[باب المحرم يأكل من صيد الحلال.
عن أبي قتادة الأنصاري : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجاً فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم فيهم
وعن الصعب بن جثَّامة الليثي (أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه، فما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرم)، وفي لفظ لـمسلم : (رجل حما)، وفي لفظ: (شق حمار)، وفي لفظ: (عجز حمار)، وجه هذا الحديث أنه ظن أنه صيد لأجله والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله.].
هذان الحديثان في حكم الصيد للمحرم، ولا شك أنه قد حرم على المحرم الاصطياد مادام محرماً، وأحل له إذا انتهى من الإحرام، قال الله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2] يعني: فيجوز أو فيحل لكم أن تصطادوا الصيد، وقال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة:69] يعني المسافرين: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96]، حرم عليكم صيد البر مادمتم حرماً أي: مادمتم محرمين فصيد البر محرم عليكم، وكذلك قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95] هذه الآية صريحة في أن الممنوع هو قتل الصيد، وأما الآية التي بعدها: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96] فيحتمل أن المراد: حرم عليكم الاصطياد: ويحتمل أن المراد: حرم عليكم الأكل أكل الصيد. ولما كان كذلك وقع الاشتباه عند الصحابة كما في القصة الأولى.
والحاصل أنه إذا صاده وهو محرم متعمداً فلابد من الجزاء، أن يخرج جزاءه من بهيمة الأنعام، وذلك الجزاء يذبح بمكة ويتصدق به على مساكين الحرم، وأما العمد والخطأ فقال بعض العلماء: إنهما سواء، فإذا قتله ولو مخطئاً فإنه يخرج الجزاء، وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم جاءهم من قتل شيئاً من الصيد ولم يسألوه: هل أنت متعمد أو أنت غير متعمد؟ والأصل أن أولئك الصحابة لا يمكن أن يتعمدوا القتل للصيد وهم قد عرفوا المنع، فالأقرب أنهم ليسوا متعمدين، ومع ذلك جعلوا فيه فدية، وذلك لأنه يعتبر إتلافاً، والإتلاف لابد فيه من الفدية حتى من الخاطئ، حتى لو قطع شجرة من شجر الحرم مخطئاً أمر بأن يخرج فدية بدلها، فكذلك إذا قتل حمامة من حمام الحرم ولو خاطئاً أمر بأن يخرج جزاءها شاة، وقد وقع أن عمر رضي الله عنه خلع رداءه مرة وأرد أن يلقيه على وتد في الحرم، وكان عليه حمامة لم يشعر بها، فطارت من موضعها فوقعت في جانب فجاءها قط فافترسها وهو ينظر، فقال: أنا الذي أطرتها من مكانها وهي آمنة وعرضتها لهذا الخطر حتى افترست، فلابد أن أخرج لها فدية فأخرج لها فدية وهي شاة، مع أنه ما تعمد قتلها وما رماها، ولكن لما كان له شيء من التسبب في إطارتها وإزالتها لم يرتح حتى أخرج فديتها، فدل على أنه تخرج الفدية حتى ولو كان مخطئاً، هذا هو الأصل في منع المحرم من الصيد، وكذلك غير المحرم بالنسبة إلى صيد مكة.
مكة لما كانت محرمة لا يحل قطع الشجر فيها ولا يحل قتل الصيد ولا تنفيره صار فيها جزاء، ففي شجرها جزاء، وفي صيدها جزاء، حتى ولو قتل فيها عصفوراً لأمر بأن يدفع له جزاء.
والحاصل أنه فهم أنه صيد لأجله، وهذا هو الجمع بين الحديثين، فإذا قيل: لماذا أمرهم في حديث أبي قتادة أن يأكلوه وقال: هل منكم من أعانه في قتله؟ هل منكم أحد أشار إليه؟ فقالوا: لا. قال: (كلوا ما بقي) مع أنه صاده لهم غالباً، أو أنه صاده لنفسه أو أنه صاده لأنه حلال، وفي حديث الصعب بن جثامة رده عليه وقال: لا نقبله لأنا محرمون؟! كأنه يقول: المحرم لا يأكل الصيد؛ لأن الله يقول: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96].
إذاً فالجمع بينهما أنه إذا صيد لأجلك وأنت محرم فلا تأكل منه، وأما إذا صيد لغيرك فصيد لحلال فلا بأس أن تأكل منه، هذه هو الجمع.
وقد ورد في ذلك حديث عن جابر في السنن، قال صلى الله عليه وسلم: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم) أي: صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم. فيكون في هذا جمعاً بين الحديثين، وهو أن أبا قتادة صاده لنفسه، وأن الصعب صاده لأجل المحرمين.
وأما الآية الثانية: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة:96]، فالمراد اصطياد صيد البر، وقد عرفنا أن الصيد كل ما يقتنص، سواء من الطيور أو من الدواب التي يحرص على تتبعها والتي هي حلال ولا تدخل فيما حرمه الله ولا ما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر