إسلام ويب

مقدمة في الفقه - وزر المخلوقات في المخالفات [2]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إذا فعل الجاهل فعلاً فيه مخالفة لحكم الله وشرعه فإنه يأثم ويوزر إذا كان معرضاً، ولم يبذل جهده في التعليم والمعرفة، وذلك مثل القاضي الجاهل إذا حكم بجهل، وكذلك من تعمد فعل المعصية والمخالفة من غير استحلال لها فإنه يأثم ولا يصل إلى حد الكفر مع عدم الاستحلال والجحود.

    1.   

    تابع الأحوال التي يأثم فيها صاحبها ولا يعذر إذا خرج من حكم الله وشرعه

    الجهل بحكم الله وشرعه الموجب للإثم والوزر

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:

    الحالة الثانية: التي يقع الإنسان فيها في المخالفة ويأثم ويوزر، لكنه لا يكفر بالله عز وجل، وهي: أن يكون على جهل فيما تكلم أو عمل به، لكن هذا الجهل مع تقصير في الطلب، تقدم معنا أن الجهل الذي يعذر صاحبه أنه ما أعرض ولا قصر، أما هنا فقد قصر في الطلب، فلم يُعِد العدة المطلوبة التي تؤهله لفهم شريعتنا الغالية المحبوبة، جاء بعد ذلك ويجتهد ويصدر الأحكام، وتكلم وجهل، فهذا مخطئ وعاصٍ لله عز وجل.

    ثبت في السنن الأربع إلا سنن النسائي، والحديث رواه الحاكم في المستدرك، وصححه وأقره عليه الذهبي ، والحديث في السنن الكبرى للإمام البيهقي، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، والإمام ابن أبي عاصم وسعيد بن منصور في سننه، والضياء في الأحاديث الجياد المختارة، ولفظ الحديث: عن سيدنا بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة ).

    وهذا -إخوتي الكرام- ليس من باب النسبة، يعني ثلث وثلثان، هذا من باب تعليق الحكم بالوصف، فقد يدخل واحد من مائة قاضٍ الجنة وتسعة وتسعون من القضاة في النار، وقد يدخل تسعون الجنة وعشرة في النار، هذا على حسب ما سيوجد من صفات، فمن كان صفته كذا فهو في النار، فليس المقصود أن القضاة سيجمعون ثلثهم في الجنة والثلثان في النار، قال: ( القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضى به ) هذا على هدى، عرف الحق وقضى به، فهو في الجنة: ( أما الذي في النار فرجل عرف الحق، فجار في الحكم، فهو في النار )، هذا أحد القاضيين: ( ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار ).

    إذاً: عرف الحق فجار فهو في النار، والآخر قضى على جهل فهو في النار، سواء أصاب أو أخطأ.

    القاضي الجاهل مؤاخذ موزور

    في رواية الحاكم زيادة انتبهوا لها، والحديث -كما قلت- صححه الحاكم ، وأقره الذهبي ، وقال: على شرط مسلم ، الزيادة هي: قال الصحابة الكرام لنبينا عليه الصلاة والسلام: ( يا رسول الله! فما ذنب هذا الذي يجهل؟ ) كأنهم يريدون أن يقولوا: إنه ما قصد المعصية، وتقدم معنا أن هذا الصنف الذي يوزر ويأثم قد يقصد المعصية وقد لا يقصدها، وفي الحالة الأولى والثانية ما قصد المعصية، لكن فعله لم يعذره الشارع فيه في هذه الحالة والتي قبلها؛ لأن الحالة التي قبلها ليست المسألة من محل التأويل، أو هو ليس من أهل التأويل، وهذه الحالة الثانية هو جاهل لا يتكلم بعلم، وفي هاتين الحالتين سواء قصد المعصية أو لم يقصدها هو آثم، فهنا قال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين: ( فما ذنب هذا الذي يجهل؟ فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: ذنبه ألا يكون قاضياً حتى يعلم )، يعني: من الذي رخص له أن يزاول هذه المهنة وهذه الرتبة وهو لا يعلم؟ ذنبه ألا يكون قاضياً حتى يعلم، ارتكب الذنب لأنه لا يحق له أن يكون قاضياً حتى يعلم، أن يكون على علم وبينة وبصيرة.

