إسلام ويب

دروس السعادة في حديث (احفظ الله يحفظك)للشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أوصى رسول الله ابن عباس بوصايا جامعة، ووهبه كلمات نافعة، يتعلم المسلم منها ألا يقصد بحاجاته إلا الله؛ فإنه هو الذي بيده كل شيء، فمن تركه واتجه إلى سواه فسيجد الخسارة والخذلان.

    1.   

    حرص الشريعة على تعلق القلوب بالله وحده

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! لا نزال مع وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، الحديث العظيم الذي قال فيه الإمام أبو الفرج ابن الجوزي : تأملت هذا الحديث فأدهشني، فوا أسفاه على الجهل بهذا الحديث.

    هذه الوصايا العظيمة التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الغلام الناشئ لتكون وصايا للأمة من بعده.

    نتحدث اليوم عن جملتين في هذا الحديث، هما ركنان من أركان السعادة، السعادة العاجلة والآجلة، قال فيها عليه الصلاة والسلام: ( إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف ).

    الوصية الأولى: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) تعليق القلب بالله، أن يتعود المؤمن إنزال حوائجه بالله، أن يكون الملاذ الأول، المفزع الأول الذي يفزع إليه الإنسان عند حاجته هو الله، الذي بيده الضر والنفع، المعطي المانع، (لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر:2]، هذا هو الذي يستحق أن يفزع إليه أولاً، ويرجع إليه أولاً عند نزول الحاجة بهذا الإنسان.

    (إذا سألت فاسأل الله) علق قلبك بالله، فإنه سبحانه وتعالى وحده القادر على أن يكشف ما نزل بك من ضر، والقادر على أن يسوق إليك الخير: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ[يونس:107]، هو وحده سبحانه صاحب العطاء الذي ليس له حدود، قال: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ[النساء:32]، توجه إلى صاحب الفضل، إلى من يده سحاء الليل والنهار، لا تغيظها نفقة، لا ينقصها عطاء، يعطي بلا حدود، ويرزق من يشاء بغير حساب.

    1.   

    أسباب حرص النبي على تربية المسلم على التوجه والافتقار إلى الله

    (إذا سألت فاسأل الله) يا ترى! لماذا هذه الوصية؟ ولماذا يحرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية الإنسان المسلم على هذا المعنى الجليل، التوجه إلى الله لا إلى غيره، والدعاء لله لا إلى غيره، والافتقار لله لا إلى غيره، لماذا؟ لجملة أسباب:

    قضاء الحاجات حين سؤال المولى عز وجل

    أول هذه الأسباب وأهمها يا صاحب الحاجة! أن حاجتك مقضية حين تردها إلى الله، حاجتك مقضية حين تطلبها من الله، وإذا توجهت إلى غيره وكلك الله إلى ذلك الغير، وهذا الغير شحيح بخيل بطبيعته وبجبلته كما قال الله عن بني آدم: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ[النساء:128]، النفوس البشرية جبلها الله على الشح، جبلها الله على البخل، فهو حاضر معها لا يفارقها: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ[النساء:128]، والله وحده هو الذي يتجود سبحانه وتعالى، ويتكرم بالعطاء مع محبته لذلك العطاء.

    في مستدرك الإمام الحاكم وصحح إسناده، ووافقه على تصحيحه الإمام الذهبي رحمه الله: عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: ( جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! إن بني فلان أغاروا علي، فذهبوا بابني وإبلي )، أخذوا ولدي وأخذوا مالي، وجاء فقيراً ضعيفاً، يلتمس عطاءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله لو رفع يده إلى السماء وسأل الله لهذا الرجل جبالاً من ذهب لأعطاه الله، ولكنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يزرع فيه إلى من يتوجه الإنسان عند الحاجة، قال: ( ذهبوا بابني وإبلي، فقال له عليه الصلاة والسلام: إن آل محمد كذا وكذا أبيات )، في بعض الروايات: ( تسع أبيات -بيوت محمد تسع أبيات أمامك- ما فيهم صاع من طعام، ولا مدٌ من طعام )، بيوت محمد تسع، لو دخلت هذه البيوت ما وجدت في الواحد منها ملء كفيك من الطعام، اسأل الله تعالى، توجه إلى الله واسأله، محمد ليس في بيته ملء الكفين من الطعام، اسأل الله، توجه إلى الله، فرجع الرجل بهذه الوصية، فلما رجع قالت له زوجته: ( ما رد عليك رسول الله؟ قال: قال لي: اسأل الله تعالى، قالت: نعم ما رد عليك رسول الله ) نعم الجواب، ونعم الرد، توجه إلى الله، نعم ما رد عليك رسول الله.

    قال ابن مسعود: (فما لبث الرجل أن رد عليه ماله وولده أوفر مما كانوا)، يعني: بهيئة أحسن مما كانوا عليه لما أخذت هذه الأموال، رجع الرجل إلى رسول الله في اليوم التالي، وأخبره بالخبر، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، قال ابن مسعود : ( فحمد الله وأثنى عليه، وأمرهم بسؤال الله تعالى وحده، ثم تلا عليهم قول الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3] ).

    هذه أول المعاني الجليلة التي من أجلها علمنا رسول الله هذه الوصية: ( إذا سألت فاسأل الله )، فإنك إذا رجعت إلى الله بقلب صادق الاعتماد، صحيح التوكل، عظيم الرجاء، فإن الله لا بد وأن يسوق إليك خيراً عاجلاً أو آجلاً.

    وعلى كل حال أنت إذا توجهت إلى خلق الله فحاجتك قد لا تقضى مع ما ينزل بك من أنواع الذنب، وتنزل بك من أنواع الخسة، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي صححه الألباني في صحيح الجامع، واستمع لهذا الحديث بقلبك قبل أذنك يقول: ( من نزلت به فاقة فأنزلها في الناس لم تسد فاقته )، (من نزلت به فاقة) يعني: حاجة، (فأنزلها في الناس) انصرف قلبه أولاً إلى الناس، يسألهم ويرجو رجاءهم، ويرجو عطاءهم، ( من نزلت به فاقة فأنزلها في الناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها في الله أوشك الله له )، يعني: أسرع الله له: ( أوشك الله له بغنائم عاجل أو آجل )، لا بد وأن يأتيك ما قدره الله لك، إما عاجلاً وإما آجلاً، أنزل حاجتك بالله، إذا سألت فاسأل الله.

    أول المعاني أن هذا المعنى سبب أكيد لقضاء الحاجات، وتحصيل المآرب التي يرجو الإنسان تحصيلها، فعليه إن كان عاقلاً أن يسألها ممن هي في يده.

    محبة الله السؤال من عباده

    ثم هناك معنى آخر، وهو: أن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يحب أن يسأل، الله عز وجل وحده هو الذي يحب أن يدعى، الله عز وجل وحده هو الذي يحب من العباد أن يسألوه من فضله، وأن يسألوه مما في يده، أما الناس فهم على خلاف هذا، الناس أياً كانوا، أقرب الناس إليك، وأبعد الناس منك، إذا سألتهم مرة فلإكرامك يكرموك، لكن لو سألتهم ثانية وثالثة ملوك، كما قال الشاعر إذا سئل الناس:

    ولو سئل الناس التراب لأوشكوا إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا

    لو سألته التراب في المرة الأولى يعطيك، لو كررت له السؤال مرة ثانية للتراب ظن في نفسه أن التراب ذو قيمة، أن التراب ذو أهمية، ولولا هذه الأهمية ما طلبته منه:

    لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب

    الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب

    هذا هو الفارق الكبير بين الخالق والمخلوق، الله يفرح ويحب أن تسأله، وابن آدم يغضب ويتضاجر حين تسأله، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ( من لم يسأل الله يغضب عليه )، السؤال في حد ذاته من أهم المطالب التي يطلبها الله عز وجل من العبد: ( من لم يسأل الله يغضب عليه )؛ لأنه سبحانه وتعالى يحب أن يسأل، ولذلك يتعرض لك بالغنى، يظهر لك غناه في كتابه، وفي كونه، يظهر لك غناه في نفسك وفي من حولك، يخبرك عن نفسه بأنه الغني الحميد، يخبرك عن نفسه بأنه الواسع، يخبرك عن نفسه بأنه ذو الفضل العظيم، يخبرك عن نفسه بأنه يعطي بلا حساب، يخبرك عن نفسه بأنه يرزق من يشاء، يخبرك عن نفسه بكتابه، عن أوصافه سبحانه وتعالى، حتى تتقوى فيك الإرادة، ويعظم فيك الطلب والرجاء، فتتوجه إليه سبحانه وتعالى وحده، ولذلك قال طاوس وهو يتكلم مع شخص يسأل غير الله، قال: كيف تترك من دعاك إلى سؤاله، وتعرض لك بغناه، وفتح لك بابه نصف الليل ونصف النهار. هذا الله، تعرض لك بالغنى وعرفك بغناه، وطلب منك أن تسأل، وفتح لك الباب في الليل، وفتح لك الباب في النهار، تترك هذا لتسأل من يغلق دونك بابه، ويخفي عنك غناه، إذا كان غنياً كان أحرص ما يكون على ألا يظهر هذا الغنى للناس، حتى لا يطمعوا فيه، وحتى لا يلحوا عليه في المسائل والطلب، كيف تترك من تعرض لك بالغنى، وتعرف لك بأنه الغني الحميد لتسأل من هو أحرص ما يكون على أن يخفي غناه عن الناس، ثم بعد ذلك أغلق دونك الأبواب.

    هذا من أهم المعاني التي من أجلها ربانا الله على سؤاله سبحانه وتعالى وحده.

    حصول الذل والافتقار لله بالسؤال

    ومن هذه المعاني الجليلة: أن السؤال ذل وافتقار، السؤال ذل وانكسار، والذل لا يليق إلا أن يكون لله عز وجل وحده، انكسار المسلم لا ينبغي أن يكون إلا لله عز وجل وحده، فإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، إذا سألت فاسأل الله، وسؤال غير الله عز وجل أنواع، أما سؤاله سبحانه وتعالى فهو مطلوب، ممدوح صاحبه، مأجور فاعله، أياً كانت هذه المسألة، صغيرة كانت أو كبيرة، كما قال عليه الصلاة والسلام في سنن الترمذي يقول: ( ليسأل أحدكم ربه الملح )، ملح الطعام، ( وليسأله شسع نعله إذا انقطع )، سير النعل إذا انقطع عليك فينبغي أن يكون قلبك متعلقاً بالله، فتتوجه إلى الله قبل أحد من خلقه، لا تركن على ما في خزينتك من الأموال، لا تركن على ما في رصيدك من الأموال لقضاء حاجاتك، فإن الله عز وجل قادر على أن يعسر عليك اليسير، توجه إلى الله، واسأله أن يعينك على قضاء هذه الحاجة، مهما صغرت، وإن كانت ملح الطعام بريال واحد، وإن كانت شسع النعل، ( ليسأل أحدكم ربه حتى يسأله ملح الطعام، وشسع نعله إذا انقطع )، فسؤال الله مأجور صاحبه، مأجور فاعله، كبرت هذه المسألة أو صغرت، مما يقدر عليه الناس أو مما لا يقدر عليه الناس.

    1.   

    سؤال المخلوق

    أما سؤال المخلوق ففيه كلام كثير.

