إسلام ويب

رمضان شهر القرآن [2]للشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خص الله شهر رمضان من بين الشهور بالقرآن والصيام، وقد اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدارسة القرآن في رمضان والعمل به فكان أجود من الريح المرسلة، وهكذا ينبغي أن يكون حال المسلم في رمضان وفي غيره متدبراً للقرآن عاملاً به، منفقاً في وجوه الخير حريصاً على الصدقة، خصوصاً الصدقة الجارية إذ هي أفضل الصدقات.

    1.   

    القرآن جامع كل خير

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! إذا جاء شهر رمضان فتحت أبواب الخيرات، وحار الخطيب أي خصلة من خصال الخير يحث الناس عليها، ولكن جماع الخير كله كتاب الله سبحانه، مأدبة الله، المأدبة التي دعا إليها الناس؛ ليتزودوا منها، فيهتدوا بهديها في أخلاقهم وأعمالهم: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9]، القرآن والصيام قرينان في العمل والثواب، وشهر رمضان فرصة لتحسين العلاقة بكتاب الله، وتوطيد الصلة بهذا القرآن العزيز، فإنهما يجتمعان في العمل، يصوم المسلم نهاره، ويسمع القرآن في ليله، وكذلك يأتيان قرينان يوم القيامة عند الحساب والجزاء، قال عليه الصلاة والسلام: ( إن القرآن والصيام يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب! منعته الطعام والشهوات في النهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان )، ومن حكمة الله البالغة: أن جعل زمن الصوم هو زمن إنزال الكتب السماوية، فأنزل الله سبحانه وتعالى القرآن في شهر الصوم، وجعل رمضان زمناً لهما معاً: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ[البقرة:185]، فجدير بالإنسان المؤمن أن يجمع بين هذين العملين الجليلين: الصيام وقراءة القرآن.

    القرآن مهما تحدث المتحدث عنه فلن يوفيه حقه من الثناء، ويكفيه ثناء الله تعالى عليه، بأنه: (كتابٌ مبارك)، أي: كثير الخيرات، ويصدر الناس عنه بعد سماعه وتلاوته بما تيسر لهم من الخير، فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [الرعد:17]، كل الناس يقرءون ويصدرون من هذا القرآن بقليل أو كثير، بحسب ما يقوم في قلوبهم من الإيمان واليقظة، فكن حريصاً على أن تكون ممن ينتفع به إذا تلاه أو سمعه.

    أصناف المستمعين للقرآن وتأثيره عليهم

    هذا القرآن قص الله عز وجل علينا فيه أصناف السامعين له على اختلاف مشاربهم ومواردهم، فذكر الله عز وجل في كتابه الجن حين سمعوا هذا القرآن ومقالتهم، فقالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [الجن:1-2].

    وقال: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف:29-30]، إنه المجلس الأول الذي سمع فيه الجن هذه الآيات تتلى عليهم فقالوا هذه المقالة: يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف:30]، وسمعه المنصفون من النصارى الذين يحملون إرث من سبق من النبوة فقالوا كما قال الله: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:82-83]، وسمعه أولوا العلم كما قال الله: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا [الإسراء:107] ويزيدهم خشوعاً، سمعه طائفة من مشركي العرب فلم يتمالكوا أنفسهم إلا بالإذعان لما فيه من الهداية ( جاء جبير بن مطعم رسولاً وسفيراً لقريش إلى المدينة، فوصل المدينة وقت صلاة المغرب، فوقف بباب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن في صلاة المغرب، فسمع قول الله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36] قال جبير : فكاد قلبي أن يطير ).

    إنه القرآن الذي يحرك المشاعر، ويهز القلوب، حين تستمع له الآذان بإصغاء، وحين تنفتح له القلوب بخشوع.

    مأدبة الله، يصدر الناس عنه بزيادة أو نقصان لا محالة، والمؤمنون كذلك إذا سمعوه زادوا به إيماناً وعملاً، كما قال الله في كتابه: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124-125]، ولذلك جاء في الأثر الصحيح عن بعض الصحابة أنه قال: ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، إذا سمعت القرآن يتلى عليك فإما أن تزيد وإما أن تنقص، فكن حريصاً على معرفة قدر نفسك، هذا القرآن مأدبة الله، هدىً وشفاء للمؤمنين، وهو عمىً وضلالة على الكافرين، يتمايز الناس حين يستمعون هذا الكتاب، فمنهم من يزيد إيماناً، ومنهم من يقل.

    فهذه الأيام والليالي فرصة لتوطيد الصلة، وتحسين العلاقة بكتاب الله، بالإقبال عليه، قراءة وتدبراً، وسماعاً، ففي نظرك للمصحف عبادة، وفي تلاوتك لآيات الله هدى واستقامة، جاء في الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف )، إن قراءة الآيات باعث على زيادة حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لما فيها من الهداية، لما فيها من التوجيه والإرشاد، فالقرآن أنزله الله؛ ليكون وسيلة لإصلاح هذه القلوب، كما أنه وسيلة لإصلاح الحياة كلها: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23]، وسيلة لإصلاح قلبك، فخذ زادك منه.

    حال النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن في رمضان

    كان عليه الصلاة والسلام يدارس جبريل القرآن في شهر رمضان، وهذا يبين لك مدى الصلة بين الصيام وبين القرآن، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة )، رسول الله أجود الناس، ولم تر الدنيا أجود منه عليه الصلاة والسلام، ( ما سئل شيئاً إلا أعطاه، كان يعطي الرجل الواحد من الأعراب الغنم بين الجبلين، فينصرف الرجل إلى قومه، ويقول: يا قوم! أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخاف الفقر )، سأله رجل مرة ثوبه الذي عليه فدخل عليه الصلاة والسلام بيته ونزع الثوب الذي عليه وأعطاه لصاحبه، فلما عوتب هذا الصاحب عن هذا السؤال قال: ما سألته إلا ليكون لي كفناً، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، ولكنه حين يتدارس القرآن مع جبريل، وحين يمضي ليالي رمضان في قراءة القرآن وسماعه تتغير أحواله، فيزداد إيماناً، ويزداد عملاً، وكان أجود ما يكون حين يدارسه جبريل القرآن، ( فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة )، فالريح المرسلة لا تفرق بين عال ومنخفض، بين وطن وآخر، فخيرها يعم الناس جميعاً، ويصل الأقطار كلها.

    إنها ثمرة قراءة القرآن، ومدارسة القرآن، كيف لا ينفق الإنسان ويجود؟! كيف لا يذكر الرحمن ويحسن الذكر بعد أن يقرأ الآيات التي تحضه على ذلك؟! في النفقة يخبرنا سبحانه وتعالى عن آثار الإحسان، وآثار النفقة في آية مختصرة فيقول تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245]، كيف تفعل هذه الآية بقلب المسلم حين يقرأها بتدبر، ويتفهم ما فيها من معانٍ، ويتدبر ما فيها من الوعد: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [البقرة:245]، سمى الصدقة والإحسان قرضاً، وهذا يدل على أن عين مالك سيرجع إليك؛ لأن هذا شأن القرض، ففي القرض يرجع إليك المقترض ما أخذ منك بنفسه، وهكذا سمى الله النفقة وسمى الصدقة قرضاً، ليقوي في النفس اليقين برجوع الثواب.

    وإذا علم الإنسان أن المقترض غني وأن المقترض مليء وأن المقترض قادر على السداد في أي لحظة، فإنه لن يتردد عن القرض إذا كان يرجو من ورائه النفع، فالمقترض هو الله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا[البقرة:245]، ثم إذا رأى الثواب، وكيف سيرجع إليه هذا القرض المؤكد: فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ[البقرة:245]، إنه يرجع، ولكنه يرجع مضاعفاً، فكيف سيبخل المؤمن ببذل بعض ماله وهو يسمع كل هذا الوعد، ويسمع كل هذا الثناء على المتصدق، وما وعده الله عز وجل به، لا غرابة أن يكون الإنسان أجود بالخير من الريح حين يتدارس القرآن: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا[البقرة:245]، سماه الله حسنا،ً والحسن يرجع إلى أمور ثلاثة كما يقول العلماء: يرجع إلى المال نفسه فيكون مما طاب من ماله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267]، ويرجع أيضاً إلى العلاقة بينه وبين الله عز وجل، فينفق ابتغاء مرضات الله: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ[البقرة:265]، ويرجع الحسن أيضا إلى العلاقة بين المنفق والمنفق عليه، فلا يتبع ما أنفق مناً ولا أذىً، فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة أنفق الإنسان من طيب ماله مريداً وجه الله، ولم يتبع ذلك مناً ولا أذىً فليبشر بالتجارة التي لا تبور: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ[البقرة:245]، وتأتي الصدقة أيها الإخوة! ثالثة الصيام والقرآن بالتخفيف عن العبد يوم القيامة، فكما يشفع له الصيام، ويشفع له القرآن، تأتي صدقته مظللة له يوم الدين، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة )، فنحن بحاجة أيها الأحباب! أن نقبل على مائدة القرآن؛ لننهل منها ما يزيدنا عملاً وإيماناً، لنقرأ ما فيه من حث على أبواب الخير، وحينها سينفتح أمام الإنسان باب السعادة، وستنفتح أمامه أبواب القبول حينما يقرأ القرآن بإمعان، ويعمل بما فيه، إنها فرصة لسماع آيات الله تتلى عليك.

    1.   

    الحجب التي تمنع الإنسان من الانتفاع بالقرآن

    هناك حجب تحجب الإنسان عن الانتفاع بالقرآن ينبغي أن يكون العاقل حريصاً على الابتعاد عنها، أو على الأقل التقليل منها، وهي تحول بين القلب وبين الاهتداء بهذا الهدي العظيم.

    الإكثار من الشهوات

    أول هذه الحجب والموانع: اتباع الشهوات، والإكثار منها، فيطلق العنان لعينه ترى ما تحب، ولأذنه تسمع ما تشتهي، ولبطنه تأكل ما تريد، فإذا غرق في شهواته أقام الله عز وجل تلك الشهوات حجاباً بينه وبين الانتفاع بكتابه.

    وقد وصف الله الأنبياء في سورة مريم فقال: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58]، يخرون ساجدين يبكون، ووصف بعد ذلك قوماً آخرين بخلاف هديهم فقال: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ[مريم:59-60]، إنهم باتباعهم الشهوات أقاموا الحجب بينهم وبين آيات الله، فإذا تتلى عليهم لم يبكوا، إذا تليت عليهم لم يخروا سجداً لإغراقهم، ولإسرافهم في شهواتهم، فقلل من الشهوات، ولهذا كان من حكمة الله البالغة: انتفاع الإنسان بالقرآن في شهر الصيام؛ لأنه شهر التقليل من الطعام والشراب، فلا غرابة أن يصادف القرآن قلباً خالياً، وروحاً مستنيرة، فيفعل فيها ما يفعل.

    الكبر

    ومن الحجب التي تحول بين الإنسان وبين الانتفاع بالقرآن: الكبر والعياذ بالله، الكبر: بطر الحق، رد الحق، عدم الاستسلام والخضوع للحق، أنت تسمع آيات الله تتلى عليك في شأن الربا والمرابين، وتسمع آيات الله تتلى عليك في شأن السارقين والمجرمين وتسمع آيات الله تتلى عليك في شأن قاطعي الصلاة وتاركيها، تسمع آيات الله تتلى عليك في شأن مانعي الزكاة، كلها نصائح، كلها توجيهات، كلها إرشادات، فإذا قادك الكبر إلى الإعراض عن قبول الحق، إذا كنت متكبراً لا تذعن، مترفعاً لا تطأطئ رأسك، فإنك لن تنتفع بكتاب الله، قال الله جل شأنه: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ[الأعراف:146]، إن أهل الكبر مصروفون عن الانتفاع بكتاب الله، إذا تلي عليهم لا يزيدهم إيماناً، ولا يصنع فيهم خشوعاً، ولا يقوم لهم معوجاً؛ لأنهم ألفوا رد الحق إذا تلي عليهم، فأزل عن نفسك هذه الخصلة، وأرع القرآن سمعك؛ لتهتدي بما فيه من توجيهات، قال ابن مسعود : إذا سمعت: يا أيها الذين آمنوا! فأرعها سمعك، فإنما هو أمر تؤمر به، أو نهي تنهى عنه.

    الموفق أيها الأحباب! من تحقق فيه وصف الله عز وجل لأولي الألباب: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:18].

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.

    1.   

    الوقف وآثاره على الفرد والمجتمع

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! طلب منا في هذه الجمعة أن نذكر المسلمين بسنة الوقف، وآثارها على المسلم والمسلمين معه، الوقف: نوع من أنواع الصدقة، وهو لون من أشرف ألوانها، فهو الصدقة الباقية، الصدقة الجارية، قال عليه الصلاة والسلام: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث )، ومنها: ( صدقة جارية )، يجري ثوابها بعد موت الإنسان، إنها الوقف: أن يحبس الإنسان شيئاً ويسبل ثمرته، أي: يتصدق بثمرته.

    والوقف ليس حصراً على المساجد كما ترسخ في أذهان الناس، وليس حصراً على طباعة المصحف، ونحو ذلك من القربات التي ألفها الناس، لقد سد الوقف حاجات المحتاجين في المجتمع المسلم على اختلاف ألوانها، وسبق وأن خطبت خطبةً خاصة بالوقف وأنواعه، وثماره في المجتمع المسلم، لقد كان الوقف يغطي حاجات الشباب الذين يحتاجون إلى الزواج، فكان يعرف في أوقاف المسلمين وقف خاص على المتزوجين، من يريد الزواج يجد في مال الوقف ما يكفيه، ومن يريد النفقة على الفقراء والمساكين يجد في مال الوقف ما يكفيه، لقد كان مال الوقف يوقف ليفرض فيه حظ وقسم للمريض، وحظ وقسم لمن يريد الخبز، فكانت هناك مطاعم خيرية، وإلى زمن قريب، حتى الدولة العثمانية كانت هناك أوقاف خاصة بالخبز، فمن يحتاج إلى الخبز يجد لقمة الخبز من مال الوقف.

    كان الوقف عاملاً مهماً في إثراء المجتمع، وفي المحافظة عليه، فيصون العذراء في خدرها، ويطعم الجائع، ويكسو المحتاج، ويداوي المريض، ويعين المتعفف، هذا دور الوقف، فلا غرابة أن يكون أشرف الصدقات صدقة جارية، ولهذا قرر فقهاء الإسلام أن شروط الواقفين كنصوص الشارع، يجب أن يتعامل مع شروط الواقف كما يتعامل مع آيات الله، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: يتقيد بشروط الواقف، فإذا أوقف الواقف مالاً لغرض معين وجب على ناظر الوقف والقائم عليه أن ينفق ذلك فيما شرطه الواقف، وهذا ترغيب للناس وحث لهم في أن تنفق أموالهم في الباب الذي يحبون في الصدقة الجارية، فجدير بمن كان يستطيع الوقف أن يوقف، لا سيما في هذه الأزمان التي فتحت فيها مشاريع الوقف السهمية التي يستطيع الإنسان أن يوقف فيها جزءاً يسيراً من ماله تبقى له ثمرته بعد موته.

    وأسهم الوقف لها دور في مشاريع متعددة، داخل البلاد وخارجها، أسهم وقفية قليلة تكلفتها كبير أجرها، ولله الحمد والمنة فلا يزال في بلاد المسلمين أو في كثير منها على الأقل، ومنها هذه البلاد، من يقوم على الوقف وإصلاحه، وتثميره، كإدارة الوقف في هذه البلاد، فجدير بالإنسان المسلم أن يحرص على المسابقة في الخيرات، وأن يفعل لنفسه قبل أن يفوت الوقف، وكن على ثقة أيها الحبيب! أنك إذا أنفقت قليلاً أو كثيراً إنما تقدم لنفسك، هكذا سمى الله الصدقة: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ[البقرة:110]، فحينما تبذل إنما تبذل لنفسك، لا لغيرك، ( سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة عن شاة ذبحوها، وأمرها أن تتصدق ببعضها، فقالت: ذهب كلها إلا كتفها، يعني: بقي لنا الكتف، فقال عليه الصلاة والسلام: بقي كلها إلا كتفها )، ( يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت )، أو (فأبقيت) المال الباقي لك هو ما تقدمه لنفسك.

    رأى بعض الصالحين أحد أصحابه وفي يده دراهم ودنانير، فقال: لمن هذا المال؟ قال: هذا لي، فقال:

    أنت للمال إذا أمسكته فإذا أنفقته فالمال لك

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يأخذ بأيدينا إلى كل خير، وأن يعيننا في هذا الشهر الكريم على ما يقربنا إليه، يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] .

    اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا ودود يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعالاً لما تريد! اللهم يا ذا الجلال والإكرام! يا ذا الفضل والعطاء! يا ذا المن! يا أوسع من أعطى! ويا أجود من سئل! نسألك اللهم بأسمائك كلها يا أرحم الراحمين! اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وإليك حاكمنا، وفيك خاصمنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.

    اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم خذ بنواصينا وقلوبنا إلى كل خير، اللهم خذ بقلوبنا ونواصينا إلى كل خير، اللهم استعملنا فيما يرضيك عنا، يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين! اشغل قلوبنا بحبك، وألسنتنا بذكرك، وجوارحنا بطاعتك، اللهم سهل لنا كل خير، واعصمنا من كل شر وضير يا أرحم الراحمين! اللهم يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين! اجعلنا من عتقائك من النار في هذا الشهر الكريم، اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الريا، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحدٍ فيها شيئاً، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا كما ربونا صغاراً، اللهم جازهم بالإحسان إحساناً، وبالإساءة عفواً وغفراناً، اللهم اغفر لجميع المؤمنين برحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه، اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام، يا قوي يا شديد، انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم انصر المسلمين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم اجعل لهم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاءٍ عافية، اللهم يا سامع النجوى! ويا منتهى الشكوى، يا ودود يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعالاً لما تريد! نسألك بعزك الذي لا يرام، وبملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تفرج عن المسلمين ما هم فيه يا رب العالمين، اللهم فرج عن المسلمين ما هم فيه يا رب العالمين، اللهم اجمع كلمتهم على الهدى، وقلوبهم على التقى، وعزائمهم على خير الأعمال يا رب العالمين، اللهم اصرف عنهم كيد الكائدين، ومكر الماكرين، اللهم اصرف عنهم برحمتك يا أرحم الراحمين! تول أمرنا، وأصلح شأننا، وأصلح ذات بيننا يا أرحم الراحمين.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد في الأولين، وصل وسلم وبارك على نبينا محمدٍ في الآخرين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756537147