أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .
وبعد:
فقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الحياة الدنيا دار ابتلاء واختبار؛ ولذلك خلق خلقه، كما قال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان:2] ، وكما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2] ، وقال سبحانه: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقّ [المؤمنون:115-116] أي: تعالى الله عن العبث، فهو الملك الحق: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116] ، وقال سبحانه كذلك: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى [القيامة:36-37]، فلذلك معشر الإخوة: خلق الله سبحانه وتعالى خلقه للابتلاء وللاختبار، حتى سيدنا ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام، قال الله له كما في الحديث القدسي عند مسلم : (إن الله قال لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: وإني مبتليك ومبتلٍ بك) هكذا قال الله سبحانه -في الحديث القدسي- لنبيه محمد عليه أفضل صلاة وأتم تسليم.
فهذه هي الحياة الدنيا كلها وما عليها ابتلاء، وكلها وما عليها اختبار، حسن الحسن، وجمال الجميل، وثراء الغني ، وفقر الفقير، وصحة الصحيح، ومرض المريض، كل ذلك ابتلاء، قال الله سبحانه: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7] ، ثم قال مبيناً مآلها بعد ذلك: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [الكهف:8] ، وقال الله سبحانه محذراً من هذه الفتنة: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:131] (أزواجاً منهم) أي: أصنافاً من الكفار.
أما الخليل إبراهيم عليه السلام فتعددت بلاياه، ابتلي بالعقم وعدم الإنجاب، ابتلي بلقاء الجبابرة، ابتلي بعد ذلك بالولد حيث رزق به، ثم أمر بذبح الولد، كما قال ربنا: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:106-107].
وابتلي موسى وقال الله في شأنه: وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا [طه:40].
وابتلي سليمان عليه السلام، فقال تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص:34]، وقبله أبوه داود قال تعالى: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص:24-25].
يا عبد الله! يا من آتاك الله منصباً! اعلم أن في المنصب ابتلاء لك، فلا تزدرِ من هم تحت يديك، يا من أصيب بالفقر! اعلم أن في الفقر ابتلاء لك فكن من الصابرين، وللابتلاءات حكم فاعلمها واغتنم الخير منها، قال تعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43] أي: هلا تضرع هؤلاء المبتلون فمدوا أيديهم ورفعوها إلى السماء، فجدير بكل من ابتلي أن يرفع يد الضراعة إلى الله سائلاً إياه بكشف الضر، وكذلك قال ربنا سبحانه حاثّاً لنا على الصبر عند البلاء -في شأن أيوب عليه السلام -: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، فليجد الله كل من ابتلاه منا صابراً فلنصبر على ما ابتلانا الله سبحانه وتعالى به، قد تبتلى بجار من جيران السوء، قد تبتلى بحاكم ظالم، قد تبتلى بمفسد في الريف، فلتصبر على كل أنواع البلاء كلها، واسأل الله العون والسداد، وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وثبتنا على الحق وإياكم، واستغفروا ربكم إنه كان غفاراً.