    سؤال المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله

    سؤال المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الله شرك مخرج للإنسان من ملة الإسلام، موقع له في النيران، مخلد له في العذاب المهين، من سأل غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله، كما نرى في الفضائيات من يستغيثون بـالحسين، من يستغيثون بـعلي، من يستغيثون بالأولياء، في مشرق الأرض أو في مغربها، يسألونهم المغفرة، يسألونهم العافية، يسألونهم الأرزاق، يسألونهم الشفاء للمريض، تسأله المرأة أن يرزقها الولد، وكل هذا إشراك بالله؛ لأنه طلب من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله، والله جل شأنه يقول لنبيه، وهو أكرم الخلق عليه يقول له: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:106]، إذا فعلت فسألت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، فقد عددت من الظالمين، والظالمون هنا المشركون، كما قال الله في سورة لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، فسؤال غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله كفر مخرج للإنسان من عداد المسلمين، موقع له في عداد الظالمين، وبه يصبح مخلداً في أصحاب الجحيم.

    سؤال المخلوق للمخلوق ما يقدر عليه

    إذا سأل غير الله ما يقدر عليه، سأل ابن آدم ما يقدر عليه، يا ترى! هل هذا السؤال في محله أو في غير محله؟ أما إذا كنت تسأله مالاً فالأصل في سؤال بني آدم الأموال الحرمة، لا يجوز للإنسان أن يسأل بني آدم مالاً إلا إذا نزلت به حاجة تدعوه إلى سؤالهم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة )، وعد ثلاثة نفر: ( من نزلت به فاقة )، إلى آخر الحديث، فالأصل أنه لا يجوز للإنسان أن يسأل الناس مالاً إلا إذا احتاج إليه، إذا سألتهم غير المال، إذا سألتهم الإعانة على الحاجات، أن يعينوك على حاجة، إذا سألتهم أن يتوسلوا، وأن يتشفعوا لك في قضاء حاجة، فهذا وإن كان جائزاً يجوز لك أن تستعين بالمخلوق فيما يقدر عليه، لكن الشرع ينبهك إلى حقيقة مهمة، بها تحفظ قلبك من الذل للمخلوقين، بها تحفظ عزة نفسك من الانكسار والإذلال، بها تحفظ شرف نفسك، وهي أن تعتقد جازماً قبل أن تسأل هذا المخلوق بأن الأمر كله بيد الله، إذا شاء ساق إليك ما كتبه، وإذا شاء منعك، وأن الناس لا يقدرون على أن يعطوك شيئاً منعك الله إياه، كما لا يقدرون على أن يحرموك شيئاً كتبه الله عز وجل لك.

    هذه الحقيقة لا بد من استحضارها عند الاستعانة بالمخلوق، أن يتذكر القلب أن الأمر كله بيد الله، وأن هذا المخلوق ليس إلا وسيلة، ليس إلا سبباً قد يجعله الله عز وجل سبباً لقضاء الحاجة، وقد يعطله عن أن يكون سبباً.

    وكم نرى في حياتنا من تعطيل الأسباب. كم نرى في حياتنا ممن يتعاطى السبب، ويأخذ به، ويحرص عليه، ثم بعد ذلك لا يحصل النتيجة، ولا تساق إليه الثمرة. كم من مريض يذهب إلى الطبيب، بل ويضرب في أقطار الأرض بحثاً عن الشفاء، أخذ بالسبب المباح، ومع ذلك لا يشفى؛ لأن الأمر ليس موكولاً إلى الأسباب، الله عز وجل هو المتصرف وحده، إذا شاء أعطى، وإذا شاء منع، تعبدك بالأخذ بالأسباب لتعتقد بأنها أسباب فقط، ولا تتجاوز به حدها.

    طلب الدعاء من الناس

    من سؤال الناس: أن تسأل الناس الدعاء، تسأل الناس أن يدعوا لك، تسأل الناس أن يطلبوا لك عند الله تعالى، وهذا سائغ جائز، جائز أن تقول للإنسان الذي تظن فيه ديناً وصلاحاً: ادع الله تعالى لي، لكن ينبغي لك أن تتفطن لمسألة مهمة، وهي: أنك لا تسال هذا الإنسان إلا بنية أن يثاب هو على هذا العمل الصالح، وأن تحقق لك أنت الحاجة، فتكون نافعاً له ونافعاً لنفسك، لا ينبغي لك أن تعتمد على هؤلاء الناس، وأن تظن بأن دعوتهم هي التي تجلب إليك الخير، وتصرف عنك السوء.

    وأوضح مثال في حياتنا العملية ينبهنا إلى الاختلال في هذا المفهوم: ما نراه من تزاحم الناس على أبواب الرقاة، الذين يقرءون على الناس القرآن، ويدعون لهم بالشفاء، يتزاحم الناس على أبوابهم، وما كان هذا فعل المسلمين من قبل، ما كان هذا هو حال المؤمنين لما صح اعتمادهم وتوكلهم على الله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي[البقرة:186]، الله عز وجل قريب من كل أحد، بل هو سبحانه وتعالى قريب للمضطر أكثر من قربه لغيره، كما قال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ[النمل:62]، والإمام أحمد رحمه الله له مقولة حقها أن تكتب بماء الذهب، يقول: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.

    كانت عاداتهم في الجاهلية إذا مات الميت يستأجرون النساء ليبكين على هذا الميت، ويعطين الأجرة على هذا البكاء، ولك أن تقارن بين بكاء أهل المصيبة، بكاء أم الميت، بكاء زوجة الميت، بكاء بنت الميت، وبكاء هذه المستأجرة التي تبكي لتعطى أجراً على البكاء، ليست النائحة الثكلى، النائحة المصابة تبكي بوجد، تبكي بحزن، دموعها تنم عن صدق في بكائها، وهذه من أجل الأجرة، ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، ليس صاحب الحاجة كغيره، فصاحب الحاجة شديد الرجاء، عظيم التوكل، شديد الافتقار إلى الله، من أجل هذه الأحوال، من أجل هذه الصفات، يستجيب الله عز وجل له ويعطيه، وإن كان فاسقاً، بل يعطيه وإن كان كافراً، هكذا أخبرنا الله في كتابه: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ [العنكبوت:65] استجاب لهم ونجاهم إلى البر، وأوصلهم إلى شاطئ السلامة؛ لأنهم دعوه باضطرار، دعوه بحاجة، أنت صاحب الحاجة أولى الناس بأن يستجيب الله عز وجل دعاءك إذا توجهت إليه، فما لك وللافتقار للناس، ما لك وللذل لخلق الله، ما لك وللتزاحم على أبواب خلق الله.

    طلب الرقية من الغير

    لقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم طلب الرقية من الغير سبباً منقصاً لتمام التوكل، ينزل الإنسان عندما يطلب الرقية من غيره، ينزل عن المقام الأعلى إلى مقام دون، ينزل من مقام رفيع إلى مقام أسفل، هكذا قال عليه الصلاة والسلام في الصحيحين وهو يتكلم عن خيار الناس في هذه الأمة، يقول: ( وفيهم سبعون ألفاً )، وفيهم: يعني: في أمته، ( سبعون ألفاً يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب )، من غير سابقة حساب، لا يحاسبون ولا يعذبون، يخرجون من قبورهم، يركبون النجائب حتى توصلهم إلى الجنة من غير سابقة عسر ولا مشقة، لماذا؟ قال فيهم عليه الصلاة والسلام: ( لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون )، هذه صفاتهم، وكلها تدور حول التوكل على الله عز وجل وحده، صدق التوكل على الله، ولتمام توكلهم على الله لا يحتاج الواحد منهم أن يقول لآخر: ارقني، لا يحتاج أن يقول لآخر: اقرأ علي، لا يحتاج أن يقول لآخر: ادع لي بالشفاء؛ لأنه لصدق توكله، وتمام اعتماده، يعلم بأن الله سيجيبه كما يجيب هذا، وهذا حال النبي صلى الله عليه وسلم، ما طلب الرقية من أحد قط حتى جبريل، لما جاءه كما في الصحيحين والنبي عليه الصلاة والسلام مريض قال له: ( اشتكيت -يعني: مرضت؟- قال: نعم )، ولم يقل له: اقرأ علي، ارقني، اطلب لي الشفاء، ( اشتكيت؟ قال: نعم، قال: باسم الله أرقيك )، وبدأ جبريل يرقيه عليه الصلاة والسلام من غير طلب منه، لو رقاك شخص من غير أن تسأل أنت، ومن غير أن تذل، فهذا لا ينقصك عن المقام الأعلى، لكن ينبغي لك أن تعود نفسك صدق التوكل على الله، والاعتماد على الله.

