إسلام ويب

شرح العقيدة الواسطية [3]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • دلت الآيات الكثيرة والأحاديث الصحيحة على إثبات علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، وهاتان صفتان لله تعالى ثابتتان تليقان به سبحانه. والعرش والكرسي مخلوقان عظيمان خلقهما الله بقدرته، لا يحملانه ولا يقلانه، بل هما وما خلق الله محمولون بقدرته، وخاضعون لجبروته.

    1.   

    الآيات الدالة على استواء الله على عرشه سبحانه وتعالى

    يقول المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] في سبعة مواضع:

    في سورة الأعراف قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54].

    وقال في سورة يونس عليه السلام: إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [يونس:3].

    وفي سورة الرعد: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد:2].

    وفي سورة طه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5].

    وقال في سورة الفرقان: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الفرقان:59].

    وفي سورة الم السجدة: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [السجدة:4] ].

    وقال في سورة الحديد: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الحديد:4] ].

    قوله رحمه الله: (وقوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، في سبعة مواضع) لم يأت هكذا: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ، ولكن الاستواء جاء في سبعة مواضع مرتباً على خلق السماوات والأرض، الأول: ما في سورة الأعراف: إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].

    قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام...)

    فقوله: إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ : الخلق: هو الإيجاد والإظهار والإبراز على أمر لم يسبق له مثيل، وهذا هو الخلق الحقيقي: وهو إيجاد الشيء من العدم، والله جل وعلا أخبرنا أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، والظاهر أنها أيام كأيامنا هذه، هذا هو الظاهر، أما الأقوال التي تروى عن بعض المفسرين: أن كل يوم كألف سنة ونحو ذلك فليس لهم فيه دليل، ولكن قد يرد سؤال وهو: إذا كان الله خلق السماوات والأرض قبل وجود الشمس ودورانها، فكيف عرفت هذه الأيام؟ لأن الأيام ما عرفت حتى وجدت الشمس، فصارت تسير مع الأرض في فلكها، وهو شيء مقدر لا يختلف، بل محدد تحديداً دقيقاً في جميع السنة، فكل يوم وليلة أربع وعشرون ساعة لا يزيد ولا ينقص.

    وإن كان كما قال الله جل وعلا: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ، أي: يزيد أحدهما على الآخر فينقص الآخر، ولكن لا يعدو الليل والنهار أربعاً وعشرين ساعة، هذا في وسط الأرض.

    أما في أطراف الأرض، فهذا لا عبرة فيه؛ لأن أطراف الأرض قد تطلع الشمس عليها وقتاً طويلاً، وقد لا يكون عندهم ليل في القطب؛ لأن الشمس لا تغيب عن الأرض إذ أن الأرض، لا أثر لها في ذلك، فلا يعتبر بمثل هذا، وإنما يعتبر الوسط الذي نحن فيه، وهو الذي خاطبنا الله جل وعلا به.

    فالظاهر: أنها أيام كأيامنا هذه؛ لأن هذا هو الظاهر من قوله (في ستة أيام)، وقد علم أن أول هذه الأيام الأحد، وآخرها يوم الجمعة، وهو الذي اجتمع فيه الخلق، وفي آخر ساعة منه خلق آدم، وفيه أيضاً تقوم الساعة كما صحت الأحاديث في ذلك.

    أما ما جاء في صحيح مسلم : (أن الله جل وعلا خلق يوم الأحد كذا.. وخلق يوم الإثنين كذا.. ويوم الثلاثاء كذا.. إلى أن قال: وخلق التربة يوم السبت)، فهذا غير صحيح، وهو من الأحاديث التي يعلم أنها غير صحيحة، ولم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي خطأ من بعض الرواة، والخطأ في صحيح مسلم وصحيح البخاري هو في كلمات يسيرة فقط، مثل هذا الحديث، وكل كتاب غير كتاب الله ما يخلو من الخطأ، ولكن إذا كان الخطأ معدوداًومعروفاً فيكفي ذلك في صحته، ونبل صاحبه كما هو معلوم.

    وقوله: إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ : الرب: هو المالك المتصرف، ولا يجوز إطلاق الرب -بالألف واللام- إلا على الله.

    أما لفظ (رب) غير مضاف فلا يجوز إطلاقه أيضاً إلا على الله، أما إذا أضيف فيجوز أن يطلق على المخلوق، تقول: رب الكتاب، رب الدار، رب الدابة، يعني: صاحبها، والرب هنا بمعنى: المالك المتصرف، فهو الذي يملك هذا الكتاب ويتصرف فيه، وهو الذي يملك هذه الدار ويتصرف فيها بالبيع والشراء والسكنى والإيجار.. وغير ذلك، ولكن لا يجوز إضافة الرب للعاقل ويقصد به المخلوق، تقول: رب الغلام، رب الجارية، رب المرأة، رب الرجل.. وما أشبه ذلك، هذا لا يجوز أن يقصد به مخلوق؛ لأن الرب قد يطلق لمعنى المعبود وهو دليل على العبادة، بل تلزم منه، فالعبادة والربوبية متلازمتان، ولهذا منع ذلك، فلا يجوز في هذا الأمر.

    فإذاً: يكون إطلاقه على غير الله جل وعلا فيما إذا أضيف إلى غير العاقل، أما إذا أضيف للعاقل فلا يجوز إطلاقه إلا على الله، وإذا اقترنت به (أل) لا يجوز إطلاقه إلا على الله تعالى الله وتقدس، وهذا كله صيانة وحماية للتوحيد، ولأسماء الله جل وعلا وصفاته أن يشترك في معانيها وحقوق الله مخلوق.

    إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ ، ومن المعلوم في اللغة: الفرق بين الرب وبين الله، كما في مثل هذه الآية، فإنه قال: إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ ، فدل على الفرق، ولهذا جاء عن ابن عباس أنه قال: الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، ذو الألوهية: يعني: صاحب الألوهية الذي يتأله ويعبد، وأما الرب: فهو المالك المتصرف الخالق الرازق المدبر، وبهذا يستدل على الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد العبادة، وهذا فرق واضح.

    إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، (ثم): هذه للترتيب مع التراخي، ولا تحتمل إلا هذا، ولهذا جاءت مطردة في جميع مواردها التي ذكرها في السبعة مواضع، بلفظ: (ثم) المرتب على الخلق.

    العرش أول المخلوقات

    فمعنى ذلك: أن هذا استواء خاص فعله الله جل وعلا بعد الخلق، ولا يلزم من ذلك: أنه لم يكن مستوياً على عرشه جل وعلا قبل خلق السماوات والأرض.

    ومن المعلوم: أن العرش هو أول المخلوقات، وهذا هو الصواب، بل هذا هو الذي دلت عليه النصوص.

    وأما القلم الذي ورد في حديث عبادة وغيره: (أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)، فالمقصود بهذا: الإخبار بالكتابة أنها وقعت بعد الخلق مباشرة بدون فاصل، يعني: أن الله جل وعلا لما خلق القلم قال: له اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن، ولهذا جاء في القرآن: أنه جل وعلا ذكر أن عرشه كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض، فعلى هذا يكون العرش أول المخلوقات المعلومة لنا، والعرش معه الماء؛ لأنه على الماء، أما أن نقول: إن الله مستوٍ على عرشه، قبل خلق السماوات والأرض فهذا لم يأت فيه نص، ولكن هذا هو الظاهر.

    فيكون استواؤه -الذي ذكر لنا لنعتقده ونؤمن به- بعد خلق السماوات والأرض، ولهذا رتبه عليه بلفظ: (ثم) التي تقتضي الترتيب مع التراخي، والملك والأمر لله جل وعلا.

    وهذه المخلوقات التي ذكرها الله جل وعلا من السماوات والأرض والعرش والماء هي التي نعلمها من المخلوقات، أما ما قبلها فشيء لا علم لنا به ولا يعلمه إلا الله؛ لأنه معلوم قطعاً أن العرش وجد بعد أن لم يكن موجوداً والماء كذلك وجد بعد أن لم يكن موجوداً؛ لأنه مخلوق، وكل مخلوق معين سبق بالعدم ولابد.

    أما الأولية التي لا نهاية لها ولا مبدأ لها فهي لله وحده جل وعلا، ولكن لا يجوز أن يعتقد أن الله كان ولا فعل له ولا صفة له، ثم بعد ذلك صار متصفاً بالصفات؛ لأن هذا نقص، والله يتعالى عن ذلك، وقد قال جل وعلا: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16]، ولا يجوز أن يكون هذا في وقت دون وقت، بل هو يفعل ما يريد، وهذا هو المعنى الذي ذكره العلماء في مسألة التسلسل.

    وقد اختلف العلماء في مسألة التسلسل، وخلاصتها: أن التسلسل في الحوادث في الماضي والمستقبل في أفعال الله التي تتعلق بمشيئته وصفاته واقع فضلاً عن أن يقال: إنه جائز، بل واجب.

    أما التسلسل في الفاعلين فهذا مستحيل وممتنع كما هو معلوم، وأما الحديث الذي في صحيح البخاري حديث عمران بن حصين وفي أول الحديث يقول عمران : (أتيت على راحلتي فعقلتها عند باب المسجد، فدخلت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بنو تميم فقال: أبشروا، فقالوا: بشرتنا فأعطنا، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دخل أهل اليمن، فقال: يا أهل اليمن! اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم، فقالوا: قبلنا، جئناك نتفقه في هذا الدين، ونسألك عن مبدأ هذا الأمر، فقال: كان الله ولم يكن شيء قبله)، وفي رواية: (ولم يكن شيء غيره)، وفي رواية: (معه).

    هذه الروايات الثلاث ثابتة ثبتت: (قبله) و(غيره) و(معه)، ولكن المقام واحد، يقول عليه الصلاة والسلام: (... كان الله ولم يكن شيء قبله، ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء، يقول عمران : فجاءني آتٍ فقال: أدرك ناقتك فقد ذهبت، فخرجت فإذا السراب يتقطع دونها، وأيم الله! لوددت إني تركتها ولم أقم)، هذا الحديث لم يروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عمران بن الحصين فقط، ولم يأت في رواية أخرى عنه..

    الاستواء: صفة فعل تتعلق بمشيئة الله جل وعلا، فصفات الأفعال هي صفات كمال، فالصفات تنقسم إلى قسمين: صفة ذات وصفة فعل، وهذا التقسيم دل عليه كتاب الله جل وعلا، وهو أمر قطعي.

    والفرق بين صفة الذات وصفة الفعل: أن الصفات التي لا تفارق الذات، وتكون ملازمة للذات دائماً كالحياة والعلم والسمع والبصر.. وما أشبه ذلك تسمى صفة ذات؛ لأنها تكون ملازمة لذات الله جل وعلا أبداً، ولا يجوز أن يكون خالٍ منها في وقت من الأوقات، تعالى الله وتقدس.

    أما الصفات التي تتعلق بمشيئته؛ إذا شاء فعلها، وإذا شاء لم يفعلها، فهذه تسمى صفة فعل، وهي من صفات الكمال، ولا فرق بين النوعين من حيث الاتصاف والثبوت، فكلها ثابتة لله جل وعلا، وكلها يتصف الله جل وعلا بها، ولكن الله جل وعلا له غاية الكمال المطلق، كما قال الله جل وعلا: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16]، وهذا من صفات كماله جل وعلا وهو خاص به، لا يوجد من يفعل ما يريد إلا الله جل وعلا، فالخلق كلهم يريدون أشياء، ولكن ما يستطيعون فعلها؛ لأن الأمر كله بيد الله جلا وعلا.

    ثم إن الاستواء جاء خاصاً بالعرش فقط، فلا يقال: استوى على السماء .. استوى على الأرض .. استوى على كذا.. هذا لا يجوز؛ لأنه جاء خاصاً بالعرش.

    وذكر المؤلف أنه ورد في سبعة مواضع من كتاب الله؛ ليبين أن هذا لا يجوز تأويله، ولا يمكن تأويله، حيث أنه جاء في نصوص لا تحتمل التأويل، فمؤولها يكون محرفاً، والتأويل فيها يكون تحريفاً وليس تأويلاً.

    1.   

    أقسام التأويل

    التأويل الذي يذكره العلماء أقسام ثلاثة:

    الأول: تأويل بمعنى: ما يئول إليه الشيء، كقوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53]، فتأويل الشيء في هذا المعنى حقيقة الشيء المخبر عنه، إذا جاءت الحقيقة فهذا التأويل، وهذا كثير في القرآن، ومنه قوله تعالى في قصة يوسف: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً [يوسف:100]، ورؤياه أنه رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رآهم له ساجدين، فلما سجد إخوته الإحدى عشر وأبوه وأمه صار هذا تأويلها، يعني: هذا حقيقة الرؤيا، والسجود هنا معناه: الانحناء، وقد كان في شرعهم جائزاً، أما في شرعنا فهذا محرم، بل من أعظم المحرمات وأكبرها، فالسجود خاص لله جل وعلا؛ لأن شرعنا جاء بالحنيفية الكاملة، بحيث تكون العبادة كلها لله جلا وعلا، ولا يكون منها شيء لغيره، بخلاف الشرع الذي هو أمر ونهي من ناحية التعبد بالأفعال، فإن للإسلام في هذا سعة، وفيه تساهل أكثر من الشرائع السابقة.

    الثاني من معاني التأويل: التفسير، فالتفسير يسمى تأويل كما يقول الإمام ابن جرير وغيره: القول في تأويل قوله تعالى أي: في تفسير قوله تعالى، ومنه قوله تعالى: وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59] يعني: تفسيراً، وهذان المعنيان في التأويل متفق عليهما، وهما المعروفان عند السلف.

    أما المعنى الثالث: فهو المعنى المبتدع الذي حدث بعد السلف، وهو صرف اللفظ عن معناه المتبادر منه إلى معنى آخر بدليل يقترن به، فهذا هو المشهور عند المتأخرين، وهو الذي يقصدونه إذا قالوا: تأويل، فإن كان الدليل شرعياً فإنه صحيح، وإن كان غير شرعي فإنه غير صحيح، وهذا هو الغالب، فإنهم يقولون: الدليل يكون عقلياً أو يكون وضعياً، يعني: حسب ما يتواطأ عليه الناس ويعرفونه، فهذا يكون تحريفاً؛ ولهذا قالوا: الاستواء هو الاستيلاء، وهذا تأويله بالدليل العقلي، وإذا قيل لهم: ما هو الدليل العقلي؟ يقولون: الدليل العقلي: أن العرش مخلوق فهو مكانه، والاستواء فعل يقتضي الحركة، ويقتضي وجود الجهة، وهذا لا يكون إلا للمخلوق، هكذا يقولون، وهذا هو الدليل عندهم، وهو دليل فاسد باطل؛ لأنه خلاف ما أخبر الله جل وعلا به، والسبب الذي بعثهم على هذا القول هو: أنهم ما عرفوا من معنى الاستواء إلا ما عرفوه من أنفسهم، مثل الذي يستوي على السيارة أو على الباخرة أو على الطائرة، فيكون محتاجاً إلى هذا الذي استوى عليه، ولو سقط هذا الشيء لسقط هو، ويكون محصوراً في مكان معين، ويكون محتاجاً إليه، وهذه كلها تتعلق بالمخلوق فقط، أما الخالق جل وعلا فهو الغني بذاته عن كل ما سواه، والعرش محتاج إليه، وليس الله جل وعلا محتاجاً إلى العرش، أما كونه خلق العرش واستوى عليه، فهذا لمعنىً وحكمة أرادها الله جل وعلا بلا حاجة، وربما يكون منها ابتلاء عباده، لينظر من يؤمن بذلك، وينقاد له، ويعرف مراده، ويسلم له، ومن يأبى هذا، وينكره، فيستحق الأول الثواب، والثاني العقاب.

    1.   

    معنى العرش والكرسي

    العرش في لغة العرب التي جاء بها القرآن هو: سرير الملك الذي يجلس عليه، كما قال الله جل وعلا عن بلقيس: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23]، يعني: سريرها الذي كانت تجلس عليه، وقد تأول أهل البدع العرش بأنه الملك، وهذا تأويل باطل، ويكفي في بطلانه قوله تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، فهل يسوغ أو يجوز أن يقال: ويحمل ملك ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية؟ هذا باطل قطعاً، ثم إن الأخبار التي جاءت في صفة العرش كثيرة، وأنه يضاف إلى الله جل وعلا، كما قال: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:129]، رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116]، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج:15] وهذه الأوصاف تدل على الحسن والسعة والعظمة والعلو.

    وجاءت الأدلة بأن له قوائم، وأنه يحمل، وأنه يطاف حوله ملائكة الله الذين خلقهم واستعبدهم للطواف حوله: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الزمر:75]، وكذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عنه بأخبار لا يجوز أن تؤول؛ لأنها نصوص قاطعة بذلك، فكل هذا يبطل هذا القول الفاسد، فالعرش خلق خلقه الله جل وعلا، وهو جل وعلا يخاطبنا بما نعرف.

    أما الكرسي فالقول الصحيح عند السلف أنه غير العرش، وهو تحت العرش، ولهذا جاء عن الصحابة وغيرهم من السلف: أن الكرسي كالمرقاة التي تكون تحت العرش الذي يجلس عليه، وقد قال الله جل وعلا: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، وجاء في الأثر: (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في فلاة من الأرض، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في أرض من الفلاة)، فأكبر المخلوقات وأعظمها وأوسعها وأرفعها هو عرش الرحمن، وليس العرش -كما يقول أهل الهيئة- مستديراً كروياً، بل الأحاديث تدل على أن له قوائم وأنه غير كروي، والعرش ليس فوقه مخلوق، وإنما فوقه رب العالمين جل وعلا.

    هذا الذي يعتقده أهل السنة على حسب النصوص التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد فسروا الاستواء بتفسير واضح جلي فقالوا: إن تفسيره هو قراءته لظهوره ووضوحه؛ ولهذا لما قيل للإمام مالك : الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ أطرق الإمام مالك ، وصار يتصبب عرقاً لقبح السؤال؛ ولأن فيه رائحة إنكار صفة من صفات الله جل وعلا، ثم رفع رأسه وقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك إلا رجل سوء، ثم أمر به فأخرج من حلقته. هكذا كانوا يصنعون بأهل البدع، يبعدونهم عنهم.

    فقوله: الاستواء معلوم، يعني: معلوم المعنى، وليس كما يقول أهل البدع المتأخرون: معلوم الورود، فالورود في الكتاب والسنة معلوم أنه وارد، وهذا لا أحد يسأل عنه، والسائل ما يشك في هذا، فهذا تحصيل حاصل بلا فائدة، وإنما مقصوده معلوم المعنى.

    1.   

    معنى الاستواء

    ذكر السلف لمعنى الاستواء ألفاظاً أربعة كلها مترادفة، فقالوا هو: الارتفاع والعلو والصعود والاستقرار، فهذه الألفاظ الأربعة جاءت مروية بأسانيد عن الصحابة وغيرهم، وكلها بمعنىً واحد، وهو الاستواء. ثم إذا نظرنا إلى الاستواء الذي ورد في كتاب الله وفي أحاديث رسوله، نجدها لا تعدو أربعة أمور:

    الأول: ما كان متعدياً بإلى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [البقرة:29]، وهذا باتفاق أهل اللغة وأهل التفسير معناه: العلو والارتفاع.

    الثاني: ما جاء متعدياً بعلى كما في هذه الآيات التي ذكرها المؤلف كقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، وهذا كذلك معناه العلو والارتفاع.

    الثالث: ما جاء مقترناً بواو المعية، نحو: استوى الماء والخشبة، وهذا معناه المساواة.

    الرابع: إذا لم يأت متعدياً بشيء، وإنما تعدى بنفسه كقوله: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى [القصص:14]، وهذا باتفاق المفسرين معناه: كمل وتم، وليس هناك معنىً للاستواء.

    أما الاستيلاء الذي قالوا: إنه هو المقصود، فهو دخيل على اللغة العربية، ولا يوجد من كلام العرب ما يدل عليه، والبيت الذي يذكرونه ويجعلونه دليلاً وينسبونه إلى الأخطل مصنوع، وإذا قدر أنه صحيح للأخطل فـالأخطل نصراني، قد ضلت النصارى في دينهم وفي ربهم، وقالوا: إن اللاهوت دخل في الناسوت، ثم كيف يسوغ للمسلم أن يترك النصوص التي جاءت في كتاب الله وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم ويأخذ ببيت شاعر نصراني ضال، وهو أيضاً ليس من أهل اللغة؟!

    ولو جاء الإنسان بآية من كتاب الله لهؤلاء أو بحديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لتوقفوا في الاستدلال به، وطعنوا فيه إما معنىً وإما لفظاً، ومع هذا يقبلون هذا القول! وذلك للهوى، فمن كان عنده هوى فإنه يقبل ما يوافقه وإن كان باطلاً.

    ثم إن الاستواء من أدلة علو الله جل وعلا، وقد ذكر العلو بعد هذا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756562099