إسلام ويب

تفسير سورة الشورى (8)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله عز وجل لطيف خبير، هو الذي خلق الخلق وهو يعلم ما يصلحهم، فهو سبحانه يقسم الأرزاق عليهم، فيبسط الرزق لمن يشاء، ويقدره على من يشاء، وهو سبحانه الذي يختار ما يشاء من أرضه فيسوق إليها السحاب الثقال، فيسقيها بفضله ورحمته، وهو الذي يبث الدواب في الأرض، يهب النافع منها لمن يشاء من عباده، ويبتلي بالضار منها من يشاء، فسبحانه وتعالى الحكيم الذي لا يعجزه خلق من خلقه، ويا سعد من اختاره الله لولايته ومحبته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    وها نحن مع هذه الآيات من سورة الشورى، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ * وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [الشورى:27-31].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى:27] هذا الخبر أخبر الله تعالى به، وخبر الله هو الصدق بعينه.

    يقول تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ [الشورى:27] أي: وسعه ونشره للعباد لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ [الشورى:27]، ومعنى (بغوا): تجاوزوا الحد، وهذا خبر إلهي، فلو أن الله تعالى بسط الرزق على الإنسان لبغى وظلم واعتدى وتجاوز الحد.

    وبسط الرزق: هو نشره وتوسعته للإنسان، فلهذا يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر على من يشاء، بحسب علمه الأزلي القديم بعباده وأحوالهم.

    سبب نزول الآية الكريمة

    يروى أن مجموعة من الفقراء كانت في الصفة -دكة الأغوات- على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهم تمنوا لو أن الله يرزقهم كما رزق فلاناً وفلاناً، فأنزل الله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ [الشورى:27] أي: ظلموا واعتدوا، وهذا طبع الإنسان، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى الثالث )، لو كان لك يا ابن آدم واديان من ذهب لتمنيت الثالث، ما تكتفي بالواديين من ذهب، ولكن الله عز وجل يبسط الرزق حسب علمه بعباده، يوسع على هذا ويضيق على هذا لحكم عالية.

    فلو بسط الرزق كله لما بقي من يخدم في الأرض أبداً، لولا وجود لفقراء، فكيف سيصنع الصانعون ويبني البناءون ويحرث الحارثون؟ لا بد من هذا.

    إذاً: فلنرض بقسمة الله عز وجل، فإن ضيق عليك فاعلم أنه أراد ذلك وهو في صالحك، وإن وسع فهو يبتليك ويختبرك كذلك.

    ومعنى هذا: أن من وسع الله عليه يجب ألا يطغى وألا يتكبر وألا يتناول ما ليس له، وأن ينفق بحسب ما وسع الله عليه، لا أن يسرف في إنفاق المال، ومن ضيق الله عليه فليحمد الله وليصبر؛ فإن ذلك لحكمة إلهية، ما وسع على عبد إلا لحكمة، ولا ضيق الرزق على عبد إلا لحكمة، وهو الحكيم العليم.

    هذا هو خبر الله، فعلى الذين وسع الله عليهم ألا يطغوا في ذلك المال، يبني داراً ويريد ثانية، ويشتري دابة ويريد ثانية، ويملك سيارة ويريد ثانية، وهكذا بلا حد ولا نهاية.

    الواجب على المبتلى بالغنى والمبتلى بالفقر

    معشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هيا نتدارس هذه الآية الكريمة.

    يقول الله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى:27]، فمن بسط الله عليه الرزق فليعرف هذه النعمة وليشكر الله عليها، ولا يسرف وليقتصد وليتأدب مع الله الذي وسع عليه، لا أنه وسع عليه رزقه فيسرف في الفجور والباطل والطعام والشراب بلا حساب، لا بد من الحياء من الله والتأدب معه، والإنفاق بحسب الحاجة لا بالإسراف والترف، ومن ضيق الله عليه امتحاناً له وابتلاء فلا يجزع ولا يسخط، بل يحمد الله ويشكره، ويصبر على ما ابتلاه به، هذا الذي ينبغي أن يكون عليه أهل الإيمان.

    وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ [الشورى:27] بنظام مَا يَشَاءُ [الشورى:27]؛ لأنه خبير بعباده بصير بأحوالهم، مطلع عليهم.

    فأغمض عينيك وافتحهما في أهل الأرض، فهذا فقير وهذا غني، أليس كذلك؟ هذا محتاج وهذا مستغن، من فعل هذا؟ الله جل جلاله، لماذا؟ ليمتحنهم، هل يشكر اللهَ هذا الغني وينفق في مرضات الله أو يسرف ويفسق ويفجر؟ هذا الفقير هل سيسرق ويكذب ويفجر، أو يصبر ولا يجزع ويحمد الله ويشكره؟ هذا هو الابتلاء.

    خلاصة القول: أننا مبتلون، من ابتلاه الله بالغنى يجب ألا يسرف، وألا يغالي في ذلك، وليقتصد ولينفق مما آتاه الله ليوفر للدار الآخرة، ومن ضيّق عليه فلا يكذب ولا يسرق ولا يفجر، بل يتقي الله وليصبر على ذلك الابتلاء، وإن جاع وإن عطش وإن عري؛ لأننا مبتلون، والله عليم بأحوالنا الظاهرة والباطنة، وما أغنى فلاناً ولا أفقر فلاناً إلا لحكمة وعلم، فهم عبيده يتصرف فيهم بحكمته وقدرته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد)

    ثم قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [الشورى:28] من هو هذا؟ الله جل جلاله رب العالمين، خالق السماوات والأرضين، الذي لا إله إلا هو ولا رب سواه، هو الذي ينزل الغيث -أي: المطر- من السماء من بعدما يقنطون وييأسون، كم من أهل بلاد يصابون بالقنوط واليأس، ولكن بعد ذلك ينزل الغيث! وهذا حصل في مكة، منعهم الله المطر سبع سنوات فهاجوا وماجوا، كادوا يهلكون ابتلاء لهم وامتحاناً، ثم أنزل الغيث عليهم.

    وهكذا في الشرق والغرب، يبتلي الله عباده فيمنع عنهم المطر لينظر أيشكرون أم يكفرون، يصبرون أم يجزعون، وهكذا ابتلاء وامتحاناً، فهذه دار الابتلاء، الدنيا دار الامتحان والعمل، ما هي بدار السعادة.

    وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى:28] على تلك البلاد، فتنبت الأرض النباتات والزروع ويعودون خيراً مما كانوا.

    وَهُوَ الْوَلِيُّ [الشورى:28] لأوليائه، من والاه الله وتولاه فلن يضيعه، لن يهلكه، لن يخسره أبداً، بل يربح ويسعد، الْحَمِيدُ [الشورى:28] الذي يُحمد على كل أفعاله، يحمد على غنى الغني وفقر الفقير، وعلى مرض المريض وصحة الصحيح، يحمد على ذلك؛ لأنه هو الخالق لذلك المدبر الحكيم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن آياته خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة ...)

    ثم قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ [الشورى:29] الدالة على وجوده، وعلى ألوهيته، وعلى علمه وحكمته وقدرته ورحمته، هذه الآيات منها خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الشورى:29].

    فمن خلق السماوات السبع؟ لا بد من خالق، من هو؟ الله، فخلق السماوات يدل على خالقها أم لا؟ هذه الآلة تدل على من أوجدها أم لا؟ هل وجدت بنفسها؟ فهذه السماوات من أوجدها؟ لا بد لها من موجد، ألا إنه الله رب العالمين.

    وهذه الأرضون من خلقها؟ من نصب جبالها؟ من أنزل أمطارها؟ من أجرى مياهها؟ من خلق الإنس والجن فيها؟ هذه البهائم.. هذه المخلوقات من خلقها؟ لا بد لها من خالق، ألا وهو الله تعالى.

    يقول تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ [الشورى:29] الدالة على وجوده وألوهيته وقدرته ورحمته خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ [الشورى:29]، فالسماوات فيها الملائكة يسبحون الله الليل والنهار، والأرضون فيها هذه المخلوقات من الإنس والجن والحيوانات، فمن الخالق سوى الله؟ ألا وهو الخلاق العليم، ألا هو الله الخالق، فيجب أن يُعبد وحده ولا يعبد معه سواه، يجب أن يعظم وأن يكبر وأن يجل، وأن يطاع، وأن يحب من أجله وأن يبغض من أجله؛ إذ هو ربنا ورب العالمين.

