إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الموصى إليهللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لابد من توافر صفات في الموصى إليه تؤهله لأن يقوم بحقوق الأيتام على الوجه الأكمل الأتم، منها: الإسلام، والعدالة، والتكليف، والرشد، وغيرها من الصفات المعروفة لكامل الأهلية، وتصح الوصية إلى اثنين على تفصيل معروف عند العلماء. ولابد لصحة الوصية أن يكون الموصي مالكاً لما أوصى فيه، فإن أوصى بما لا يملك بطلت الوصية. ويجب على الوصي تنفيذ الوصية كما أوصاه الميت، فإن ظهر شيء من الحقوق بعد تنفيذها لم يضمن شيئاً من ذلك.

    1.   

    أحكام ومسائل تتعلق بصفات الموصى إليه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب الموصى إليه]

    .

    لقد ترجم الإمام المصنف رحمه الله بهذه الترجمة التي تتعلق بالشخص الذي يُعهد إليه بتنفيذ الوصية، ولا شك في أن الوصية -عند بيان أحكامها ومسائلها- تفتقر إلى بيان الأمور التي ينبغي توفرها في الأشخاص الذين يعهد إليهم بتنفيذ الوصايا، فتحقيق المصالح ودرء المفاسد التي من أجلها شرع الله الوصية لا يمكن أن يكون على أتم الوجوه وأكملها إلا إذا كان الأشخاص الذين تناط بهم الوصايا ويناط بهم تنفيذها والقيام بها من الأشخاص الذين توفرت فيهم الصفات المعتبرة، ومن هنا اعتنى العلماء والأئمة رحمهم الله ببيان الصفات التي ينبغي توفرها في الموصى إليه، حتى لا يتساهل الناس ولا تضيع الحقوق، فإن الوصية إذا عُهِد بها إلى الشخص الذي ليس هو بأهل؛ ضيع حقوق الله عز وجل فيها، وربما أوصى الشخص بحق عنه، فضيع هذا الحق، وكذلك ضيع حقوق الناس، فلربما ضيع حقوق اليتامى وحقوق الأرامل إذا كان غير أهل. ومن هنا وجب بيان هذه المسائل، والاعتناء ببيان الشروط التي ينبغي توفرها في الموصى إليه.

    يقول رحمه الله: (باب الموصى إليه) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بصفات الشخص الموصى إليه، وما ينبغي عليه، وما يجب من الأمور التي تلزم ويلزم مراعاتها ممن يُعهد إليه بتنفيذ الوصايا.

    ومما ينبغي التنبيه عليه: أن الوصايا قد تشتمل على حقوق لله عز وجل، كمن وصَّى أن يحج عنه ويعتمر، أو وصَّى بأن يصام عنه صيام نذر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صوم نذر صام عنه وليه)، أو يوصي بحقوق من الكفارات والفدية في حجه أو عمرته، تكون لازمة عليه، أو يوصي بحقوق من كفارات أيمان، أو كفارات قتل أو ظهار أو جماع في نهار رمضان، أو غير ذلك، فهذه وصيةٌ مشتملة على حقوق الله عز وجل، وقد تشتمل الوصية على رعاية الأيتام، والإحسان في النظر في مصالحهم وما هم محتاجون إليه، وقد تشتمل الوصية على أمور أوصى بها من المستحبات؛ كالصدقات، والإحسان إلى المحتاجين والمساكين، فيوصي بثلثه للفقراء، ويعهد إلى شخص، ويوصي إليه أن يقوم بتنفيذ هذه الوصية.

    إذاً: الوصية تتعدد وتختلف، وكل جانب من هذه الجوانب قد يصلح فيه شخص ولا يصلح فيه آخر، وقد يكون من تَعهد إليه برعاية شئون الأيتام من بعد الموت والوفاة يحتاج إلى أن يكون خبيراً بالأسواق، خبيراً بالأموال، وقد تحتاج إلى شخص قوي يدفع الضرر عنهم، فأمور اليتامى تختلف، وأمور الوصية أيضاً تختلف، فنظراً لاختلافها قد يوصي لشخص بشخص واحد، وقد يوصي لأكثر من شخص، فيجعل أحدهم لتنفيذ الثلث، ويجعل الثاني لرعاية مصالح اليتامى، ويجعل الثالث للقيام بحقوقٍ واجبة عليه يقوم بأدائها، ويجعل شخصاً رابعاً لرد الأمانات ورد حقوق الناس؛ لأن فيه أمانة أكثر من غيره.

    المهم أن الشخص الموصى إليه لا بد أن تكون فيه صفات تتناسب مع هذه المهام، ومع هذه المصالح التي يريد تحقيقها، والمفاسد التي يطلب درءها، وهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص كما ذكرنا.

    قال رحمه الله: [تصح وصية المسلم إلى كل مسلم مكلف عدل رشيد ولو عبداً].

    من صفات الموصى إليه: أن يكون مسلماً رجلاً كان أو امرأة

    قال رحمه الله: [تصح وصية المسلم إلى كل مسلم].

    قوله: (تصيح وصية المسلم ) أي: أنها معتبرة شرعاً، والشيء الصحيح هو الذي تترتب عليه الآثار الشرعية المعتبرة، فتصح وصية المسلم إلى كل مسلم، والوصية إما أن تكون من مسلم، وإما أن تكون من كافر. والكلام هنا إذا كانت الوصية من مسلم، فتصح الوصية من المسلم إلى كل مسلم، فدل على أنه لا يجوز للمسلم أن ينصب الكافر على أمواله، ولا أن ينصب الكافر لتنفيذ وصاياه أياً كانت هذه الوصايا.

    أما كون الكافر لا يصلح للولاية: فهذا مبني على أصل شرعي دل عليه دليل الكتاب والسنة، قال تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، فأخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يسلط الكافر على المشرك، فدل على أن الكافر لا تكون له ولاية على المسلم، وهذا خبر بمعنى الإنشاء.

    وكذلك أخبر الله عز وجل عن صفات في الكفار لا يمكن أن تتحقق بمثلها -وبسبب وجودها- المصالح التي تطلب من الوصايا، ولا يمكن أن تتحقق المفاسد التي يراد درؤها بالوصية بأمثال هؤلاء، فقال تعالى: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ [التوبة:10]، فأخبر سبحانه وتعالى الذي وصف نفسه بأنه أصدق القائلين، وأصدق حديثاً ولا أصدق منه قيلاً، وهو القائل: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ [النساء:45] -أخبر عن هذا العدو بأنه لا يرقب في مؤمن إلَّاً ولا ذمة، و(الإلّ) هو القرابة، تقول: آل فلان، أي: قريبه من جهة النسب، و(والذمة): العهد، فهم ليسوا بحافظين لحق القرابة، وليسوا بحافظين للعهد والذمة التي بينهم وبين المسلمين في غالب أحوالهم، والله عز وجل أصدق حديثاً وأصدق قيلاً. فأخبر سبحانه أنهم لا يرقبون في مؤمن إلَّاً ولا ذمة، فالكافر ولو كان قريباً، فإنه لا يرعى حق القرابة في المسلم.

    ومن هنا وجب إقصاؤهم وإبعادهم عن هذا، ولذلك حينما كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه حينما كان بالشام، ولى كاتباً نصرانياً عنده يكتب، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين) وكتب إليه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].

    فقوله تعالى: (لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) أي: أنهم يسعون في أذية المسلم إلى درجة قد يفقد الإنسان عقله من كثرة ما يرى من أذيتهم وإضرارهم به، فقد يصل إلى درجة الخبل، (لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) أي: أنهم يبذلون جهدهم لأذيتكم والإضرار بكم، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم.

    (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) الود: هو خالص الحب، أي أنهم يحبون من صميم قلوبهم عنتكم، و(ما): مصدرية بمعنى عنتكم وتعبكم وشقاءكم، هذا هو الذي يودونه ويطلبونه، فدلت هذه الآية الكريمة على أنه لا مصلحة في ولاية الكافر على المسلم.

    وكذلك أيضاً دلت السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عهد بأمر من أمور المسلمين إلى كافر ألبتة، وإنما كان عليه الصلاة والسلام على السنن الذي أقامه الله عز وجل عليه، من حفظ المسلمين، وإبعادهم عن أذية أو تسلط الكافرين عليهم.

