إسلام ويب

شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثامن عشر)للشيخ : عمر سعود العيد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحتل عقيدة القضاء والقدر مكاناً بارزاً بين أركان الإيمان، ولذلك استفاضت أدلته من الكتاب والسنة، وتكلم فيه علماء السلف الصالح رادين على الضالين والمنحرفين فيه، حتى أصبح اعتقاد السلف فيه واضحاً لا لبس فيه ولا غموض، ولم يختلط بغيره من الاعتقادات الفاسدة. وإن عقيدة القدر ليست مصدر قلق نفسي، كما أنها ليست مما يدعو إلى القعود والكسل والتعلل بالتعليلات الكاذبة، بل على العكس من ذلك كله، فقد كانت وما تزال أكبر داعٍ للمؤمن لكي يتصف بصفات المؤمنين، من شجاعة وإقدام وحسن خلق وعمل جاد مستمر، وغيرها من الصفات الحسنة التي تُغرس في قلب المؤمن بالعقيدة الإسلامية ومنها عقيدة القضاء والقدر.

    1.   

    مسائل تتعلق بعذاب القبر

    عذاب القبر متعلق بالروح والجسد معاً

    الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    قبل أن نبدأ بمبحث القضاء والقدر، بقي عندنا جزئيات يسيرة في مسألة عذاب القبر ونعيمه.

    مسألة: هل عذاب القبر متعلق بالروح والجسد، أم أنه للروح فقط، أم أنه للجسد وحده؟

    الجواب: المعتزلة لما أنكروا عذاب القبر كانوا يقولون: إننا إذا بحثنا عن الميت بعد مضي سنين لم نجد شيئاً من جسده، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان يبلى ولا يبقى منه إلا عجب الذنب فقط، فقالوا: إذاً تعلق العذاب والنعيم هو على الروح فقط، ولكن هذا القول ليس بصحيح، والدليل على عدم صحته: أنه يأتيانه ملكان فيسألانه ويقعدانه، ثم يفتح له باب فيقال له: انظر، فينظر إلى الجنة، وينظر إلى النار، هذا كله يتعلق بالنظر وغيره للجسد ليس للروح، مما يدل على أنه للروح وللجسد جميعاً، وإن كان أغلبه للروح، والجسد له جزء من قضية التنعيم، وله جزء من قضية التعذيب.

    القبر ظلمة، ونعوذ بالله أن تكون قبورنا ظلمة علينا، ولقد ماتت امرأة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه البخاري ومسلم وهو في مسند الإمام أحمد وغيره، وهذه المرأة كانت تقم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماتت ولم يعبأ الصحابة بها، ولم يوقظوا النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليها، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ماتت ودفنت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (دلوني على قبرها) ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وصلى عليها ثم قال: (إن هذه القبور ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم) مما يدل على ما يتميز به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أن القبر ينور على أصحابه عندما يصلي عليهم، ويكون نوراً على الناس بسبب الأعمال الصالحة التي يقدمونها في الحياة الدنيا.

    سماع عذاب القبر للأحياء

    ذكرنا أن عذاب القبر ربما أن الناس قد يسمعون شيئاً من أصوات الموتى، ومنهم: النبي صلى الله عليه وسلم، فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم صاحبا القبرين، وقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) صاحب النميمة، وصاحب عدم الاستنزاه من البول.

    ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على بغلة له، وجالت به صلى الله عليه وسلم، ثم سأل عن هذه القبور، وإذا هي ستة أو أربعة على خلاف في عددها، وكانت قبوراً للمشركين، فجالت بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى كاد أن يسقط صلى الله عليه وسلم، بسبب أن هذه البغلة سمعت صوت الذين يعذبون.

    ومر النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة وكانت معه دابته فتحركت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يهود تعذب في قبرها) فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع شيئاً، وهذا يعتبر من أمر الغيب.

    مسألة: هل يمكن لآحاد الناس أن يسمع عذاب القبر؟

    الجواب: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: يمكن أن يسمع، وقد يكون السماع شيئاً حقيقياً، وقد يكون رؤىً يراها الإنسان، ونعلم أن الرؤى جزء من النبوة، فقد يرى الإنسان والده في هيئة سيئة، يراه بأنه يقول مثلاً: عندي أموال ردوها لأصحابها .. فلان قد كان كذا.

    أي: يستوحي الناس منها أن أباهم أو غيره من الميتين ربما يصاب بسوء، أو ربما ينعم بسبب شيء قدمه في الدنيا، فعند ذلك تكون سبباً لإبعاد هذه العقوبة، أو لزيادة النعيم الذي يحدث لهم.

    ولذلك تجد أن الذين يفسرون الرؤى تفسيراً، قد يمكن أن تخبره بخبر، فيقول: والدك ربما يحدث له كذا، أو ربما والدك مسرور لعمل عملته، أو ربما لشيء يحدث، ولعل مما يحدث في مسألة الرؤى بعض المفسرين يفسرون الرؤى: أن الإنسان إذا رأى ميتاً له -وإن كنت لست مفسراً للرؤى أصلاً- ودعاه أن هذا ربما يكون نذيراً لقرب أجله، أو لموت عزيز عندهم، وهذا ليس على إطلاقه.

    وأذكر من اللطائف: ذات مرة صليت في جامع الرياض قديماً، وكان سماحة شيخنا غائباً، فجاء رجل من البادية وسألني عن رؤيا؟ فقلت له: أنا لا أفسر الرؤى، قال: كنت في برية، وكان هناك باب، ثم فتح وخرج علي والدي، وقد يكون هذا علامة موتي، فهل ترى أن أتصدق أم أبذل شيئاً لهذا الميت وغيره؟

    فمر علي أحد الأحبة فتبسمت في وجهه، ثم قلت له: حقيقة لا أفسر الرؤى، لكن لو عملت خيراً لوالدك الميت كان طيباً، ففي آخر الأمر، قال: لا، أنت تعلم بأني سأموت، ولم ترد أن تفسر لي الرؤيا، قلت له: أنا لا أدري عن الرؤى أبداً، قال: إنك ما ضحكت إلا لأني سأموت، فتورطت ماذا أعمل به؟ ولست ممن يفسر الرؤى أصلاً، وإن كنا قد بينا منهج الرؤيا إن كانت حسنة وإن كان سيئة، لكن أقول: إن الرؤى قد يحدث بها نوع خير للإنسان، مما يوقظ الله به قلب الإنسان، ومما يكون سبباً لصلاحه واستقامته على دين الله تعالى.

    حال العبد في قبره

    ذكر المؤلف رحمه الله تعالى أن الميت في قبره يكون له عمل يقارنه هناك ويسأل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الميت في قبره يأتيه رجل حسن الصورة، وحسن الثياب، وطيب الريح، فيقول له: أبشر بالذي يسرك، وأبشر برضوان من الله وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، ويبشره بكل خير، فيقول هذا الإنسان الذي في قبره: من أنت فوجهك الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا أنك كنت سريعاً في كل خير في طاعة الله، بطيئاً عن المعصية، فجزاك الله خيراً، فيبقى مطمئناً، ويعطينا إيحاءً. سبحان الله! إن الإنسان إذا سار على الطريق وحده يشعر بوحشة، وإذا جاء الله بشيء يؤنس الإنسان ويطمئنه يشعر براحة ولذة وطمأنينة، كيف إذا كان هذا هو العمل الصالح الذي يقدمه الإنسان في هذه الحياة الدنيا؟ والأعمال الصالحة معروف أنها منوعة .. من صيام، وقيام ليل .. وقراءة قرآن .. وأمر بمعروف .. ودعوة إلى الله .. وتعليم علم .. وطلب علم .. وأعمال متنوعة، ولذلك ينبغي للمسلم أن يتنافس فيها، لعلها تكون معه بين يديه في قبره تؤنسه، وتكون سبباً لإزالة الوحشة التي في قلبه، وتحدث للإنسان الوحشة؛ لأنه ليس له قريب ولا عزيز ولا أنيس، وإذا أتى عمله الذي قارنه في حياته كلها كان أوثق الناس به، وأقرب الأشياء إليه، وأنس لقلبه واطمأن له.

    بخلاف العاصي -نعوذ بالله- فإنه يمثل له عمله في صورة رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، ويقول له: أبشر بالذي يسوءك، ثم يسأل: من أنت؟ فإن وجهك الوجه القبيح.. وغيره؟ فيقول: أنا عملك في هذه الحياة الدنيا الذي عملت، فيفتح له -نعوذ بالله- باب إلى النار، وينظر إليها، ويقال له: هذا مقعدك, ويفتح له باب إلى الجنة فيقال: هذا منزلك لو كنت طائعاً لله تعالى، ثم قالوا: يقيض له أعمى أصم أبكم معه مرزبة فيضربه بمطرقة.. إلى آخر ما يتعلق بعذاب القبر، ونعوذ بالله من عذاب القبر.

    1.   

    مبحث الإيمان بالقضاء والقدر

    ننتقل الآن إلى مسألة القضاء والقدر، وأرى أنها من الأمور المهمة، والشارح الذي بين أيديكم قد نبهت سابقاً أنه يفوض في باب الصفات، ولذلك ينبغي أن ينتبه له، ولقد سار على منهج الإمام السفاريني رحمه الله، فإن الإمام السفاريني ليس عنده وضوح كامل في مسألة المعتقد، فإنه لما ذكر أهل السنة ذكر بأنهم ثلاث طوائف:

    قال: هم أهل الحديث يقصد بهم السلفيين، ويقصد بالثاني: الأشاعرة والماتريدية ، قال: هؤلاء يطلق عليهم بأنهم أهل السنة ، ولكن أهل السنة لا تنطبق إلا على من كان سائراً على منهج الكتاب والسنة، وكان على ما كان عليه سلف الأمة.

    ننتقل الآن إلى مسألة القضاء والقدر، ولذلك أومأ المؤلف إلى مسألة الشفاعة وأقسام الناس فيها ومتعلقاتها، وقالوا: هذه من المسائل التي لا بد من التنبيه عليها، ولكن يظهر أن الكلام حول مسألة القضاء والقدر قد تكون أولى من مسألة الشفاعة، وإن كان كل منهما مهم، وخاصة أن مسألة القضاء والقدر تعتبر أصلاً من أصول الإيمان الستة التي يجب التنبيه عليها، وكثر الخلاف فيها، والنزاع قوي جداً بين أهل السنة والطوائف الأخرى.

    تعريف القضاء والقدر في اللغة والاصطلاح

    القضاء بالمد وقد يكسر، قال في النهاية : هو في اللغة على وجوه، ومرجع هذه الوجوه الواردة في اللغة: إلى انقطاع الشيء وتمامه، وله معانٍ عدة، ومنها: الأداء والإتمام، فهو في اللغة: إحكام الشيء وإتمام الأمر.

    والقدر بتحريك الدال وإسكانها الطاقة، ولذلك منها قوله تعالى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236].

    فهو بمعنى: التضييق والتقدير، والمقصود عندنا هنا هو بمعنى: التقدير، وله معانٍ متعددة في اللغة العربية.

    قاعدة: إذا أردت أن تعرف مبحث القضاء والقدر فلابد أن يكون مشتملاً على مراتب القضاء والقدر الأربعة، ومن لم يأت بتعريفه في القضاء والقدر بالمراتب الأربع، فاعلم أنه ليس على منهج أهل السنة ، ولذلك يقال: إنه تقدير الله أو كتابة الله للأشياء في اللوح المحفوظ، وعلمه سبحانه وتعالى بأنها ستقع، وفي أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى، وعلى صفات مخصوصة وكتابته لذلك، ثم مشيئته لها ووقوعها على حسب ما قدرها الله سبحانه وتعالى وخلقه سبحانه وتعالى لها.

    منزلة القضاء والقدر في عقيدة المؤمن

    لا شك أن القضاء والقدر أحد أركان الإيمان الستة، ودليله: حديث جبريل (أسألك عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره) ولذلك يعتبر الإيمان به جزء من عقيدة المؤمن، ولا يصح إيمانه إلا بالإيمان بالقضاء والقدر، قال ابن عباس رحمه الله ورضي عنه: [من وحد الله وكذب بالقدر، فقد نقض تكذيبه توحيده] دل على أنه لا يصح توحيد الإنسان حتى يؤمن بقضاء الله وقدره.

    ويقول العلماء: إن مبحث القضاء والقدر داخل في باب الربوبية؛ لأن القضاء والقدر متعلق بفعل الله تعالى، والربوبية هي فعل الله تعالى، فإنك إذا نظرت إلى القضاء والقدر وجدته يتعلق بمبحث الربوبية، العلم هو الربوبية، وهو من باب الأسماء والصفات، وبعض العلماء يدخل باب الأسماء والصفات في باب الربوبية .. عندنا الإرادة والمشيئة ربوبية وهي فعل .. عندنا الخلق ربوبية .. الكتابة فعل وهي ربوبية، فيقولون: إن من لم يأت بالإيمان بالقضاء والقدر فإنه لا يصح توحيده أبداً، ولا يعتبر موحداً؛ لأنه أخل بجزء من أجزاء التوحيد، وهو الإيمان بربوبية الله تعالى.

    أدلة الإيمان بالقضاء والقدر من الكتاب والسنة

    بالنسبة لأدلته، ففي الكتاب والسنة أدلة كثيرة جداً على إثبات القضاء والقدر، وإذا أخذت أدلة المراتب الأربع وربطتها جميعاً دلت على قضاء الله وقدره: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49].. وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68].

    وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3] وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً، وجاء الصحابة رضي الله عنهم يقولون: [ما نعمله من شيء كتب]. أي: في شيء قد مضى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات الأرض، وكان عرشه على الماء -قدرها- بخمسين ألف سنة) وتجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جفت الأقلام وطويت الصحف، فقال الصحابة: إذاً ففيم العمل؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ونجد أن الله سبحانه وتعالى بيده الأمور كلها، خيرها وشرها، فهو يعطي ويمنع، ويعز ويذل، وينفع سبحانه وتعالى، ويصيب بعض الخلائق بنوع من الضر الذي يصيبهم، وما السبب؟

    لأن الله هو القادر على كل شيء، وهو الفاعل المختار سبحانه وتعالى، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، يجب على المسلم أن يؤمن بقضاء الله وقدره؛ لأنه قد دل عليه الكتاب والسنة، وبين الله سبحانه وتعالى في غير ما آية، وكذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الإيمان بها؛ لأنها إخبار، والإخبارات واجب علينا أن نصدق بكل ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم أو أخبرنا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:2].. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد:8].

    ونجد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع -ثم ذكر منها النبي صلى الله عليه وسلم-: أن يؤمن بالقضاء والقدر) رواه الترمذي ، وقال في تحفة الأحوذي : رجاله رجال الصحيح.

    وقد ورد التحذير من عدم الإيمان بقضاء الله وقدره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة عاق -أي: عاق لوالديه- ولا مدمن خمر، ولا مكذب بالقدر) رواه الإمام أحمد والبزار .

    مراتب القضاء والقدر

    مراتب القضاء والقدر أربعة، وقد دل عليها الكتاب والسنة: أولها: مرتبة العلم، ومرتبة العلم، سبق أن ذكرنا أن الإنسان يجب أن يعلم بأن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء.

    وعلم الله تعالى يتعلق بثلاثة أمور:

    الأول: علم بالشيء الماضي، وأن الله سبحانه وتعالى لم تخف عليه خافية فيما مضى، ولذلك قال فرعون لموسى: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:51-52] دل على أن الله سبحانه عالم بما في الأزل.

    الثاني: علم الله سبحانه وتعالى بكل ما هو واقع وحادث الآن، وهذا الأمر يجب أن نؤمن به، فلا تخفى على الله سبحانه وتعالى خافية مما يحدث في الكون.

    الثالث: علم الله بما سيكون في المستقبل، وهو سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، يعلم بكل شيء سبحانه وتعالى، وقد بين: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الأنعام:59] دل على أنك حين تنظر إلى الشجرة حين تتساقط أوراقها، أي: منها الذي يسقط اليوم، وتلك غداً، فالله يعلم متى تسقط وفي أي موضع تسقط، مما يدل على علم الله تعالى بالجزئيات، ويخالف في هذا الفلاسفة ، فيقولون: إن الله لا يعلم بالجزئيات، وإنما يعلم بالكليات فقط، وهذا الكلام باطل لا شك في بطلانه، بل الله يعلم بكل شيء، بالكليات وبالجزئيات.

    المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة، وأن الله سبحانه وتعالى قد كتب كل شيء عنده في اللوح المحفوظ، وقد دل عليه: (إن أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة) فكتب كل شيء.

    وكذلك جاء النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة يسألون: أعمالنا؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (جفت الأقلام، وطويت الصحف) أي: هذا أمر قد كتب، كل أعمالنا مكتوبة في اللوح المحفوظ، ما سنعمله غداً وبعد غد، ومكتوب في اللوح المحفوظ كيف سنموت بحادث سيارة .. بمصيبة .. بعلة .. بمرض.. إلى غيره، مكتوب في اللوح المحفوظ كم سيحصل لنا من الأموال.. إلى غيره، كل شيء قد قدره الله وكتبه.