    معنى قوله تعالى: (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير)

    يقول تعالى: وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ [الشورى:29] يوم القيامة إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [الشورى:29]، فرّقنا في الأرض ملايين الأجيال جيلاً بعد جيل، ويجمعنا في ساحة فصل القضاء يوم القيامة: وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ [الشورى:29] بعد تفرقتهم إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [الشورى:29]، ما نحن بمفرقين؟ مئات الأجيال مضت، وآلاف، جيل بعد جيل مفرقون في الأرض، والله قادر على جمعهم، ووالله! ليجمعنهم في ساحة واحدة ليجزي العاملين على عملهم، من كان من أهل الإيمان وصالح الأعمال أسكنه الفراديس العلا، ومن كان من أصحاب الشرك والكفر والفسق والفجور أنزله إلى الدركات السفلى.

    هذه أخبار الله عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الشورى:29] أي: إيجادهما، وَمَا بَثَّ [الشورى:29] ونشر فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [الشورى:29]، وسوف يجمع الخليقة كلها في ساحة فصل القضاء يوم القيامة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)

    ثم قال تعالى في خبر عظيم: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30] ما أصابك يا ابن آدم من مصيبة إلا بكسب يدك، سواء كان فقراً أو مرضاً أو ذلاً.. ما من مصيبة إلا ويد الإنسان هي التي كسبتها.

    وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، فماذا نقول في هذا الخبر العظيم؟ والله! إنه لحق وصدق، ما أصاب البشرية من مصيبة إلا بذنوبها، وها نحن الآن ننتظر ماذا يصيب الله به البشرية على انتشار فسقها وفجورها وكفرها وإلحادها.

    ولنا أمثلة حية: أما كان المسلمون أعزاء سعداء كراماً ثلاثة قرون، وهي القرون الذهبية الثلاثة: الأول والثاني والثالث؟ فكيف نزلوا وهبطوا؟ بما كسبت أيديهم، فما من مصيبة إلا بذنب، فإن كان المصاب مؤمناً فهذه المصيبة تكفر ذنوبه إن كانت له ذنوب، وإن لم تكن له ذنوب لأنه طيب طاهر فإنه ترفع قيمته ودرجته، وإن كان غير مؤمن فالمصيبة: عذاب في الدنيا وعذاب في الآخرة.

    وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ [الشورى:31] صغيرة أو كبيرة فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، ومع هذا يعفو الله عن كثير، لو كان يؤاخذنا بكل ذنب فلن نحيا، سنموت ونهلك، ولكن يعفو عن كثير من ذنوبنا وخطايانا ومساوئنا.

    هذه الحقيقة نتأملها كما تأملنا الأولى: فلو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض.

    الحقيقة الثانية: ما أصاب من مصيبة تصيب الإنسان إلا بذنبه، فالذي يسرق تقطع يده، فهذه المصيبة جاءته بذنبه، والذي يزني يرجم أو يجلد، أليس هذا بذنبه؟ والذي يصاب بالمرض في نفسه بشرب الحرام وأكل الحرام فمرضه من نفسه.. وهكذا، فما من مصيبة إلا بذنب سبق، ومع هذا يعفو الله عن كثير من ذنوبنا، أي: لو يؤاخذنا بكل ذنب فلن نعيش ولن نبقى يوماً واحداً، لكنه يعفو عن كثير.

    ومعنى هذا يا معشر المستمعين: أنه إذا أصبنا بمصيبة فلنرجع إلى الله بالدعاء والاستغفار والندم على ذنوبنا؛ حتى يعفو عنا فيشفي مرضنا، أو يرفع الذل الذي أصابنا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير)

    ثم يقول تعالى: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ [الشورى:31] لله، وهل نحن نعجز الله؟ ما قيمتنا؟ ما قدرتنا؟ كل ما عندنا من عند الله، فكيف نعجز الله ونغلبه؟ كيف نحاربه بترك عباداته وعبادة غيره؟ كيف نحاربه بالكفر والشرك والفسق والفجور، أنعجز الله بهذا؟ إنه على كل شيء قدير.

    وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [الشورى:31] والله! ما لنا من غير الله ولي ولا نصير ينصرنا أبداً، فإذا أرادنا الله بسوء فلن تستطيع الدنيا كلها أن تصرف ذلك عنا، ما عندنا ولي سوى الله عز وجل يتولانا، ما لنا من نصير ينصرنا من الله إذا أراد الله هزيمتنا أبداً.

    ومعنى هذا يا معشر المستمعين أن نلجأ إلى الله في كل حياتنا، إن أصابنا خير حمدنا الله وشكرناه، إن أصابنا شر لجأنا إلى الله واستغفرناه وتبنا إليه، ولا نقبل أبداً على المعصية ولا نريدها ولا نطلبها، فما حرمه الله من القول أو العمل أو الاعتقاد يجب أن نتجنبه ونبتعد عنه، وما أوجبه الله وأمر به وألزمنا بفعله أو قوله يجب أن نفعله ونقوله ونعتقده، وإذا امتحننا وابتلانا ليختبرنا فلنصبر على ذلك ونحمد الله ونشكره، والعاقبة للمتقين.

    هذا الذي ينبغي أن نعيش عليه معشر المؤمنين والمؤمنات، إذا رزقنا الله نعمة من النعم فلا نفسق بها ولا نفجر ولا نطغى ولا نتكبر، بل نتواضع، ولنقتصد في الإنفاق ولننفق في سبيله، وإذا ابتلانا بفقر وحاجة فلنفزع إلى الله بالاستغفار والبكاء بين يديه ساجدين باكين نطلب أن يحل مشكلتنا، لا نعرض عنه ونلتفت إلى غيره، وهكذا ينبغي أن نعيش على هذا المنهج الرباني.

    1.   

    ملخص لما جاء في تفسير الآيات

    واسمعوا الآيات مرة ثانية: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ [الشورى:28] فماذا سيحصل؟ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ [الشورى:28] وقد شاهدنا هذا، المترفون بالمال والأولاد والسلطان يفسقون، يفجرون بلا حساب.

    وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ [الشورى:28] يغني ويفقر، يعطي ويمنع لحكمه العالية؛ لأنه عليم بعباده وبأحوالهم، فلا نفزع إلا إلى الله ولا نلجأ إلا إليه.

    وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ [الشورى:28]، من ينزل المطر؟ نستسقي يوم الخميس، يوم الإثنين ونبكي، فإن شاء سقانا وإن شاء منعنا؛ إذ لا ينزل الغيث إلا هو. وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى:28].

    وَمِنْ آيَاتِهِ [الشورى:29] الدالة على وجوده وعلمه وقدرته وربوبيته وألوهيته وكماله خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا [الشورى:29] وخلق مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ [الشورى:29] يوم القيامة إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [الشورى:29].

    ثم قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، وعلى سبيل المثال: أما كان المسلمون أعزاء أقوياء، قادرين ظاهرين؟ فكيف نزلوا؟

    لما أعرضوا عن كتاب الله وسنة رسوله فتمزقوا وتفرقوا وتشتتوا سلط الله عليهم الغرب والشرق فاستعمروهم وأذلوهم، أليس ذلك؟ ها نحن أذلاء مهانين، حفنة من اليهود يذلوننا، لماذا؟ لفسقنا وفجورنا وإعراضنا.

    ويا ويلنا في المستقبل! فالمسلمون أعرضوا عن كتاب الله، أعرضوا عن شرع الله، أخذوا يقننون القوانين، أخذوا يبتدعون البدع، والله! إن لم يتداركهم الله بتوبة عاجلة لنزل بهم من البلاء ما لم يعرفوه ولم يقع بهم، هذه سنة الله في خلقه.

    وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، لولا عفوه لما أصبحنا غداً أبداً، ولكن يعفو عن كثير.

    وأخيراً يقول تعالى: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ [الشورى:31]، فهل نحن نغلب الله؟ هل نعجزه؟ كلا وألف كلا، نحن ضعفاء عاجزون وهو القوي القدير، أما نفزع إليه ونلجأ إليه؟ كيف نعصيه ونتمرد عليه ونخرج عن طاعته، أنحن غالبون له قادرون على غلبته؟

    وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [الشورى:31] هل لنا من ولي يتولانا سوى الله؟ كلا. هل لنا من ينصرنا من الله إذا أراد أن يصيبنا؟ لا أحد أبداً، فلم يبق لنا إلا الله، فلا نفارق ذكره وشكره وعبادته، والحب فيه والبغض فيه، اللهم وفقنا لذلك وأعنا عليه.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [ هداية الآيات:

    من هداية الآيات:

    أولاً: بيان الحكمة في تقدير الأرزاق وإعطائها بمقادير محددة ].