    في صحيح مسلم: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه أنه يألم موضع من جسده)، جاء إلى رسول الله خير الخلق، سيد الثقلين، خير الناس وأحبهم إلى الله، جاء يشكو إليه وجعاً في جسده لعله يقرأ عليه، لعله يرقيه، لعله يدعو له، لكن أراد عليه الصلاة والسلام أن يعلمه ليعلم غيره من بعده، قال له عليه الصلاة والسلام: ( ضع يدك على الذي يألم من جسدك، وقل: باسم الله ثلاثاً، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر سبع مرات )، علمه كيف يرقي نفسه، وانصرف الرجل بهذا التعليم، انصرف الرجل وقد تعلم أنه يمكن أن يرقي نفسه بنفسه، يمكن أن يعتمد على الله ولا حاجة له إلى سؤال الناس: (لا يسترقون )، أي: لا يطلبون الرقية.

    هذا المعنى العظيم أيها الإخوة! من حققه حقق عز الدنيا وعز الآخرة، وتحققت له، ونال مآربه وحاجاته العاجلة والآجلة: ( إذا سألت فاسأل الله )، قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7-8]، إلى ربك وحده تكون الرغبة، ارغب إلى الله، وادع الله، واسأل الله، تنال حاجتك بإذن الله.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    الاستعانة بالله وتعليق القلب به وحده

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! تمام هذه الوصية: ( وإذا استعنت فاستعن بالله )، إذا طلبت العون على أمرٍ من الأمور فليكن أول من تستعينهم وتطلب عونهم: الله جل شأنه، وبهذا تتحقق لك هذه الحاجة التي تستعين بها، والله فرض علينا أن نستعين به كل يوم سبع عشرة مرة على الأقل، فرض علينا أن نستعين به، ونطلب منه وحده الإعانة كل يوم وليلة سبع عشرة مرة في الفاتحة، فنقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، بك وحدك نستعين، ولا نستعين بسواك، نعم يجوز لك أن تستعين بغير الله فيما يقدرون عليه، لكن عليك أن تربي قلبك أنهم لا يجلبون لك نفعاً، ولا يدفعون عنك ضراً، ولهذا كان من كنوز الجنة التي ينبغي لنا أن نداوم عليها، وأن نعود عليها ألسنتنا، ونربي عليها قلوبنا، من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا يستطيع الإنسان أن يتحول من حال إلى حال أخرى إلا بإرادة الله، ولا قوة للإنسان على أن يفعل شيئاً إلا بمدد من الله: (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة)، وبها تتحقق الحاجات.

    جاء في الأثر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن الله عز وجل لما خلق العرش وما أدراك ما العرش، فهو أعظم المخلوقات على الإطلاق، لما خلق العرش قال للملائكة: احملوه! قالوا: كيف نحمله وعليه عزك وجلالك، أو كما قالوا، فقال لهم: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، قلها بلسانك، وقلها بقلبك، أنه لا يقدر أحد أن يحولك من حال إلى حال إلا بإذن الله، قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: فقالوها، فحملوه.

    من أعظم الأسباب لتحصيل الحاجات أن تستعين بالله، وأن تصدق في هذه الاستعانة.

    هذه الوصية الجامعة لخير العاجل والآجل، من عمل بها، من وعاها، من فهمها، وحاول أن يتربى عليها فلا شك أنه سيعيش في السعادة، وسيدخلها من أوسع أبوابها، ويأتي إن شاء الله في خطبة قادمة الحديث عن القدر.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح لسماع الموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وكن لهم ولا تكن عليهم، اللهم عليك بأعداء الإسلام فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز! اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756481795