    ويجب أن نعلم قاعدة وهي: أن اللوح المحفوظ لا يغير ما كتب فيه أبداً، ولن يخرج الإنسان عما كتب في اللوح المحفوظ أبداً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جفت الأقلام، وطويت الصحف) ونجد النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) رواه الإمام مسلم .

    ونجد الله تعالى يقول: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22] أي: من قبل أن نخلقها، دل على أنها كلها مكتوبة في اللوح المحفوظ.

    المرتبة الثالثة: مرتبة الإرادة والمشيئة، ويجب أن نعتقد أنه لا يكون في الكون، لا في السماوات ولا في الأرض إلا ما شاءه الله وأراده، ومشيئة الله وإرادته دائرة بين الرحمة وبين الحكمة، فربنا سبحانه وتعالى يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

    نجد من اللطائف قاعدة لـأهل السنة وهي: أن أفعال الله لا يسأل عنها بـ(لِمَ)، وصفات الله لا يسأل عنها بـ(كيف)، هذه قاعدة يجب دائماً أن نعرفها.

    أفعال الله لا يسأل عنها بـ(لِمَ)؛ للرد على طوائف المبتدعة المنحرفة في مسألة القضاء والقدر، وصفات الله لا يسأل عنها بـ(كيف)؛ للرد كذلك على طائفة المبتدعة في الأسماء والصفات، الذين يقولون: كيف تكون صفات الله أو غيره؟ والسبب ولله المثل الأعلى: أنت في ذات نفسك لو كثر عليك السؤال لغضبت، فلو دخل -مثلاً- شخص منزلك أو بيتك، ثم قال: لماذا جعلتم المجلس هنا؟ لماذا جعلتم كذا؟ لماذا وضعت هذا مكان كذا؟ لماذا؟ ستجد آخر الأمر، تقول: هذا مسكين أنا حر أتصرف فيه بما أريد، ليس لك دخل في هذا، ويغضب الإنسان أن يسأل عن مثل هذه الأمور، وقد يكون توجيه واحد، لكن لِمَ.. لِمَ؟ الآن يأتي إنسان ويقول: لماذا خلق الله الذباب؟ لماذا خلق الله البعوض؟ لماذا خلق الله الأسد؟ لماذا كتب؟ تلك لحكمة يعلمها الرب سبحانه وتعالى، وقد تكون عقول الناس لا تدركها.

    ومن اللطائف ما ذكره صاحب كتاب: (غريزة أم تقدير إلهي )، أظنه لـشوقي خليل ، كتاب يصلح إذا زرت مريضاً أن تهديه إليه، فيه بعض الحكم في الطيور، وفيه بعض المخلوقات العجيبة، سبحان الله! ترى فيه عجائب، لا يكثر الكلام لكنه يعطيك صفة، لماذا هذا الطائر منقاره عريض، وهذا دقيق، وهذا منثني؟ ولماذا هذه البهيمة كذا؟ ولماذا النمل بصفة كذا؟ لله حكم عظيمة في هذا الأمر.

    من اللطائف: كانت الهند تشتهر بالثعابين الكبيرة، طول الواحد منها ثلاثة أو أربعة أمتار وليست سامة، وكانت مستعمرة بريطانية، وجاء شخص وأخذ اثنين أو ثلاثة منها، ولم يكن الناس يتعرضون لها؛ لأنها لا تضرهم، وتعيش في مزارعهم، شخص أعجبه جلد ثعبانين أو ثلاثة، فسلخها، ثم اشتراها منه رجل بريطاني، وعندما أخذها هذا الرجل البريطاني سافر بها إلى بريطانيا معه، فوجدها شخص معه فقال له: ألا أصنع لك حذاء منها؟ أو أصنع لأهلك حذاء منها؟ فصنع .. فبيع بثمن غالٍ جداً، فسئل: من أين جئت به؟ قال: من الهند ، فقالوا: لو أرسلت لنصنع ونبيع .. تجارة، فأخذوا يذبحونها وترسل، وسبحان الله! في السنة التي ذبح فيه عدد كبير أكلت الجرذان أهم محاصيلهم وهو الأرز، وتجد سكان بعض الدول أكلهم في الصباح والظهر والعصر والمغرب والعشاء كله أرز، ليس عندهم شيء، فجاءوا فتساءلوا: ما الذي حدث؟ وإذا بالسبب هو قتل هذه الثعابين، كانت تلتقم هذه الجرذان، فلا تصيب محاصيلهم، مما يدل على أن الله إذ يخلق بعضاً من هذه المخلوقات إنما هو لحكمة عظيمة يعلمها سبحانه وتعالى، عقولنا قاصرة، ولكن إيماننا بأن الله لا يفعل شيئاً إلا لحكمة يعلمها، ولهذا ذكر المؤلف:

    والنار يصلاها الشقي بحكمة     ....................

    أي: أن الله له حكمة في هذا الأمر، فيه شيء يظهر، وفيه ما لا يظهر لنا، ولذلك نحن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى يفعل كل شيء: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].. فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125].

    ولذلك نحن لا نسأل: ما الحكمة من كذا؟ إن تبينت فالحمد لله، وإن لم تتبين فالواجب علينا أن ننصت لهذا الأمر.

    المرتبة الرابعة من مراتب القدر: مرتبة الخلق: ويجب أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى خالق لكل شيء، وأنه ما من ذرة في السماوات ولا في الأرض إلا قد خلقها الله سبحانه وتعالى، وخلق حركتها، وخلق سكونها، ولا خالق لها إلا هو، ولا رب سبحانه وتعالى لها إلا هو، نستدل على ذلك بعددٍ من الأدلة: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62].. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله صانع كل شيء وصنعته) دل على أنه سبحانه وتعالى هو المدبر والخالق لهذا الكون كله.

    وكل مرتبة من هذه المراتب ترد على طائفة من المبتدعة، يقول العلماء رحمهم الله تعالى: في إثباتنا لمرتبة العلم ردٌ على طائفة القدرية ، نفاة هذه الصفة، ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا خصموا، وإن أنكروا كفروا).

    من يقول: الله لا يعلم، يكون بذلك واصفاً لله بالنقص؛ لأنه جاهل ولا شك في كفره؛ ولأنه نفى عن الله صفة الكمال.

    وبمرتبة الإرادة والمشيئة يرد على طائفة القدرية، وكذلك المعتزلة الذين يقولون: إن الإنسان هو الذي يفعل ما يشاء، والله ليس له إرادة ولا مشيئة في فعل الإنسان إطلاقاً.

    ومرتبة الكتابة ترد على المعتزلة الذين يقولون: إن الأمر أنف، أي: الآن حدث، أي: أن الله لا يكتب شيئاً ولا يقدر شيئاً إلا بعد عمل العبد، وقبل فعل العبد لا كتابة على العبد أصلاً، وهذا الكلام ترده الأحاديث والآيات الواضحة في بيان كتابة الله تعالى.

    ومرتبة الخلق ترد على المعتزلة الذين يقولون: الله خالق الإنسان، والإنسان هو الخالق لفعله.

    آراء الفرق في مسألة القضاء والقدر والرد عليها

    القول الأول: يقول العلماء: قول القدرية المعتزلة، ولفظ القدرية ينطبق على طائفة المعتزلة وعلى الجبرية ، وانطباقه على المعتزلة؛ لأنهم نفاة للقدر، وانطباقه على الجبرية لأنهم يثبتون القدر على أن الإنسان مجبور على فعله، ولكن إذا ذكرها العلماء رحمهم الله تعالى؛ فإنما يقصدون بها المعتزلة ولا يقصدون الجبرية ، فإنهم ميزوا، وإن كان كل لفظ يطلق على كلتا الطائفتين.

    لكن إذا قيل: القدرية المعتزلة ، دل على أن هؤلاء هم نفاة القدر، الذين يقولون: لا قدر، هؤلاء ماذا يقولون؟

    يقولون: إن الله سبحانه وتعالى لم يخلق أفعال العباد، بل العباد هم الخالقون لأفعالهم، وإن الله لا يعلم بها إلا بعد وقوعها، فالله سبحانه وتعالى شاء من المؤمن الإيمان، ولكن الكافر هو الذي لم يشأ الإيمان فوقعت مشيئة الكافر ولم تقع مشيئة الله تعالى، وهذا الكلام باطل لا شك فيه.

    ما هي حجة هذه الطائفة؟

    قالوا: لو قلنا: إن الله إذا قدّر على العبد المعاصي، ثم عاقبه عليها كان ظالماً، وعند المعتزلة خمسة أصول، ومنها: العدل، قالوا: ومقتضى العدل، لو قلنا: إن الله خلق الإنسان وخلق فعله، ثم عاقبه عليه كان ظالماً، ثم إن الإنسان إذا كان مجبوراً على عمل ثم يعاقب عليه فإنه يكون مظلوماً بهذا، والله لا يظلم أحداً.

    إذاً.. النتيجة أن الله لم يقدر أعمال العباد، وإنما العباد هم الذين يتصرفون بأفعالهم ويدبرونها، وهذا باطل لا شك في بطلانه.

    لعل من اللطائف هنا ما ذكره شارح الطحاوية رحمه الله: أن أعرابياً أضل ناقة له، وعليها متاعه، فدخل إلى المسجد، فوجد حلقة، وإذا هي حلقة من حلقات المعتزلة ، وأظن فيها عمرو بن عبيد أو غيره، فوجد ظاهرهم الصلاح، ولكن بواطنهم الاعتزال، فقال: معروف أن أهل الصلاح دعاؤهم يرجى -وأخذنا من أنواع التوسل: التوسل بدعاء الصالحين- فقال لهم: ناقتي ضاعت، ولو دعوتم الله أن يرد ناقتي جزاكم الله خيراً، فقال هذا المعتزلي: اللهم يا رب إنك لم ترد أن تذهب ناقته وتضيع، اللهم إنا نسألك أن تردها عليه، فقال هذا الأعرابي: والله لا حاجة لي بدعائكم، قالوا له: لِمَ؟ قال: إذا كان هو ما أرادها ثم ضاعت، وقد يريد أن ترجع ولا ترجع، فما الفائدة من دعائكم إذاً؟ فبهت المعتزلة في الحلقة كلهم، لم نحتج إلى أدلة ولا إلى نصوص وأفحمهم هذا الأعرابي بكلمتين.

    ولذلك نرد على المعتزلة بردود عديدة:

    الرد الأول: أن هذا مخالف للأدلة المثبتة لمشيئة الله تعالى، وأنه سبحانه وتعالى يقول: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13] ويقول: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [الإنسان:30] ويقول: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125].

    الرد الثاني: أن هذا مخالف لعموم قول الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62] الآن أنت عملك شيء أم ليس شيئاً؟

    نقول: عملك شيء، إذاً: الله خالق له، ونجد الصفات والأفعال تبعاً للذات، فمادام أن الذات مخلوقة فأفعالها تبع لها مخلوقة لله سبحانه وتعالى، والله يقول: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96].

    الرد الثالث: أن الله مالك السماوات والأرض، فكيف يكون في ملكه ما لا يريده ولا يشاؤه، هل يمكن أن يقع في ملكه ما لا يشاؤه الله ولا يريده؟

    الله المدبر لهذا الكون، فلا يكون في ملكه إلا ما شاء سبحانه وتعالى وأراده، والشيء الذي يكون مدبراً ولا يقع فيه ما لا يريده يدل على عجزه وضعفه وعدم ملكه الكامل، ملكه ناقص، لكن الله سبحانه وتعالى ملكه كامل لكل شيء.

    الرد الرابع: أن نقول لهم -وهذه قاعده قالها شيخ الإسلام ابن تيمية، ودائماً ينبه عليها، وينبغي أن نقف معها دائماً -يقول: إن المبتدعة لا يفرون مما دلت عليه ظواهر النصوص إلا وقعوا في مثله أو شر منه.

    فنقول لهؤلاء المعتزلة: إنكم وقعتم في شر أعظم مما فررتم منه، وما ذلكم؟ قالوا: يلزم على قولهم: إن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى، وهل الله يغالب؟ لا، هو أراد أن ينفي عن الله الظلم، فوقع في شر مما فر، أنها وقعت مشيئة الكافر ولم تقع مشيئة الله تعالى، فدل على أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله، وهذا أقبح اعتقاداً عندهم من الاعتقاد الأول.

    الرد الخامس: أن الله سبحانه وتعالى قد قدر الخير والشر، والله حذر من الشر وحث على الخير، وجعل للناس عقولاً يميزون بها بين الخير والشر، كما في قوله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8] وأرسل الله الرسل لإقامة الحجة على الناس؛ لأجل ألا يحتج الناس فيقولون: لولا أرسلت إلينا رسولاً، تجد أنه: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] فقامت الحجة ببيان الحق وإيضاحه للناس، وهناك ردود أخرى لسنا بصدد الكلام عليها.

    قال: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن القدرية انقسموا إلى قسمين: غلاة ومقتصدون، وإن كانت تلك الطائفتان على ضلال، فالغلاة أنكروا مرتبة العلم ومرتبة الإرادة، وهم الذين قال فيهم الإمام الشافعي رحمه الله: (ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا خصموا وإن أنكروا كفروا).

    الطائفة الثانية: أنكرت المرتبتين الأخريين: الكتابة والخلق، وبهذا نعلم أنهما ليستا فرقة واحدة بل هما فرقتان.

    الجبرية ماذا يقولون؟

    يقولون: إن الإنسان مجبور على فعله، ولهذا غلوا في إثبات القدر وإثبات الإرادة غلواً كاملاً، وقالوا: كل ما يفعله الإنسان فهو مجبور عليه، وحركة الإنسان في أفعاله كلها كحركة المرتعش، وكالريشة في مهب الريح، وكورقة الشجر التي تطير ولا تدري أين تتجه، لو جئت إلى شخص مريض بـ(الأنفلونزا) مثلاً، وينتفض من شدة البرد، وتقول: يا أخي! اتق الله، لماذا تنتفض؟ ليس بإرادته هو، هل يعتب عليه الانتفاض؟ لا يعتب؛ لأن حركة الإنسان مجبور عليها.

    ولذلك قالوا: إن الإنسان مجبور على فعله، طيب! هل نسبة الأعمال إليه؟

    قالوا: هذا من باب المجاز، وليس من باب الحقيقة، وهذا لا شك أنه باطل، وأوصلهم هذا الأمر إلى أمرٍ قبيح وهو: أن كل ما يفعله الإنسان والله يحبه ويرضاه حتى وإن كانت -نعوذ بالله- معصية، وهذا لاشك أنه كلام باطل، وهذا القول غالباً ما ينطبق على غلاة الصوفية الذين وصل الحد ببعضهم إلى أن قالوا: إن فرعون لما قال: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24] هذا من كمال إيمانه، لكن موسى لم يفهم مقصوده، ولذلك عتب عليه، وإلا فهو حين يقول: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24] صحيح؛ لأن الله حال في كل مكان، وكل فعل يوجد في الكون حتى السجود للأصنام وغيره محبوب إلى الله تعالى، وهذا كلام باطل، بل هو الكفر بعينه، هذا مذهب لا شك أنه ظاهر الفساد.

    ما حجة هؤلاء؟

    الجواب: الكتابة في اللوح المحفوظ، ويقولون: الأحاديث والأدلة تدل على أن الله كتب مقادير العباد كلها، فمادام أنها مكتوبة فلا يمكن للإنسان أن يتصرف إطلاقاً، وهذا الكلام باطل باطل باطل!

    ولعلي أقول للأحبة: يوجد في عصرنا من يوجد عندهم مفهوم الجبر، وإن كان هو ليس جبرياً، أي: ليس منتسباً إلى هذه الطائفة.

    نأخذ مثالاً بسيطاً الآن: قد يكون في بيتك وقد يكون من أقاربك من يأخذ بهذا المذهب، فبعض الناس تأتي تنصحه وتقول: يا أخي! اتق الله، لماذا لا تصلي؟ قال: جزاك الله خيراً، احمد الله أن الله هداك وأنا ما هداني، هذا مفهوم الجبر، بمعنى: أنني ليس لي تصرف أبداً، أنتظر الهداية فقط، وإذا كان طيباً قال: يا أخي! جزاك الله خيراً، ادع الله أن يهديني مثلما هداك فقط، وكأنه ليس عنده قدرة على الدعاء، بل يريد أن ينتظر حتى تنزل عليه الهداية من السماء فيلبسها، ثم يأتي إلى المسجد يصلي، وهذا كلام باطل لا شك في بطلانه، وإن كان قائل هذا القول لا يعرف الجبرية ولا يعرف مثبتة القدر، ولا يعرف غلاة التصوف ولا غيرهم، لكن قد يوجد له شيء من الرواسب في الناس، وكذلك يشم منه رائحة أخرى وهو مذهب الإرجاء ، وإن كان في الجملة قد لا نقول: إن هؤلاء مرجئة ، بعض الناس تجلس معهم في المجلس، وتجد الناس يجلسون ويقولون: أهم شيء الصلاة، يجلسون مجلساً على معاصٍ وغيرها، ويقولون: صلِّ والباقي كله يهون، أهم شيء الصلاة، وكأنهم يقولون بهذا المفهوم: من أدى هذه الصلاة سقطت عنه التكاليف كلها، بمعنى: أنه لاشيء عليه.

    والمرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب أصلاً، ولذلك قال شاعرهم:

    فأكثر ما استطعت من الخطايا     إذا كان القدوم على كريم

    مادام أنك ستقدم على رب كريم فلا تترك معصية إلا وذهبت إليها، وهذا -والعياذ بالله- خطر كبير، ووقف أهل السنة في وجوه المرجئة وأبطلوا مقالتهم، ولسنا بصدد الكلام عن الإرجاء، وأقسام المرجئة وغيرها.

    هؤلاء الجبرية نرد عليهم بردود عديدة:

    أولها: أن الله سبحانه وتعالى أضاف العمل إلى العبد، وجعله كسباً له يعاقب عليه ويحاسب عليه بثواب أو بعقاب، فلو لم يكن فعلاً له لما صح أن يعاقب الإنسان عليه، ولما صح أن ينسب الفعل إلى الإنسان: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر:17].. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32] نسب إليك العمل وجزيت من أجله.

    ولذلك لو كان الإنسان مجبوراً لم يصح أن يلزم بهذا العمل، ولا يقال له هذا الشيء، ولذلك نأخذ مثالاً بسيطاً الآن: لو جئت إلى طفل صغير الآن، ثم قلت له: اضرب فلاناً فضربه، فإنك تجد الآن أن مثل هذا الطفل لا يعرف لماذا ضربه؟ تجد الطفل يقول: هذا الذي قال لي، فهل يعتب على الطفل أم يعتب على الكبير؟ يعتب على الكبير، الطفل لا نقول له: أنت لا تفهم، لماذا كل من قال لك تفعل؟ فهو لا يدري .. مسكين! ومثله الأعمال التي يعتبر الإنسان مجبوراً عليها لا خيار له فيها، ولذلك فإن من الأمور التي يجبر الإنسان عليها ومن رحمة الله أنه لا تكليف على العبد فيها، إلا في حدود مسألة القتل ومسألة الزنا هي التي استثنيت، مثال بسيط: إنسان مجبور، قيل له: هذا سلاح اقتل إنساناً وإلا اكفر بمحمد، نقول له: اكفر ولا تقتل؛ لأنه مجبور، والله أنزل: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ [النحل:106] عذر الإنسان فيه.

    يأتيك إنسان -مثلاً- يقول: تعال الآن طلق زوجتك وإلا قتلتك، أقول له: لا مانع إن طلقها بالثلاث، ولا يؤاخذ على ذلك؛ لأنه مجبور، ولذلك لا ينسب العمل الجبري إلى الإنسان ليعاقب عليه.

    الثانية: أن العبد لو كان مجبوراً على فعل المعاصي لما صح أن يعاقب على هذا الفعل؛ لأن العقاب عليه يعتبر ظلماً، فإذا كان الإنسان مجبوراً على هذا العمل يعتبر الإنسان مظلوماً، ولذلك ذكرت فيما مضى أن هناك من أعمال الإنسان ما يكون الإنسان مجبوراً عليها، فمثلاً: إنسان جالس عند إشارة مرورية ينتظر، ليس عنده شيء إطلاقاً واقف ينتظر متى تفتح؟ فأتى شخص وقطع الإشارة وصدمه مباشرة، الناس يأتون إلى الجالس عند الإشارة: يا أخي! ألا تنظر! الآن السيارة آتية، لماذا ما تحركت أنت؟ أنت الغلطان! المفروض ألا تكون في هذا المكان حتى لا يأتي ليصدمك؟ يمكن ألا نعتب عليه أبداً، ولو عتبنا عليه لكنا ظالمين له.

    وأنبه تنبيهاً لطيفاً: سبحان الله العظيم! عجب لأهل الجبر! لا يحتجون بقضية الجبر إلا في المعاصي فقط، إذا زنى قال: يا أخي! أنت عارف أن هذا مكتوب علي، الحمد لله على قضاء الله وقدره، لكن إذا جاء يصلي في المسجد وأنفق مالاً، قلنا: والله إنك مجبور على هذه الصلاة، إنفاقك وبناؤك للمسجد ليس بملكك فأنت مجبور عليه، يقول: أنا دفعت فلوساً، وتعبت من أجله .. طيب! لماذا تحتج بالقضاء والقدر على المعصية دون الطاعة؟!

    مما يدل على أنهم يزنون بميزانين وليس بميزان واحد وهذا مما يدل على ضلال هؤلاء وانحرافهم، وإلا فلو أخذنا الجبر في المعاصي أخذناه في غيره من الأبواب، وسبحان الله! جيء لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه برجل قد سرق، ولما سرق جيء به، فقال له عمر : لماذا سرقت؟ قال: يا عمر أما علمت أن هذا قد كتب علي في اللوح المحفوظ، وإني سرقت بقضاء الله وقدره؟! فقال عمر للجلاد: اقطع يده، فإنا نقطع يدك، بقضاء الله وقدره، فقطع وقال: هذا القضاء والقدر عندنا.

    وفي طاعون عمواس رضي الله عن عمر ، لما أراد القدوم اختلف الصحابة: هل ندخل هذا البلد أم لا ندخلها؟

    بعض الصحابة قالوا: لا ندخلها أصلاً؛ لأنها موطن وباء، ومرض فتاك، وبعضهم قالوا: أتفرون من الموت خائفين، أما تعلمون أن الله سبحانه وتعالى قدر لكم آجالاً، وجاء عبد الرحمن بن عوف وأخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا جئتم إلى بلد وهو فيه فلا تدخلوه، وإذا كنتم فيه فلا تخرجوا) فقيل لـعمر : [تفر من قضاء الله وقدره؟! قال: لا، نفر من قضاء الله وقدره إلى قضاء الله وقدره] وسيأتي إن شاء الله الرد على أصحاب المعاصي رداً سريعاً، يبين بطلان من يحتج بالقضاء والقدر في باب المعصية.

    الأمر الثالث: أن كل واحد منا يفرق بين الفعل الاختياري والفعل الاضطراري في الحقيقة والحكم، ما منا أحد يقول: لا أعرف الأمر الاختياري والأمر الجبري، ومن الأمور الجبرية: حركة التنفس .. حركة العينين، إنسان يأتي يقول: أصك العين اليسرى، أو أوقف الجهاز التنفسي أو الدورة الدموية، ما لك خيار فيها أبداً، تميز بينها، لكن الفعل الاختياري أستطيع أصلي في المسجد، أذهب إلى المعصية، أذهب إلى مكان الطاعة.. إلى غيره، هذه تستطيع، وتستطيع التفريق بينهما، ولذلك لو اعتدى عليك شخص وادعى أنه مجبور ما رضيت أبداً.

    وهناك كتاب أظنه لـأبي محمد عمرو بن السكوني اسمه: المناظرات، المؤلف أشعري؛ لكنه ذكر مناظرات عجيبة جداً، ومن اللطائف التي ذكر: أنه جلس جبري مع قدري يتناقشون في القدر، قال: ما تقول؟

    قال: أقول: كل شيء الإنسان مجبور على فعله، وأمر مكتوب لا يمكن لأحد التصرف.

    قال: وتؤمن به؟

    قال: نعم.

    فأخذ يده وصفعه على وجه، فقال له: لِمَ صفعتني؟

    قال: أما علمت أن هذا بقضاء الله وقدره، وهذا أمر مكتوب عليك؟

    قالوا: فإن رضي بهذه الصفعة واطمأن وقال: الحمد لله على قضاء الله وقدره فقد فَقد عقله، وإن اعترض فقد نقض مذهبه ومثله الآن لو دخلت أنت السوق ومعك مال، وجاء أحد أخذه ووضعه في جيبه وقال: ترى هذا كله مكتوب بالقضاء والقدر، أقول: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون.. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ [البقرة:156]؟ لا تقبل .. لا ترض أبداً، مما يدل على أننا نفرق بين العمل الاختياري والعمل الجبري.

    كذلك نرد عليهم بما نقل من الآثار السلفية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره من سلف الأمة مثل: [نقطع يدك بقضاء الله وقدره] .. [نفر من قدر الله إلى قدر الله تعالى].

    القول الثالث: قول أهل السنة والجماعة ، وهم يقولون: إن الله سبحانه وتعالى له إرادة، وله مشيئة، والعبد له إرادة وله مشيئة، وإرادة العبد متوقفة على إرادة الله تعالى ومشيئته، فالله سبحانه وتعالى أراد الخير وأراد الشر، وبمشيئته الكونية يقع، ولم يرض للعبد الكفر شرعاً وديناً، قال سبحانه وتعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49].. وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).

    هنا قول الأشاعرة ، وهم يقولون بالكسب، ولذلك قالوا: ثلاثة من المستحيلات: طفرة النظام ، وأحوال البهشمي، وكسب الأشعري.

    والأشاعرة في القضاء والقدر أقرب المذاهب إليهم الجبرية ، قالوا: نجعل الآن الإنسان يعمل، حتى إذا قرب إلى الفعل مباشرة جاءت إرادة الله مباشرة، لا يمكن نقول إلا أن هذا جبر، ولهذا قالوا: هذا من الأمور المستحيلة لا يمكن تصورها، قالوا: ثلاثة من المستحيلات منها: كسب الأشعري، مما يدل على أن الأشاعرة قولهم بالكسب قول باطل لا شك فيه، وقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى بشيء من التفصيل، ولهم مقالات غير هذه.

    1.   

    انحرافات الأشاعرة في العقيدة

    أود أن أنبه -وإن كان مبحث القضاء والقدر سيطول بنا- بالنسبة للأشاعرة ليس الانحراف عندهم في باب الصفات فقط، ويظن الأحبة، وإن كان كثيراً ما نسمع أن الأشاعرة تعتبر أقرب المذاهب إلى أهل السنة ، فلديهم انحراف في باب الأسماء والصفات، فهم لا يثبتون إلا سبع صفات فقط دون غيرها، وإن كان قولهم مضطرب في باب الصفات، فمنهم من أثبت سبعاً، وعشراً، وثلاثة عشر، وعشرين صفة، مما يدل على اضطرابهم، وأنهم ليس لهم قاعدة ثابتة في باب الصفات.

    عندهم انحراف كذلك في باب التحسين والتقبيح، فهم يرون أن التحسين والتقبيح للشرع فقط، وليس للعقل تحسين ولا تقبيح، وقولهم هذا باطل.

    ومنها كذلك: أنهم يذهبون في باب الصفات إلى قضية المجاز، وعندنا أن باب الأسماء والصفات ليس فيه مجاز أصلاً، الأصل إبقاء الألفاظ على ظاهرها.

    ومنها كذلك: خبر الواحد يرونه ظني الدلالة ولا يحتج به في باب الأسماء والصفات ولا في باب الاعتقاد أصلاً، وهذا الكلام ليس بصحيح.

    ومنها: في باب القضاء والقدر، فإنهم يذهبون إلى قضية الكسب، والقول بالكسب قول باطل، وقد رد عليه أئمة أهل السنة، وبينوا الانحراف فيه، فليس انحرافهم في جزئية واحدة، بل لديهم انحرافات متعددة، ومما يبين على أنهم ليسوا على منهج أهل السنة والجماعة في هذه الأمور التي ذكرناها، بل خالفوا فيها، ولئن كانوا أقرب في بعض الجزئيات، وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى ذكرهم، ونجد واقع المسلمين يرتبطون بمذهب الأشاعرة والماتريدية، ولكن عندنا نقول: الحق أحب إلينا، وهو أقبل لنا جميعاً، وحجتنا الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة.

    ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756480480