    فلا يجوز تولية الكافر على المسلم في الوصية، والإجماع منعقد على هذا، ولذلك حكى في الشرح الكبير بقوله: (بغير خلاف)، أي: لا تجوز ولاية أو توصية الوصي الكافر على الأيتام المسلمين، أو على حقوق المسلم من بعده، أو على وصيته من بعده بغير خلاف بين أهل العلم رحمهم الله.

    وقوله: (إلى كل مسلم) فيه عموم، فـ(كل) عند العلماء من ألفاظ العموم، فلما قال المصنف رحمه الله: (إلى كل مسلم) معناه: أنه يشمل المسلمين ذكوراً وإناثاً، فيجوز أن يعهد بوصيته إلى رجل توفرت فيه الشروط ليقوم بتنفيذ وصاياه، ويجوز أن ينصب المرأة، وتنصيب المرأة في تنفيذ الوصايا ورعاية الأيتام ونحو ذلك من الأمور التي تصح فيها ولاية النساء، فهو أمر مشروع، ولذلك قال جمهرة السلف رحمهم الله -من الصحابة والتابعين- بهذا القول؛ أنه يجوز أن يعهد الرجل بوصيته إلى المرأة لكي تنفذها، ويدل على ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه عهد إلى أم المؤمنين حفصة بنته، فقامت على وقفه الذي كان بخيبر، فكانت وصية له من بعده رضي الله عن الجميع.

    وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة متوافرون، فهي سنة من سنن الخلفاء الراشدين، ولم ينكر عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فكان هذا بمثابة الإجماع السكوتي، ولذلك اتفق الأئمة الأربعة على جواز تنصيب المرأة من أجل القيام على مصالح الوصايا بتنفيذها، فيعهد إليها زوجها، أو أبوها، أو أخوها، فإن من النساء من فيهن من رجاحة العقل وحسن النظر وحسن التدبير ما يكون في ولايتها الخير الكثير، فقد تكون أم أيتامه أولى برعاية أيتامه، والشفقة عليهم، وحسن النظر في مصالحهم، فإذا وجدها بهذه الصفة عهد إليها.

    فإذا أحس أن هناك خوفاً يخشاه من جهة تحقيق المصالح، من ناحية أنها لا تستطيع أن تخالط الرجال في الأمور التي يحتاج إليها من مصالح الأيتام، عهد إلى أخيها معها، وهو خال أولاده مثلاً، أو إلى من يراهم من قرابته ليكون مساعداً أو معيناً لها.

    فالشاهد: أن ولاية المرأة على تنفيذ الوصايا أمر يقول به السواد الأعظم من علماء هذه الأمة رحمهم الله، من السلف والخلف،وقد خالف في هذه المسألة عطاء بن أبي رباح تلميذ ابن عباس رحمه الله، وقال: (لا يجوز أن تلي المرأة تنفيذ الوصايا)، وهذا قول مرجوح، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، أنه يجوز أن يعهد الرجل بتنفيذ وصاياه إلى المرأة، ولا بأس في ذلك.

    من الموصى إليه: أن يكون مكلفاً

    قال رحمه الله: [إلى كل مسلم مكلف].

    قوله: (مكلف) أي: بالغ عاقل مختار، فلا يكون صبياً ولا مجنوناً ولا مكرهاً.

    فأما المجنون والصبي؛ فإن كلاً منهما لا يستطيع أن يلي أمر نفسه، فمن باب أولى وأحرى ألَّا يلي أمور غيره، ولذلك فإن الصبي يحجر عليه، فلا يصح بيعه ولا شراؤه، إلا إذا كان مأذوناً له على التفصيل الذي تقدم معنا في باب الحجر.

    إذاً: لا يصح أن يعهد بالوصية إلى صبيانه، أو إلى الصغار الذين هم دون البلوغ، لكن يجوز أن يقول: وصيت أو عهدت إلى أخي فلان أن يقوم بالنظر على أيتامي، فإذا بلغ ابني محمد، فإنه هو الوصي من بعده. فقد جعل الوصية إلى أخيه، لكن قبل أن يبلغ ابنه، فإذا بلغ ابنه فإنه وصيه، فعلى هذا الوجه يصح أن يكون عهده إلى صبي، ويكون العهد في الأساس إلى كبير بالغ، مستوفٍ للشروط، مما يجعل الصبي من بعده تعليقاً، وهذا لا بأس به، وقد اختاره غير واحد من العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من منعوا من ذلك، والصحيح جوازه؛ لأن هذا النوع من الوصية إلى الصبي إنما هو عند بلوغه، فتكون الوصية والقيام بمصالح أبنائه وبناته من بعده لهذا الصغير إذا بلغ.

    وكذلك أيضاً يشترط: الاختيار، فلا يصح أن يكون الموصى إليه مكرهاً، فلو هدد الموصي شخصاً، وفرض عليه أن يكون وصياً له من بعده، ووافق؛ فإنه لا تصح الوصية؛ لأنه يشترط فيه أن يكون بالغاً عاقلاً مختاراً. وهذا هو المعتبر لأهلية التكليف.

    وبالنسبة للمجنون يستوي فيه أن يكون جنونه متقطعاً أو مستديماً؛ لأنه في بعض الأحيان يختلف الأمر في الذي جنونه متقطع، لكن بالنسبة للوصية لا يصح أن يعهد إلى مجنون، سواء كان جنونه مطبقاً أو متقطعاً، فلو كان يجن أحياناً ويفيق أحياناً، وعهد إليه في حال إفاقته؛ فإنه لا يصح هذا العهد، فالعهد إلى المجنون باطل أصلاً، وبغير خلاف بين العلماء رحمهم الله.

    لكن لو أنه عهد إلى شخص أن يقوم بالنظر في وصيته من بعده بتنفيذها ورعاية شئون ذريته من بعده، ثم جن قبل أن يموت الموصي، بطلت الوصية، وحينئذ يعهد إلى شخص آخر ويقيمه مقامه.

    من الموصى إليه: أن يكون عدلاً

    قال رحمه الله: [عدل].

    العدل: هو الذي يجتنب الكبائر، ويتقي في أغلب أحواله الصغائر، قال الناظم:

    العـدل من يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغـائرا

    وكبائر الذنوب: كبائر: جمع كبيرة، والكبيرة: كل ذنب سماه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كبيرة، وكذلك كل ذنب وردت عليه العقوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، أو توعد عليه بنفي إيمان أو غضب أو لعنة أو نحو ذلك.

    مثل: شهادة الزور، وعقوق الوالدين، والشرك بالله -والعياذ بالله- فهذه أكبر الكبائر، ومذهب جمهور السلف والخلف رحمهم الله أن الذنوب تنقسم إلى: كبائر وصغائر، خلافاً لمن قال: إن الذنوب كلها ليس فيها صغير ولا كبير، وأنها مستوية، والصحيح أن منها ما هو كبير وما هو صغير؛ لأن الله يقول: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]، فأخبر أن الذنوب منها كبيرة، ومنها دون هذه الكبيرة، وقال تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم:32]، فأخبر أن الذنب منه صغير ومنه كبير، ومنه اللمم: وهو صغار الذنوب، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر...) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العمرة إلى العمرة ورمضان إلى رمضان والصلوات الخمس مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)، فجعل المكفر الصغائر بشرط اتقاء الكبائر، فدلت هذه النصوص كلها على أن الذنوب فيها صغير وكبير.

    ومن هنا قال العلماء: الكبيرة موجبة للفسق، والدليل على ذلك قوله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7]، فبين سبحانه وتعالى انقسام المعاصي إلى ثلاثة أقسام: الكفر: وهو أعظمها وأكبرها، والفسوق: وهو الذي بين الصغائر وبين الكفر والخروج من الملة، وذلك بارتكاب الكبائر، والعصيان: الذي يكون بارتكاب صغائر الذنوب، والفسوق: هو الذي تنتقض به العدالة، يقال: فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرتها، فالفاسق خارج من طاعة الله عز وجل، مجانب لها، وذلك بارتكابه لكبير الذنب، أو إصراره على الصغير، فإذا أصرَّ على صغيرة، وأصبح إصراره ومداومته يعادل في الذنب الكبيرة لو فعلها مرة، فإن حكم هذه الصغيرة يكون في حكم الكبيرة، فتسقط عدالته، ويكون جرحه مؤثراً فيه.

    وقوله (عدل) أي: يشترط أن يكون الوصي عدلاً، ولا تصح الوصية إلى فاسق.

    وفي الحقيقة تفصيل عند العلماء: فالفاسق له أحوال: فتارة يكون فاسقاً بارتكابه بعض الذنوب، ولكنه في نظره بالوصية وقيامه على الوصية يحكم القيام بها على أتم الوجوه وأكملها، فحينئذ فسقه لا يؤثر في الوصية، فالحنابلة رحمهم الله عندهم يرون أن الفاسق لا يولى؛ وذلك لأن الفاسق إذا نقض حقاً من حقوق الله بارتكاب الكبيرة، فلا نأمن منه أن يضيع حقوق عباد الله، ومن هنا لا تقبل شهادته، ولم يجز تنفيذ العهد إليه بتنفيذ الوصية؛ لأنه كما ضيع حق الله لا يؤمن منه أن يضيع حقوق عباده، وذلك من باب أولى وأحوط.

    ومن أهل العلم من قال: إننا نشاهد من الفساق من يرتكب بعض الأمور، ولكنه لا يخل بديانته ودينه في الأمور الأخرى، فتجده يشرب الخمر، ولكنه لا يمكن أن يكذب، ولا يمكن أن يخون أمانته، ولا يمكن أن يضيع حقاً من الحقوق، لكن الله ابتلاه بشرب الخمر، وقد يكون -والعياذ بالله- مبتلىً بزنا أو فسوق آخر، ولكنه محافظ على الحقوق والواجبات؛ فإذا حدث صدق، وإذا وعد وفىَّ، وإذا اؤتمن لم يخن.

    فقالوا: إنه قد يكون عند الشخص تقصير يؤثر في عدالته، ولكن نشاهد منه الصدق في قوله، والأمانة في فعله، ونجد عنده التحفظ، وهذا ابتلاء ابتلي به في جانب من دينه، لا يستلزم أن يسري الحكم إلى ما عداه.

    والحق هو مذهب الجمهور، والتفصيل فيه قوة؛ أي: إذا كان الفاسق ممن يؤثر فسقه في الوصية؛ فلا شك أنه يجتنب ولا يعهد إليه، وأما إذا كان فسقه لا يؤثر في الوصية، والغالب أنه يقوم بالوصية؛ كأن يكون قريباً كعم الأولاد وخال الأولاد، وعنده من الشفقة والرحمة ما يغلب على الظن أنه ينفذ الوصايا على أتم الوجوه وأكملها؛ فإنه لا بأس بالوصية إليه. فالتفصيل في هذا أقوى، ومذهب الجمهور أرجح في هذه المسألة إن شاء الله تعالى.

    من صفات الموصى إليه: أن يكون رشيداً

    قال رحمة الله: [رشيد].

    ينقسم الرشد إلى: رشد الدين، ورشد الدنيا. فرشد الدين: هو الإيمان، والذي يكون منه صلاح الإنسان واستقامته، كما قال الله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256]، وسمي الرشد رشداً؛ لأن الإنسان يصيبه فيه القوام والسداد في أموره المتعلقة بدينه.

    وأما رشد الدنيا: فهذا يكون في مصالح الدنيا، ويضبطه العلماء رحمهم الله بوصفين فيقولون: الرشيد في الدنيا، هو الذي يحسن الأخذ لنفسه، والإعطاء لغيره، فإذا أراد أن يبيع شيئاً باعه بقيمته، فلا يغش ولا يضحك على أحد، فلو أراد أن يبيع بيتاً أحسن الإعطاء لغيره، فالبيت قيمته مثلاً مليون، فيبيعه بالمليون وزيادة، فهذا رشيد، لكن إذا كانت قيمته مليون، فيبيعه بثمانمائة ألف، فهذا غير رشيد؛ بل سفيه، ولا يحسن أن يولى السفيه النظر في المصالح المتعلقة بالأموال؛ لأنه محجور عليه في تصرفه في ماله، فمن باب أولى أن لا يلي مال غيره، كما قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5].

    وقد أشار الله عز وجل إلى رشد الدنيا في الأموال بقوله سبحانه: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6] أي: وجدتم فيهم الرشد؛ لكونهم يحسنون الأخذ لأنفسهم والإعطاء لغيرهم. فلا يجوز للمسلم أن يولي على أمواله من بعده من لا يحسن النظر فيها، فلو ولى سفيهاً أو طائشاً أو أحمق لا يحسن الأخذ لنفسه، ولا الإعطاء لغيره، فقد ضيع الأمانة، وضيع حقوق ورثته من بعده، والغالب من مثل هذا أن لا تتحقق به مصالح الوصية، ولا تندرئ به مفاسدها، بل تزداد المفاسد أكثر مما هي عليه.

    فبين رحمه الله أنه يشترط في الشخص الذي يولى في الوصية أن يكون رشيداً، وهذا من التصرفات المالية.

    حكم الوصية إلى العبد

    قال رحمه الله: [ولو عبداً].

    (ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي، والعبد: هو الرقيق، وبين بهذا أنه يجوز أن يعهد بالوصية إلى الرقيق، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فذهب طائفة من أهل العلم إلى أن العبد لا يكون وصياً؛ لأنه لا يلي أمر نفسه، فمن باب أولى ألا يلي أمر غيره.

    لكن المصنف هنا يقول: إنه يولى العبد ويستأذن سيده، فإذا أذن سيده له كان وصياً.

    وهذا لا يخلو من نظر؛ لأنه إذا أذن له سيده لا نضمن أن يموت سيده، فينتقل العبد من الإذن له بالانشغال في مصالح ورثة الموصي وقيامه على الوصية ينتقل إلى ورثة سيده، والوصية تحتاج إلى وقت، وهذا فيه تغرير بحقوق الأيتام، وحقوق الأرامل، وما المقام عليه بالوصايا، فالوصية إلى العبد فيها مخاطرة؛ لأن هذا العبد في الأصل جعله الله ملكاً ليمين سيده، ومشغول بخدمة سيده، فلو أن سيده أذن له الآن فربما باعه في الغد، وإذا باعه فقد باعه إلى من لا يأذن له، فهذا تغرير بالوصية، ومخاطرة بها والصحيح هو قول من قال: إن العبد لا يلي أمر الوصية، والمسألة فيها ثلاثة أقوال:

    فمنهم من منع مطلقاً، ومنهم من أجاز، ومنهم من فصَّل، فالذين منعوا مطلقاً هم الشافعية، والذين أجازوا هم الحنابلة، ومعهم المالكية، والذين فصلوا هم الحنفية، قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: يجوز أن يعهد إلى عبد نفسه، كما كانوا في القديم، إذا كان عنده أولاد صغار وعنده عبيد، وفيهم عبد صالح وديِّن ومستقيم وأمين، فيقول له: قم على شئون ورثتي من بعدي، فيعهد إليه بوصاياه من بعده، وفعلاً يكون على أحسن وأتم وأكمل الوجوه، ولكن الأمر لا يخلو أيضاً من نظر؛ لأنه إذا عهد إلى هذا الرقيق، فإن أحد الأبناء سيكبر ويبلغ؛ وحينئذ سيكون هذا العبد ملكاً له، فهو وليه من وجه، ومولى عليه من وجه آخر، فتلزمه طاعته، ويكون تحت أمر الصبي؛ لأن الصبي يملكه، ومن حقه أن يأمره وينهاه.

    إذاً: القول بالتفصيل من ناحية شرعية فيه نظر، والصحيح: أن الرقيق لا يكون ولياً في الوصايا؛ لأنه لا يلي على نفسه، فمن باب أولى أن لا يلي على غيره.

    قال رحمه الله: [ويقبل بإذن سيده].

    أي: يقبل الوصية بإذن سيده، فليس له قبول مطلق، وإنما يقيد قبوله بإذن السيد، فإذا أذن السيد له أن يقوم بتنفيذ وصايا هذا الموصي؛ صح، وإلا فلا.

    حكم الوصية إلى اثنين

    قال رحمه الله: [وإذا أوصى إلى زيد وبعده إلى عمرو ولم يعزل زيداً اشتركا].

    هذه المسألة صورتها: أن يقول لزيد: أنت وصيي من بعدي، فيعهد إليه، ثم بعد ذلك بقليل أو كثير من الزمان يقول لشخص آخر: أنت وصيي من بعدي، فهل الوصية الثانية ناقضة للوصية الأولى، أم أن الوصية الثانية مشتركة مع الوصية الأولى؟

    الثاني هو الأقوى: أن الوصية الثانية ليست ناقضة للوصية الأولى؛ لأنه لو أراد نقض الوصية الأولى؛ فإنه ينبغي أن يكون نقضها صريحاً بيناً، كما أن إثباتها وقع صريحاً بيناً، ولا يمتنع أنه قصد الاثنين؛ لأنك ربما عهدت إلى شخص واحد وأموالك قليلة، ثم طرأت أموال أخرى كثيرة يغلب على ظنك أن فلاناً وحده لا يقدر على القيام عليها، بل يحتاج إلى من يعينه، وربما عهدت إلى شخص في حال، ثم وجدت فيه ضعفاً بعد فترة، فاحتجت أن تقرن إليه شخصاً آخر يعينه ويساعده في حال آخر، فالذي يظهر أنه يعتبر وصياً ثانياً؛ وفي هذه الحالة يشترك الاثنان. وهذا إذا وصى لوصي ثانٍ بعد وصي أول.

    فصورة مسألتنا: أنه إذا اتفقا في المكان الذي وصي به، مثل أن يقول: أنت وصيي من بعدي في رد ودائعي، والقيام على أيتامي، وصرف الثلث... إلخ، فيعطيه وصية مطلقة لجميع أموره وشئونه، ثم يقول للثاني نفس الذي قاله للأول، فحينئذ لا إشكال؛ فالوصية الأولى عامة، والوصية الثانية عامة، فيشتركان في العموم.

    الصورة الثانية: أن تكون الوصية الأولى عامة، والثانية خاصة، كأن يقول له: أنت وصيي من بعدي في جميع أموري، ثم بعد ذلك يقول لشخص ثان: أنت وصيي من بعدي في رعاية أموال أيتامي، فحدد له فقط رعاية أموال اليتامى، فيكون الثاني مشاركاً للأول في هذا الخاص الذي ذكره الآن، ولا يشاركه في غيره، فصورة المسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله تقع إذا كانت الوصيتان فيها عموم، هذه حالة.

    والحالة الثانية: أن يكون في الوصيتين خصوص، لكل واحد منهما خصوص موافق، فيقول له: أنت وصيي من بعدي في رعاية أيتامي، ثم يقول للثاني: أنت وصيي من بعدي في رعاية أيتامي، لكن لو قال للأول: أنت وصيي من بعدي في رعاية أيتامي، وقال للثاني: أنت وصيي من بعدي في الحج عني، أو في تقسيم الثلث، فاختلفت الوصيتان، فحينئذ هذا وصي في رعاية الأيتام، وهذا وصي في تنفيذ الثلث، فلا يشتركان.

    إذاً صورة المسألة: أن يكون لفظه في الوصية الأولى موافقاً للفظه في الوصية الثانية، فإن اختلفا، فلا يخلو من حالين: إما أن يكون بينهما عموم وخصوص، فحينئذ يشتركان في الخاص، وينفرد الأول بالعام، وإما أن يفترقا فيكون لكل منهما أمر لا يكون للآخر؛ فحينئذ لا يشتركان، وكل منهما ينفذ وصيته فيما اختص به من الأمور التي أناطها به الموصي.

    حكم انفراد أحد الوصيين بتصرف لم يُجعل له

    قال رحمه الله: [ولا ينفرد أحدهما بتصرف لم يجعله له].

    أي: لم يجعله له الموصي، بمعنى: أن الاثنين يشتركان في الوصية إذا كانت عامة، فلو أراد أحدهما أن يبيع بيتاً من بيوته بعد وفاته؛ فنقول له: ليس من حقك أن تبيع البيت حتى يأذن الوصي الثاني، فلا بد من اتفاق كلمة الاثنين على أن المصلحة في البيع حتى يباع، أو يتفقان على أن المصلحة في عدم البيع فيبقى البيت، أو يتفقان على أن المصلحة في تأجير بيوت اليتامى فتؤجر.

    إذاً: لا بد أن يكون تصرفهما معاً، فلو أن أحدهما أجر دون الآخر، وبدون رضاه أو إقراره؛ فإنه لا يصح ذلك، حتى يوافق الآخر؛ لأنه عهد إليهما معاً، فلا يصح تصرف أحدهما بدون رضا من الطرف الثاني.

    1.   

    من شروط صحة الوصية أن تكون في تصرف معلوم يملكه الموصي

    قال رحمه الله: [ولا تصح وصية إلا في تصرف معلوم يملكه الموصي؛ كقضاء دينه، وتفرقة ثلثه، والنظر في صغاره].

    قوله: (ولا تصح وصية إلا في تصرف معلوم) هذا هو الشرط الأول، والشرط الثاني: (يملكه الموصي)؛ لأن الفرع آخذ حكم أصله، والوصية بالمجهول فيها غرر، ولا يمكن أن تتحقق بها المصلحة، ولا أن تدرأ بها المفسدة، وإذا عهد إليه، فلابد أن يحدد ما عهد إليه، فيقول له: أنت وصيي من بعدي في رد المظالم -الحقوق إلى أصحابها- فتقضي عني الديون، وترد الودائع، والأشياء التي استعرتها، مثال ذلك: شخص له مكانة في قومه، فاستعار من أناس أشياء، أو عنده أمانات وضعها عنده أناس، فقال: هذه أمانة فلان، وهذه أمانة فلان، وهذه أمانة فلان. كذلك أيضاً بينه وبين أشخاص خصومات ومظالم وقعت، فقال: يا فلان: أنت وصيي في رد المظالم والحقوق إلى أهلها، وقضاء ديوني، ورد العواري والودائع إلى أصحابها، فحينئذ تكون الوصية واضحة ومعلومة وبينة.

    كذلك أيضاً من حقه أن يوصي بهذا الشيء، فيوصي بالحج والعمرة عنه، ويوصي كذلك بولاية مصالح أيتامه؛ لأنه في الأصل هو الذي يطالب بالحج، وفي الأصل هو الذي يطالب بالعمرة، وفي الأصل هو الذي يطالب بالكفارات وبالفدية، فيجوز أن يقوم غيره مقامه؛ لأنه كالوسيط. لكن لو لم يكن من حقه أن يتصرف في هذا الشيء، فليس من حقه أن يوصي به، فلو أوصى بأن يتصرف في أموال أخيه، فقال له: أنت وصيي من بعدي أن تبيع مزرعة أخي، وليس من حقه هو أن يبيعها، فمن باب أولى أن لا يكون للوصي ذلك.

    إذاً: يشترط في الشيء الذي يعهد به إلى الوصي أو يوصى به: أن يكون مما للموصي فيه حق التصرف، وعلى هذا فالمرأة ليست بمسئولة عن أيتام، وإنما ولاية النظر لمن أقامه أبوهم أو أقامه الحاكم والقاضي للنظر في مصالحهم، فهي لا تلي أمورهم بالأصل، فمن باب أولى أن لا تقيم غيرها مقامها.

    قال رحمه الله: [كقضاء دينه].

    وذلك كأن يقول له: فلان له عليَّ مائة ألف، وفلان له عليَّ خمسون، وفلان له عليَّ كذا، وفلان أخذت منه سيارة، ورد الودائع والعواري والأمانات؛ فكل هذه أمور خاصة ومعلومة.

    قال رحمه الله: [وتفرقة ثلثه]. وكذلك تفرقة الثلث، كأن يقول له: ثلث مالي اجعله صدقة على الفقراء، أو نصف الثلث يكون صدقة للفقراء، والنصف الثاني يكون في سبيل الله، ويقوم فلان بصرف هذا الثلث، والقيام عليه، فحينئذ يكون هذا الوسيط مطالباً بتنفيذ ما ذكره الميت والموصي في وصيته من تخصيص نصف الثلث للفقراء والمحتاجين، والنصف الثاني يصرفه في سبيل الله، على الشرط الذي اشترطه الميت والموصي.

    قال رحمه الله: [والنظر لصغاره].

    أي: يقوم على أموالهم فينظر فيها، والنظر في الأيتام: إطعامهم بالمعروف، وكسوتهم بالمعروف، وإذا احتاجوا إلى دواء أو علاج قام بعلاجهم، وإذا احتاجوا إلى سيارة تنقلهم؛ استأجر من ينقلهم، أو اشترى لهم سيارة، واستخدم أو استأجر من يقوم بنقلهم، وإذا احتاجوا لشراء أرض أو بيت يؤويهم ويسكنون فيه يقوم هو بشراء البيت، ويبحث لهم عن سكن، وينظر في الأصلح، هل يشتري سكناً غالياً أو وسطاً أو أدنى. هذا كله أسند إليه النظر فيه، فهو مسئول أمام الله عز وجل عنهم، فيُنزل نفسه منزلة والدهم، شفقة، وإحساناً، وبراً، فيعطف عليهم، ويقوم برعاية مصالحهم؛ لأنه من أعظم الأشياء أن شخصاً ينزله كمنزلته في النظر لأولاده، وهذا أمر ليس بالهين، وثقته ليست باليسيرة.

    فالعبد المؤمن يخاف من الله عز وجل، ويتقي الله سبحانه وتعالى في هذه الأمانة، وينصح ويحس أن هؤلاء الأيتام كأنهم أولاد له، فيحسن النظر فيهم، ولذلك ضرب السلف الصالح والفضلاء والصلحاء المثل السامي في حسن النظر للأيتام، ورعايتهم الأيتام الذين عهدوا إليهم برعايتهم، حتى جاء في بعض القصص أنه كان بعض الصالحين يقوم على رعاية أيتام أخيه أكثر من رعايته لأولاده، مع أنه لا يضيع حقوق أولاده، لكنه يشفق عليهم الشفقة ويرحمهم الرحمة التي بلغت الأوج والكمال في حسن النظر والتفقد، حتى أثر عن بعضهم أنه كان إذا زار أختاً له وعندها أيتام، يتحرج حتى من أكل ضيافتها، خشية أن يكون آكلاً لمال اليتيم، وهذا كله من الورع والخوف من الله عز وجل؛ لأن حقوق الناس أمرها عظيم، فالذنب الذي بين العبد وبين ربه، لو استغفر ربه غفر له، لكن حقوق الناس لابد فيها من القصاص، فلا يمكن أن تزول قدماه حتى يقتص منه؛ فيؤدي الذي عليه ويأخذ الذي له. وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، وقال تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256]، فيأتي بها الله جل جلاله الذي هو أحكم الحاكمين، يقص الحق وهو خير الفاصلين، فإذا كانت لليتيم فأمرها عظيم، وإذا كانت على وجه الأمانة فأمرها أعظم؛ لأن الإنسان إذا أقيم على أيتام وعلى وصية، وقال له الميت: إني قد عهدت إليك بكذا وكذا، ووافق وقبل، فإن عليه أن يفي بهذا العهد الذي بينه وبين أخيه المسلم أو قريبه. فإذا كانت من القريب فعهدها أعظم، فالواجب حينئذ أن يحسن النظر في مصالح هؤلاء الأيتام، والنظر في مصالحهم يشمل: إطعامهم، وكسوتهم، وإيواءهم، ونقلهم، ونحو ذلك من المصالح، فلو ترك لهم والدهم سيولة من المال، ورأى الموصى إليه أن هذا المال لو بقي لأكلته الزكاة، فرأى من المصلحة أن يشتري لهم أراضي، أو يشتري لهم عمائر، أو يستثمر المال ويتاجر فيه، فقد أحسن النظر في مصالحهم.

    قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اتجروا في أموال اليتامى؛ لا تأكله الصدقة)، فدل هذا على أنه ينبغي للولي والوصي أن يحسن النظر في شئون الأيتام، فيحقق المصالح المطلوبة، ويدرأ المفاسد التي يخشى منها، فلو وجد مثلاً أنه ترك لهم أرضين، والسوق يخشى أن يكسد، فخاف من كساده، فليبادر ببيعها، وإذا كان هناك أشياء تركها لليتامى يخشى منها الضرر، كأن يكونوا في مكان بعيد عن المدينة، وفيه ضرر عليهم، ويخشى عليهم، قربهم إذا خشي على أعراضهم، وأبعدهم عن الأماكن التي فيها فساد وتأثير على أخلاقهم.

    المهم أنه ينصح لأخيه المسلم في ذريته من بعده، ومن كفل اليتيم وأحسن الرعاية له، كان له عند الله حسن الجزاء، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)، وكان بعض العلماء يقول: (ما رأيت أحداً وفى بمسلم في أيتامه إلا أحسن الله له العاقبة في ولده)، فما رأى إلا خيراً، وجعل الله له قرة العين، وبهجة النفس وسرورها في ولده هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، وما ينتظره عند الله أعظم وأكبر، فلا شك أن القيام على الوصايا وحسن الرعاية لها وحسن النظر فيها، من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل.

    حكم وصية الموصي فيما لا يملكه

    قال رحمه الله: [ولا تصح بما لا يملكه الموصي، كوصية المرأة بالنظر في حق أولادها الأصاغر، ونحو ذلك].

    لأن هذا ليس إليها، وإنما لمن ولاه والدهم؛ لأنه حق متعلق بالعصبة، وهم الذين ينظرون في مصلحة هؤلاء الأيتام.

    1.   

    لا يجوز للموصى إليه التصرف إلا فيما أوصي إليه

    قال رحمه الله: [ومن وصي في شيء لم يصر وصياً في غيره].

    لأن الوصية اختصت بذلك الشيء، فلا تنصرف إلى غيره، فلو قال له: أوصيت إليك برعاية أيتامي، فلا يقم بتفريق الثلث، ولو قال له: بتفريق الثلث، فلا يقم برعاية الأيتام، وليس له دخل في موضوع اليتامى. إذاً: تتقيد الوصية إن قيدها الموصي، وتكون مطلقة إن أطلقها.

    1.   

    عدم ضمان الوصي ما ظهر من الحقوق بعد تفرقة الوصية

    قال رحمه الله: [وإن ظهر على الميت دين يستغرقه بعد تفرقة الوصي لم يضمن].

    قوله: (بعد تفرقة الوصي) أي: للمال، وصورة المسألة: لو كان الدين مائة ألف، وترك تسعين ألفاً أو ترك مائة ألف، ولكن هذا الدين لم يكونوا عالمين به، وقام الموصى إليه بتفريق الثلث كما أمره الموصي، وأخذ الثلثين وقضى بهما، حينئذ يرد سؤال هو: لو ظهر هذا الدين فهل يطالب باسترداد الثلث؟ لأنه هو الذي فرقه، وهو الذي صرفه.

    نقول: لا يضمن؛ لأنه عهد إليه بتفريقه، فقام بالتفريق، فالضمان يكون على الميت وليس على الموصى إليه؛ لأن الموصى إليه نفذ ما أمره به الموصي؛ ولم يتعد، واليد التي قامت بتفريق هذا الثلث يد مأذون لها شرعاً بهذا التفريق، فيتحمل المسئولية الميت وهو الموصي، وتكون هذه الديون باقية لسدادها، ويتحمل الورثة سداد الدين على الأصل الذي تقدمت الإشارة إليه في سداد الدين.

    1.   

    تصرف الوصي في الثلث إذا خول في التصرف فيه

    قال رحمه الله: [وإن قال: ضع ثلثي حيث شئت، لم يحل له ولا لولده].

    هذه المسألة فيها خلاف عند العلماء رحمهم الله، فبعض أهل العلم يقول: إذا قال له: ضعه حيث شئت، فهو يضعه حيث شاء. فلو وضعه في جيبه، فقد شاء أن يضعه في جيبه، حيث جعل له الخيار المطلق، وهذا لفظ الرجل وكلامه، فينفذ هذا القول، ومن حقه لو أخذها لنفسه إن كان محتاجاً، أو رأى أنه أقرب الناس منه فأخذ هذا المال، فإنه يكون له ذلك.

    وقال بعض العلماء: إذا قال له: ضعه حيث شئت، فمن حقه أن يصرفه لولده، لكن لا ينتفع هو لنفسه، وقد أورد هذين القولين الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني احتمالاً، أي: ما يحتمله هو، وقال: إنه يعطي أولاده ولا يأخذ هو؛ لأنه جعله مفرقاً للمال ولم يجعله آخذاً؛ لأنه قال له: ضعه؛ فحينئذ فهمنا من هذا أنه موكل بتفريق المال، وليس موكلاً بأخذه.

    ومن أهل العلم من قال: لا يأخذ هو ولا أولاده، حتى ولو ذكر صفة تنطبق عليه، بحيث لو قال: ضع ثلثي للفقراء -صدقة للفقراء- وخذ هذا الثلث ووزعه للفقراء والمحتاجين، وهو فقير ومحتاج، قالوا: لا يأخذ لا هو ولا ولده، مع أن الصفة موجودة فيه، والحقيقة أن الإمام ابن قدامة أشار في هذه المسألة إلى احتمالات جيدة، منها: أنه ينظر إلى دلائل الحال والقرائن التي يفهم منها أنه قصد أن يقوم بالتفريق، فلا يأخذ هو، ولكن من حقه أن يعطي قرابته بدون محاباة.

    ثانياً: أن تكون هناك قرائن تدل على أنه فوضه، إلى درجة أنه لو أراد أن يأخذ فإنه يأخذ، والأورع أن لا يأخذ، وأن يجتنب هذا، ومن ذلك: مسألة التوكيل في الزكاة، كأن يقول له: خذ هذه المائة ألف واصرفها للمساكين والفقراء، ففي هذه المسألة لا شك أنه ليس من حقه أن يأخذ؛ لأنه قال له: خذ هذه المائة واصرفها على للفقراء والمساكين، فلا يشك في أنه وكيل، والزكاة عبادة صرفت؛ لأن صاحبها نوى أن تصرف للفقراء والمساكين من غيره؛ لأنه قال له: اصرفها للفقراء والمساكين، واللام للتخصص، ولو قصده لقال له: خذ منها؛ لأنه يعلم أنه فقير، أو قال له: خذ منها أنت والفقراء والمساكين، لكن عندما لم يصرح بذلك فهمنا من ذلك أنه وكيل بالصرف، وليس له استحقاق، ففي هذه الحالة لا يجوز للذين يقومون بتوزيع أموال الزكاة أن يأخذوا منها.

    ومن العجيب أن بعضهم يقول: إنهم من العاملين عليها، وهذا خطأ واضح؛ لأن العامل على الزكاة في جلبها لا في تفريقها، العامل على الزكاة إنما يكون في جلبها، وهم السعاة الذين كان يبعثهم الإمام لأخذ زكاة الإبل والبقر ونحوها من بهيمة الأنعام، وزكاة الحبوب والثمار والخارج من الأرض، فهؤلاء يأخذون على التفصيل الذي تقدم معنا في كتاب الزكاة، أما الذي يفرق الزكاة ليس له من حق، وقد نص الجمهور رحمهم الله على هذا، فأمثال هؤلاء موكلون بالتفريق، وليس لهم يد على المال أن يأخذوا منه، فعليهم أن يتقوا الله عز وجل.

    ومن هنا تأتي المسألة في استثمار أموال الصدقات، واستثمار أموال الزكوات، ففي بعض الأحيان تكون الأموال لجهة خيرية، فالذين أعطوا المال للجهة الخيرية، لم يعطوه وكالة أن يتاجروا في هذا المال، وإنما أعطوهم المال وكالة في إعطائه للمحتاجين، وحينئذ ليس من حقه أن يبيع أو يشتري بهذا المال، ولو لمصلحة المحتاج؛ لأنه لم يوكله رب المال ولم يوكله المحتاج.

    فحينئذ لا يصح في الأموال التي توضع في الصدقات إلا إذا اُستؤذن أصحابها، فيقال لهم: هذه صدقة مستثمرة، فالذي يقترح على الجمعيات الخيرية وعلى جمعيات البر ونحوها، أنها إذا أرادت أن تستثمر الأموال في الأسواق الخيرية أن تضع بنداً خاصاً، وتقول: صدقة مستثمرة، إذا وضعت هذا فكل من يضع يعلم أن الصدقة ستستثمر، ثم إن الشخص الذي يضع المال وقصده أن يصل إلى الفقير وإلى المحتاج، فمراده أن يصل على أسرع ما يمكن؛ لأن هذه هي النصيحة؛ لأن الصدقة إذا وصلت إلى المحتاج، نماها الله عز وجل لصاحبها منذ أن تصل، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يتلقى الصدقة بيمينه، وكلتا يدي الرحمن يمين، فينميها لعبده ويربيها له كما يربي أحدكم فلوه)، والفلو: هو صغير الخيل، كما ثبت في صحيح مسلم.

    فهذا الحديث يدل على أن الوكيل الذي يوكل بصرف الأموال لا ينبغي له أن يتأخر فيها، ولا ينبغي له أيضاً أن يصرفها كمعاشات أو نحوها لشخص يقوم بصرفها؛ لأنه في الأصل وكل بصرفها، ولم يوكل بإعطائها إلى شخص غير المحتاج وغير المسكين. وهذا أمر واضح وبين، ولذلك ينبغي على كل من يلي أمثال هذه الصدقات أن يتقي الله عز وجل، وأن يرجع إلى العلماء، وأن يستبين من أمره، وأن لا يجتهد من عند نفسه، فيتقحم النار على بصيرة -نسأل الله السلامة والعافية- بل عليه أن يتقي الله في هذه الأمانة، وأن يحسن القيام فيها؛ فمن وكله بالصرف يصرفه، ومن وكله باستثمار أمواله يستثمرها بالمعروف، على الوجه المعتبر فيها شرعاً.

    1.   

    من يتولى تركة الميت إذا لم يوجد حاكم ولا وصي

    قال رحمه الله: [ومن مات بمكان لا حاكم به ولا وصي، جاز لبعض من حضره من المسلمين تولي تركته، وعمل الأصلح حينئذ فيها من بيع وغيره].

    هذه المسألة تشتهر الآن في أماكن الأقليات، حيث يكون في بلد فيه مجموعة من المسلمين، وليس هناك قاض ولا حاكم مسلم، ولم يعهد هذا الميت بأيتامه إلى أحد ولم يوص، فحينئذ من يتولى؟

    ننظر، فإذا كان هناك إمام يصلي بهم، أو طالب علم، وعنده علم ومعرفة بمثل هذا، فهو الذي تناط به مصالح أمثال هؤلاء؛ إذا كان طالب علم، وعنده معرفة بالأحكام الشرعية، وكان أهلاً لولاية أمره، فيلي أمورهم في مثل هذا: ففي النكاح يزوجهم، وكذلك في أمور المصالح التي تقع أو الخصومات التي تقع بينهم، إذا كان عنده من العلم ما يؤهله لذلك؛ وإلا رجعوا إلى العلماء فاستفتوهم.

    أما بالنسبة للنظر في ماله، فإنه يليه أي واحد من المسلمين ممن يعلم حاله، ويمكنه أن يقوم بمصالحه من بعده، فأي واحد من إخوانه المسلمين يلي ذلك، وهذا من فروض الكفايات، فإذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، أما إذا وجد قاضٍ، فإنه يعهد إليه، قال صلى الله عليه وسلم: (فالسلطان ولي من لا ولي له).

    وبعد هذا الباب يأتي كتاب الفرائض، ويغلب عليه -بطبيعته- المسائل الحسابية، وقد جرت العادة في قراءة المتون الفقهية -بالنسبة إليَّ- أن أفرد كتاب الفرائض بدراسة مستقلة.

    وعليه: فنرجئ شرح هذا الكتاب -كتاب الفرائض- حتى ننتهي من المتن إن شاء الله.

    نسأل الله عز وجل أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم. والله تعالى أعلم.

    1.   

    الأسئلة

    هل يعتبر الوصي ولياً للمرأة في تزويجها

    السؤال: إذا أوصى الميت إلى شخص بأن يلي اختيار الأزواج لبناته، فهل يعتبر هذا الوصي ولياً للمرأة دون إخوتها؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله: هل وصي الأب ينزل منزلة الأب، ويقدم على بقية العصبة، الذين لهم حق في الولاية؟ فمن أهل العلم من جعل الفرع تابعاً لأصله، وقال: هذا وصي الأب؛ فينزل منزلة الأب، ومن أهل العلم من قال: إن الولاية في النكاح على مراتب.

    فإذا توفي الأب، انتقلت من بعده إلى ابنه، فحينئذ يلي أمر الولاية على هؤلاء النسوة ابنه، الذي هو أخوهن، وقال بعض العلماء: إنه يلي الجد من بعد الوالد، ثم من بعد ذلك تكون الولاية لابن المرأة التي يراد تزويجها إذا كانت مزوجة من قبل، أو يليها أخوها؛ لأن بعد درجة البنوة: الأخوة، وهم الإخوة الأشقاء أو الإخوة لأب فقط، وهم الإخوة الذين هم عصبة المرأة التي يراد زواجها.

    ومن أهل العلم من فرق بين كون المرأة دون البلوغ -صغيرة- فينزل الوصي منزلة الأب، وبين أن تكون كبيرة؛ فحينئذ يكون الولي هو الجد من بعد الأب، ولا يقدم عليه وصي الأب.

    لكن مثل هذه المسائل الأفضل ردها إلى القضاء، والقاضي يعمل بما يترجح عنده فيها، ونظراً لكونها تترتب عليها أمور مهمة، خاصة في هذا الزمان، فترد إلى القضاء، فإن شاء القاضي نزل وصي الأب منزلة الأب، وإن شاء قدم غيره من العصبة ممن هم أحق. والله تعالى أعلم.

    صيغ الإجماع

    السؤال: أشرتم إلى قول صاحب الشرط السديد أنه قال: (لا تصح الوصية للكافر بلا خلاف)، فهل قوله:(بلا خلاف) تدل على الإجماع، وما الفرق بين قوله: (اتفق) و(أجمع)؟

    الجواب: هذه مسألة أصولية، تعرف عند العلماء رحمهم الله بمسألة: (صيغ الإجماع)، وصيغ الإجماع تنقسم إلى قسمين:

    القسم الأول يسميه العلماء: الصيغ الصريحة، وهي أقوى صيغ الإجماع، وهي صيغة: (أجمعوا)، و(أجمع أهل العلم)، و(أجمعوا واتفقوا)، و(اتفق أهل العلم)، و(اتفق العلماء)، فهاتان الصيغتان: (أجمعوا) و(اتفقوا) تعتبر من صيغ الإجماع القوية النصية، التي لا احتمال فيها، وبعض العلماء يقول: إن (أجمعوا) غير (اتفقوا)، فاتفقوا: للأئمة الأربعة، وأجمعوا: للجميع، وهذا باطل، والمعروف عند العلماء أن صيغة (اتفقوا) من صيغ الإجماع كصيغة (أجمعوا)، لكن قد يكون هناك مصطلح خاص لبعض العلماء، فيذكر في كتابه (اتفقوا) للأئمة الأربعة، ويذكر (أجمعوا) لإجماع العلماء والأئمة، إذا كان هذا فهذا مصطلح خاص، لكن المعروف عند العلماء أن (اتفقوا) من صيغ الإجماع الصريحة والقوية كـ(أجمعوا).

    أما بالنسبة للصيغ الضعيفة والصيغ المشتملة فمثل: (لا خلاف)، (بغير خلاف)، (لا نعلم خلافاً)، (لا نعلم مخالفاً)، فهذه صيغ مشتملة، فقوله: (بغير خلاف نعلمه) أضعف من قوله: (بغير خلاف)؛ لأنه إذا قال: (بغير خلاف) فهي أقوى من قوله: (بغير خلاف أعلمه) أو (بغير خلاف نعلمه)؛ لأنه ربما كان بحثه في المسألة فيه قصور، وحينئذ قد يوجد مخالف، لكنه لم يطلع على ذلك المخالف، أما إذا جزم وقال: (بغير خلاف) فهذه أقوى من تقييده بالعلم، هذا هو المعروف عند العلماء رحمهم الله.

    والنوع الأول من الصيغ: هو الذي يحكى به الإجماع، وإذا قيل: (بغير خلاف) فإنه معتبر، خاصة إذا كانت كلمة (بغير خلاف) من علماء وأئمة عُرفوا بتتبع أقوال العلماء رحمهم الله، فمثلاً: إذا قال شيخ الإسلام : (بغير خلاف)، فالغالب أن مثل هذا يقارب الإجماع، إن لم يكن إجماعاً؛ لأن شيخ الإسلام رحمه الله كان عنده سعة واطلاع كبير في العلم، حتى إنه نقد (مراتب الإجماع) للإمام ابن حزم ، ولذلك لما ناظره العلماء في مسألة من مسائل أهل البدع، قال له: والله ما من بدعة في الإسلام إلا وأنا أعلم أول من قالها، ومتى قالها، وما هي شبهته في قولها. وهذا من سعة علمه رحمه الله واطلاعه على أقوال الأئمة والسلف، رحمه الله برحمته الواسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

    حكم من جاوز الميقات دون أن يحرم منه

    السؤال: قدمت وعائلتي من الرياض بالطائرة بنية العمرة ولم أحرم، فهل يجوز لي أن أحرم من هذا المسجد، أم أرجع إلى ميقاتي؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فلا يجوز للمسلم أن يمر بالميقات ولم يرحم منه، ولا يحرم، وفي نيته النسك؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحُليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج والعمرة).

    فأوجب عليه الصلاة والسلام على من مر بهذه المواقيت، وعنده نية للحج، أو عنده نية للعمرة، أو هما معاً كالقارن، أن يحرم منها، فعلى المسلم أن يطيع الله ويطيع رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يأتمر بأمر الله؛ لأنه قال: (هن لهن)، وهذه صيغة إلزام، أي أنها لازمة لمن مر بها بنية النسك، فلا يجوز له أن يترك الإحرام، فعليك أخي أن ترجع إلى ميقاتك فتحرم منه، وهو ميقات السيل إن كنت قادماً من جهة الرياض، مع التوبة والاستغفار، والله تعالى أعلم.

    حكم الإفطار في قضاء رمضان

    السؤال: من كان عليه قضاء من رمضان، وعين يوماً يصوم فيه هذا القضاء، فهل يحرم عليه أن يفطر في ذلك اليوم، أم له أن يفطر ويصوم يوماً غيره؟

    الجواب: هذا السؤال فيه تفصيل: فإذا عين اليوم وقال: غداً أصومه قضاءً عن رمضان، ولم يدخل فيه بالعبادة -أعني عبادة الصوم بالإمساك- فإنه لا يلزم، وله أن ينتقل إلى يوم ثانٍ، فتعيين يوم للقضاء أو يومين أو ثلاثة، أو كان قال: الأسبوع القادم أصومه قضاء، أو تقول المرأة: أصومه قضاء لعادتي، فلا يلزم صيامه إذا لم يدخل فيه بالصوم، أما إذا دخل فيه بالصوم فإن الله يقول: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فجعل الأيام الأخر مُنَزَّلة مَنْزِلة رمضان، ولا شك أنها إذا نزلت منزلة رمضان لم يجز الإفطار فيها، كما لا يجوز الإفطار في رمضان، وعلى هذا يفرق بالتعيين بين أن يريد الإفطار في ذلك اليوم قبل أن يشرع في صيامه، وبين أن يريد الإفطار وقد شرع في صيامه، والقاعدة: أن القضاء يأخذ حكم الأداء، فلما كان لا يجوز له في الأداء -أي: في صيام رمضان- أن يفطر بدون عذر، فكذلك في قضائه لا يجوز له أن يفطر بدون عذر، والله تعالى أعلم.

    نصيحة للأزواج في التوفيق بين مشاغلهم الدينية وبين القيام بحقوق زوجاتهم

    السؤال: أحياناً تتضجر الزوجة حين ترى انشغال زوجها بطلب العلم، وكثرة الانصراف إلى العبادة، ويتهم بالتقصير في حق الأهل، فما الضابط في تقسيم الوقت لهذه الحقوق؟

    الجواب: الله المستعان! الفتوى ليست بالهينة، ووضع ضابط في المسائل هذا أمر ليس بالهين، وينبغي أن يشفق السائل في الفتوى على من يستفتيه.. من أنا حتى أضع للناس برنامجاً أو ضابطاً يوفق فيه بين طلبه للعلم وحقوق زوجته؟ فهذا أمر ليس بالسهل، فأقول: لا يمكن الإجابة على هذا السؤال، وأبرأ إلى الله، فما أستطيع أن أتحمل مسئولية وضع الضابط وأقول: إنه ضابط شرعي، وينسب إلى الشرع بقولنا، ولذلك كثرت الاجتهادات في هذا الزمان في وضع الضوابط والقيود، والأولى أن يقال: مثلاً: بماذا تنصح الزوج؟ وبماذا تنصح الزوجة؟ فنقول: إن الله عز وجل شرع لعباده القيام بحقوق الزوجية، وإذا اتقى العبد ربه، جعل الله له من أمره يسراً، وجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً.

    فنوصي الزوجة أولاً أن تتقي الله في نفسها، وأن تتقي الله في زوجها، وأن تحمد الله جل جلاله على العافية، خاصة في هذا الزمان، فكم من امرأة تقرَّح قلبها ودمعت عينها على هلاك بيتها في الفتن والمحن التي لا يعلمها إلا الله عز وجل. وكم من امرأة تمسي وتصبح مع زوج تنال معه الشقاء والعناء في جحيم الخمور والمسكرات، والمصائب والتبعات التي تأتي من الشرور التي لا يعلم قدرها إلا الله جل جلاله.

    فلتحمد الله على العافية، يوم جعل بيتها تلهج فيه الألسن بذكر الله، وتشكر الله عز وجل يوم شرفها وفضلها بخدمة من يخدم المسلمين، ورعاية من يحسن إلى عباد الله، فأمثال هؤلاء يعظم الأجر فيهم، ويعظم الثواب من الله عز وجل لمن احتسب في معونتهم على ما هم فيه.. والله ما من إمام ولا داعية ينصح لله ولكتابه، ولرسوله عليه الصلاة والسلام، ولسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ولأئمته، فيعينه أحد في دعوته إلا آجره الله جل جلاله، وأعظم ثوابه.

    ووالله ما وجدنا في صحبة العلماء ورفقة طلاب العلم إلا خير الدين والدنيا والآخرة، هذا ما نشهد به، وهذا ما رأيناه من البذل الكريم الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

    فعلى المرأة المؤمنة أن تحمد الله جل جلاله، وأعظم ما يكون من العبد في حق ربه كفره بنعمة الله، وكم من امرأة تتمنى أن ترى زوجها مصلياً، فضلاً عن أن يكون داعية إلى الله، كم من امرأة تتمنى أن تسمع من زوجها ذكراً لله في بيتها، وكم من نساء تتشوق قلوبهن لرؤية الخير والبر في أزواجهن، فلتحمد الله على العافية، ولتعلم أن الشهوة واللذة متاع قليل، ظل زائل ومتاع حائل، لذة ساعة وبعدها تعب الدهر، فعليها أن تقدم آخرتها على دنياها، وأن تحتسب عند الله عز وجل.

    والزوج إذا كان مقصراً بسبب الحقوق والواجبات، ووجدته زوجته قائماً برعاية المسلمين وعنايتهم، ووجدت عليه مسئوليات وأمانات في الفتوى وفي التدريس وفي التعليم، فوقفت بجواره، واستعانت بربها، وصبرت واصطبرت، ورابطت في الله جل جلاله، فسيريها الله حسن العاقبة فيما كان منها من صالح العمل، ولا تبالي حتى ولو وجدت زوجها فظاً غليظاً، أو غافلاً عن بعض حقوقهم.

    ووالله إنك لتصحب العالم وتكون بجواره وتحسن إليه وتخدمه، فيفعل حتى عن أن يقول لك كلمة طيبة، بسبب الهم الذي هو فيه، وبسبب الضغط النفسي، وتصور أخي لو أنك تريد أن تلقي كلمة أمام ثلاثة أو أربعة من رفقتك، فسوف يتشتت ذهنك، ويصعب عليك الأمر، وتحمل الهم في قلبك، فكيف بمن يواجه الأمة، يواجههم وهو يبين الحلال والحرام، مسئول أمام الله عز وجل، ومسئول أمام خلقه، فربما زل بكلمة واحدة تشيب لها الرءوس، قيل لـهشام بن عبد الملك : عاد لك الشيب؟ قال: ما لي لا أشيب وأنا أعرض عقلي على الناس كل أسبوع مرة! لأنه يقف في المنبر ويخطب، وقيل لآخر من خلفاء بني أمية: عاد لك الشيب؟ قال: شيبتني المنابر. يعني مواجهة الناس، ومواجهة الناس ليست بالهينة؛ فأنت تواجه الحليم، وتواجه العاقل والعالم، وتواجه من هو أعلم منك، ومن هو مثلك ومن هو دونك، وتواجه من يحبك ويجلك ويكرمك، وتواجه من يكرهك ويحسدك.

    إذاً: فهذا ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، فقد جعل بعض الناس لبعضهم فتنة حيث تواجه أموراً لا يعلمها إلا الله، فهذا الداعية يحتاج إلى من يعينه، وإلى من يوفقه، ووالله إن كان بعض طلاب العلم ليشفق على أن يشوش عليه حتى في درسه، وفي بعض الأحيان لا يستطيع أن يتحرك الحركة، حتى لا يشعره أنه تذمر منه، وفي بعض الأحيان تجد طالب العلم يجلس مع عالمه الساعات الطويلة، ولا يستطيع أن يري الملل لشيخه وأستاذه، يخاف أنه لو رأى شيخه منه الملل؛ لسأم من تعليم طلاب العلم من بعده.

    فالمعاملة مع العلماء والدعاة والخطباء ومن يتحمل مسئولية الدعوة صعبة جداً؛ لكن من كان عنه قلب حي وضمير حي أولاً: يخلص لوجه الله عز وجل، ويحتسب الثواب عند الله سبحانه وتعالى، فإذا كان عنده هذا القلب الحي والإخلاص؛ فسيفتح الله عليه، وينزل نفسه منزلة هذا العالم ومنزلة هذا الداعية، فالمرأة تنزل نفسها منزلة زوجها، فلو أنها تقارع هذا الأمر وهي في بيتها مع أولادها وأطفالها، ولا تستطيع أن تتحمل وهم أطفالها، ولربما سبت وشتمت في ساعة الضيق، فكيف بمن يتحمل هموم الأمة؟! وكيف بمن يتحمل هموم طلابه وخاصته؟! فتجده يحمل الهم في تعليمه: كيف يكون هذا التعليم؟ ثم يحمل هماً في الكلمات التي يقولها، والعبارات التي يبينها، وربما دخلت الدواخل من العبارات، وفسرت على غير ظاهرها، ثم يحمل الهم في المناقشات والأسئلة والتبعات، وعندها تدرك إدراكاً يقينياً -لا شك فيه ولا مرية- أن هذا العلم تكل أمره كله إلى الله.. والله لا بقولنا ولا بقوتنا ولا بذكائنا، ولكن الله جل جلاله هو الذي تولى الأمور كلها.

    ولقد نسمع من العلماء والأئمة والخطباء والمعلمين ما يثير الدهشة والعجب والاستغراب.. يقول الإمام: إني أدخل ولا أعي ما أقول من شدة ما أجد من المرض والعناء في قيام رمضان. وحدثني غير واحد من الأئمة الفضلاء رحمهم الله من المشايخ يقول: والله إني أدخل وأنا أحتاج إلى من يحملني إلى المحراب، فما أن أقف وأكبر إلا وفتح الله من معونته ما لم يخطر لي على بال، فإذا بالصدر ينشرح، وإذا بالنفس تبتهج، وإذا باللسان ينطلق، يقول: قبل الصلاة كأن لساني معقود، وما أستطيع أن أتكلم بكلمة، ولكن وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58]، كيف وهم على ثغور الإسلام!! كيف وهم ينفعون الأمة!!كيف وهم ينصحون لدين الله عز وجل!! وإذا لم يعن الله هؤلاء فمن يعين؟!

    فأمثال هؤلاء لهم عند الله معين، ولهم من الله ظهير، فإن قصرت المرأة وابتعدت عن هذا فخذلته، فإن الله ينصره ويعينه، وسيجعل الله عز وجل ويهيئ من هو أصلح من هذه المعونة بالمعية، ولذلك أوصي المرأة أن تعينه والله سوف يعينها.

    لكن مع هذا أوصي الزوج أن يتقي الله في حقوق زوجته، وأن يكون الأئمة والخطباء وطلاب العلم قدوة لغيرهم، وإذا عجزت عن القيام ببعض الحقوق، فلا تفوتك الكلمة الطيبة.. إن الذي يجرح النساء المؤمنات ويؤثر عليهن أنهن لا يسمعن كلمة طيبة، لكن قد يكون بعض المشايخ لا يمدح الطلاب، ولا يثني على من يخدمه، والله يعلم أنه يريد له الأجر أكثر، ويريد له الثواب أعظم، وثق ثقة تامة أنك لن تكون سعيداً في هذه الحياة إلا إذا وطنت نفسك دائماً على أن لا تنتظر شكراً من أحد إلا من الله، الذي يشكر الأعمال الصالحة، سبحانه وتعالى.

    من يفعل الخـير لا يعدم جوازيه لا يذهب الفضل بين الله والنـاس

    فلا يذهب المعروف عند الله، فالمعروف لا ينسى، والخير لا يبلى، والحسنة لا تنسى، فالله لا يضيع من عبده من الحسنات مثقال خردلة وأقل من ذلك، فوطن نفسك دائماً إذا كنت في معاملتك مع الناس الخاصة والعامة، حتى ولو كنت براً بوالدك، فلا تنتظر من والدك كلمة شكر، وقد كان بعض البارين يتمنى أن لا يشكره والده، حتى يكون أجره عند الله أعظم، وثوابه عند الله أجل.

    وجماع الخير كله أن نتواصى بأداء الحقوق والواجبات، فإن المرأة في هذا الزمان تتعرض لفتن كثيرة،؛ خاصة إذا خرجت، فيحرص الزوج على إعفاف أهله والإحسان إليهم.

    أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأسأله أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756495852