إسلام ويب

سلسلة مقتطفات من السيرة [14]للشيخ : عمر عبد الكافي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أمر الله عز وجل بإقام الصلاة، وأوجب على العبد أن يتطهر استعداداً لها، فيدخل المسلم الصلاة وهو طاهر البدن والمكان من النجاسة، وطاهر القلب من الحقد والبغضاء والشحناء، وطاهر الجوارح من المعاصي والآثام، فإذا صلى العبد وهو على هذا الحال صار نقياً من الأنجاس الحسية والمعنوية، فيقبل الله صلاته ويرتفع بها درجات.

    1.   

    أنواع الطهارة

    أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاةً وسلاماً على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فهذه هي الحلقة الرابعة عشرة في سلسلة حديثنا عن السيرة العطرة على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، من رب الأرض والسماوات، وهي الحلقة الخاصة بموضوع الصلاة كما وعدنا يوم الإثنين الماضي، حيث تعرضنا في سلسلة السيرة العطرة للرحلة العظيمة - رحلة الإسراء والمعراج - لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلنا: إننا لن نتعرض لما جاء في الكتب من تفصيلات ربما لا ترقى إلى مستوى الصحة، ولكن توقفنا عند الأمر بالصلاة الذي يرينا مكانة الصلاة في الإسلام، ومكانة الصلاة للمسلم، ومنزلة الصلاة بالنسبة لأركان الدين، فهي عماد الدين، من أقامها أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين.

    وفي بداية هذه الجلسة الطيبة ندعو الله عز وجل عسى أن تكون ساعة من ساعات الإجابة، اللهم اجعل هذه الجلسة خالصة لوجهك الكريم، اللهم ثقل بها موازيننا يوم القيامة، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل يا ربنا بيننا شقياً ولا محروماً.

    اللهم تب على كل عاصٍ، واهد كل ضال، واشف كل مريض، وارحم كل ميت، وانصر كل مظلوم، واقصم ظهر كل ظالم، اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا، وسامحنا وتقبل منا، صلنا بك يا ربنا ولا تقطعنا عنك، اللهم صلنا بك ولا تقطعنا عنك، اللهم صلنا بك ولا تقطعنا عنك.

    اللهم وكما رزقتنا الإسلام بدون أن نسألك اللهم فارزقنا الجنة ونحن نسألك، اللهم ارزقنا الجنة ونحن نسألك، وارزقنا الجنة بدون سابقة عذاب، اللهم زحزحنا عن النار وعما قرب إليها من قول أو عمل، وقربنا يا مولانا من الجنة، وما قرب إليها من قول أو عمل، إنك يا مولانا على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على البشير النذير، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    الحديث عن الصلاة حديث يستمد أهميته من مكانة الصلاة في الإسلام، وإذا أردت أن تدخل في الصلاة فلا بد لك من ثلاثة شروط، وتسمى شروط صحة، وهي: طهارة البدن، والثوب، والمكان.

    مسألة طهارة البدن سهلة؛ لأن الطهارة أنواع أربعة:

    أولاً: طهارة البدن من الأنجاس.

    ثانياً: طهارة الجوارح من المعاصي.

    ثالثاً: طهارة القلوب من الآثام والتفكر فيها.

    رابعاً: طهارة الباطن مما سوى الله عز وجل، وهي طهارة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.

    1.   

    أهمية إقامة الحكم بشريعة الله

    قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم : (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة)، يعني: الإسلام سينتهي حلقة حلقة (أولها نقضاً الحكم وآخرها الصلاة) .

    الحكم بكتاب الله وبسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم قد انتهى أمره، فأول شيء ينتقض في الإسلام وينتهي هو الحكم، بشريعة الله، فهذا أول ما يضيعه المسلمون للأسف!

    تسمع عن شخص قبضوا عليه له ستة وأربعون سرقة، مع أنه لو سرق مرة واحدة قطعت يده، فإذا سرق مرة أخرى تقطع له رجله، فإذا سرق مرة ثالثة تقطع له يده الثانية، ثم تقطع رجله الثانية، فإن سرق مرة أخرى فللحاكم أو الوالي أن يرى ما يراه؛ لأن هذا مفسد في الأرض.

    فالله عز وجل لا يفضح العبد من أول مرة، فمن كرمه سبحانه أنه لا يفضحك في الذنب من أول مرة، فمن ستر الله عليك أنه يسترك مرة ومرة ومرة ومرات، لكن إن تبجحت وتماديت كشفك رب العباد سبحانه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا تتبعوا عورات المسلمين فتفضحوهم، فمن تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته وفضحه ولو في جوف بيته).

    يعني: إذا كانت عيناك تراقب عيوب الناس وتطلعان على عورات الناس وتبحثان عن المثالب والمعايب عند الناس فإن الله سبحانه وتعالى يتتبع عورتك، وإذا تتبع الله عورتك فضحك داخل بيتك؛ ولذلك الإمام الشاطبي رضي الله عنه كان يقول:

    عفوا تعف نساؤكم في المحرم وتجنبوا ما لا يليق بمسلم

    من يزن في بيت بألفي درهم في بيته يزن بربع الدرهم

    إن الزنا دين فإن أقرضته كان القضا من أهل بيتك فاعلم

    من يزن يزن به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهم

    فأنت إذا نظرت إلى عورات ومحارم الناس يسلط الله عليك من ينظر إلى محارمك، فلو نظرت أنت إلى محارم الناس ماذا أخذت منهم؟! ولو نظر هؤلاء الناس الذين نظرت إلى محارمهم أو خضت في عوراتهم بعينيك فماذا أبقوا لك؟!

    فإذا كنت تنهش في عرض الناس فكل الناس ينهشون في عرضك، وإذا كنت تعير بالذنب أخاك فإن الله يعافيه ويبتليك.