وبعد:
معشر الإخوة: كم ابتلينا واختبرنا فرسبنا في الابتلاءات والاختبارات! كم منا من شخص ابتلي فلم يقل ما يرضي الله عز وجل، ولكن رب العزة سبحانه وتعالى فتح باب التوبة للتائبين، فتح باباً لا يغلق لمن أراد أن يتوب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن للتوبة باباً مفتوحاً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها) وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)، فجدير بكل من رسب في هذا الاختبار، أو لم يقم بشكر نعمة أنعم الله بها عليه أن يرجع إلى الله، أن يرجع إلى الله مستغفراً أواهاً منيباً، فالله سبحانه وتعالى يحث كل مذنب أن يرجع إليه، قال تعالى -وانظر إلى هذه الآية الطيبة الكريمة ذات المعاني العظيمة، التي عدها بعض أهل العلم من أرجى الآيات في كتاب الله- : وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110]، فأي آية في الحسن بعد هذه الكلمات؟
فيا معشر الإخوة: أحبوا ربكم كما يحبكم ربكم، ربكم سبحانه يحبكم ويصلي عليكم ليخرجكم من الظلمات إلى النور، فاشكروه واحمدوه واستغفروه، وتدبروا آياته، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42]، ثم قال بعدها في الآية التي تلتها: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:43]، فكأن معنى الآية -والله أعلم-: كما أن الله سبحانه وهو في السماء مستوٍ على العرش، يصلي عليكم، وملائكته يصلون عليكم ليخرجكم من الظلمات إلى النور فبالمقابل اذكروه ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً، فإنه سبحانه وتعالى بالمؤمنين رحيماً. فجدير بكم -معشرة الإخوة- أن تقابلوا نعم الله بالشكر، وتقابلوا ابتلاءات الله أياً كانت أنواعها بالصبر؛ ليجد ربكم سبحانه الواحد منكم صابراً من أهل الفضل والصلاح: نَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، فكل من ابتلي بالضراء عليه أن يكون في عداد الصابرين، وكل من ابتلي بالسراء عليه أن يكون من الشاكرين.
فضلاً عن إخراجهم من ديارهم وهم مئات الألوف، فاحمدوا الله الذي أطعمكم من جوع، والذي آمنكم من خوف، وهذه النعمة لا يستشعرها الناس إلا إذا سلبت منهم، استعيذوا بالله من قهر الرجال، فأي قهر لرجل يذبح ولده بين يديه؟ أي قهر يحدث لك أن ترى رجلاً يفعل بامرأتك الفاحشة؟ يهتك عرض ابنتك أمام عينيك، ورأسك يداس بالأقدام وبالنعال، أي قهر للرجال أشد من هذا القهر يا عباد الله؟! فاحمدوا الله على نعمة الأمن التي تعتبر ابتلاء من الله، وشاركوا إخوانكم الذين ابتلاهم الله بمثل هذه البلايا بالدعاء، أو بالمال، فشاركوا إخوانكم بشيء من التبرعات بكفالة يتيم هنالك، أو سد جوع جائع هنالك، أو كسوة عارٍ، حتى يزكي الله قلبك ومالك، وتستشعر أنك تشارك إخوانك ولو بالشيء اليسير، استشعاراً لإخوة الإسلام التي تربطك بهؤلاء الأعاجم، لا يربطك بهم نسب، ولا يربطك بهم حسب، بل ولا تربطك بهم لغة، فلغتهم غير لغتك، ليس بينك وبينهم إلا أخوة الدين والإسلام.
يا عباد الله! استشعروا برباط الإسلام الذي يربطكم بإخوانكم، فليتبرع لهم متبرع ولو بعشرة قروش، فإن النبي قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)، وأمكم عائشة رضي الله عنها جاءتها امرأة معها ابنتان تسألها، فدخلت عائشة رضي الله عنها إلى البيت فما وجدت شيئاً غير تمرة، فأخرجتها وسلمتها للمرأة، فشقتها المرأة بين ابنتيها نصفين، فأخبرت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (من ابتلي بشيء من هذه البنات فصبر عليهن، كن له ستراً من النار يوم القيامة)، فيا معشر الإخوة عليكم بالدعاء لإخوانكم، وعليكم بالتبرع لإخوانكم، والحمد لله على كل حال.
اللهم! انصر الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم! أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم! خذ بأيدينا ونواصينا إلى البر والتقوى، اللهم! عليك بالصرب الظالمين وبكل باغٍ معتد أثيم يارب العالمين، اللهم! انصر الإسلام والمسلمين، وأيدهم بنصرك وبتأييدك يا سميع الدعاء يا مجيب السائلين، وكلل اللهم مساعينا جميعاً بالتوفيق، وتقبلها بقبول حسن, واجمعنا جميعاً مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جناتك، جنات الخلد التي أعدت للمتقين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر