إسلام ويب

نداءات الرحمن لأهل الإيمان 47للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن طاعة الله عز وجل وامتثال أوامره، واجتناب ما نهى عنه هو سبيل العباد إلى مرضاته، والفوز بجنته، وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم من طاعته، ومن أعرض عن طاعتهما والانزجار عن نهيهما فإنما حاله كحال البهائم التي لا تعقل ولا تمتثل، بل حال ذلك شر من البهائم، فلا خصلة شر من الكفر.

    1.   

    ملخص لما جاء في النداء السابق

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على عهدنا في نداءات الرحمن جل جلاله، وعظم سلطانه، والبارحة كنا مع نداء خطير جليل، ونعيد تلاوته تذكيراً للناسين، وتعليما لغير العالِمين.

    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:15-16]. هذا النداء يحمل بيان كبيرة من كبائر الذنوب حتى لا نرتكبها ولا نقع فيها، وهذه الكبيرة هي أننا إذا زحفنا على العدو وزحف علينا وتلاقت الجيوش فالذي يعطيهم دبره ويهرب مأواه جنهم وبئس المصير.

    وقد عرف المؤمنون أيام أن كانوا يدرسون كتاب الله أن التولي يوم الزحف من كبائر الذنوب، وقد أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سمعتم من الحديث لما سألوه عن الموبقات، فذكر منها: ( التولي يوم الزحف ). فاحفظوا هذا النداء؛ لأنه يحمل إليكم علماً عظيماً، وكبيرة من كبائر الذنوب، وصاحبها إن لم يتداركه الله بالتوبة والعفو فحسبه أن مأواه جنهم وبئس المصير، مع غضب الله عز وجل.

    1.   

    وجوب طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم وحرمة معصيتهما وحرمة التشبه بالمنافقين

    الآن [ النداء الخامس والأربعون ] وهذا النداء [ في وجوب طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم و] في [ حرمة معصيتهما، وحرمة التشبه بالمنافقين ] فالله مولانا ينادينا ليعلمنا أن طاعته وطاعة رسوله واجبة، ومن عصى الله ورسوله تعرض للعذاب في الدنيا والآخرة، وليعلمنا أن التشبه بالمنافقين في كل سلوكهم محرم على المؤمنين؛ لأن القاعدة التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يستطيع علماء النفس ولا القانون الباطل أن ينقضوها هي قوله صلى الله عليه وسلم: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، أي: من أراد أن يكون مثلهم فأخذ يتشبه بصفاتهم وأحوالهم لا يلبث أن يكون منهم، فإن أنت تشبهت بالصالحين فستكون صالحاً، وإن تشبهت بالفاسدين فستكن فاسداً.

    وهيا نتغنى بهذا النداء لنحفظه بإذن ربنا، ومن يعود بنداء وقد حفظه وفهمه ووطن النفس على العمل به فبشروه بحسن العواقب، فقد فاز، وإذ كان أبناؤنا وآباؤنا يحفظون الأغاني الماجنة والقصائد البدعية الشركية، ويتغنون بها ويفرحون فنحن والحمد لله نتغنى بآيات الله، وبنداءاته لنا، ونحفظها ونفهم مراد الله منها، ونعزم على أن نطبق وننفذ؛ من أجل أن نكمل؛ حتى نتهيأ للملكوت للأعلى، ونتهيأ لأن نخترق السبع الطباق، وننزل في الفراديس العلى، والبرهان على هذا قوله تعالى في سورة النساء: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ [النساء:69]، أي: المطيعون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]. ولا يكذب علينا ربنا، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

    [ الآيات (20 ، 21 ، 22 ، 33)

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:20-23] ] هذا قضاء الله وحكمه، وهذه هي الحكمة الإلهية، وهذا هو النور الإلهي.

    فضل الجلوس في حلق العلم

    قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ). وقد حصل لنا هذا، فنحن في بيت من بيوت الله، بل من أقدسها، ونحن نتلوا كتاب الله ونتدارسه بيننا، والسكينة قد نزلت علينا، فنحن لا نسمع صوتاً وصياحاً وضجيجاً كأصوات الأسواق والمقاهي، بل سكينة كاملة، والملائكة لو كنتم ترونهم والله لرأيتموهم يطوفون بالحلقة ويحفون بها، والله يذكركم في الملكوت الأعلى، ويثني عليكم خيراً، ويقول: عبيد اجتمعوا في بيتي، يتلون كتابي، ويتدارسونه بينهم؛ ليزداد إيمانهم ويقينهم وطاعتهم وصلاحهم. فالحمد لله. والذي يحفظ هذا النداء ويعود به فقد عاد بخير ما يعود به إنسان إلى بيته.

    ولو كان أهل البلاد كلهم هكذا، ولو أن كل حي فيه مسجد كهذا هم الآن بنسائهم وأطفالهم وفحولهم يدرسون كتاب الله لكان وضع الأمة أو البلد أشباه الملائكة، فلا حسد ولا كبر، ولا بغض ولا سرقة، ولا جريمة ولا خداع، بل حب وولاء، وطهر وصفاء؛ لأن آيات الله تحمل ذلك الهدى.

    حال أمة الإسلام اليوم وحاجتها إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله من أجل نجاتها

    احتال العدو على المسلمين، وصرفهم عن كتاب الله إلى الأغاني والأناشيد، وصرفهم عن بيوت الله إلى المقاهي والملاهي، وأنساهم ذكر الله، فعم الجهل، وتجلت حقائق الجهل في الخداع والكذب، والكبر والغش، والزنا والربا، والفجور وغير ذلك، لا إله إلا الله! فأصبحنا عرضة لضربة إلهية، وقد فعل بنا، وراجعوا التاريخ، فقد سلط الله علينا بريطانيا، فأذلتنا وأهانتنا، وسلط علينا إيطاليا وأسبانيا وفرنسا، وحتى بلجيكا وهولندا، وقد سلطهم علينا لأننا فسقنا عن أمره، وخرجنا عن طاعته، وجهلناه وما عرفناه، ولا عرفنا ما يحب ولا ما يكره، فانقسمت القلوب وتمزقت الأهواء والآراء، وأصبحنا أمماً بعد ما كنا أمة، وأصبحنا طوائف ومللاً ونحلاً بعد ما كنا على ملة محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم نتراجع عما نحن فيه، بل وما زلنا نعد هذا الكلام من باب الخيال والأوهام، فأهل أهل القرية لا يمكن أن يتركوا عملهم، ولا أن يرموا بمساحيهم وأدواتهم ويأتوا بنسائهم إلى المسجد، ولكن يمكنهم أن يذهبوا إلى المقاهي والملاهي. وقلنا لهم: ائتسوا باليهود والنصارى، فإذا مالت الشمس إلى الغروب الساعة السادسة فأوقفوا دولاب العمل، وأوقفوا المصانع والمتاجر، ولا تحملوا أطفالكم ونساءكم إلى الملاهي للتنفيس عنهم، والتخلص من كرب العمل والآلام والأتعاب، فهذا كلام من لا عقل له ولا بصيرة، بل أقبلوا على الله في بيته بنسائكم وأطفالكم؛ لأنه سيدنا ومولانا، وقد دعانا إليه؛ لنتعلم هداه، ولنعرف كيف يحبنا ونحبه، وفوق ذلك لنتهيأ لأن ننزل بجواره في دار السلام، فإذا أعرضنا عن الدنيا ساعة ونصفاً من الليلة فلا يعد هذا شيئاً أبداً، ولكن الذين هبطوا من علياء السماء رفعهم أمر عظيم، فأمتنا هبطت وقد كانت كالكواكب الزهر في سماء الدنيا تنير الحياة، وهبطت من السماء إلى الأرض، ولا أحد ينصحها، وجئنا بالاشتراكية وتغنينا بها، وقلنا: نوالي من يواليها ونعادي من يعاديها، وظننا أننا وجدنا باب الكمال والإسعاد، وما هي إلا جولة وإذا نحن في شر أشد مما كنا قبل، ثم تغنينا بالديمقراطية واليمين وغير ذلك، وإذا بنا نهبط فوق ذلك الهبوط، وبعد فشلنا لم نستطع أن نتحرك. ووالله إن الرافعة لهذه الأمة الهابطة موجودة، ولا تعرف الدنيا رافعة مثلها، وهي لا تباع ولا تشترى، وإنما تعطى مجاناً لطالبيها والمعين الله، وهذه الرافعة لا توجد في شرق أوروبا، ولم تصنعها اليابان، وإنما هي ورب الكعبة هذه الآيات فقط، فقد قال تعالى من سورة الأعراف، والأعراف سوف تشاهدونهم يوم القيامة، قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175] مثلنا، ولا تسأل عن مثالنا. فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:175] لأن المناعة ضاعت وذهبت، فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175]. ولن تجد حروفاً تدل على الغواية أكثر من هذا الوسخ في العقل .. في الفهم .. في السلوك، وفي كل الحياة. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [الأعراف:176]. وليس كمثل الأسد أو السبع. إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176]. آمنت بالله. وأحسب كل سامع فهم الآن، فالرافعة ليست مصانع الأيدروجين والطاقة والأموال، وإنما الرافعة هي آيات الله، ومنها هذه النداءات التي نسمعها.

    واسمع الآية مرة ثانية واعجب: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ [الأعراف:175] يا رسولنا! واقرأ عليهم نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [الأعراف:175]. كما أعطانا الله آياته، وحفظها نساؤنا وأطفالنا ورجالنا. فَانسَلَخَ مِنْهَا [الأعراف:175]. وامشِ إلى المحاكم العالم الإسلامي باستثناء المملكة، وادخل المحاكم فلن تجد فيها كتاب فقه ولا سنة ولا حديث. وهذا هو الانسلاخ عن آيات الله، فبعد أن كان يحفظها وتحوطه وتصونه تركها ليغني ويزغرد كما يشاء، ولما انسلخ منها زالت المناعة، ولم يبق له حصن، فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [الأعراف:175]. فوقع في الزنا والربا والخيانة والكذب والجبن والعار والشح والبخل، وكل المعايب، ولصق بالأرض. وَلَوْ شِئْنَا [الأعراف:176] والقائل هذا هو الله رب العالمين، لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ [الأعراف:176] مع الأسف أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ [الأعراف:176]. والخلود إلى الأرض: الركون إليها، فكان لا يفكر إلا في النكاح والأكل والشرب والمال، وكيف يحصل عليه فقط، ولا يرفع رأسه إلى السماء، ولا يفكر في الدار الآخرة، ولا في أي شيء آخر. وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:176]. ولو اتبع عقله لدفعه إلى أن يغير حاله، ولكنه اتبع الهوى، فإذا أردت أن تضع له مثالاً صادقاً فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176]. فإن جريت وراءه فلسانه مدلى، وإن تركته عند البركة والماء والظل -ظل الشجرة- فهو يلهث أيضاً.

    والله لن تنتهي حيرة المسلمين حتى يعودوا إلى كتاب الله وإلى هذه الدعوة المحمدية، وقد حلفنا على هذا أربعين سنة، ولا تبكوا ولا تحزنوا، فأنتم إن شاء الله متهيئون إلى السماء، فالنجاة النجاة! فاطلب نجاة نفسك وإن غرق العالم بأسره. وننجي أنفسنا بأن نطهرها ونزكيها وننظفها، فلنطلب أدوات ذلك، ولنستعملها على علم، فإذا زكت نفسك وطابت وطهرت فابشر؛ فإنك من الفائزين، سواء كنت غنياً أو فقيراً، وضيعاً أو شريفاً، ولا عبرة بأي شيء، بل العبرة بطهارة النفس، وقد عرف أبناؤنا وبناتنا حكم الله في هذا، فقد قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، أي: من زكى نفسه. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10]. فإذا أردت الفلاح فزك نفسك، فالفلاح والله منوط بتزكية النفس، فهيا نزكي أنفسنا، ومن الآن نمشي إلى أهل العلم يدلوننا ويعلموننا الأدوات التي نزكي بها أنفسنا، فالنفس تزكو بالإيمان والعمل الصالح، وتخبث بالشرك والمعاصي، فإذا فهمنا هذا عدنا إلى البيت وقد عرفنا أدوات التزكية وأدوات التدسية، والإيمان - حتى نؤمن- هو: أن تؤمن بالله رباً وإلهاً لا رب غيره، ولا إلهاً سواه، وأن تؤمن بملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقضاء والقدر، ولا تفرق بين رسول ورسول، ولا بين نبي ونبي، فإذا عرفت هذا فعلمه أهلك. والعمل الصالح ليس رقصة ولا أغنية، وإنما أنواعه كثيرة، ويحتاج إلى أن تعكف على طلبه مدة من الزمن حتى تعرفه، ولا أستطيع أن أبينه بكلمة، ولكن تعالوا إلى بيت ربكم بنسائكم وأطفالكم كل ليلة، وستتعلمون العمل الصالح ليلة بعد أخرى، ولا يمضي عليكم زمن إلا وقد عرفتم العمل الصالح، وكيف تستعملونه في تزكية نفوسكم وتطهيرها. فخذ أهلك إلى بيت الله، فإذا اجتمعوا في بيت ربهم اجتماعكم هذا كل ليلة من المغرب إلى العشاء لن يمر إلا عام .. عامين .. ثلاثة ووالله لا يبقى من لا يعرف الإيمان والعمل الصالح، ولا من لا يستخدمه في تزكية نفسه وتطهيرها. فاعرفوا هذا أيها المستمعون! ويا أيتها المستمعات! قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].

    وإذ أردت أن تعرف الفلاح والتدسية والخسران والخيبة فأقول: إن الله بين لنا هذا في آية من كتابه، وقد حفظها المستمعون والمتسمعات، وأصبحت عندهم من الضروريات، وهي: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]. هذا الفوز والفلاح، أن تبعد عن عالم الشقاء والنار، وتدخل الجنة.

    أمر المؤمنين بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

    والآن مع شرح النداء: [ اعلم أيها القارئ الكريم! والمستمع المستفيد! زادكما الله علماً وحلماً وحكمة، اعلما أن الله تعالى في هذا النداء ينادي عباده المؤمنين الذين آمنوا به وبرسوله، وصدقوا بوعده لأوليائه، وهو النعيم المقيم ] وصدقوا [ بوعيده لأعدائه، وهو النار وبئس المصير ] وهؤلاء هم المؤمنون، فهم الذين آمنوا بالله وبرسوله وبلقائه، وآمنوا بوعده لأوليائه ووعيده لأعدائه، وقد وعد الله المؤمنين الجنة، وتوعد الكافرين والمشركين بالنار وبئس المصير [ وذلك يوم لقائه سبحانه وتعالى ] ووالله العظيم إننا سنلقى الله وجهاً لوجه في ساحة فصل القضاء، وهي ساحة عظيمة في يوم القيامة، وإذا أردتم أن تشاهدوا ساحة فصل القضاء فاسمعوا: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر:68-69] إذا جاء الله، وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:69]. هذه ساحة فصل القضاء. فقوله: وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر:69] هذه أرض الفصل والقضاء، وهي ساحة الحكم. وَوُضِعَ الْكِتَابُ [الزمر:69]. والكتاب: الصحف، وهناك من يأخذ كتابه باليمين، وآخر يأخذه بشماله، ويوضع الميزان، ويجري التنفيذ للأحكام.

    قال: [ فيأمرهم ] أي: أولياءه المؤمنين [ بطاعته وطاعة رسوله، وينهاهم عن الإعراض عنه، وهم يسمعون الآيات تتلى ] وتقرأ عليهم [ والعظات والمواعظ تتوالى في كتاب الله عز وجل وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن نصرهم وتأديبهم كان ثمرة إيمانهم وطاعتهم، فإن هم أعرضوا وعصوا فقد تركوا، وقد خسروا ولاية الله تعالى لهم، وأصبحوا كغيرهم من أهل الكفر والفسق والعصيان.

    هذا معنى قوله تعالى في أول النداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال:20] ] يعني: يسمعون ويدبرون ويعرضون.

    النهي عن معصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

    قال: [ أما قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأنفال:21] فإنه ينهاهم عز وجل ] عن [ أن يسلكوا مسلك المشركين واليهود والمنافقين؛ إذ الكل كان موقفهم مما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم واحداً، وذلك في التصامم عن سماع الآيات الحاملة للحق والداعية إليه، والمبينة للهدى والفوز به، وفي التعامي عن رؤية آيات الله الدالة على توحيده، كأنهم يقولون - بل يقولون-: إنا عما يقول محمد في صمم، وفيما يذكر ويدعو إليه في عمى؛ إذ هم يقولون: سمعنا بآذاننا وهم بقلوبهم لا يسمعون؛ وذلك لأنهم لا يفكرون ولا يتدبرون، فلذا هم في سماعهم كمن لا يسمع؛ لأن العبرة في السماع الانتفاع به، لا مجرد سماع الصوت. كان هذا معنى قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأنفال:21] ] وإنما يكذبون. فلا تتشبهوا بالكافرين واليهود والمشركين.

    الكفار شر الخلق عند الله عز وجل

    قال: [ أما قوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ [الأنفال:22] ] والدواب هي كل ما يدب على الأرض من الهرة إلى الأسد، والدواب مختلفة، ومنها السباع والضباع والبشر، وشر الدواب ليس الضباع والله، ولا القردة ولا الخنازير، وإنما هم شر الدواب [ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [الأنفال:22] ] والأصم: الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا ينطق. والمقصود الكفار والمشركون، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]. وأصبحوا شر البرية وشر الدواب؛ لأنهم يخلقهم خالقهم ويرزقهم ويربيهم ويكملهم، ويخلق كل شيء لهم ومن أجلهم وهم يكفرون به ويسخرون منه ويستهزئون به، ويخرجون عن طاعته، وهذا لا تفعله القردة ولا الحيوانات، بل لا يفعل هذا إلا بني آدم والجن، فهو يخلق ويرزق ويعطي ويهب ويعد لنا الجنة بكاملها ويخلق كل شيء من أجلنا، ولا يطلب منا إلا أن نزكي أنفسنا، لنجاوره فنأبى إلا تخبيثها بمعاصيه والفسق عن طاعته. ومن فعل هذا حقاً فهو شر الدواب. واقرءوا: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [الأنفال:22]. واقرءوا أيضاً قول الله تعالى من سورة البينة: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]. ومعنى البريئة: الخليقة، وبارئ النسم الله. وقلنا: البريئة ولم نقل: البرية لأن أصلها البريء هذا أصلها، ولكن طلباً للخفة والتيسير حولوا الهمزة ياءً وأدغموها في الياء، فكانت البرية، والأصل هي البريئة، والبريئة بمعنى المبروءة، فاعلة بمعنى مفعولة، والخليقة بمعنى المخلوقة. فشر الخلق الكفار والمشركون، لا القردة ولا الخنازير، ولا تعتب علينا يا عبد الله! فسيدهم وخالقهم ومالكهم هو الذي سماهم بهذا الاسم، ولا دخل لك أنت، ولو أردت أن تعرف لعرفت يقيناً إنهم والله لشر ما خلق الله.

    قال: [ فهو إخبار منه تعالى يخبر عباده المؤمنين بحال الكافرين؛ ليكونوا على بصيرة في أمر دعوتهم وجهادهم ومعاملاتهم، يخبرهم بأنهم شر الدواب، وعلة ذلك: كفرهم بربهم وشركهم به أوثاناً، فعبدوا غيره، وضلوا عن سبيله، ففسقوا وظلموا وأجرموا، الأمر الذي جعلهم حقاً شر الدواب في الأرض. كان هذا تنديداً بالمشركين واليهود الكافرين والمنافقين ] في المدينة [ وفي نفس الوقت هو تحذير للمؤمنين وفي كل زمان ومكان ودائماً وأبداً ] تحذير [ من معصية الله ورسوله، والإعراض عن كتابه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم ] والوقع شاهد، فقد ذل المسلمون وهبطوا وافتقروا وهانوا لما عصوا ورسوله وأعرضوا عن كتابه [ لأن الشر الذي أصبح فيه المندد بحالهم من المشركين والكافرين من اليهود والمنافقين إنما كان بسبب معصيتهم لله ورسوله، والإعراض عن كتابه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم. كان هذا معنى قوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [الأنفال:22].

    أما قوله تعالى في الآية الثالثة من آيات هذا النداء الخامس والأربعون: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23] إن هذا من باب الفرض والتقدير ] فلو أسمعهم لأعرضوا؛ لأنه علم أزلاً قبل أن يخلقهم أنهم لا يقبلون الهدى ولا يطلبونه. وهذا المعنى قد قربناه للأفهام والحمد لله، وقلنا: الفلاح الذي يحمل في كفه بذر الحبحب - وفي المغرب يسمونه: الدلاع، وفي العراق يسمونه: الرِّقي- وهذا الحبحب حلو ويحمل في كفه الثانية بذر الحنظل - والحنظل نوع من أنواع الحبحب إلا أنه صغير لا يكبر، وبذره وهيكله ونباته وشجرته سواء، وطعمه أشد مرارة، يضرب به المثل- هذا الفلاح يعرف أين يغرس هذا وأين يغرس هذا؛ لأنه عرف ما ينتج عن هذا، وعرف ما ينتج عن هذا. والله عز وجل لما خلق الأرواح نظر إليها، فعرف الروح التي تستجيب لندائه ودعوته وتقبل على طاعته، فكتب ذلك لها، وعرف الروح التي كحبة الحنظل تتمرد على رسله، وتخرج عن طاعته وتحارب أوليائه، فكتب ذلك، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]. فاعرفوا هذه الحقيقة [ إذا سبق علم الله تعالى بهم في أنهم لا يسمعون؛ إيثاراً منهم للكفر على الإيمان، والفسق على الطاعة، والضلال على الهدى. لذا لو أسمعهم - أي: لو جعلهم يسمعون آيات الله كما يسمعها المؤمنون الموحدون، ويعرفون ما تدعو إليه من الهدى، وما تحمله من بشارة المؤمنين ونذارة للكافرين والمنافقين والمشركين- لتولوا وهم معرضون ] بعد السماع [ والعياذ بالله تعالى. وسر هذا الإعراض بعد السماع هو: أن سنة الله تعالى في الإنسان أنه إذا توغل في الشر والفساد والظلم والخبث يصبح غير قابل للخير والإصلاح والعدل والطهر ] وأقرب مثال لذلك: أن المدمن على الحشيشة كالكوكايين والأفيون لو تعطيه ما تعطيه لا يترك ذلك، والمدخن الذي ألف التدخين خمسين سنة تعظه: يا عبد الله! هذا حرام، فيقول: نعم، استغفر الله، ولا يستطيع تركها. وهذه سنة الله. فإذا توغل العبد في الفساد لا يرجع، ومثل ذلك: إذا انتشر المرض واستشرى في الجسم الأطباء يقولون: لا علاج، وفي بدايته يعالجونه وقد يشفى المريض، لكن إذا استشرى الداء وانتشر يقولون: لا نستطيع، فات الحال. فلهذا التوبة تجب على الفور، وإياك أن تقول: سأتوب غداً. فإذا زلت القدم ووقعت في المعصية فقم وأنت تصرخ: أتوب إلى الله واستغفره، وأما أن تؤجل فوالله لا تأمن أن تصبح تلك المعصية لازمة لك، كمعاص كثيرة لا يستطيع أصحابها أن يتركوها، فقد أصبحت طبعاً من طباعهم وصفة من صفاتهم.

    قال: [ فقد تدعوه ويسمع منك ما تدعوه إليه، وقد تبشره ] ولا يستجيب. والبقية غداً إن شاء الله.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصبحه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756535148