    ولقد ثبت أن امرأة حلفت بالله أنها كانت تزور قريبتها، وعند قريبتها ولد فيه مرض -نسأل الله أن يعافي مرضانا ومرضى المسلمين- فأقسمت هذه المسلمة بالله أنها كلما كانت تذهب تزور هؤلاء الناس تعيب عليهم الولد، فربنا رزقها بولد فيه نفس المرض، كما تدين تدان!

    قال صلى الله عليه وسلم: (البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، واعمل ما شئت، فكما تدين تدان) صلى الله وسلم عليك يا سيدي يا رسول الله!

    فأنت إذاً يجب عليك أن تقرأ التاريخ فستجد أول عروة تضيع من المسلمين الحكم بكتاب الله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لحد يقام في أمتي خير لهم من أن يمطروا أربعين سنة)، يعني: لو طبقنا حداً واحداً من حدود الله عز وجل، لكان أحسن لنا من مطر أربعين سنة.

    فالموت على توبة خير من العيش على معصية، يعني: الإنسان يموت وهو تائب منيب إلى الله راجع إليه أحسن وأفضل بكثير من أن يعيش وهو عاص؛ لأن مسألة الإمساك بمن يتعاطى المخدرات علاجها بسيط جداً، قبض عليه وثبتت التهمة، لكن الكارثة أن ترى محامياً يدافع عن تاجر المخدرات، فيجب على القاضي أن يحكم على المحامي كما يحكم على تاجر المخدرات، فيكونا مع بعض، وما أدى إلى الحرام فهو حرام؛ ولذلك سيدنا الحبيب لما جيء بالمرأة المخزومية التي سرقت وأراد قطع يدها، فشفع فيها أسامة ، فقال له رسول الله: (أتشفع في حد من حدود الله؟!) .

    ثم سيدنا الحبيب صعد المنبر وكان إذا غضب يظهر منه عرق في جبهته صلى الله عليه وسلم، وكان يغضب إذا انتهكت حرمة من محارم الله، فقال: (إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه) الشريف أي: ذو المكانة، (وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها).

    ولذلك هو كان يقدم أهله في المغرم ويؤخرهم في المغنم، في غزوة بدر خرج نفر من المشركين وقالوا: أخرج لنا أكفاءنا يا محمد! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قم يا علي ، وهو ابن عمه وزوج ابنته، وقم يا حمزة ، وهو عمه، وقم يا أبا عبيدة وهو ابن الحارث بن عبد المطلب ، فهؤلاء الثلاثة كانوا أول من يبارز في غزوة بدر، وفي ساعة توزيع الغنائم هم آخر أناس، فليس تولي الكرسي وسيلة للغنى!

    وليس هذا فحسب، بل كان يقول: (يا بني هاشم! يا بني عبد المطلب! يا بني عبد مناف! لا يأتيني الناس بحسناتهم يوم القيامة وتأتونني بذنوبكم تحملونها -أو أوزاركم- على ظهوركم تقولون: أدركنا يا محمد، لا أقول لكم إلا ما قاله العبد الصالح: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] اللهم قد بلغت! اللهم فاشهد).

    سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أول ما تولى دخل على زوجته فاطمة من أجل أن يصلح البيت أولاً؛ لأن البيت لو صلح صلح من كان في البيت.

    المتصدرات للحركة النسائية في مصر، تبحث عن حياتهن فتجدهن فاسدات وفاشلات في الحياة الزوجية، وفاقد الشيء لا يعطيه، تجد واحدة فاشلة في الحياة الزوجية ومتصدرة، هل هذه هي التي تصلح أمر النساء؟! نحن نريد قدوة، فالمسلم عندما يرى القدوة تصلح حاله وكما قلنا: عمل رجل بألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل.

    وهذا عمر رضي الله عنه أول ما تولى دخل على فاطمة بنت عبد الملك زوجته وبنت عمه، وكانوا يعيشون أيام عز ومال من قبل، فقال لها: يا فاطمة ! لقد توليت أمر المسلمين، وسوف أعيش على الحصير، فأمرك إليك إن شئت المواصلة فواصلي، وإن شئت الفراق فالأمر إليك.

    فقالت: بل أعيش على الحصير لأدخل الجنة، وعاشت فاطمة على الحصير تقول: كنت أستيقظ بالليل فأرى عمر بن عبد العزيز رضوان الله عليه ينتفض، فأقول: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ يقول: كلما أتذكر أنني مسئول عن المسلمين أذكر اليتيم الجائع، والمسكين العاري، والأرملة التي لا تجد لأطفالها طعاماً، وأظن أنهم خصومي يوم القيامة، وربما لا تقوم لي حجة، وإنا لله وإنا إليه راجعون!

    جعلوا يقسمون المال عنده داخل بيت المال، فوضع يده على أنفه ليسدها، فقيل: ما هذا يا عمر ؟ فقال: وهل ينتفع منه إلا برائحته! كيف أشم شيئاً ليس من حقي؟! هذا كلام نقوله ونفضفض، ونسأل الله السلامة.

    وكان أبو بكر يدعو قائلاً: يا من سترتنا في الدنيا لا تفضحنا على رءوس الأشهاد يوم القيامة، ادع هذه الدعوة الصالحة لا تنساها: اللهم يا من سترتنا في الدنيا لا تفضحنا على رءوس الأشهاد يوم القيامة.

    ومن كرم الله علينا أن الله إذا ستر عبداً في الدنيا فهو أكرم من أن يفضحه على رءوس الأشهاد يوم القيامة، ما دام ستر في الدنيا فيكون قد ستر في الآخرة، لكن نريد دعواتك، ندعو لك بالستر الجميل، اللهم سترك الجميل يا رب!

    نحن نذكر قصة المرأة لما جيء بسارق فقطع عمر بن الخطاب يده، وجاءت أمه باكية: يا أمير المؤمنين! أتقطع يده من أول مرة! قال لها: يا أمة الله! ما كان الله ليفضحه من أول مرة، فدخل سيدنا علي على الولد بعدما قطعوا يده، وقال له: أستحلفك بالله، كم مرة سرقت؟ قال: إحدى وعشرين مرة، تركه يسرق مرة ومرتين وثلاثاً.

    وفي إحدى محاكم الشام قبل أن تترك الشريعة في بلاد المسلمين أقيم الحد على شاب عمره عشرون سنة، فجاءوا به إلى القاضي، فنطق القاضي بالحكم على أن تقطع يده، فصرخ الولد وقال: اقطعوا لسان أمي قبل أن تقطعوا يدي، قال: سرقت بيضة من بيت الجيران، فزغردت أمي وقالت: لقد صار ابني رجلاً، مثلما تدلل ابنك عندما تجده يضرب ابن عمه فتفرح بأن الولد قد كبر، علمه الأدب بدلاً من تعليمه قلة الأدب.

    إذاً: الآن الولد يشرب الدخان من أجل أن يكون رجلاً، فتراه يضعه في فمه، ويخرجه من أنفه وأذنيه، إذاً كيف يكون هذا رجلاً؟! فلو وجد الصحبة الطيبة والأم الصالحة، لما كانت هذه حاله: (لحد واحد يقام في الأرض خير لأمتي من مطر أربعين سنة).

    إذاً: الله عز وجل كتب على الأمة المحمدية أن أول عروة تنتقض وتضيع: الحكم بالشريعة، وآخر عروة تنقض الصلاة، فما دام الحكم ضائعاً ماذا بقي لنا؟ إذاً لا بد أن نتمسك بالصلاة.

    1.   

    طهارة الظاهر من النجاسات

    نجاسة الكلب

    إذاً: الطهارة أنواع أربعة:

    النوع الأول: طهارة الظاهر من النجاسات، والنجاسات إما جمادات أو حيوانات أو موائع يعني: سوائل.

    الحيوانات كلها طاهرة ما عدا الكلب والخنزير، فيا من تربي في بيتك كلباً! هذا الكلب إذا ولغ في وعاء لك فإنه لا يطهر هذا الوعاء إلا بغسله سبع مرات أولاهن بالتراب.

    يقول بعضهم: لا يا أستاذ! الناس تحضروا وأنت ما زلت تأخذ بالتراب، الآن توجد المطهرات وغيرها، ويذكر لك أنواعاً من المطهرات التي يضحكون عليهم بها في الإعلام، ويقول لك: هذا الذي ينظف ويلمع ويصنفر.. وانظري غسيلك أنظف من غسيلي.. والغسيل كما هو، غش في غش، وتجد المرأة شعرها بدأ يتساقط، يقول لها: نحن عندنا شامبو يخرج القرف من الشعر، وإذا انتهى الشعر من أين سيخرج؟

    عجوز ترجي أن تكون صبية وقد شاب منها الرأس واحدودب الظهر

    تدس إلى العطار ميرة أهلها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر

    ويقول الشاعر:

    ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب

    إن من شاب في الإسلام لن يعذبه الله يوم القيامة في النار، والناس البسطاء اليوم يذهبون إلى الحلاق، فيقولون له: اصبغ لي شعري، نق لي الشيب!

    يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) .

    أهل العلم الحديث يقولون لنا: عندما يلغ الكلب في الإناء ينزل الميكروب في كمية من اللعاب ويبقى على شكل شريط، أنت لو تراها على الميكروسكوب الإلكتروني، تجده عبارة عن شريط من اللعاب، وفيه ميكروب الكلب، فعندما تأتي تغسل بأي نوع من المنظفات تجد المنظف ينظفه، وبعدما يمر عليه المنظف يعود اللعاب مرة أخرى ويحتفظ بالميكروب كما هو، ولو حتى غسلت سبعين ألف مرة فإنه يبقى الميكروب.

    والرجل الألماني الحاصل على جائزة نوبل في العلوم سنة خمسة وستين، لما قرئ عليه هذا الحديث رجع إلى المعمل، وقعد يغسل اللعاب بكل نوع من الكيماويات، فوجد أن الميكروب ما زال باقياً فلما مسح الطبق بالتراب نظفه ووجد أنه لا أثر للميكروب، فقال: إن محمداً يعرف هذا منذ ألف وأربعمائة سنة، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله.

    فوجود الكلب في بيتك له عدة مصائب: المصيبة الأولى: أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا تمثال، فالذي عنده كلب في البيت لا لصيد ولا لحراسة فإنه ينقص من ثوابه كل يوم قيراطان أقلهما كجبل أحد.

    إذاً: الكلب الموجود في البيت شر؛ لأن الملائكة لن تدخل بيتاً فيه كلب، كذلك الكلب نجاسة، يلعب بالبول ويلحس فيك وأنت متوضئ، إلى غير ذلك، فالحيوانات كلها طاهرة ما عدا الكلب والخنزير.

    نجاسة الخنزير

    الخنزير نجس، بعضهم يقول: يا أستاذ! أنا عندي روماتيزم في مفاصلي قال لي الدكتور: ادهنها بدهن خنزير، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً كهذا أو قريباً منه، هل نتداوى بالخمر يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الخمر داء وليس دواء، ما جعل الله شفاء أمتي فيما حرم عليها).

    إذاً: البيرة حرام، وما دام أنها حرام فلا يستشفى بها، ولقد ثبت أن الذين يشربون البيرة أنها تريحهم مدة مؤقتة، ثم تنقلب فتترسب في الكلى فتتعب الكلى أكثر، فما جعل الله شفاء الأمة المحمدية فيما حرم الله عليهم أبداً.