    والحديث -إخوتي الكرام- من رواية سيدنا بريدة ، ورُوي عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في معجم الطبراني الأوسط والكبير، بسند رجاله ثقات، كما في المجمع، في الجزء الرابع صفحة ثلاث وتسعين ومائة، وروى الإمام أبو يعلى نحوه، ولفظ رواية سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (القضاة ثلاثة: واحد ناج، واثنان في النار، قاضٍ قضى بالهوى فهو في النار، وقاض قضى بغير علم فهو في النار، وقاض قضى بالحق فهو ناج)، أي: في الجنة بفضل الله ورحمته.

    حكم القاضي إذا اجتهد فأخطأ وهو أهل للاجتهاد وأجره إذا أصاب

    إخوتي الكرام! من أعد العدة وكان أهلاً للاجتهاد، فهو معذور إن أخطأ، بل له أيضاً على اجتهاده أجر عند العزيز الغفور، فخطؤه مغفور، وله أجر على اجتهاده عند العزيز الغفور، هذا إذا أعد العدة، وهو من أهل الاجتهاد وتكلم، فكما قلت: هناك عذره الله عندما أخطأ، بقي له أجر على اجتهاده، أما إذا لم يكن من أهل الاجتهاد وتكلم فهو آثم في الحالتين، وعليه وزر الضال المضل عندما يخطئ في اجتهاده إذا لم يكن أهلاً للاجتهاد.

    ثبت في مسند الإمام أحمد ، والكتب الستة إلا سنن الترمذي ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، والخطيب في تاريخ بغداد، والبيهقي في السنن الكبرى، عن سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، وأهل الكتب الستة أيضاً، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في السنن الكبرى، والحاكم في المستدرك، عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، ورواه الإمام الدارقطني في السنن أيضاً، عن أبي هريرة وعن عمرو بن العاص ، والحديث في أعلى درجات الصحة، فهو في الروايتين مخرج في الصحيحين، من وراية عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، عن نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال: ( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ).

    وهذا -كما قلت- هو إذا كان من أهل الاجتهاد، وهذا أقل ما يحصل له إذا حكم فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر.

    وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أنه يحصل له أكثر من ذلك ولا منافاة بين ذكر القليل والكثير، فالقليل يدخل في الكثير، ورحمة الله واسعة، أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن القاضي إذا قضى واجتهد فأصاب فله عشرة أجور، في رواية: ( له عشر حسنات، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر )، وفي رواية: ( فله حسنة )، وفي رواية: ( فله أجر أو أجران ).

    والروايات في بعضها ضعف، لكن هناك رواية صححها الإمام الهيثمي في المجمع، وفيها راوٍ ضعيف كأنه غفل عنه رضي الله عنه وأرضاه، وقال: رجاله رجال الصحيح، فاستمعوا للرواية التي نص على تصحيحها الإمام الهيثمي في المجمع، من رواية سيدنا عقبة بن عامر رضي الله عنه وأرضاه، روايته في المسند، في الجزء الرابع صفحة خمس ومائتين، وقد تعبت جداً، لذلك حددت لكم المسند في الجزء الرابع صفحة خمس ومائتين، لأنني استقرأت مسند عقبة بن عامر من أوله لآخره فما وجدت الحديث فيه، وعُزي في كتب أئمتنا إلى المسند، فالإمام ابن حجر في التلخيص يقول: رواه الإمام أحمد في المسند، وهكذا غيره ممن عزى هذا الحديث يقول: هو في المسند من رواية عقبة بن عامر ، وفي المجمع في كتاب الأحكام باب اجتهاد الحاكم، قال رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر بسند رجاله رجال الصحيح، فاستقرأت مسند عقبة من أوله لآخره، وهو في المجلد الرابع أيضاً غالب ظني يبدأ من صفحة ثلاث وأربعين ومائة، غالب ظني ما أستحضرها، مع أنني حديث عهد باستقرائه، فما وجدت, أعطيت لأهلي بعد ذلك الكتاب قلت: استقرئي مسند عقبة وبعد ذلك ألهمني الله لعل الإمام أحمد أورده ضمن حديث عمرو بن العاص، فقبل أن تنهي الأهل، قلت: أعطيني المسند الذي معك، ونظرت إلى مسند عمرو بن العاص في مظان الحديث الذي أخرجه حسبما أشار المعجم المفهرِس إلى أماكن الحديث، في صفحة خمس ومائتين في مسند عمرو بن العاص، فقد أورد الحديث بعد حديث عمرو بن العاص أورد حديث عقبة بن عامر ، ولا أدري لماذا، مع أنه من مسند عقبة ، والأصل أن يورده هناك، وعلى كل حال هذا الذي في المسند هو من مسند عقبة، وأورده ضمن مسند عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين.

    قال الإمام الهيثمي في المجمع، في الجزء الرابع صفحة خمس وتسعين ومائة، في كتاب الأحكام باب اجتهاد الحاكم: رجاله رجال الصحيح، وفيه أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال لـعقبة : ( إن اجتهدت فأصبت فلك عشرة أجور )، وفي رواية الدارقطني : ( فلك عشر حسنات )، ( وإن اجتهدت وأخطأت فلك أجر وأحد )، قال الإمام الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح.

    أقول: إن الحديث في سنن الدارقطني، في الجزء الرابع صفحة ثلاث ومائتين، ورواه الحاكم أيضاً في المستدرك كما في التلخيص الحبير، في الجزء الرابع صفحة تسع وتسعين ومائة، وعزاه إلى الدارقطني أيضاً، وقال: إنه رواه الدارقطني والحاكم عن ثلاثة من الصحابة: عن عقبة وأبي هريرة وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم أجمعين، لكن انتبه: في إسناده فرج بن فضالة ، وفرج بن فضالة هو في إسناد عقبة في المسند، وفي إسناد الدارقطني ، وفي إسناد الحاكم أيضاً، ومن روى هذا الحديث فيه فرج بن فضالة، وهو ضعيف، حديثه مخرج في السنن الأربعة إلا سنن النسائي، وهو في إسناد المسند، والإمام الهيثمي يقول: رجاله رجال الصحيح!!

    فكيف رجاله رجال الصحيح ولم يخرج له في الصحيحين ولا في أحدهما!! وكما قلت: فيه أيضاً ضعف ونص على ضعفه الحافظ في التقريب، وهكذا في التلخيص الحبير، فلعل الإمام الهيثمي وَهِمَ والعلم عند الله جل وعلا, ويحتاج الأمر إلى بحث وتحقق من هذا الأمر، ففيه فرج بن فضالة ، توفي سنة سبع وسبعين ومائة، وحديثه كما قلت في السنن الأربعة إلا سنن النسائي .

    وانظروا التلخيص الحبير -كما قلت- صفحة تسع وتسعين ومائة، وقد حكم على الحديث بالضعف، والحديث في المستدرك في الجزء الرابع صفحة ثمان وثمانين.

    قال الإمام الذهبي في فرج بن فضالة : ضعفوه أيضاً، وفي حديث عمرو بن العاص، وحديث عقبة بن عامر : أنه ( جاء خصمان إلى نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه يختصمان في قضية، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـعمرو : اقضِ يا عمرو بينهما )، وفي قصة أخرى: قال: ( يا عقبة اقضِ بينهما، فقال عقبة : اقضي بينهما يا رسول الله وأنت موجود، أنت أحق بالقضاء أنت تقضي، فقال: اقضِ بينهما، قال: فما لي إن قضيت، قال: إن أصبت فلك عشرة أجور، لك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك أجر واحد )، لأنك من أهل القضاء والاجتهاد، والنبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يدربه، فإذا اجتهد وأخطأ يصحح له قضاءه بحضور النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا أصاب فقد حصل هذا الأجر العظيم، وهكذا في حديث عمرو رضي الله عنهم أجمعين.

    والحديث -كما قلت- فيه ضعف، لكن رُوي من طرق وله متابعات، لعله يرتقي بها إلى درجة الحسن، والعلم عند رب الأرض والسموات، انظروا التلخيص الحبير في كلامه على هذا الحديث، وقد ذكر له متابعة من طريق الإمام ابن نفيعة لـفرج بن فضالة ، وكما قلت لعل الحديث يرتقي بذلك والعلم عند الله جل وعلا.

    على كل حال: أقل ما يحصل أجر لمن اجتهد وأخطأ، وإذا اجتهد وأصاب وهو من أهل الاجتهاد فله أجران، أو عشرة أجور, هذا لمن هو من أهل الاجتهاد.

    قال الإمام ابن المنذر : إنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ إذا كان عالماً بالاجتهاد فاجتهد، فأما إذا لم يكن عالماً فلا، لأنه آثم، واستدل بحديث نبينا عليه الصلاة والسلام: ( القضاة ثلاثة )، وأن الذي في النار هو الذي قضى على جهل، فقالوا: ما ذنب الذي يجهل؟ قال: ذنبه ألا يكون قاضياً، لمَ تولى القضاء وليس أهلاً له؟

    تعمد المخالفة وإرادة المعصية دون استحلال لها يوجب الإثم والوزر

    الحالة الثالثة التي يأثم فيها الإنسان إذا خلف شرع الله الرحمن: أن يتعمد المخالفة ويريد المعصية، طلباً لحظ عاجل دون استحلال للباطل، فغلبته الشهوات ولم يستحل ما حرم رب الأرض والسموات، كما يقع الإنسان -نسأل الله العافية- في شرب الخمر, في زنا, في سماع الغناء، فإذا قيل له يقول: كل بني آدم خطَّاء، غلبتني نفسي، وأرجو رحمة ربي، لعل الله يتوب عليَّ، لعل الله يغفر لي، إذا لم تكن رحمة ومغفرته للعاصي لمن ستكون؟ ومن هذا الكلام، ولم يستحل ما حرم الله عز وجل، لكن تعمد المعصية، وفي الحالتين السابقتين ما تعمد المعصية، إما عن جهل وإما في غير محل التأويل، هو لا يريد المعصية لكنه عاص؛ لأن الشارع ما عذره، وهنا تعمد المعصية، فهو في هذه الأحوال الثلاثة عاص موزور، فهذا الذي يقع في المعصية وهو يعلم أنه عاص، لا شك أنه آثم عاصٍ لله عز وجل.

    وأمثلة هذا كثيرة: مثلاً الرشوة التي انتشرت في هذه الأيام، رشوة، فالقاضي يريد رشوة، الحاكم يريد رشوة، والموظف يريد رشوة، المسئول يريد رشوة، المبطل عندما يقدم بقضية باطلة يغري المسئول ليقضي له بالباطل ويعطيه رشوة، كل منهما يعلم أن هذا حرام، ومن استحل الرشوة فقد كفر، هذا لا شك فيه، وإذا لم يستحل فهو آثم عاص لله، استعجل الحياة الدنيا وأثرها على الآخرة الباقية.

    استمع إلى عقوبة الراشي والمرتشي، وكل منهما يعلم أنه عاص لله عز وجل:

    ثبت في مسند الإمام أحمد ، والحديث في السنن الأربعة إلا سنن النسائي ، ورواه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن الكبرى، والإمام أبو داود الطيالسي في مسنده، من رواية سيدنا عبد الله بن عمر ، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، والترمذي في السنن، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والخطيب في تاريخ بغداد من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، ولفظ الحديث: عن نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، والحديثان صحيحان، حديث عبد الله بن عمرو وحديث سيدنا أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: ( الراشي والمرتشي في النار )، كما تقدم معنا: ( من قضى على جهل فهو في النار )، وتقدم معنا: ( من قال في القرآن بغير علم، فليتبوأ مقعده من النار ).

    وهذا الحديث -إخوتي الكرام- رُوي عن عدة من الصحابة أيضاً، رُوي عن أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة ، وعن أمنا الطيبة المباركة أم سلمة ، وعن سيدنا عبد الرحمن بن عوف ، وعن سيدنا ثوبان رضي الله عنهم أجمعين.

    وفي حديث ثوبان زيادة، ولذلك أخرجه للزيادة التي فيه، وإسناده صحيح، رواه الإمام أحمد في المسند، وأبو يعلى في مسنده، والطبراني في معجمه الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، من رواية سيدنا ثوبان عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما في النار ) يعني: يتوسط بين المبطل وبين المسئول, وهذا مثل الربا، فقد لُعن أكله وكاتبه وشاهداه، فالآكل والموكل والكاتب والشاهدان ملعونون عندما توجد عملية الربا، كل من يشارك فيها، وهنا كذلك، (الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما في النار)، هذا كلام نبينا المختار، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

    بعض الأحكام المتعلقة بالرشوة

    إخوتي الكرام! من باب بيان حكم يتعلق بالرشوة، أما المسئول يحرم عليه أن يأخذ شيئاً مقابل قضائه أو تمشيته أمور المسلمين التي أنيطت برقبته، سواء أراد أن يحق حقاً أو أن يبطل باطلاً، أو أن يبطل حقاً أو أن يحق باطلاً، يحرم عليه أن يأخذ بجميع الأحوال؛ لأنه يتقاضى جُعلاً ومكافئة وأجرة وراتباً من بيت مال المسلمين، فلا يجوز أن يأخذ بحال من الأحوال، ولو قال: أنا سأقضي بالحق لكن أعطني، فلا يجوز، ولو قال: أنا سأبطل باطلاً فأعطني، لا يجوز, سيغير الحق إلى باطل لا يجوز أن يأخذ من باب أولى.

    أما الراشي فحقيقة كما قال أئمتنا: إذا دفع ليتوصل إلى حقه وليتخلص من ظلم الظالمين، دون أن يأخذ ما لا يحل له أن يأخذه، ودون أن يتخلص من حق وجب عليه، فهذا لا إثم عليه والإثم على الآخذ, أحياناً يُبتلى بعض الناس ببعض المسئولين الخبيثين، لا يجري لك مصلحتك التي ينبغي أن تحصلها، مصلحة شرعية وجاءت إليه، ما يجريها إلا بمقابل، ويتعبك، ويبهذلك, ويؤخرك، ولا ينجز عملك، أحياناً حتى إذا أردت أن تسجل مولوداً، فلا تظن أن المسألة يمكن أن تتركها، فسوف تذهب لتسجل مولوداً، ورغم أنفك، وإذا ما سجلته تدفع غرامة خلال فترة محددة، وإذا ما سجلت المولود تدفع الغرامة، وعندما تأتي لتسجل مرة السجل غير موجود، ومرة يحتاج إلى ختم، ومرة كذا، يتعبك، وما يسجل المولود، ثم أحياناً يصرح لك بما يريد، وإذا ذهبت لترفع أمره فقد يكون الذي فوقه أشد خيانة منه، هذا قد يقبل بشيء قليل أما ذاك فيحتاج إلى شيء كثير، ونسأل الله أن يلطف بنا.

    فالراشي الذي يدفع ليصل إلى حقه ليس عليه إثم، أما الآخذ فهو في جميع أحواله آثم، ومع ذلك لا يجوز للإنسان أن يدفع إلا إذا اضطُر وعلم أن مصلحته لا يمكن أن تُقضى، وسيتعطل، ولا يوجد من يجيب سؤاله لو ذهب واشتكى، فهنا يفوض أمره إلى الله ويدفع، وهذا كما لو اعترضه قاطع طريق وأعطاه مبلغاً من المال ليتخلص من ظلمه وعدوانه.

    حكم من فعل المعصية غير مستحل لها

    إخوتي الكرام! من تلبس بهذه الحالات فهو موزور، في هذه الأحوال الثلاثة: تأول فيما ليس من محل التأويل، أو قضى على جهل, أو قصد المعصية, ومن تلبس بهذه الأمور فيصح أن ننفي الإيمان عنه، مع أننا قلنا هو عاص وليس بكافر، لكن يصح أن ننفي الإيمان عنه، ويصح أن نصفه بالكفر، ويصح أن نلحقه بالجاهلية، فنقول: هذا على جاهلية، وهذه الأمور الثلاثة مستعملة في حديث نبينا خير البرية على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ولا يجوز أن تطلق عليه لقب الإيمان، وعنوان الإيمان، ووصف الإيمان إلا بقيد؛ لأن هذا اللقب لا يطلق إلا على الصورة الكاملة التي هي إيمان بلا معصية.

    فمن عصى الله فنقول: مؤمن فاسق، مؤمن عاصٍ، مؤمن ظالم، أما أن نقول: مؤمن مطلقاً، فهذا لا ينصرف إلا على من فعل الواجبات وترك المحرمات، أما هذا فإنه يخوض في الموبقات، فلا بد من أن نقيد إيمانه بما يشعر بنقصان الإيمان فيه؛ لأن هذا اللفظ إذا أُطلق ينصرف إلى الصورة الكاملة كما حقق ذلك أئمتنا قاطبة.

    انظروا مثلاً كلام شيخ الإسلام الإمام النووي في تقرير هذا، في شرحه لصحيح مسلم في أول كتاب الإيمان، قرر هذا الأمر عند أول حديث في كتاب الإيمان، وأن الإنسان إذا فعل معصية فلا يطلق عليه لفظ الإيمان إلا بقيد، ويجوز أن نصفه بالكفر على تأويلات ستأتينا، على تأويل أنه كفر دون كفر، أو كفر النعمة لا كفر المنعم، أو شابه الكفار، وما شابه هذا، كما سيذكر شيخ الإسلام النووي ، ويجوز أن ننفي الإيمان عنه؛ لأنه ما وجد فيه الإيمان الكامل، ويجوز أن نلحقه بالجاهلية.

    ثبت في المسند، والكتب الستة، وغير ذلك من دواوين السنة، عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، والحديث في المسند، وصحيح البخاري، وسنن النسائي، ورواه الإمام عبد الرزاق في مصنفه، والإمام البزار في مسنده، والطبراني في معجمه الكبير، والخطيب في تاريخ بغداد، عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، فهو من رواية صحابيين باللفظ الذي سأذكره عن سيدنا أبي هريرة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن )، فنفى عنهم اسم الإيمان لعدم وجود الصورة الكاملة للإيمان عندهم؛ لأنه وقع في شيء من الفسوق والغفلة.

    حديث آخر يصفه بالكفر إذا فعل ما يفسقه، وما يوزره ويؤثمه: ثبت في مسند الإمام أحمد ، وصحيح مسلم ، والحديث في الحلية، في الجزء الثاني من الحلية صفحة ست وثلاثمائة، وهو صحيح صحيح، فهو في صحيح مسلم من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت ).

    قال شيخ الإسلام الإمام النووي في شرح هذا الحديث، في الجزء الثاني صفحة سبع وخمسين في شرح صحيح مسلم : قوله: (هما بهم كفر) قال: لا بد من تأويل هذا الحديث، وذكر أربعة تأويلات:

    أولها: قال: (هما بهم كفر) أي: من أعمال الكفار وخصال الجاهلية.

    الثاني: (هما بهم كفر) أي: تؤديان بهم إلى الكفر.

    الثالث: (هما بهم كفر) يقصد: كفر النعمة وعدم الشكر، لا كفر المنعم والجحود.

    التأويل الرابع: (هما بهم كفر) فيمن استحل هاتين المعصيتين أو واحدة منهما. هذه أربعة تأويلات، وأنا كنت ذكرت سابقاً ستة تأويلات:

    الخامس: أن هذا من باب التغليظ والزجر، ولا يقصد حقيقته.

    السادس: أنه شابه الكفار في هذه الخصلة وفي تلك لا في سائر الخصال، وليس له حكم الكفار الأشرار.

    وعليه إخوتي الكرام: لا بد من تأويل هذه الأحاديث التي تنفي الإيمان، وما نُفي فيه الإيمان عن مرتكب الكبيرة عندما يفعل معصية لله عز وجل، يقال: يقصد من النفي نفي تمام الإيمان، نفي كمال الإيمان، وما ورد فيه وصفه بالكفر، نقول: كفر عملي وليس كفراً اعتقادياً، وهو الذي يقول عنه أئمتنا: أنه كفر دون كفر، إذا لم يستحل وغلبته شهوته.

    إذاً: قد يقال: أنه كفر دون كفر، أو شابه الكفار في هذه الخصلة، أو أن هذا من باب التغليظ والزجر بما يخلع القلب، أو أنه يؤدي به إلى الكفر، وهذا إذا استحل، والتي بعد ذلك هي كفر النعمة لا كفر المنعم.

    الدليل الثالث على أنه يوصف أيضاً بأنه جاهلي: تقدم معنا الحديث في مسند الإمام أحمد ، والكتب الستة إلا سنن النسائي، وهو في غير ذلك من دواوين السنة، وهو قول نبينا عليه الصلاة والسلام لسيدنا أبي ذر عندما عير بلالاً بأمه رضي الله عنهم أجمعين، قال له: ( أعيرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية ).

    وتقدم معنا أيضاً أن سيدنا أبا ذر رضي الله عنه وأرضاه قال لنبينا عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري : ( على ساعتي هذه من كبر السن )، أي: أنا في هذا العمر، وفي هذه الحالة وعلى كبر السن، ومع ذلك فيّ خصلة من خصال الجاهلية! قال: ( نعم، إنك امرؤ فيك جاهلية )، على ساعتك هذه من كبر سنك، عندما عيرته بأمه.

    إخوتي الكرام! هذا فيما يتعلق بالحالة الثانية، التي إذا لم يحتكم الإنسان فيها إلى شرع الله، ولم يحكم شرع الله، فإنه يأثم ويرتكب وزراً لكنه لا يكفر، وكنا قد ذكرنا الحالة الأولى لذلك وهي: أن يؤول فيما ليس هو من مجال التأويل، أن يجتهد فيما ليس من أمور الاجتهاد، الثانية: أن يتكلم بجهل دون قصد لمعصية الله عز وجل.

    الثالثة: أن يقصد المعصية دون استحلال لها، هو في الحالات الثلاث ما استحل ما حرم الله، لكن في الحالة الأولى والثانية ما قصد معصية الله، لكن الشارع ما أذن له ولا عذره في فعله، فهو آثم، والحالة الثانية هو قصد المعصية، وفعله معصية، فهو عاص وهو يعلم بذلك.

    هذه الأحوال الثلاثة ينحرف فيها الإنسان عن شرع الله وهو فيها موزور عاصٍ للعزيز الغفور، لكن لا يصل إلى درجة الردة والجحود والكفر.

    الحالة الثالثة التي سيأتي الكلام عليها: من لم يحتكم إلى شرع الله، أو لم يحكم شرع الله فهو كافر جاحد مرتد، ولذلك خمس حالات، سوف نتدارسها في الموعظة الآتية بتوفيق رب الأرض والسموات.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيك، اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً.

    والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756636870