قمم الجبال؛ ليفعل ما يريد. فقد كان عبد المطلب حكيماً؛ وفعل ذلك خشية المعرة؛ لأن الجيش الغازي عندما يدخل غالباً ما يهتك أعراض النساء.

    وزحف الجيش، فلما وصل إلى وادي محسر -ما بين مزدلفة ومنى- مسافة قدر رمية حجر من شخص قوي .. في عرض الوادي، لما توسط الجيش الغازي وادي محسر وإذا بالنفاثات الربانية يشاهدونها وهم على جبال مكة تخرج من البحر، فرقة بعد أخرى، يحمل كل طائر ثلاثة قذائف؛ اثنتان بمخلبيه؛ في كل مخلب واحدة، والثالثة بمنقاره، حجمها ما بين الحمصة والعدسة وهي المذكورة في قوله تعالى: طَيْرًا أَبَابِيلَ [الفيل:3].

    والآن أخذ الغرب من هذه الآية صنع النفاثات، حاملات القذائف، وكيف ترسل فرقة بعد أخرى، ونحن نقول: لولا هذه الأمة والمعارف الإلهية لكان الغرب المترفع الآن لاصقاً بالأرض، لا يفرقون بين الحصى والعصا، لكن شاهدوا هذه الأنوار عندما حرمنا إياها واستولوا عليها ففازوا وخسرنا .. وهذا من صنع الثالوث بنا.

    لقد قالوا: لو تركنا المسلمين على ما كانوا عليه لكانت الحضارة سبقت هذا الزمان بمائتي عام، ولنعم البشر بهذه الحضارة قبل وجودها بمائتي سنة، لكن نحن الذين قضينا عليها.

    إذاً: أرسل الطير القذيفة كالحمصة أو العدسة تصيب الجندي فيتحلل لحمه ويتناثر.

    وقبل هذا أيضاً هناك حادثة في هذا الباب: لما تقدمهم أبرهة بفيله أبى الفيل أن يمشي، فكانت آية من آيات الله، فقد كانوا يوجهونه إلى طريق مكة فيبرك .. يصرفه ليرجع إلى الوراء فيجري، فكانت آية أيضاً من آيات الله.

    وهذا قبل مجيء النفاثات.. وأما أبرهة فتمزق وهلك وهو هارب عائد إلى بلاده، والجيش بكامله انتهى أمره، وما نجا أحد، وستسمعون كلام الله.

    لم فعل الله هذا بهم؟ الجواب: قال تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش:1] حماة الحمى، سكان الحرم، أهل بيت الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل)

    قال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1]، أنت تخاف هؤلاء.. ترتعد فرائصك.. ماذا تعطيهم؟ ألم ينته إلى علمك ما فعل ربك بأصحاب الفيل؟

    ما قيمة الأخنس والعاص وفلان وفلان..؟

    لو أراد إهلاكهم في لحظة لأهلكهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة يمر بظرف صعب فيهددونه ويضربونه ويفعلون.. فكان بحاجة إلى عون ومدد إلهي، فيقول له ربه كما قال في سورة الفجر: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ [الفجر:6-7]. وثمود فرعون.. لا تخف، ولا تحزن، ولا تكرب، اثبت واصبر، فما هي إلا أيام فقط.

    أَلَمْ تَرَ كَيْفَ [الفيل:1] ألم ينته إلى علمك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير الحادثة؛ لأنه ولد بعدها بخمسين يوماً، ولكن حدثه بذلك جده؛ لأن أهل البلاد يعرفون هذه الحادثة، وانتهى إلى علمه قطعاً كما انتهى إلى علمنا.

    ألم ينته إلى علمك كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1]، الجيش الذي يحمل الفيلة ويقودها لقتال قريش.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألم يجعل كيدهم في تضليل)

    ثم قال تعالى: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ [الفيل:2] بلى.

    جعل كيدهم.. مكرهم.. تعبئتهم.. رجالهم.. أطفالهم.. عدتهم.. ما حسبوه.. ما ظنوه.. ما أرادوه، كل ذلك فكروا فيه في أكثر من سنة، فجعل الله كيدهم في ضلال، ولم يستفد إلا الخزي وعذاب الدنيا والآخرة.

    إذاً: هذا هو ربك، فلا تخف من هذه المجموعة التي لا قيمة لها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأرسل عليهم طيراً أبابيل)

    قال تعالى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ [الفيل:3]، من أين هذا الطير؟ شوهد الطير وفرقه، شاهده الذين على قمم الجبال يخرج من البحر .. بحر جدة. من يستطيع ألا يؤمن بهذا إلا أحمق أو مجنون؟ هذا ليس سحراً، هذا طير يحمل الدمار، ودمر جيشاً بكامله، وتركه كعصف مأكول، شاهد هذا الإنس والجن.

    وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ [الفيل:3] الأبابيل: فرق، ليس له مفرد، أي: ليس جمع إبليل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ترميهم بحجارة من سجيل)

    ثم قال تعالى: تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل:4] وأصل (سِجِّيلٍ) بالنون .. سجين، وقلبت نونه لاماً، وإلا فسجين هو السجن، مبالغة في السجن كسكير مبالغة في السكر، وعرفنا أن سجين أسفل دركات الكون في عالم الشقاء.. وأرواح المجرمين في سجين.

    إذاً: هذه الحجارة لم تكن من أفران ذرة، ولا أفران طين، ولا أفران في القاهرة أو في باريس أو في أي مكان، بل خرجت من البحر.

    إذاً: والله لمن عالم الشقاء. وستقولون: كيف تصل يا شيخ؟ كيف تجتاز المسافات الطويلة وتصل؟

    فأقول: أنت بهلول! أما علمت أن نبيك صلى الله عليه وسلم اجتاز السبع الطباق مسافة سبعة آلاف وخمسمائة عام ذهاباً وإياباً والتقى بأهل الملكوت الأعلى، وتحدث مع ربه وناجاه، وفرض عليه الصلاة وعاد وفراشه لا زال دافئاً ما برد. قل: آمنت بالله.

    إذاً: تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل:4] السجيل لا مانع أن نقول: واد في جهنم. لكن سجين: اسم علم على دركة من دركات العالم الأسفل، هذه الحجارة تضرب لك مثلاً بالهيدروجين والذرة، القنبلة التي أرسلت على هيروشيما في اليابان فقد قال الناس وما كذبوا، قالوا: إنها كالحمصة دمرت مدينة.

    إذاً: أخذوا هذا من القرآن، مادة ملتهبة حصروها وجمعوها فأصبحت الكمية القليلة منها تفجر ما شاء الله أن تفجر.

    إذاً: سبق القرآن الهيدروجين والذرة والنفاثات وفرقها المقاتلة .. عجب هذا القرآن العظيم، إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1]، هذه كلمة إخواننا من الجن.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فجعلهم كعصف مأكول)

    ثم قال تعالى: فَجَعَلَهُمْ [الفيل:5] أي: ذلك الجيش.. أولئك الغزاة، جعلهم كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:5].

    والعصف: ورق القمح والشعير. إذا نبتت السنبلة أليس فيها أغصان متدلية من هنا وهناك؟ بلى. إذا دخلت الغنم المزرعة تأكل تلك الأوراق المتناثرة، وتحطم ذلك الزرع، ويصبح مهشماً على وجه الأرض.

    فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:5] أكلتهم الماشية، في الغالب الغنم هي التي تأكل الزرع.

    كذلك لو نظرت إليهم لوجدتهم هذا يده مقطوعة، وهذا رجله مقطوعة، وهذا رأسه مشقوق، وهذا جسمه ممزق كما تفعل الغنم بالزرع الطري إذا دخلته، ويضرب الله الأمثال ويبين حتى لا يقول أحدنا: ما فهمت.

    فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:5] من الفاعل؟ الله. رب محمد والعالمين.

    أيعجزه حفنة من المجرمين في مكة يتعنترون و.. و..؟ لا يعجزونه، فقط يريد إمهالهم علهم يرجعون.

    واستفادوا بهذا الإمهال فأسلموا ودخلوا في رحمة الله، ولم يهلك منهم إلا قرابة السبعين أو الثمانين، وهذه مظاهر رحمة الله وحلمه ولطفه، لكنه يثبت قلب رسوله ويدعمه ليثبت حتى يكمل رسالته، فيقص عليه هذا القصص.

    ألم ينته إلى علمك ما فعل ربك بأصحاب الفيل؟

    أهم أشد قوة أم هؤلاء؟

    هؤلاء حفنة من المجرمين بمكة فعل بهم ما فعل وحده، أليس الرب الفاعل لهذا قادر على أن ينزل بالطغاة والمجرمين ما أنزل بأولئك الكافرين؟

    بلى إنه على كل شيء قدير.

    والسورة مكية، وإلى الآن لو وجد في العالم أمة مسلمة وإن قل عددها واعتصمت بحبل الله وثبتت والله لو كاد لها أهل الأرض كلهم ما زلزلوا أقدامها، ولكن أين أولئك الذين يصلحون لولاية الله ونصرته وتأييده؟

    وصلى الله على نبينا محمد وآله.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756922266