    إن الله من حبه ورحمته عندما يحرم شيئاً يكون ضاراً بالإنسان، وعندما يحلل شيئاً يكون نافعاً للإنسان، فهناك آلاف الأنواع من المطاعم والمشارب جعلها حلالاً واستثنى منها بعض ما يذهب العقل، ويسبب ضرراً صحياً للجسد، فهذا حرمه الله.

    نحن لا نبحث عن العلة، ولكن نقول: آمنا بالله وسمعنا وأطعنا، فالصحابة لما قيل لهم: لا تأكلوا الخنزير، قالوا: سمعاً وطاعة، واليوم يقال لأحدنا: هذا فيه التيفود والدودة الشريطية، والفيروسات، والأميبيا وكلها تتعب البطن والأمعاء، وتصيب الإنسان بعدم الغيرة وغيرها، ونسي شيئاً اسمه: تعبد لله عز وجل.

    واليوم يضحكون علينا، يقولون: الوضوء هذا نظافة، والصلاة رياضة، نقول: لا، الوضوء هذا عبادة، لأنه لو كان من أجل النظافة فوسائل النظافة أكبر من ذلك، والصلاة عبادة، وائتمار بأمر الله، وليست رياضة!

    هذا رجل فرنسي اكتشف في سنة خمس وثمانين شيئاً فقال: إن الذي عنده الغضروف يريد أن يعجل في شفائه فعليه أن يتعالج بعلاج طبيعي، فيقوم بحركات مثل حركات المسلمين في الصلاة وسيشفى، لكن أنت يجب أن تقول: سمعنا وأطعنا ونحن نصلي لأن الصلاة مفروضة، فإذا وجد فيها فوائد بدنية أو فوائد قلبية فهذا خير.

    وسميت الصلاة بهذا الاسم لأنها صلة بين العبد وربه، وسيدنا علي فسر كلمة الأمانة بالصلاة: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] فقال: الأمانة الصلاة.

    بالنسبة للجمادات من النجاسات إذا مسها الإنسان ولم يعلق شيء منها بثوبه ولا ببدنه فلا شيء عليه، وإذا تحول هذا الجماد إلى مائع أو سائل فسيعلق في ثوبك.

    1.   

    طهارة الجوارح من الآثام والمعاصي

    النوع الثاني وهو أهم: طهارة الجوارح من الآثام والمعاصي:

    ومن فضل الله علينا أن الأشياء التي سنحاسب عليها أعطانا ربنا باباً نقفل به على هذا الشيء، من أجل ألا يعمل وقت ما نريد، وأسوأ ما عندنا هو اللسان، وعندما لا تريد أن تتكلم تقفل فمك.

    ولذلك أبو بكر رضي الله عنه كان يضع حصاة في فمه تحت لسانه، فإذا أراد أن يتكلم يمسكها بيده ثم يتكلم، قال أبو بكر : أنا أضع حصاة في فمي من أجل أن يثقل لساني، فإذا أردت أن أتكلم أخرج الحصاة فأكون قد فكرت في الكلمة هل هي صحيحة أم هي خطأ؟ فإن كانت صحيحة قلتها، وإن كانت خطأ لا أقولها.

    إذاً: يجب أن يكون لسان العاقل خلف عقله، ولسان الجاهل أمام عقله، قيل للحسن البصري : لماذا تتكلم في اليوم سبع أو ثمان كلمات؟ قال: قبل أن أقول الكلمة أسأل نفسي هل توضع لي في ميزان الحسنات أم توضع لي في ميزان السيئات؟! فإن وجدتها توضع في ميزان الحسنات قلتها، وإن وجدتها توضع في ميزان السيئات امتنعت عنها، فرأيت أن أكثر كلماتي سوف توضع في ميزان السيئات؛ فلذلك سكت!

    يقول تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] انظر كم مضى من عمرك وأنت تتكلم؟ لا تحسب الثلاثة عشر عاماً؛ لأنك لا زلت صغيراً، فيكون لك سبع وأربعون سنة وأنت تتكلم فيها، فلو تكلمت في اليوم ساعة أو ساعة ونصفاً صار لديك خمسمائة ساعة في السنة، وأنا أضرب هذا المثال لشخص ما أحد يسمع صوته، سبحان الله خمسمائة ساعة في السنة، وطوال الخمسين سنة التي تكلمت فيها والملك يكتب عنك! ولذلك جعل مالك بن دينار رضوان الله عليه يبكي ويبكي، فقيل: ما يبكيك يا مالك ؟ قال: بلغت اليوم ستين سنة وحسبت أيامي فوجدتها واحداً وعشرين ألف يوم وخمسمائة، فلو عملت في كل يوم ذنباً واحداً فقط، كيف ألقى الله بواحد وعشرين ألف وخمسمائة ذنب؟!

    هذا مالك بن دينار لكن اضرب أنت في ألف ذنب أو ألفين، أين تذهب يا عبد الله؟ الواحد منا يجب أن يستيقظ ويراجع نفسه، وليس كل شيء لا بد أن تتكلم فيه، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع) يعني: يجب أن تحبس لسانك قليلاً، لكن نحن نسمع الكلمة فنضاعفها إلى عشرين كلمة!

    كذلك النظر! فلا تفكر أن النظر إلى عرض المسلمين هذا هو الحرام فقط، لا. هذا جرير يقول:

    إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

    يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا

    العينان ممكن أن تنظر بهما إلى إنسان باحتقار، فتنظر إلى المسلمين بازدراء أو بالشماتة والعياذ بالله، وهذا نظر حرمه الله عز وجل، إذاً: كيف يكون النظر بالعينين؟

    انظر للمسلمين بالرحمة والعطف والرفق، تأخذ على النظرة ثواباً إذا نظرت إلى الناس برفق، فمثلاً: أنظر إلى اليتيم لأنني لا أستطيع أن أنفق عليه، وأقول: اللهم ارحم أباه، اللهم بارك في الولد أو البنت وأعن أمه أو أمها.

    كذلك أنظر بالعينين إلى المصحف، والحسن البصري كان إذا كان مريضاً فتح المصحف ونظر فيه، وإذا أردت أن تكلم الله فأحرم بالصلاة، وأنت تصلي كتبت الصلاة بينك وبين ربك، فتتكلم وربنا يسمعك، وهذا من فضل الله عز وجل ولله المثل الأعلى!

    إذاً: أعطاني ربي عينين من أجل أن أحفظ المصحف، وأنظر إلى بيت الله، وأنظر إلى الطرقات، وأنظر إلى ملكوت الله، وأنظر إلى الكعبة، وأنظر إلى العالم الصالح، وأنظر إلى وجه الأب والأم، كل هذا نوع من أنواع العبادة، والملائكة تكتب لك حسنات وأنت تنظر إلى وجه أبيك وأمك برحمة وحنان.

    قال صلى الله عليه وسلم: (من نظر إلى وجه أبيه أو إلى وجه أمه برحمة نظر الله إليه، ومن نظر الله إليه فلن يعذبه يوم القيامة).

    إذاً: طهارة الجوارح من الآثام والمعاصي، فاللسان لا يتكلم إلا بخير، والعينان لا تنظران إلا إلى ما أحل الله، واليد جعل الله لي الخيار أن أمدها في خير أو شر والعياذ بالله، فإن مددت اليد بخير كتب لك حسنات، وإن مددتها بشر كتب عليك سيئات.

    أبو حازم رفض أن يناول أمير المؤمنين الحبر، قال: أخاف أن يكتب شيئاً يظلم به مسلماً فأكون مشاركاً له في الإثم يوم القيامة.

    ولذلك جاء رجل خياط وقال: يا تلميذ أبي حنيفة : أنا كنت أخيط أثواب الحجاج ؟! فقال: أنت كـالحجاج ، قال: وأنا ما ذنبي؟

    أنت لو فاصلته وهذا فاصله كان سيراجع نفسه، أي: سيقول: لماذا يكرهني الناس؟! لماذا لا يحبني الناس؟!

    كان ابن عمر يقف في الصلاة إلى جوار الكعبة، فتحط حمام الحرم على رأسه، دليل على أنه يقف مدة طويلة حتى تظنه قطعة من الأرض؛ لأنه بقي مدة طويلة لا يتحرك، فهؤلاء هم الناس.

    داود الطائي صلى العصر وسلم عن يمينه وشماله، والتفت فلم يجد أحداً، والجامع كان مليئاً فسمع صوتاً في الخارج، فخرج وقال: أين ذهبتم؟ قالوا: هذا عمود في الجامع وقع في الخلف، فوقع السقف على الناس فهربوا، وهو لم يشعر بذلك، وهذا فيه دليل على أنه كان خاشعاً.

    جاء رجل إلى أبي حنيفة وقال: يا أبا حنيفة ! بعت بيتاً من بيوتي، ووضعت المال عندي في البيت ثم نسيت مكانه، قال: وأنا ما ذنبي؟ قال: ألست عالمنا؟! ألست شيخنا؟! أخبرني أين المال!

    فقال له: عد إلى بيتك وقم لله الليلة، وصل لعل ربنا يعلمك ويعرفك، فجاء الرجل في صلاة الفجر وفمه مفتوح جداً، فقال له أبو حنيفة : لقد وجدت نقودك، قال: وكيف عرفت يا أبا حنيفة ؟ قال: يظهر على وجهك، فقال له: ماذا حدث؟ قال: بينما أنا أكبر تكبيرة الإحرام في الركعة الأولى وقد نويت أن أقوم الليل كله، تذكرت مكان النقود، فخرجت من الصلاة!

    فقال له: أبو حنيفة : ثم نمت؟ قال: نعم، قال: كنت أثق أن الشيطان لن يدعك تتعبد لله الليلة، إذاً: النية لم تكن خالصة لله عز وجل، والشيطان لا يترك الإنسان أبداً.

    فهذا داود الطائي قالوا له: كيف لم تشعر بسقوط سقف المسجد؟

    فقال لهم: أنا إن جاء وقت صلاتي أسبغت وضوئي، أي: أتوضأ جيداً، وجلست في المكان الذي سوف أصلي فيه حتى تجتمع جوارحي -أي: نفسه ليس لها هم بالدنيا- ثم أقوم أكبر للصلاة.

    وكلنا نكبر، لكن كلنا نخدع أنفسنا في التكبير، لأن معنى (الله أكبر) أنه أكبر من كل شيء، لكن من الخطأ أن أسرح في الصلاة عند الولد أو البنت أو الدراسة أو الفلوس أو المرتب أو العلاوة أو أذى الزوجة أو الجار أو صاحب البيت أو.. أو.. يجب أن تحقق ما قلت، فعندما تقول: الله أكبر، تستشعر أنه لا يوجد أكبر من الله.

    قال: ثم أقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعاً بخشوع، وأسجد سجوداً بتواضع، واضعاً الجنة عن يميني، والنار عن يساري والصراط تحت قدمي، والكعبة بين حاجبي، وملك الموت ورائي؛ كي أظن أنها آخر صلاة لي، وأتبع ذلك بالإخلاص في النية، ثم لا أدري أقبلها مني رب العباد أم لم يقبلها؟!

    فهؤلاء هم الصالحون، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (أول ما ينظر في عمل العبد يوم القيامة ينظر في صلاته إن وجدت كاملة قبلت وسائر عمله، وإن وجدت ناقصة ردت وسائر عمله).

    إذاً: النوع الثالث من الطهارة: طهارة الجوارح من الآثام والمعاصي، فلا تمشي إلا إلى كل خير، تذهب في الخير، وتسعى في الخير، وكان يحيى بن زكريا عليهما السلام يقول: اللهم إن رأيتني أغادر مجالس الذاكرين إلى مجالس الغافلين فاكسر لي رجلي.

