أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة القصص المكية المباركة الميمونة، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، قال تعالى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:79-82].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الآيات فيما قصه الله تعالى على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من قصص بني إسرائيل، وبنو إسرائيل هم المعروفون اليوم باليهود، وهؤلاء لما خرجوا من مصر منتصرين وأهلك الله فرعون وملأه أجمعين نزلوا بديار حدث فيها هذا الحادث وهو أن قارون -وكان ثرياً غنياً- كان يملك الملايين من المال في مصر، وخرج مع بني إسرائيل بما يملك، فلنستمع إلى إخبار الله تعالى عنهم في هذه الآيات، إذ يقول تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ، أي: من بني إسرائيل، فَبَغَى عَلَيْهِمْ ، أي: ظلمهم واعتدى عليهم لطغيانه وتكبره وكثرة أمواله، وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:76-77]، فقال لهم: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ، أي: إن ربي أعلم بحالي فأعطانيه عن علم من صناعة وتجارة وأعمال، فرد الله عليه فقال: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78].
قال: [ ثانياً: بيان موقف أهل العلم الديني وأنهم رشَّد، أي: حكماء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ]، بيان موقف أهل العلم وأنهم رشداء، وبالفعل فقد وقفوا ذلك الموقف وقالوا لقومهم: ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80]، وهكذا دائماً وأبداً أهل البصيرة والعلم والمعرفة أصوب فيما يقولون، وأحسن فيما يقدمون للناس ويعملون.
قال: [ ثالثاً: بيان أن البغي يؤخذ به البغاة في الدنيا ويعذبون به في الآخرة ]، بيان أن البغي يؤاخذ به الظالمون في الدنيا، وذلك كما خسف بـقارون الأرض، وبعذاب الآخرة من باب أولى أيضاً، والبغي هو الظلم والاعتداء، وصاحبه يصاب في الدنيا بالعذاب ولعذاب الآخرة أشد.
قال: [ رابعاً: بيان أن وجود الإيمان خير من عدمه وإن قلَّ، وأن ذا الإيمان أقر على التوبة ممن لا إيمان له ]، أي: أن الإيمان وإن قلَّ وإن ضعف فصاحبه أحسن وأفضل مليون مرة من الكافر، بدليل هذه الآية: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ [القصص:82]، لوجود الإيمان فيهم، إذ لو كانوا عادمي الإيمان ما قالوا هذه المقولة، فدلت هذه الآية على أن وجود إيمان وإن ضعف أفضل بكثير وخير من الكفر والإلحاد والعياذ بالله تعالى، وذلك بدليل أن المؤمن الذي فيه إيمان يعود بسرعة إلى الله عز وجل، فموعظة فقط يسمعها فيتوب إلى الله تعالى، والذي لا إيمان له ما يسمع ولا يجيب أبداً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر