إسلام ويب

تفسير سورة الهمزة [2-7]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( يحسب أن ماله أخلده )

    قال تعالى: يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة:3] هذه جملة حالية أو جملة استئنافية، فإذا كانت حالية فالمعنى: الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ [الهمزة:2]، وحالته وهو يجمع هذا المال ويعدده أنه يظن أن ماله أخلده. وإذا كانت جملة استئنافية فهو ابتداء معنى جديد وجملة جديدة، فهو همزة لمزة، وهو يجمع الأموال ويعددها، وهو بجانب أنه جمع المال وعدده ((يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ)) أي: يظن أن ماله مانع له من الموت، فهو يعمل عمل من يظن أن ماله سيتركه حياً مخلداً لا يموت. يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: يحسب أن ماله الذي جمعه وأحصاه وبخل بإنفاقه، مخلده في الدنيا فمزيل عنه الموت؛ وقيل: أخلده، فعل ماضي المقصود به المضارع والمستقبل، يعني: يحسب أن ماله يخلده فيما يستقبل، كما يقال للرجل الذي يأتي الأمر الذي يكون سبباً لهلاكه: عطب والله فلان، أو هلك والله فلان، وهو لم يهلك بعد، ولا دخل النار، لكن المقصود أن هذا العمل سوف يهلكه فيما يستقبل، بمعنى أنه يعطب من فعله ذلك، ولما يهلك بعد ولم يعطب، وكالرجل يأتي الموبقة من الذنوب فيقال له: دخل والله فلان النار. انتهى كلام الطبري . وقال الزمخشري (( يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ))أي: طول المال أمله، ومناه الأماني البعيدة، حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله يحسب أن المال تركه خالداً في الدنيا لا يموت. وهذا ليس ببعيد في البخلاء، فالبخلاء لهم أخبار عجيبة، كما قال الله عنهم: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء:37]، فبعض البخلاء من شدة تمكن هذه الصفة القبيحة الذميمة في قلبه يتأذى لو رأى غيره يجود! إذاً: يحسب أن ماله سيبقيه حياً لا يموت، أو يبقيه ماكثاً مكثاً طويلاً جداً، لأن هذا من معنى الخلود، أو يزيد في عمره.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذي جمع مالاً وعدده)

    قال تعالى:الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ [الهمزة:2]. يلاحظ أن الله عز وجل أظهر هنا المال في موضع الإضمار فقال عز وجل: الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ [الهمزة:2] فكرر كلمة المال، مع أن السياق يقتضي أن يقول: يحسب أنه أخلده، فتعود الهاء على (مالاً)، لكن هذا التكرار لعلة وحكمة، قال بعض العلماء: إن المقصود بتكرار كلمة المال زيادة التقرير، وللتقريع والتوبيخ. وقيل: في الآية تعريض بالعمل الصالح، فالمال لا يخلد صاحبه، لكن العمل الصالح هو الذي يخلد الإنسان، وينبغي للعاقل أن يكب عليه، ويسعى للآخرة حيث الخلود الحقيقي، فتكرار كلمة المال للتعريض بأن المخلد الحقيقي ليس هو المال، وإنما هو العمل الصالح الذي يخلد صاحبه في الجنة، فهذا الحسبان المذموم هو المنصب عليه الوعيد، فإن هذا الشخص لا يؤمن بالبعث ولا يوقن به كما قال صاحب الجنة -وهو سلفه من قبل-: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [الكهف:35] يعني: غير معقول أن هذه الجنان وهذا المتاع وهذا النعيم ليبيد أبداً. يقول الإمام الشنقيطي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:35-36]: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن هذا الرجل الكافر الظالم لنفسه، الذي ضر به مثلاً مع الرجل المؤمن في هذه الآيات لرؤساء الكفار الذين افتخروا بالمال والجاه على ضعفاء المسلمين الفقراء، أنه دخل جنته في حال كونه ظالماً لنفسه، وقال: إنه ما يظن أن تهلك جنته ولا تفنى؛ لما رأى من حسنها ونضارتها، وقال: إنه لا يظن الساعة قائمة، وإنه إن قدر أنه يبعث ويرد إلى ربه ليجدن عنده خيراً من الجنة التي أعطاه في الدنيا، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من جهل الكفار واغترارهم بمتاع الحياة الدنيا وظنهم أن الآخرة كالدنيا ينعم عليهم فيها أيضاً بالمال والولد كما أنعم عليهم في الدنيا، جاء مبيناً في آيات أخر كقوله في سورة فصلت: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت:50]، وقوله في سورة مريم : أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم:77-78]، وقوله في سبأ: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ:35]، وقوله في هذه السورة الكريمة: فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف:34]، وقوله: يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة:3]. وبين جل وعلا كذبهم واغترارهم فيما ادعوه من أنهم يجدون نعمة الله في الآخرة كما أنعم عليهم بها في الدنيا في مواضع كثيرة كقوله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55-56]. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج) يعني: لييسره للعسرى حتى يستحق مزيداً من العذاب نتيجة المزيد من كفران النعم؛ يقول عز وجل: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:182]. وقال عز وجل: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:182-183]، وقوله عز وجل: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]، وقال عز وجل: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى [سبأ:37]، وقال عز وجل: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:2]، فهذا المال الذي جمعه وعدده، وكان زينته في الدنيا، هو الذي صرفه عن التفكر في المآل وفي المصير، ودفعه إلى الهمز واللمز واحتقار خلق الله، يقول الله عز وجل: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:2]، ويقول عز وجل إن هذا الظالم يقول يوم القيامة: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29]. روى أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرت بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب)، هو لا يكذب ، فهو رأى، لكن لا يذكر ذلك، بل ينساه بمجرد أن صبغ في الجنة صبغة، بل يحلف إنه ما رأى بؤساً ولا شدة قط، نسأل الله يجعلنا منهم.

    1.   

    مسألة الذهب المحلق

    مسألة الذهب المحلق كثر الكلام فيها، ونحتاج إلى بيان آراء العلماء المخالفين لأحد أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وهو سيدنا الشيخ ناصر الدين الألباني فيما ذهب إليه في مسألة الذهب المحلق، وهو لا يحرم الذهب مطلقاً على النساء، لكن يحرم على النساء الذهب المحلق، وهو الذي يكون على هيئة حلقة مثل الخواتم والأساور أو أي حلية تكون دائرية على هيئة حلقة متماسكة، هذا هو مذهب الشيخ ناصر في هذه المسألة، وقد رد كثير من العلماء على الشيخ ناصر في هذه المسألة، وألف الشيخ إسماعيل الأنصاري كتاب إباحة الذهب المحلق للنساء، وكذلك الدكتور محمد عبد العزيز عمرو في كتاب له، وكذلك الدكتور نور الدين عتر في كتابه (ماذا عن المرأة؟) وكذلك الشيخ أحمد بن حجر القطامي في بعض فتاواه.

    أدلة جواز لبس النساء للذهب المحلق

    الأدلة من الكتاب والسنة على جواز تحلي النساء بالذهب المحلق كثيرة، منها قوله عز وجل: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18] فالله عز وجل يعيب على المشركين أنهم كانوا ينسبون إليه الملائكة، ويصفونهم بأنهم إناث، ويرتضون لأنفسهم الذكور، ويفضلون الذكور على الإناث، فيختارون لأنفسهم ما يحبونه، وينسبون إلى الله عز وجل الإناث، فالله عز وجل أنكر عليهم هذا فقال: ((أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ)) يعني: أتنسبون إلى الله عز وجل الإناث اللاتي تعتقدون أن فيهن نقصاً ظاهراً في البدن، ونقصاً باطناً في العقل؟! ومن النقص الظاهر في بدن المرأة أنها تحاول أن تكمله وتعوضه بالحلية وبالزينة، أما نقص العقل فعلامته أنها ((فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)) يعني: لا تكاد امرأة من النساء تقدر على الخصام والمجادلة والنقاش إلا ما استثني، فهذا نقص باطنها، ونقص ظاهرها. فالشاهد أن قوله تعالى: (( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ )) المقصود به: الإناث، فتنشأ الطفلة من صغرها على حب الزينة، وتعويض هذا النقص الذي فيها، وهذه فطرة من الله عز وجل؛ فبين سبحانه أن للنساء حاجة أصلية إلى التحلي بالذهب وغيره من أنواع الحلي، وأنهن ينشأن عليه، وأن ذلك من دواعي أنوثتهن؛ وأباح لهن الذهب بإطلاق، يستوي في ذلك الذهب المحلق وغير المحلق، فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة على حل الذهب مطلقاً للنساء. وجاء عن أبي العالية أنه سئل عن الذهب للنساء فقال: لا بأس به، يقول الله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]. وأسند عبد الرزاق في تفسيره عن مجاهد رحمه الله أنه ذكر له أنهم يقولون: من تحلى بخربيصيصة كوي بها في النار؛ والخربيصيصة قطعة طويلة من الذهب؛ فقال مجاهد : رخص للنساء في الذهب والحرير، ثم تلا هذه الآية: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، وقوله: رخص للنساء في الذهب والحرير فيه إشارة إلى أن هذا كان بعد التحريم، والإمام مجاهد من أئمة التفسير الذين تلقوا التفسير عن ابن عباس رضي الله عنه، فقد قرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره يستوقفه عند كل آية ويستفسره عنها؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : مجاهد إمام المفسرين، وكان آية في التفسير، ويقول سفيان الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، وقد أكثر الإمام الشافعي في الاعتماد على أقوال مجاهد في التفسير، وكذلك الإمام البخاري . وجاء في إباحة الذهب المحلق وغير المحلق للنساء أحاديث كثيرة تلقتها الأمة بالقبول من سائر المذاهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية، وقدم العلماء أحاديث الإباحة على ما خالفها من أحاديث الحظر؛ لأنها أقرب إلى القرآن وأشهر وأصح، ومن ذلك حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وهذا الحديث صححه الإمام ابن حزم ، وإن كان بعض العلماء طعن فيه بأنه من رواية محمد بن إسحاق وهو مدلس، لكنه قد صرح بالتحديث كما ذكر في عون المعبود فزال هذا الاعتراض، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم حلية من عند النجاشي أهداها له، فيها خاتم من ذهب فيه فص حبشي، قالت: فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معرضاً أو ببعض أصابعه، ثم جاءت أمامة بنت أبي العاص ابنة ابنته زينب فقال: تحلي بهذا يا بنية)، فهذا خاتم ذهب محلق، ومع ذلك أمرها أن تتحلى به. ومن ذلك الحديث المشهور والمعروف: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك بالذهب والحرير فقال: هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم)، وهذا الحديث له طرق كثيرة صحح بعضها الإمام الترمذي وابن حبان والحاكم وابن حزم وابن العربي المالكي، ونقل الحافظ عبد الحق عن علي بن المديني أنه حسن بعض طرقه، بل عده الكتاني من الأحاديث المتواترة، وفيه دليل على الإباحة المطلقة للذهب للنساء. ومن الأدلة ما جاء من طريق عبد الله بن جعفر عن محمد بن عمارة عن زينب بنت نبيط عن أمها قالت: (كنت أنا وأختان لي في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يحلينا من الذهب والفضة)، وفي رواية أبي نعيم عنها قالت: حدثتني أمي وخالتي..، وهذا الحديث من جملة ما استدركه الحاكم على الصحيحين وأقره الذهبي على تصحيحه. وعن عائشة رضي الله عنها عند الإمام أحمد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو كان أسامة جارية لحليته وكسوته حتى أنفقه)، وهذا الحديث صححه الحافظ العراقي في المغني عن حمل الأسفار، واستدل به البزار على هذا الحكم. ومن ذلك ما أخرجه ابن سعد بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: قدمت صفية وفي أذنها خرصة من ذهب، فوهبت منه لـفاطمة وللنساء معها؛ وصفية إنما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة؛ لكن هذا حديث مرسل. ومن ذلك أيضاً الأحاديث التي تدل على زكاة الحلي من الذهب، وخلاف العلماء فيها معروف، وتلك الأحاديث تدل على إباحة التحلي بالذهب مطلقاً للنساء. ومن ذلك حديث صلاة العيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خطب النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين بعد صلاة العيد ثم أتى النساء ومعه بلال ، فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي قرطها في ثوب بلال)، وفي رواية: (فرأيتهن يهوين إلى آذانهن وحلوقهن) يعني: يخلعن الذهب الذي في آذانهن وفي حلوقهن، وهذا يدل على أنهن كن يلبسن الذهب المحلق. فهذه النصوص استدل بها العلماء على إباحة الذهب المحلق للنساء. يقول الإمام البخاري في صحيحه: باب الخاتم للنساء، وكان على عائشة خواتيم الذهب، وعن عمرو بن أبي عمرو قال: سألت القاسم بن محمد فقال: لقد رأيت -والله- عائشة تلبس المعصفر وتلبس خواتيم الذهب. وفي لفظ آخر: سألت القاسم بن محمد فقلت: إن ناساً يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأحمرين المعصفر والذهب، فقال: كذبوا والله، لقد رأيت عائشة تلبس خواتيم الذهب. يقول القاضي أبو المحاسن في توجيه هذا: لا يمكن أن عائشة تخالف الأحاديث في النهي عن لبس خواتم الذهب إلا بعد وقوفها على ناسخ؛ فكونها لبست مع علمها بالأحاديث الناهية يدل على أنها وقفت على حديث ينسخ هذه الأحاديث المحرمة للبس الذهب.

    كلام العلماء في جواز لبس النساء للذهب المحلق

    حكى الإجماع غير واحد على إباحة التحلي بالذهب المحلق للنساء، مثل الإمام الجصاص في أحكام القرآن، والكيا الهراسي ، والبيهقي في السنن الكبرى، والنووي في المجموع، وابن حجر في فتح الباري، والهيتمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر، والسندي في حاشيته على سنن النسائي . أما الجصاص فقال في تفسير قوله تعالى: (( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ )) بعد أن ذكر حديث عائشة رضي الله عنها في منع الناس من الذهب، وحديث أبي هريرة في الوعيد على اتخاذ الخرص: الأخبار الواردة في إباحته للنساء عن النبي صلى الله عليه وسلم أظهر وأشهر من أخبار الحظر، ودلالة الآية ظاهرة في إباحته للنساء، وقد استفاض لبس الحلي للنساء من لدن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى يومنا هذا من غير نكير من أحد عليهن، ومثل هذا لا يعترض عليه بأخبار الآحاد. ذكر القرطبي في تفسيره قول مجاهد : رخص للنساء في الذهب والحرير وقرأ هذه الآية، وقال الكيا الهراسي: فيه دلالة على إباحة الحلي للنساء، والإجماع منعقد عليه، والأخبار فيه لا تحصر. وقال البيهيقي في السنن الكبرى بعدما أورد حديث أبي هريرة : (من أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب..) إلى آخره، وحديث أسماء : (أيما امرأة تقلدت قلادة من ذهب..)، وحديث ثوبان في شأن بنت أبي هريرة : هذه الأخبار وما في معناها تدل على إباحة التحلي بالذهب للنساء، واستدللنا بحصول الإجماع على إباحته لهن، وعلى نسخ الأخبار الدالة على تحريمه لهن خاصة. وهذه المسألة مثل الأحاديث التي تحصر تعدد الزوجات بأربع، فهي لا تخلو من كلام من حيث السند، لكن استدل العلماء على الحصر بأربع بانعقاد الإجماع، فهو يدل على وجود ناسخ للتعدد المطلق؛ وكذلك هنا استدل العلماء بالإجماع على وجود الناسخ؛ لأن الأمة معصومة في إجماعها من الضلال. وقال الإمام النووي في المجموع: يجوز للنساء لبس الحرير والتحلي بالفضة والذهب للأحاديث الصحيحة، وقال أيضاً: أجمع المسلمون على أنه يجوز للنساء لبس أنواع الحلي من الفضة والذهب جميعاً كالطوق والعقد والخاتم والسوار والخلخال والتعاويذ والتمائم والقلائد وكل ما يتخذ في العنق وغيره، وكل ما يعتدن لبسه، ولا خلاف في شيء من هذا. ونفس هذا الكلام ذكره الإمام ابن قدامة في المغني، وقال النووي في شرح صحيح مسلم في باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال ونسخ ما كان من إباحته في أول الإسلام: أجمع المسلمون على إباحة خاتم الذهب للنساء. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في شرح حديث البراء : (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سبع: نهانا عن خاتم الذهب): النهي عن خاتم الذهب أو التختم به مختص بالرجال دون النساء، فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء، وأيد الحافظ ابن حجر ذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النجاشي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حلية فيها خاتم من الذهب فأخذه وإنه لمعرض عنه، ثم دعا أمامة بنت بنته فقال: تحلي به). وقال ابن حجر الهيتمي الفقيه في الكبيرة السادسة بعد المائة: تحلي الذكر البالغ العاقل بالذهب، يعني: لبس الرجل العاقل والبالغ الذهب من الكبائر، هذا من الكبائر، سواء خاتم أو غير خاتم، يقول: وأخرج ابن حبان في صحيحه: (ويل للنساء من الأحمرين: الذهب والمعصفر) وهو حديث صحيح، وفي الحديث: (أريت أني دخلت الجنة فإذا أعالي أهل الجنة فقراء المهاجرين وذراري المؤمنين، وإذا ليس فيها أحد أقل من الأغنياء والنساء، فقيل لي: أما الأغنياء فإنهم على الباب يحاسبون ويمحصون، وأما النساء فألهاهن الذهب والحرير)، يقول: وبه يعلم معنى قوله: (ويل للنساء) في الحديث قبله أي: أن هذين سبب للهوهن وإعراضهن عن الخير وليس المراد به ظاهره؛ لأنهما حلالان لهن إجماعاً. وقال الإمام السندي في حاشيته على النسائي بعد أن حكى نقل النووي في شرح مسلم إجماع المسلمين على نسخ الأدلة القائلة بحظر خواتيم الذهب بحديث: (إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها): قلت: ولولا الإجماع -هذا كلام السندي - لقلت بتحريمه على النساء، يعني لأن الظاهر أن يقال: كان الذهب حلالاً للكل ثم حرم على الرجال فقط ثم حرم على النساء أيضاً، لكن لأن الإجماع انعقد على هذا فلا يخالفه.

    أدلة الألباني على تحريم لبس النساء للذهب المحلق

    استدل الشيخ الألباني رحمه الله بحديث البراء بن عازب رضي الله عنه: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب). وبعض الأحاديث صححها وخالفه أغلب العلماء في تصحيح هذه الأحاديث، لكن لا شك أن علماء الحديث من صميم عقيدتهم أنه إذا صح الحديث عند أحدهم فلا يملك أن ينصرف عنه إلى غيره، فهو بنى مذهبه على صحة هذه الأحاديث، ورأى أن إباحته مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا عذره، فهو يهاب مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنده، وهذا هو اللائق به كعالم من علماء الحديث. ومن الأحاديث التي استدل به قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يحلق حبيبه بحلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب، ومن أحب أن يطوق حبيبه طوقاً من نار فليطوقه طوقاً من ذهب، ومن أحب أن يسور حبيبه سواراً من نار فليسوره سواراً من ذهب، ولكن عليكم بالفضة، فالعبوا بها، العبوا بها، العبوا بها)، وهذا الحديث قد أجاب عنه العلماء على فرض ثبوته بأن الرواية: (من أحب أن يحلق حبيبه) بدون التاء، قال صاحب بذل المجهود الإمام السهارنفوري الحنفي في شرح هذا الحديث: وهو إلى الصغير أقرب منه إلى الكبير؛ لأن الصغير هو الذي يلبس غالباً، والكبير يلبس بنفسه، فمعنى يطوق حبيبه أن يلبس حبيبه مثل ابنه طوقاً من ذهب. وقال الشيخ محمد سعيد ألباني الدمشقي : يفهم من نظم هذا الحديث أنه مسوق للصبيان دون النساء؛ لأن تحلق المرأة بحلقة من ذهب جائز.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( كلا لينبذن في الحطمة )

    قال تعالى: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ [الهمزة:4] أي: ليطرحن في جهنم التي من أسمائها الحطمة؛ لأنها تحطم وتأكل ما ألقي فيها، كما يقال في وصف الرجل الأكول: كأنما في جوفه تنور، يعني: فرن، فهو يهضم الطعام في الحال، ويطلب المزيد والجديد. وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ هذه الآية: ((لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ)) بالتثنية: (لينبذان) يعني: هذا الهمزة وماله سينبذان في النار، كما قال عز وجل: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:2] يعني: لا يغني عنه هذا المال، وقال تعالى حاكياً عنه: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29]. قال ابن الجوزي : (( الْحُطَمَةِ )) اسم من أسماء جهنم؛ سميت بذلك لأنها تحطم كل ما يلقى فيها، أي: تكسره، فهي تكسر العظم بعد أكلها اللحم، وقال الضحاك : (( الْحُطَمَةِ )) الدرك الرابع من النار؛ وقال الكلبي : الطبقة الثالثة من جهنم، وقال الواحدي : باب من أبواب جهنم؛ وقال مقاتل : هي تحطم العظام، وتأكل اللحوم، حتى تصل إلى القلوب والعياذ بالله. ووزن حطمة فُعَلة، وهذا يكون لتنزيل الفعل مكانه الطبيعي، فالنار عادتها أنها تحطم وتأكل. قال القرطبي : سميت بذلك؛ لأنها تكسر كل ما يلقى فيها وتحطمه وتهشمه؛ قال الراجز: إنا حطمنا بالقضيب مصعبـاً يوم كسرنا أنفه ليغضبا فالحطم يستعمل في كل كسر متناه، يعني تكسر الشيء إلى أقصى مدى من التكسير، فالحطم هو التكسير المتناهي البليغ. وقوله: (( كَلَّا )) (كلا) في القرآن تأتي بمعنى حقاً أو تأتي بمعنى لا للنفي، يقول الألوسي : (( كَلَّا )) ردع له عن ذلك الحسبان الباطل، أو ردع عنه وعن جمع المال، يعني: لا تحسب أن مالك مخلدك، أو (( كَلَّا )) يعني: لا تجمع المال، فهو ردع له عن حبه المفرط، واستظهر أنه ردع عن الهمز واللمز، وهذا بعيد؛ لأن القريب هو جمع المال. وقوله: (( لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ )) يفسره قوله تعالى: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:9] أي: ينبذ نبذاً فيهوي على أم رأسه عياذاً بالله من ذلك. إذاً: (( الْحُطَمَةِ )) اسم من أسماء النار؛ سميت بذلك لأنها تحطم -أي: تكسر وتهشم- كل ما يلقى فيها تكسيراً بليغاً متناهياً، ويقال أيضاً: شر الرعاء الحطمة، ويقال: راعي حطمة، وهو الذي يحطم الماشية، لأنه يسوقها سوقاً عنيفاً، ويسيء معاملتها وقيادها، فكأنه يكسرها فسمي: الحطمة. والنبذ فيه معنى الإلقاء والطرح، فهذا يفيد أن لها قعراً عميقاً جداً، وقد جاءت أدلة كثيرة من السنة تدل على هذا الوصف، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع وجبة -يعني: صوت وقع الشيء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تدرون ما هذا؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم؛ قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار، الآن حيث انتهى إلى قعرها). أيضاً لفظ النبذ يدل على الإهانة؛ لأن الكافر كان يعتقد أنه من أهل الكرامة كما قال الله: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ [الفجر:15]، وقال سبحانه: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49]، فالكافر يظن أن إعطاء المال له والتوسيع عليه في الدنيا يقتضي كرامته على الله عز وجل في الآخرة، فالله عز وجل يقول: (( كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ )) فيعامل بنقيض قصده وبنقيض اعتقاده؛ لأن كلمة النبذ معناها الطرح والرمي والإلقاء، قال تعالى: فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ [القصص:40]؛ ومنه النبيذ؛ لأنك تنبذ التمر -مثلاً- في الماء، فيكون عصيراً، فإذا أسكر فهو محرم، أما إذا لم يسكر فيطلق عليه نبيذ، وهذا في اللعنة وإن كانت الآن عرفاً تطلق على المسكر، وهو محرم بلا شك؛ والمقصود أنه سمي نبيذاً لأنك تنبذ وترمي فيه التمر، وولد الزنا يسمى منبوذاً؛ لأنه ينبذ ويرمى على الطريق. قال أبو الأسود : وخبرني من كنت أرسلت أنما أخذت كتابي معرضاً بشمالك نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلاً أخلقت من نعالك وقال آخر: إن الذين أمرتهم أن يعدلوا نبذوا كتابك واستحلوا المحرم

    الحكمة من ذكر اسم الحطمة

    يقول الرازي : اعلم أن الفائدة في ذكر جهنم بهذا الاسم هاهنا وجوه: الأول: الاتحاد في الصورة، فالله عز وجل قال: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1] على وزن فُعَلة، فاتحدت الصورة بقوله تعالى: (( لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ))، كأنه تعالى يقول: إن كنت الهمزة اللمزة فوراءك الحطمة، فهذا من التشابه في الصورة. الثاني: أن الهامز يكسر غيره ليضع قدره، فالهامز اللامز يستخدم عينه أو حاجبه أو شفته أو نحو ذلك ليضع من قدر الناس، ويكسر أقدار الناس، فيقول الله عز وجل له: وراءك الحطمة، فالحطمة تكسرك كسراً وتلقيك في حضيض جهنم، فهي ((لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ)). الثالث: أن الهماز اللماز يأكل لحم الناس، و(( الْحُطَمَةِ )) اسم للنار من حيث إنها تأكل الجلد واللحم، فيمكن أن يقال: ذكر وصفين: الهمز واللمز، ثم قابلهما باسم واحد: (( لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ))، فكأنه قال: خذ واحداً مني وهو الحطمة، باثنين منك وهما الهمز واللمز، فإنه يفي ويكفي، فكأن السائل يقول: كيف يفي الواحد بالاثنين؟ فكأن الجواب: إنك لا تعرف خطر وقدر هذا الواحد، فلذلك قال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ [الهمزة:5].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( وما أدراك ما الحطمة ... التي تطلع على الأفئدة)

    قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ [الهمزة:5] يعني: وأي شيء أشعرك -يا محمد- ما الحطمة؟ ثم أخبره عنها فقال جل ثناؤه: نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ [الهمزة:6-7] يعني: التي يطلع ألمها ووهجها القلوب، تطلع بمعنى يصل عذابها ويبلغ، وسمع من العرب قولهم: متى طلعت أرضنا؟ يعني: متى وصلت أرضنا؟ أو متى بلغت أرضنا؟ إذاً: معنى (تطلع) : تصل وتبلغ، فتأكل الجلد ثم اللحم ثم تنفذ في النهاية إلى القلب وهو ألطف شيء في بدن الإنسان، فمعنى ذلك: أنه يبلغ أقصى درجات العذاب والعياذ بالله. يقول الشوكاني : وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ [الهمزة:5]، هذا الاستفهام للتهويل والتفظيع حتى كأنها ليست مما تدركه العقول وتبلغه الأفهام، ثم فسر الله عز وجل الحطمة فقال: نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ [الهمزة:6] أي: هي نار لا كسائر النيران، التي تعرفونها، ((نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ)) موقدة بأمر الله عز وجل، أي: هي النار التي لا تنسب إلا إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو منشئها في عالم لا يعلمه سواه. يقول أبو السعود : وفي إضافتها إليه سبحانه ووصفها بالإيقاد من تهويل أمرها ما لا مزيد عليه. وقوله: (( الْمُوقَدَةُ ))؛ لأنها غير خامدة. وهذه الإضافة إلى الله سبحانه وتعالى إضافة للتخصيص، فهي نوع معين من النيران، وليست كالنيران التي يعرفونها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم) (ناركم) فأضافها إلى المخاطبين، وفي لفظ آخر قال صلى الله عليه وسلم: (نار بني آدم التي يوقدون)، فلبني آدم نار، ولكن جهنم ليست كنار بني آدم التي تعرفونها لكنها نار الله الكبرى كما جاء في آية أخرى، فلو جمعنا كل النيران التي على وجه الأرض فهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم! (قالوا: والله إن كانت لكافية، قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها)، رواه البخاري ومسلم والترمذي . قال الغزالي : نار الدنيا لا تناسب نار جهنم، ولكن لما كان أشد عذاب الدنيا عذاب هذه النار عرف عذاب نار جهنم بها، وهيهات لو وجد أهل الجحيم مثل هذه النار لخاضوها هرباً مما هم فيه والعياذ بالله! يعني: أهل جهنم لو يروا مثل هذه النار التي لو جمعنا كل نار الدنيا واجتمعت في مكان واحد وأهل الجحيم رأوها لخاضوها وألقوا بأنفسهم فيها هرباً مما هم فيه من جحيم الآخرة والعياذ بالله!. نار جهنم هي نار الله الموقدة، وهي لا تخمد أبداً، فنار الدنيا يمكن أن تخمد، لكن نار الله عز وجل هي الموقدة، وهذه صفة ثابتة لها لا تنفك عنها. قال أبو هريرة رضي الله عنه: أترونها حمراء كناركم هذه؟! يعني: لا يحملنكم هذا الوصف من النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة جهنم أن تظنوها حمراء؛ لأن نار الدنيا يمكن أن ننتفع بضوئها أو بدفئها، قال: لهي أسود من القار! والقار هو: الزفت. قال الباجي : ومثل هذا لا يعلمه أبو هريرة إلا بتوقيف؛ لأنه خبر غيبي، ولا يخبر به أبو هريرة إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، فله حكم الرفع. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بشدة أمرها في الحر، وهذا أبو هريرة رضي الله عنه يخبر عن شدة أمرها في لونها؛ لأن سوادها أشد في العذاب وفي النكال، يقول بعض السلف: عجباً لمن علم أن الجنة تزين فوقه، والنار تسعر تحته، كيف ينام بينهما؟ قوله: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ [الهمزة:7]. يقول ابن الجوزي : أي: تأكل اللحم والجلود حتى تقع على الأفئدة فتحرقها. أولاً تبدأ باللحم والجلود ثم تصل إلى القلب، وتطلع يعني: تصل وتبلغ إلى القلوب والعياذ بالله! ثم ما صفة جلد الكافر؟ جلده ليس كالجلد في الدنيا، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن غلظ -يعني: سمك- جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً)، فالكافر يزاد في خلقه يوم القيامة حتى جاء في الحديث: (إن ضرس الكافر يكون مثل جبل أحد)، فيزاد في حجمه حتى يزداد إحساسه بالعذاب، وجبل أحد طوله ستة آلاف متر، يعني: ستة كيلو متر، فهذا قدر ضرس الكافر في جهنم والعياذ بالله! قال: (وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وعن أبي هريرة مرفوعاً: (ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع) رواه مسلم . قال الفراء : حتى يبلغ ألمها الأفئدة، والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى واحد، والعرب تقول: متى طلعت أرضنا؟ أي: بلغت. وقال ابن قتيبة : (( تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ )) أي: توفي عليها وتشرف. وقال الشوكاني : أي: يخلص حرها إلى القلوب فيعلوها ويغشاها، وخص الأفئدة مع كونها تغشى جميع الأبدان؛ لأنها محل العقائد الزائفة.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756561417