    بيان الحكمة في توسعة الأرزاق وتضييقها على الناس، فهي للابتلاء: أتصبرون، أتشكرون؟ يبتليك لينظر أتشكر أم لا؟ يبتليك بالفقر والجوع لتصبر أو تجزع، فهو سيدنا ومالك أمرنا يمتحننا بالغنى والفقر، بالمرض والصحة.

    [ ثانياً: من مظاهر ربوبية الله تعالى الموجبة لألوهيته على عباده: إنزال الغيث بعد اليأس والقنوط، وخلق السماوات والأرض، وما بث فيهما من دابة ].

    من الأدلة الدالة على أنه لا إله إلا الله، لا يستحق أن يعبد إلا الله، من الأدلة: هذا الغيث، هذا المطر، فمن يخلق المطر؟ من ينزله؟ من ينقله من مكان إلى مكان؟ إنه الله تعالى، فهذا من آياته الدالة على أنه لا يُعبد إلا هو، ولا يلجأ إلا إليه أبداً، ومع هذا يعبدون الشيطان!

    [ ثالثاً: بيان حقيقة علمية ثابتة، وهي: أن المخالفة للقوانين يترتب عليها ضرر يصيب المخالف ].

    لله قوانين في خلقه في الأكل، في الشرب، في النكاح، في اللباس، في البناء، في الهدم، إذا خرج العبد عن تلك القوانين بانتظامها فلا بد أن يصاب بالمصيبة، ومثال ذلك أن تأكل الآن خمسة كيلو تمر أو لحم، فغداً لن تستطيع أن تمشي لأنك خرجت عن النظام، اخرج الآن واكشف ظهرك واجلس بين البرد، أو بت في البرد غداً، فستمرض، لأنك خرجت عن النظام، فالحياة كلها قائمة على قوانين ربانية، متى خرج عنها الإنسان هلك والعياذ بالله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30].

    [ رابعاً: بيان أنه ما من مصيبة تصيب المرء في نفسه أو ولده أو ماله إلا بذنب ارتكبه ]، فالذنوب هي التي تسبب لنا المصائب، والذي يجب ألا ننساه أننا إذا أصبنا بمصيبة نفزع إلى الله ونلجأ إليه، ونتخلى عن معصيته، هذا هو الحل.

    قال المؤلف في الحاشية: [ قال الحسن : لما نزلت هذه الآية: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ [الشورى:30] قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب، ولما يعفو الله عنه أكثر )، وشاهد آخر من كتاب الله تعالى قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] ].

    فما من اختلاج عرق أو عثرة قدم أو خدش عود إلا بذنب، يعني: ما من مصيبة حتى لو أن تعثر برجلك في الطريق إلا بذنب من الذنوب.

    قال صلى الله عليه وسلم: ( ما من اختلاج عرق )، عرقك يبتعد بسبب مرض، ( ولا خدش عود ) يصيبك في رجلك أو في يدك، ( ولا نكبة حجر إلا بذنب ) ، وما يعفو الله عنه أكثر من هذا، وفي الآية الأخرى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123].

    ومعنى هذا: هيا نتب إلى ربنا، لا نقول إلا ما يرضيه، ولا نفعل إلا ما يرضيه، ولا نؤمن إلا بما يرضيه، فنكون أولياءه فيحفظنا ويقينا من كل مكروه.

    [ خامساً: بيان أن من الذنوب ما يعفو الله تعالى عنه ولا يؤاخذ به تكرماً وإحساناً ].

    فكثير من ذنوبنا يعفو الله عنها ولا يؤاخذنا بها تكرماً منه وإحساناً إلينا، فاللهم لك الحمد.. اللهم لك الحمد.

    قال المؤلف في الحاشية: [ قال علي رضي الله عنه: أرجى آية في كتاب الله تعالى هي هذه الآية، وإذا كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير فما يبقى بعد كفارته وعفوه؟ ].

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756535687