    وتعال إلى البطن وما حوى، إن العبد ليقذف باللقمة الحرام في جوفه لا يتقبل الله له عملاً أربعين يوماً، سيدنا أبو بكر وضع إصبعه في فمه وأرجع شربة اللبن، لما شك في مصدرها، ونحن لا نبحث هل هي شبهة أو ليست شبهة؟ وهل هذا حرام أم ليس بحرام؟! وهل هذا سحت أم ليس بسحت؟! نسأل الله السلامة.

    يقول صلى الله عليه وسلم: (يا سعد ! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، فوالذي نفسي بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه لا يتقبل الله له عملاً أربعين يوماً).

    1.   

    طهارة القلب من الآثام والأمراض

    النوع الثالث في الطهارة: طهارة القلب من الآثام والأمراض:

    اتفقنا من قبل أن القلوب ثلاثة: قلب سليم، وقلب سقيم، وقلب ميت، ما علامة السليم؟ وما علامة السقيم؟ وما علامة الميت؟

    القلب السليم: هو القلب الذي ليس فيه إلا الله، قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] قالوا: سليم من الدنيا وما فيها.

    اللغة العربية لها مدلولات غريبة؛ ولذا سمي القلب قلباً لتقلبه، بعد نصف ساعة تغضب، وبعد ساعتين تهدأ فأنت متقلب؛ ولذلك سيدنا الحبيب يدعو قائلاً: (اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك)، هذا دعاء مهم في ثبات القلوب، والقلوب بيد علام الغيوب يقلبها كيف يشاء، اللهم اجعلنا من القلوب الأواهة المخبتة المنيبة التي تتقلب في طاعتك يا رب!

    والإنسان سمي إنساناً لتناسيه، ومن نعمة الله على العبد أنه ينسى، فأنت عندما تتذكر كل المآسي التي جاءت في حياتك، يحصل لك انفجار في المخ، لكن من فضل الله أنك تنسى، تنام قليلاً ثم تقوم وقد هدأت وهذا النعاس جند من جنود الله، ونعمة من نعمه، والله يبعث عليك قليلاً من النوم حتى تستريح أعصابك وتفيق مرتاحاً.

    أول ما تفتح عينيك من النوم تقول: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، تحمد الله أنك كنت في نعمة النوم، فكن أنت دائم الصلة بالله.

    كذلك المال سموه مالاً؛ لأنه مال بالناس عن الحق؛ ولذا يقول الشاعر:

    رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال

    ومن لا عنده مال فعنه الناس قد مالوا

    رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهب

    ومن لا عنده ذهب فعنه الناس قد ذهبوا

    رأيت الناس منفضة إلى من عنده فضة

    ومن لا عنده فضة فعنه الناس منفضة

    إن قل مالي فلا خل يصاحبني وفي الزيادة كل الناس خلان

    كم من عدو لأجل المال صاحبني وكم صديق لفقد المال عاداني

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). فالعبرة بالخلق والصلاح لا بالمال.

    1.   

    علامات القلب السليم

    إذا تليت عليه آيات الله زادته إيماناً

    القلب السليم له علامات:

    أول علامة من علامات القلب السليم: أنه إذا تليت عليه آيات الله زادته إيماناً، ووجل وخاف، ورهب من الله عز وجل، سيدنا سلمان الفارسي فر من المدينة من أجل آية سمعها من فم الحبيب المصطفى، لم يستطع أن يلحقه ثلاثة أيام، قال له: أين كنت يا سلمان ؟ قال له: آية سمعتها منك يا حبيب الله! وهي قوله تعالى: رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:65].

    كان الصحابي منهم إذا مر بآية من آيات الجنة شم رائحة الجنة، فهذا سيدنا أنس بن النضر يمر عليه سعد بن معاذ فيقول له: يا سعد! والله إني لأشم رائحة الجنة دون أحد!

    ومن فضل الله علينا أن ربنا ما جعل للذنوب رائحة، قال الحسن البصري : احمدوا ربكم الذي لم يجعل من ذنوبكم رائحة، وإلا لما جلس مؤمن بجوار مؤمن.

    تخيل أنت أن الذنوب لها رائحة! لكانت مصر كلها جيفة، ولكان بعضنا يغير بعضاً، فمن فضل الله أن جعل الستر علينا.

    ومن فضل الله علينا أنه أخفى عن سمعنا عذاب أهل القبور، ولا يسمع عذاب أهل القبور إلا الحيوانات والطيور.

    واسألوا أقاربكم الفلاحين، يمر أحدهم بالجاموسة التي لا تحلب من جنب القبر فترجع وتحلب هواء لشدة ما رأت وسمعت، والحمار الذي يمشي على شطر ويكون أعرج يمرون به من جنب المقابر فيجري بقوة من هول العذاب، فيصير فرساً سباقاً بسبب الذي يراه من العذاب! ولو كنا نحن نسمع العذاب لعير بعضنا بعضاً، ولسب بعضنا بعضاً، فمن ستر الله علينا وفضله لم يسمعنا العذاب، يسمع عذاب أهل القبور كل مخلوق إلا الثقلان: الإنس والجن، وكل شيء في الكون يسبح الله، حتى اللقمة التي تأكلها تقول: سبحان الله!

    أحد العلماء قعد مع صديق له عابد، ومع المريدين، فجعل يتلفت يميناً وشمالاً يريد أن يبصق فلم يجد مكان مناسباً للبصق، فقالوا له: مالك؟ قال: أريد أن أتخلص من الذي في فمي، فسمعت تسبيح الأرض، الرجل أعطاه الله كرامة فسمع هذا التسبيح، فلم يعزم أن يبصق في الشيء الذي يسبح.

    وكان العالم الآخر أفقه منه، وفوق كل ذي علم عليم فبصق هذا العالم فجأة، فقال له: يا رجل! ألا تسمع التسبيح؟ قال له: سمعت مسبحاً في مسبح، كله يسبح مع بعض.

    ولقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصى بين يديه، وهذا من معجزاته، وكذلك أبو بكر رضوان الله عليه قعد مرة يستجمر بحجارة بعدما قضى تبوله، فسمع تسبيح الحصى فرماها ثم أمسك واحدة أخرى فسمع التسبيح، أمسك الثالثة.. فقال: اللهم اصرف عن سمعي تسبيح الحصى الليلة فقط، فـأبو بكر كان الله عنده في كل شيء!

    صحابية ذات قلب سليم

    أول علامة من علامات القلب السليم أنه إذا سمع آيات الله تتلى عليه خاف ووجل، سيدنا الحبيب يقرأ في صلاة المغرب: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر:44] وامرأة من المصليات خلف الحبيب سقطت وأغشي عليها، وهذا دليل يرد على الذي يقول لك: النساء يصلين في البيوت، يعني: أنت أغير على الدين من رسول الله؟!

    فلما أغشي عليها أفاقوها ودعوا على الرسول بعد الصلاة، فجاء وقال: مالك يا أمة الله؟ فقالت: سمعتك تقول في جهنم: لها سبعة أبواب، فاستشعرت أنه سيدخل كل عضو من أعضائي من باب! فقال: لا يا أمة الله! إنها سبعة منازل تلي بعضها، كل منزلة تشتد في حرها عن المنزلة التي فوقها سبعين ضعفاً، ومن سيوضع فيها؟ قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5] نؤخر الظهر إلى العصر، والعصر إلى المغرب بدون عذر شرعي.

    فقالت: يا رسول الله! عندي سبعة من العبيد أعتقتهم لوجه الله، لعل الله يعتقنا منها فنزل جبريل للتو قائلاً: أقرئ أمة الله منا السلام، وقل لها بعتقك لعبيدك السبعة سد الله عنك أبواب النار السبعة، وفتح لك أبواب الجنة الثمانية.

    القلب السليم إذا سمع آيات الله تتلى عليه تجده يرتجف ويخاف، فكان الصحابي إذا مر بآية من آيات الجنة شم رائحتها، وإذا مر بآية من آيات النار أحس بلسعها في جسده وقلبه.

    إذا ذكر الله خالياً فاضت عيناه

    العلامة الثانية: صاحب هذا القلب إذا ذكر الله خالياً فاضت عيناه:

    إذا وجد أهل الجامع كلهم يبكون يقول: وأنا مثلهم أبكي معهم، وهذا من التأثير، لكن نريدك أن تكون أنت الذي تشحن غيرك، أنت الذي تبكي فتجعل الذي عن يمينك يبكي، والذي عن شمالك يبكي.

    أن يهتم بالدين كاهتمامه بأبنائه

    العلامة الثالثة: أن يستشعر هذا القلب أن الإسلام ابن من أبنائه:

    يعني: كم لديك من الأولاد في البيت؟ أربعة أولاد، إذاً عندك خمسة، عندك ثلاثة أولاد؟ إذاً عندك أربعة، فتعتبر هذا الإسلام ابناً من أبنائك، فلو أننا اعتبرنا هذا الإسلام ابناً من أبنائنا لانتصر، لكن المشكلة أنه يقول لك: أنا خليني في حالي!

    هذا قلب اعترته الأمراض، الدنيا وما فيها، يقول لك: أنا أخرج من الصباح الباكر وأرجع الساعة واحدة بالليل وأنا تعبان، قال ابن مسعود : (لا يكن أحدكم قطرب نهار جيفة ليل) القطرب: الذي هو ذكر النحلة والمعنى: ناشط في النهار لكن في الليل جيفة ينام، والشيطان يعقد على رأسه ثلاث عقد، ويضربه على رأسه: نم عليك ليل طويل فارقد!

    القلب السليم يكون بين الخوف والرجاء

    قال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16] عنده خوف من الله وطمع في رحمة الله: يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] خائف من الله عز وجل، لكن عنده رجاء وأمل.

    مثل سيدنا عمر رضي الله عنه، حيث قال: لو نادى مناد يوم القيامة كل الناس في الجنة إلا واحداً، لخشيت أن أكون أنا هذا الواحد، ولو نادى مناد يوم القيامة كل الناس في النار إلا واحداً؛ لرجوت من الله أن أكون أنا هذا الواحد. فهو يعبد الله بين الخوف والرجاء، خائف من الله لكن عنده أمل في رحمة الله عز وجل.

    وذاك الأعرابي لما قال للحبيب: (من سوف يحاسبنا يوم القيامة يا رسول الله؟! قال: الله قال: إذاً لا أبالي -كيف لا تبالي- قال: إن الذي سوف يحاسبنا هو الكريم، وإن من صفات الكريم أنه إذا حاسب عبداً عفا).

    روى الإمام الترمذي عن أبي هريرة في ذكر الرجل الذي بقي له حسنة لو جاءت له يدخل الجنة، فقال له: عبدي إن جئتني بحسنة أدخلتك الجنة، فطاف على أهل المحشر: أعطني حسنة يا فلان! يا فلان! أمك يوم القيامة تذهب تسألها تقول لك: يا بني! كان بطني لك وعاء، وحجري لك وطاء، وصدري لك غطاء، فهل عندك من حسنة تنفعني في مثل هذا اليوم؟ يقول: يا أماه! أنا لا أنكر شيئاً من ذلك، أليس عندك أنت حسنة؟!

    ويقول الابن لأبيه: يا أبت! كنت باراً بك وكذا وكذا أليس من حسنة؟ يقول له: يا بني! لا أنكر شيئاً من ذلك أليس عندك أنت من حسنة؟!

    سيدنا عيسى يمسك بقائم العرش قائلاً: يا رب! لا أسألك عن مريم بنت عمران ، وإنما نفسي نفسي، وعندما تزفر النار إحدى الزفرات الثلاث فالرسل المقربين يأخذون بقوائم العرش، وينسى الكليم أخاه هارون، وينسى الخليل ابنه إسماعيل، وينسى عيسى أمه مريم ، وكل الأنبياء يومها يقولون: يا رب! سلم، يا رب! سلم، إلا حبيبنا محمداً فإنه يقول: يا رب! أمتي، يا رب! أمتي، عليه الصلاة والسلام.

    فيجب على الواحد أن يجهز لهذا اليوم، ويستعد للقاء الله عز وجل، ويستعد لهذا اليوم الذي تشيب منه الولدان، قال تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].

    اللهم خفف عنا العذاب يا رب العباد، وأبعدنا عن عذاب النار، وأدخلنا الجنة بدون سابقة عذاب يا أكرم الأكرمين!

    القلب السليم لا يستصغر الذنوب

    إذاً: القلب السقيم قلب تعتريه الذنوب، والكارثة فيك أنك تستصغر الذنب، لكن يجب أن تستعظم هذا الذنب في حق من عصيته!

    قال أهل العلم: لا تستصغر الذنب، ولكن انظر إلى عظم من تعصيه!

    وقال أهل العلم: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار.

    لا صغيرة إن قابلك عدله، ولا كبيرة إن واجهك فضله.

    فلو عاملك بالعدل ضعت، ولو عاملك بالفضل فهي منة منه سبحانه، اللهم عاملنا بفضلك ولا تعاملنا بعدلك؛ فإنك إن عاملتنا بفضلك رحمتنا، وإن عاملتنا بعدلك أهلكتنا.

    والعبد إذا لم يتب نكت فيه نكتة سوداء، ثم نكتة سوداء، ثم نكتة سوداء، ولا يوجد توبة، فيصير القلب كله أسود، ويصير محجوباً عن نور رب العباد سبحانه، بعدما كان سقيماً صار ميتاً!

    إذاً: لا تنظر إلى هذا الذنب على أنه صغير، لا يوجد شيء اسمه ذنب صغير وذنب كبير، هو ذنب في حق الله عز وجل، والذي يستصغر الذنب هو القلب السقيم، وإن تركت سقم القلب مات، لأننا كما قلنا ونقول: إن الجسد كما أن له غذاء فالقلب له غذاء، والغذاء الوحيد الذي يغذي القلب هو ذكر الله، والاستغفار، وحضور مجالس العلم، فتبحث عن مجالس العلم بقوة فالعلم يؤتى إليه، ومن طلب العز في العلم يفلح.

    وهذا الإمام علي بن أبي طالب يوصي ابنه الحسن فيقول: يا حسن ! زاحم العلماء بالمناكب، فإن رحمة الله لا تفارقهم لحظة. زاحمهم وضيق عليهم في المجالس من أجل أن تشعر أن رحمة الله عز وجل وراء هذا العالم.

    وجوب تطهير القلب من الآثام

    نريد أن نقول: إن القلوب ثلاثة: سليم، وسقيم، وميت، فصاحب القلب الميت يقول لك: يا أستاذ! أنا قلبي نظيف ومتصل بالله، لا تهتم بهؤلاء المصلين هؤلاء أناس يكذبون، وهذه النساء المحجبات نصابات وكذابات، هذا يغلط على الكل ويغالط نفسه، أريد أن أقول: إن المسلم يجب أن يراعي هذه القضية، وأن ينقذ قلبه بين الحين والآخر؛ لكي يتحول القلب السقيم إلى قلب سليم، ولا يتحول القلب السقيم إلى قلب ميت والعياذ بالله رب العالمين!

    فطهارة القلب من الآثام والأمراض واجبة، والأمراض القلبية مثل الحقد والحسد والضغينة والغل والظن السيئ بالناس، وإذا رأيت إنساناً ملطخاً بالمعصية فلا تبحث خلفه من أجل أن تتهم الرجل، حتى قال أهل العلم: إذا فر المرجوم من ميدان الرجم لا يعاد، يعني: شخص اكتشفنا أنه يرتكب فاحشة، فجاءوا به وأدخلوه في الحفرة، وبدءوا يرجمونه فعندما أحس بألم الحجارة هرب، فلا يرجع مرة ثانية؛ لأنه احتمال أنه تراجع عن اعترافه، أو يكون الشهود لم يضبطوا الشهادة، فلا يعاد إلى مكان الرجم.

    وهذا سيدنا عمر رضي الله عنه يقول للصحابة: ما بالكم إذا رأى أمير المؤمنين رجلاً يرتكب الفاحشة مع امرأة فأقام عليه الحد؟! قالوا: وجبت طاعة أمير المؤمنين، وسيدنا علي قاعد فقال: أمع أمير المؤمنين شهود ثلاثة؟ قال له: لا، قال: إذاً نقيم حد القذف على أمير المؤمنين، نعم، هؤلاء هم الناس!

    يقول عمر : لا تغالوا في المهور، ولا يزيد أحدكم عن أربعمائة درهم، فقالت له امرأة: يا ابن الخطاب ما هذا الكلام الذي تقوله؟! ربنا يقول لك: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:20] فالله يأمرك بقنطار وأنت تقول: أربعمائة.

    فطأطأ عمر رأسه، وقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر ، حاججت أميركم فحاجته، كم أخطأ عمر في دين الله؟!

    يقول بعض الناس: أنا لا أغلط، أنا صاحب عقل.. فأقول له: لا يغني العقل ولا الذكاء، والإنسان مجبول على الخطأ، نسأل الله السلامة والهداية.

    إذاً: الأحقاد والضغائن والآثام التي بداخل القلب يجب أن تزال، هذا هو الإطار العام للطهارة، من أجل أن أدخل على الصلاة طاهر القلب.

    وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767264260