إسلام ويب

تفسير سورة الدخانللشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (حم. والكتاب المبين؟ إنا أنزلناه في ليلة مباركة...)

    سورة الدخان سورة مكية، وآيها تسع وخمسون، وقد روي مرفوعاً: (من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك) وهذا الحديث منكر لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الدخان:1-2] تقدم الكلام مراراً في الحروف المقطعة في أوائل السور. إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ يعني: ليلة القدر التي قدر فيها سبحانه إنزال ذكره الحكيم، وكانت في رمضان، كما قال سبحانه وتعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]. إذاً: وصف هذه الليلة بأنها أنزل فيها القرآن يفسره قوله عز وجل: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ، ووصف الليلة بأنها مباركة أيضاً يفسره قوله تبارك وتعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:1-3]، ولا شك أن كونها خيراً من ألف شهر مظهر من مظاهر هذه البركة، كما أن إنزال القرآن فيها مظهر أيضاً من مظاهر كونها ليلة مباركة. قال ابن كثير : ومن قال: إنها ليلة النصف من شعبان فقد أبعد النجعة؛ فإن نص القرآن أنها في رمضان، وما روي من الآثار في فضل ليلة النصف من شعبان لا تثبت، فهي ما بين مرسل وضعيف، وعلى فرض صحتها فهي لا تفيد أن القرآن نزل فيها، والبركة اليُمن، ولا ريب أنها كانت أبرك ليلة وأيمنها على العالمين، وذلك بتنزيل ما فيه الحكمة والهدى والنجاة من الضلال والردى. قال القاشاني : ووصفها بالمباركة لظهور الرحمة والبركة والهداية والعدالة في العالم بسببها، وازدياد رتبته صلى الله عليه وسلم وكماله بها، كما سماها ليلة القدر؛ لأن قدره وكماله إنما ظهر بها. قوله: (إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ) أي: من خالف مقتضى الحكمة وقوة الدلائل، واختار المذام، وتذلل للهوى، ولم يكتف بهداية الله، ولم يقت روحه بقوت معارفه، وذلك لتقوم حجة الله على عباده.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم)

    قال الله تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4] أي: يفصل ويبين كل أمر تقتضيه الحكمة على وجه متين محمود عند الكمل، تقتات به أرواحهم، وترحم به نفوسهم. وهذه الآية تدل على نوع من أنواع القدر وهو التقدير الحولي؛ لأن ليلة القدر تأتي في الحول مرة في شهر رمضان، حيث يكتب في ليلة القدر موافقاً لما سبق به القضاء في اللوح المحفوظ ما يحصل من هذه السنة إلى السنة التي تليها؛ فإن هناك تقديراً عاماً قبل خلق السماوات والأرض، وهناك تقديراً يومياً ويدل عليه قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] وهذه التقادير لا تتناقض ولا تتعارض؛ لأنها كلها تكون متوافقة مع ما سبق به القدر في اللوح المحفوظ. قوله تعالى: أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا [الدخان:5] نصب على الاختصاص، أي: أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا، على مقتضى حكمتنا، فبعدما فخّم الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بقوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:3]، ووصفه بقوله: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الدخان:2]، فهذا بيان لفخامة القرآن الذاتية من حيث كونه كلام الله سبحانه وتعالى، ومن حيث كونه كتاباً مبيناً؛ أتبع ذلك ببيان فخامته الإضافية إلى الله. إذاً: قوله عز وجل: أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ بيان لفخامته الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الدخان:6] أي: مرسلين إلى الناس رسولاً من أنفسهم، يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة؛ رحمة منه تعالى بهم لمسيس الحاجة إليه، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. قوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الدخان:6] السميع لدعوة حقائق الأشياء بمقتضياتها، (العليم) أي: بمقادير قابلياتها، فلا يبعد عليه الإرسال والإنزال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (رب السموات والأرض ... بل هم في شك يلعبون)

    قال الله تعالى: رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [الدخان:7]. قوله: (إن كنتم موقنين) أي: إن كنتم تطلبون اليقين وتريدون اليقين، وليس معنى: (إن كنتم موقنين) يعني: إن كنتم متصفين باليقين؛ لأن الخطاب هنا يعم أيضاً الكافرين، فيقول أبو مسلم : (إن كنتم موقنين) أي: إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه، فاعرفوا أن الأمر كما قلنا، كقولهم: فلان منجد مسهم أي: يريد نجداً وسهاماً. انتهى. وقيل: معناه: (إن كنتم موقنين) بما تقرون به من أنه رب الجميع وخالقهم، وذلك بتوحيد الربوبية؛ فينبغي ألا تعبدوا إلا الله كما أنكم توقنون أن لا رب إلا الله، ولذلك أتبع الآية التالية بقوله: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ [الدخان:8]. قال عز وجل: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدخان:9] أي: بل ليسوا بموقنين في إقرارهم بربوبيته؛ لأن الإيقان يستلزم قبول البرهان، فإنما يقولون هذا القول وهذا الإقرار على سبيل مزجه باللعب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم )

    قال الله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:10-12]. قوله: (فارتقب) أي: انتظر لمجازاتهم ذلك اليوم الهائل، ولا يستعمل الارتقاب إلا في أمر مكروه. يقول القاسمي : وللسلف في معنى الدخان ثلاثة أوجه:

    الوجه الأول في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب..)

    قال بعضهم: كان ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش أن يؤخذوا بسنين كسني يوسف، يعني السبع العجاف التي قاد فيها يوسف عليه الصلاة والسلام الحركة الاقتصادية في مصر وأخرجهم من الأزمة، فدعا عليهم عليه الصلاة والسلام أن يعاقبوا بسنين جدب وقحط كسني يوسف عليه السلام، فاستجاب الله سبحانه وتعالى دعاء النبي عليه الصلاة والسلام على قريش فأخذوا بالمجاعة. ما علاقة ذلك الجدب بالدخان؟ قالوا: وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدة الجوع من الظلمة كهيئة الدخان. كأن هذا عرض نفسي، كما يعبر في الأمراض النفسية بالهلوسة البصرية، وهو خلل في إدراك الأشياء، فيرى شيئاً معيناً نتيجة خلل أو اضطراب، وبعض الأدوية قد تحصل بها تلك الهلوسة للإنسان إذا استيقظ من النوم. روى ابن جرير عن مسروق قال: (كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جلوساً وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن ! إن قاصاً عند أبواب كندة يقص، ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بنفوس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقام عبد الله وجلس وهو غضبان، فقال: يا أيها الناس! اتقوا الله! فمن علم شيئاً فليقل بما يعلم، ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم، وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم؟ فإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ))[ص:86] إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من قريش إدباراً عن دعوته ورفضاً، قال: اللهم سبعاً كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حطت كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخاناً من الجوع، فأتاه أبو سفيان بن حرب فقال: يا محمد! إنك جئت تأمرنا بالطاعة وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، قال الله عز وجل: (( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ )) * (( يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ )) * (( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ )) * (( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ )) * (( ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ )) * (( إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ))[الدخان:10-15] قال: فكشف عنهم). والحقيقة أن هذه الآية من الآيات التي اختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيها اختلافاً مشهوراً، ولذلك يهتم بها علماء التفسير اهتماماً خاصاً، فيفصلون الكلام فيها ويطيلون النفس، فهذا ابن مسعود يجزم بأن آية الدخان قد مضت في هذه المناسبة التي ذكرنا، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. إذاً: ابن مسعود كان يقطع بأن آية الدخان قد مضت، وهي الدخان الذي كان يراه أحدهم من شدة الجوع كأنه في السماء. قال ابن كثير : وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، ورواه الإمام أحمد في مسنده، وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيريهما. ثم قال: وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى جماعة من السلف كـمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي وهو اختيار شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: والظاهر أن مجيء أبي سفيان كان قبل الهجرة لقول ابن مسعود : (ثم عادوا) وفي الآية: (إنكم عائدون). يعني: حينما يستجيب الله لدعاء نبيه فيكشف عنكم هذا العذاب سوف تعودون إلى الكفر من جديد، ولا توفون بما وعدتم به من الإيمان والطاعة. يقول: ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر، وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب حاضراً ذلك، فلذلك قال أبو طالب : وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، لكن روي ما يدل على أن القصة المذكورة وقعت في المدينة، فإن لم يحمل على التعدد وإلا فهو مشكل جداً، والله المستعان. وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان على هذا معنيين: أحدهما: أن في سنة القحط يعظم اليبس بسبب انقطاع المطر، ويرتفع الغبار الكثير، ويظلم الهواء، وذلك يشبه الدخان، ولذلك يقال لسنة المجاعة: الغبراء. ثانيهما: أن العرب يسمون الشر الغالب الكثير بالدخان، فيقولون: كان بيننا أمر ارتفع له دخان، يعني: حصل بسببه شر كثير أو شر غالب، والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان. وقال الشهاب : الظاهر أن هذه التسمية استعارة؛ لأن الدخان مما يتأذى به، فأطلق على كل مؤذ يشبهه أو على ما يلزمه الدخان؛ ولـذا قـيل: تريد مهذباً لا عيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان لا بد أن تكون هناك صفات غير مرغوبة في الإنسان، كالعود لا يفوح منه الريح الطيب إلا مع خروج الدخان فيه. يعني: أنه لا يوجد إنسان معصوم يسلم من الشر قط إلا الأنبياء. إذاً: هذا ما يتعلق بالوجه الأول في تفسير الآية على ما قاله وانتصر له وجزم به عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو: أن الدخان آية حصلت ومضت وانقضت.

    الوجه الثاني في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب..)

    الوجه الثاني في الآية: أن هذا الدخان المذكور في قوله: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان:10] إحدى علامات القيامة، ولم يأت بعد وهو آت، وهذا قول حذيفة رضي الله تعالى عنه، ويروى عن علي وابن عباس وجمع من التابعين. قال الرازي : واحتج القائلون بهذا القول بوجوه: الوجه الأول: أن قوله: (( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ )) يقتضي وجود دخان تأتي به السماء، فقوله: (يوم تأتي السماء بدخان) نص واضح وصريح على أن السماء نفسها سوف تأتي بدخان، ولا شك أن الأصل حمل الآية على الحقيقة، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة تصرفه عنها. إذاً: لفظ هذه الآية: (( يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ )) يقتضي وجود دخان تأتي به السماء، وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة للعين بسبب شدة الجوع فذاك ليس بدخان أتت به السماء، فهذا الشيء الذي يراه الجائع من شدة الجوع من ظلمة أو غبراء لا يطلق عليه دخان، ولا ينطبق عليه قوله تعالى: (يوم تأتي السماء بدخان مبين). (يَغْشَى النَّاسَ) فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه عدولاً عن الظاهر لا لدليل منفصل يرجح هذا التأويل، وهذا لا يجوز. الوجه الثاني: أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبيناً يقول عز وجل: (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك؛ لأنها حالة عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم، ومثل هذا لا يوصف بكونه دخاناً مبيناً. الوجه الثالث: أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشى الناس، قال تعالى: (يَغْشَى النَّاسَ) وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم، والحالة التي ذكرتموها لا تغشى الناس إلا على سبيل المجاز، وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل. الوجه الرابع: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من عده الدخان من الآيات المنتظرة، فقد ثبت في الأحاديث أن الدخان من الآيات المنتظرة ومن أشراط الساعة. والقول الأول لا شك أنه يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز، وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع، والقوم لم يذكروا ذلك الدليل، فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلاً جداً. فإن قالوا: الدليل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى قص عنهم أنهم يقولون: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ وهذا إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة استقام الأمر؛ فإنه نقل أن القحط لما اشتد بمكة مشى أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وناشده بالله وبالرحم، ووعده أنه إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به، فلما أزال الله تعالى ذلك عنهم رجعوا إلى شركهم؛ ولأننا إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك؛ لأن عند ظهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون)، ولم يصح أيضاً أن يقال لهم: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ. نقول: هذا كلام أيضاً فيه نظر، ويجاب عنه: ما المستغرب أنها تكون آية من آيات القيامة ومن أشراط الساعة، وأنهم إذا نزلت بهم يقولون: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) فيقول الله لهم بعدما يصيبهم هذا العذاب أو هذا الدخان: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان:15] أي: رغم كشفنا عنكم هذا العذاب، فهل هذا فيه أي إشكال؟! ليس فيه أي إشكال، إلا في حالة واحدة وهي لو كانت هذه العلامة مثل: علامة طلوع الشمس من مغربها حيث يغلق باب التوبة ولا يستجاب لهم في مثل ذلك، لكن لم يأت دليل على أن آية الدخان مثل هذه العلامة، فلا إشكال في كون العذاب يقع عليهم كما أخبر الله ويدعون الله قائلين: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) ويقول الله لهم: (إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون). ثم يقول: لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جارياً مجرى ظهور سائر علامات القيامة، في أنه لا يوجب انقطاع التكليف، فإن عامة علامات القيامة لا توجب انقطاع التكليف، فخروج المهدي مثلاً لا يوجب انقطاع التكليف على النفس، ونزول المسيح عليه الصلاة والسلام لا يوجب انقطاع التكليف، وغير ذلك من أشراط الساعة التي لا توجب انقطاع التكليف، بل الناس يخافون جداً فيتضرعون، فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق، وإذا كان هذا محتملاً فقد سقط ما قالوه، والله تعالى أعلم. وقد رجح الإمام ابن كثير الوجه الثاني لما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما ترجمان القرآن، ومن وافقه من الصحابة والتابعين، مع الأحاديث المرفوعة الصحاح والحسان وغيرها التي أوردوها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة. فـابن عباس يخالف قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في مجموعة أخرى من الصحابة والتابعين. إذاً: قول ابن عباس لا شك أنه ظاهر القرآن، وهو أن قوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ من علامات الساعة، أي: دخان بين واضح يراه كل أحد، أما على تفسير ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فليس بدخان بيّن حقيقي وإنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد، لكن قوله تعالى: يَغْشَى النَّاسَ يعني: يتغشاهم ويعمهم، ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه: (يغشى الناس) أي: عامة الناس، أما ما حصل لأهل مكة فكان في الكافرين. قوله: (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: يقال لهم تقريعاً وتوبيخاً: (هذا عذاب أليم)، كقوله عز وجل: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور:13-14] أي: يقال لهم توبيخاً وتقريعاً: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون)، أو يقول بعضهم لبعض: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون). وقوله سبحانه وتعالى: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:12] أي يقول الكافرون ذلك إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم، كقوله جلت عظمته: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، وكذا أيضاً قوله تعالى: وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [إبراهيم:44]، وهكذا هنا حين قالوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [الدخان:12] قال لهم الله سبحانه وتعالى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ [الدخان:13] أي: كيف لهم في التذكر وقد أرسلنا إليهم رسولاً بين الرسالة والنذارة، ومع هذا: ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدخان:14] أي: ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه، بل كذبوه وقالوا: معلم مجنون، كقوله جلت عظمته: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر:23]، وكقوله: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ [سبأ:51] إلى آخر سورة سبأ. ثم قال تعالى: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان:15] هنا معنيان: أحدهما: أنه تعالى يقول: ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب، كقوله: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75]، وكقوله جلت عظمته: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]. المعنى الثاني: أن يكون المراد بقوله: (إنا كاشفوا العذاب قليلاً) أي: إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال، ولا يلزم من كشف العذاب عنهم أن يكون العذاب قد نزل بهم بالفعل، وإنما يكون العذاب قد استحقوه وانعقدت أسبابه وكاد يصيبهم ثم كشفه الله عنهم وإن لم ينزل بهم، وذلك مثل قوله تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98]، فقوم يونس لم ينزل بهم العذاب ثم كشفه الله عنهم، وإنما كانوا قد استحقوه وانعقدت أسبابه وكاد يصيبهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى استثناهم من سنته، وإلا فأي أمة استحقت العذاب فلا بد أن يصيبها العذاب. إذاً: قوم يونس لما آمنوا حينما استحقوا العذاب عوملوا معاملة استثنائية، (كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)، فلم يكن العذاب قد اتصل بهم، وهذا هو الشاهد على أن قوله: (( إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ )) لا يستلزم أن يكون العذاب قد باشرهم واتصل بهم، وإنما قد يكون المعنى: أن العذاب قد انعقدت أسبابه بعد أن استحقوه. يقول القاسمي رحمه الله: ولا يلزم أيضاً أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى إخباراً عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه حين قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ ي

    الوجه الثالث في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب..)

    قال القاسمي : وأما الوجه الثالث في الآية: فروى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الرحمن الأعرج في قوله تعالى: (يوم تأتي السماء بدخان مبين) قال: كان يوم فتح مكة. أي: أن هذا الدخان المبين كان يوم فتح مكة. قال ابن كثير : وهذا القول غريب جداً، بل منكر. ومثل هذا القول لم يرو مرفوعاً ولا موقوفاً على ابن عباس ترجمان القرآن أو غيره من الصحب، إلا أن عدم كونه مأثوراً لا ينافي احتمال لفظ الآية له وصدقها عليه، لاسيما وأن قوله تعالى في آخر السورة: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ [الدخان:59] يفهم منه أن هذا وعد بظهوره عليه الصلاة والسلام على هؤلاء الكفار، وكان ذلك بالفعل يوم الفتح، وحينئذ فمعنى قوله تعالى: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ [الدخان:15] أي: ما ينزل بهم يومئذ برفع القتل والأسر عنهم. قوله: (إنكم عائدون) أي: إلى لقاء الله ومجازاته. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: يظهر مما نقلناه عن السلف في هذه الآية من الأقوال الثلاثة أن هذه الآية من الآي اللاتي أخذت من الصحب عليهم الرضوان اهتماماً في معناها، وعناية في البحث عن المراد منها، حتى كان ابن مسعود مصراً على وجه، وعلي وابن عباس وحذيفة على وجه آخر على ما أسند عنهم من طرق، ولعمر الحق! إن هذه الآية لجديرة بزيادة العناية، وهكذا كل ما كان من معارك الأنظار للأئمة الكبار، وسبب الاختلاف هو إيجاز الأسلوب الكريم وإيثاره من الألفاظ أرقها وأوجزها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون )

    قال الله تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ [الدخان:16]. قوله: (يوم نبطش البطشة الكبرى) فسرها ابن مسعود بيوم بدر، وهذا قول من وافق ابن مسعود رضي الله تعالى عنه على تفسيره الدخان بما تقدم، وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه من رواية العوفي عنه، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه وجماعة عنه، وهو محتمل. يقول القاسمي : والظاهر أن ذلك يكون يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضاً. قال ابن جرير رحمه الله تعالى: حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية قال: حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال ابن مسعود رضي الله عنه: البطشة الكبرى يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة. وهذا إسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه، والله تعالى أعلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون ... وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون)

    قال الله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ [الدخان:17]. (ولقد فتنا) أي: ابتلينا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون، وذلك بإرسال موسى عليه السلام إليهم ليؤمنوا، فاختاروا الكفر على الإيمان. قوله: (وجاءهم رسول كريم) أي: كريم على الله وكريم على المؤمنين، أو كريم في نفسه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قوله تعالى: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [الدخان:18] أي: قال موسى عليه السلام مخاطباً فرعون وقومه: أرسلوا معي بني إسرائيل. قوله: (عباد الله) يحتمل في إعرابها أن قوله: (عباد الله) منادى حذفت أداة ندائه، أي: يا عباد الله، لكن الأرجح أن قوله: (عباد الله) مفعول به، أي: أرسلوا أو ابذلوا إلي عباد الله، بدليل آية طه: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ [طه:47] فهي تفسر قوله: (أن أدوا إلي عباد الله)، كذلك قوله في الآية الأخرى: أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:17]، فهذه تفسر قوله: (أن أدوا إلي عباد الله) أنها مفعول به منصوب، ولفظ الجلالة مضاف إليه. قوله: (أن أدوا إلي عباد الله) أي: أرسلوا معي بني إسرائيل؛ لأسير بهم إلى بلادنا الأولى، وأطلقوهم من أسركم وحبسكم، فإنهم قوم أحرار، وأنتم أذللتموهم واستعبدتموهم، فهم رفضوا هذه الديار وكرهوا هذا الضيم وهذا الذل، فأطلقوهم من هذا الحبس وهذا الظلم. قوله: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي: على وحيه ورسالته التي حملنيها إليكم؛ لأنذركم بأسه إن عصيتم. قوله تعالى: وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ [الدخان:19] أي: لا تعلوا على الله بإنكار ربوبيته، ودعوى الربوبية لأنفسكم وتكذيب رسوله. قوله: (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أي: حجة واضحة على ربوبية الله ونبذ ربوبيتكم، وعلى رسالتي، وعلى أن بني إسرائيل عباده. قوله تعالى: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ [الدخان:20] أي: اعتصمت به من رجمكم -يعني: القتل-، فعصمني فلا ينالني منكم مكروه. وهكذا قوة التوكل على الله سبحانه وتعالى، كما في مواقف أخرى لموسى عليه السلام حينما أتى مع قومه البحر وطاردتهم جيوش فرعون، قال قومه: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62] منتهى الثقة والتوكل على الله سبحانه وتعالى، وهكذا هنا قال: (وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون) أي: اعتصمت به من أن ترجموني أو تقتلوني، فعصمني فلا ينالني منكم مكروه، وقصد بهذا الكلام إظهار مزيد شجاعته وثباته في موقف تضطرب فيه الأفئدة، وتزل الأقدام خوفاً ورعباً، وما ذاك إلا لإيوائه إلى عصمة الله سبحانه وتعالى وتأييده. قوله تعالى: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدخان:21] أي: فكونوا بمعزل عني فلست بموال منكم أحداً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فدعا ربه أن هؤلاء مجرمون ... إنهم جند مغرقون )

    قال الله تعالى: فَدَعَا رَبَّهُ [الدخان:22] أي: لما امتنعوا عن إجابة موسى عليه السلام دعا ربه (أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي: مشركون مفسدون. قوله تعالى: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا [الدخان:23] أي: فأجاب الله سبحانه دعاءه، وأوحى إليه بأن سر بقومك ليلاً. ( إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ) أي: أن فرعون وقومه من القبط متبعوكم إذا خرجتم عن بلدهم وأرضهم ليرجعوكم. قوله تعالى: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ [الدخان:24] قوله: (رهواً) أي: إذا قطعت البحر أنت وأصحابك فاتركه ساكناً على حاله التي كان عليها حين دخلته ولا تضربه بعصاك؛ ليدخله القبط فيغرقون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كم تركوا من جنات ونعيم ... وأورثناها قوماً آخرين)

    قال الله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الدخان:25] أي: بعد إهلاكهم بالغرق تركوا بساتين وعيوناً يسقى منها ويتنعم بالنظر فيها، هذا في التفكه والتنزه. قوله تعالى: وَزُرُوعٍ [الدخان:26] أي: مزارع قائمة مليئة وحافلة بالأقوات. قوله: وَمَقَامٍ كَرِيمٍ [الدخان:26] أي: محافل مزينة ومنازل مزخرفة. قوله تعالى: وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ [الدخان:27] أي: متنعمين بهذه النعمة من النساء والأموال والحشم وما لا يحصى من المشتهيات. وقوله: (كم) هنا للتكثير، أي: أخرجناهم مثل هذا الإخراج، فالجار والمجرور صفة مصدر مفهوم من الترك، أو هو خبر محذوف يعني: الأمر كذلك، والمراد به التأكيد والتقرير. قوله تعالى: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الدخان:28] يعني: من خلفهم بعد مهلكهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فما بكت عليهم السماء والأرض .. )

    قال الله تعالى: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ [الدخان:29]. قال الزمخشري : إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح، وأظلمت له الشمس، فيقول الشاعر: فالريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامة يعني: حزناً على هذا الرجل الخطير المهم الذي مات. وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: فالشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا أي: تبكي عليك نجوم الليل وكذلك القمر يبكي معها. وقالت الخارجية ليلى بنت طريف الشيباني ترثي أخاها الوليد : أيا شجر الخابور مالك مورقاً كأنك لم تجزع على ابن طريف يقول: وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه. و القاسمي شرح ما ورد من الآثار عن بعض الصحابة أو السلف في تفسيرها على أنها تعبير لغوي عند العرب، يعبرون به عن شدة المصيبة التي نزلت بموت هذا الخطير، فيقول: وكذلك ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما من بكاء مصلى المؤمن وآثاره في الأرض، ومصاعد عمله، ومهابط رزقه في السماء؛ فهو تمثيل. ونفي ذلك عنهم في قوله تعالى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ) فيه تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم قتله، فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض. وعن الحسن : فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون، بل كانوا بهلاكهم مسرورين. يعني: ما بكى عليهم أهل السماء وهم الملائكة وأهل الأرض وهم المؤمنون. أما القول الذي صدر به القاسمي تفسيره فعجيب، وهو -أي: القاسمي - مع سلفيته القوية الواضحة يجنح أحياناً إلى القول بالمجاز كما في هذه الآية، ما الذي يمنع من أن يكون هناك بكاء حقيقي للسماوات والأرض من حيث النصوص؟ وقد دلت النصوص أن السماء والأرض تسبح: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]. إذاً: لا يوجد شيء يمنع أبداً من أن يخلق الله سبحانه وتعالى في الجمادات إدراكاً تدرك به بعض هذه الأشياء، والكلام في هذه المسألة مستوعب بتفصيل كبير في كتاب (عبودية الكائنات) للأخ الشيخ فريد التوني ، ففيه نقد لكل هذه المناحي التأويلية أو المجازية في نظائر ذلك من آيات القرآن الكريم، فعلى الأقل يقال: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ يعني: ما بكى عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض، أما أن يقال: إن هذا مجرد مجاز أو تمثيل فهذا مبني على استبعاد أن يحصل هذا حقيقة، وقد ثبت أن الجذع قد حن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى لفراقه، حتى نزل من المنبر وضمه إليه حتى هدأ، فهذا جذع حن لفقد النبي عليه الصلاة والسلام، والآيات كثيرة في مثل هذه المعاني، وننصح الإخوة بمراجعة كتاب ((عبودية الكائنات)) فإنه استوفى البحث في هذه الآية ومظاهرها. قوله: (وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) أي: مؤخرين بالعقوبة، بل عوجلوا بها زيادة سخط عليهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين)

    قال الله تعالى: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ [الدخان:30] يعني: بالعذاب المهين: استعباد فرعون وقتله أبناءهم. قوله تعالى: مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ [الدخان:31] إعراب: (من فرعون) بدل من العذاب على حذف مضاف، يعني: من عذاب فرعون، أو جعله عذاباً مهيناً مبالغة لإفراطه في التعذيب، يعني: كأن فرعون نفسه هو العذاب، أو يكون فرعون حالاً من المهين، بمعنى: هذا العذاب المهين واقع من جهة فرعون. قوله: (إنه كان عالياً) أي: متكبراً على الناس، وكلمة الفراعنة مرتبطة بالتعالي والتجبر والعلو في الأرض. قوله: ( من المسرفين) أي: المتجاوزين الحد في العتو والشر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين)

    قال الله تعالى: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:32]. قوله: (ولقد اخترناهم) أي: فضلنا بني إسرائيل على العالمين، وليس لبني إسرائيل في هذا الزمان أو المنسوبين إليهم أن يفرحوا بمثل هذه الآية، ويستدلوا بها في أروقة الأمم المتحدة على أن القرآن يمدحهم، وأن القرآن يثبت أحقيتهم بفلسطين، كلا، فإن هؤلاء الذين يمدحهم الله سبحانه وتعالى في القرآن هم المؤمنون من بني إسرائيل، وهم إخواننا وهم مسلمون مثلنا، فهؤلاء المؤمنون لو عاشوا في هذا الزمان لقاتلوا مع المسلمين هؤلاء اليهود. فأي آية فيها تفضيل بني إسرائيل على العالمين فهي مقيدة وليست مطلقة، أي: فضلوا على عالمي زمانهم فقط، أما الأمة المفضلة على جميع العالمين فهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] فكنتم هنا بمعنى: أنتم. قوله: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ) أي: بني إسرائيل. قوله: (عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) أي: فضلناهم لأجل علم معهم على عالم زمانهم، أو فضلناهم على علم منا بأنهم أحقاء بأن يختاروا ويؤثروا ويفضلوا، فهذا مدح لبني إسرائيل المؤمنين الذين آمنوا بموسى عليه السلام، وهؤلاء كانوا مسلمين موحدين، وهؤلاء لو أدركوا محمداً عليه السلام لآمنوا به وأسلموا ودخلوا في دينه. قوله تعالى: وَآتَيْنَاهُمْ [الدخان:33] يعني: زيادة على اختيارهم وتفضيلهم، آتيناهم زيادة على ذلك. (مِنَ الآيَاتِ) أي: المعجزات والكرامات. (مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ) بلاء: نعمة ظاهرة؛ لأنها حجة واضحة على أعدائهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن هؤلاء ليقولون . إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين )

    قال الله تعالى: إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ [الدخان:34-35]. (إن هؤلاء) مشركي مكة (لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى) أي: الموتة التي يموتونها بعد وجودهم هنا في الدنيا. قوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى) كأنهم أرادوا إن هي إلا موتتنا هذه التي سوف نموتها، لكن هل يفهم من هذا التعبير أن المشركين يثبتون موتة ثانية؟ لا، لكن المقصود (إن هي إلا موتتنا الأولى) يعني: إن هي إلا موتتنا هذه فقط. قال العلامة الأسنوي في التمهيد: الأول في اللغة: ابتداء الشيء. إذاً: الشيء الذي يبدأ قد يكون له ثان وقد لا يكون، كما تقول -مثلاً- لشخص اشتغل في الصباح فقابلته فسألته: كم معك مدخول؟ قال: هذا أول ما اكتسبته، هل معنى ذلك أنه لا بد أن يكتسب بعد ذلك شيئاً؟ لا، قد يكتسب وقد لا يكتسب، فهذا يدل على الأولية فقط. ومن فروع المسألة فرع فقهي يترتب على هذا الفهم، وهو لو أن رجلاً قال لامرأته: إن كان أول ولد تلدينه ذكراً فأنت طالق، فإذا ولدت هذا الذكر أتطلق أم لا تطلق؟ تطلق. لكن للأسف الشديد نحن علمنا الناس وحفظناهم في مسألة الطلاق أنه إذا سأل شخص عن مسألة طلاق أن يقال له: نيتك كانت ماذا؟ وأصبح الواحد يُسأل هذا السؤال وهو قد أتى بمصيبة كبرى ويقول: لم تكن نيتي طلاقاً! فنحن الذين علمنا الناس، وكذلك علمناهم مسألة الطلاق حال الغضب، وأن الغضب قد يكون عذراً، وما أكثر المفاسد المترتبة على هذا! نحن نقول في طلاق الكناية: اسأله عن النية، لكن من أتى بلفظ صريح فإنه يقع به الطلاق، كأن يقول لها: أنت طالق، أو كان الطلاق معلقاً بشرط ووقع الشرط؛ فحينئذ يقع الطلاق، وموضوع النية يكون في طلاق الكناية، كالحقي بأهلك مثلاً، أو غير ذلك من العبارات التي تفتقر إلى استبيان النية من الشخص، ويجب أن يكون صادقاً في الإجابة؛ لأن الله سيحاسبه على ما في قلبه، فموضوع النية لا بد أن يوضع له حد، وكذلك الكلام في موضوع الغضب، وهذه لفتة عابرة، ونعود لموضوعنا؛ من فروع المسألة أنه لو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكراً فأنت طالق، فإنها تطلق إذا ولدت هذا الولد وإن لم تلد غيره باتفاق العلماء؛ لأنه قال: أول ولد، ولا يقال: ننظر الثاني فقد يكون أنثى، لا؛ لأنه لا يشترط، وقد تلد مرة ثانية وقد لا تلد؛ لأن كلمة أول هي مجرد ابتداء الولادة بدون ارتباطها بكونها تلد ثانياً أو ثالثاً. قال أبو علي : اتفقوا على أنه ليس من شرط كونه أولاً أن يكون بعده آخر، وإنما الشرط ألا يتقدم عليه غيره. قوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى) يعني: إن هي إلا موتتنا هذه التي ستحصل لنا في الدنيا، والمشركون لا يعتقدون أن هناك موتة ثانية. قوله: (وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ) أي: وما نحن بمبعوثين، وهذا يؤيد أن المشركين لا يعتقدون أن هناك موتة ثانية؛ لأنهم لو كانوا يعتقدون أن هناك موتة ثم حياة لما أنكروا البعث والنشور، فقوله: (وما نحن بمنشرين) يدل على أنهم يعتقدون أن هذه الموتة لا شيء بعدها: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ... إنهم كانوا مجرمين )

    قال الله تعالى: فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الدخان:36] أي: إن كنتم صادقين في أننا نبعث بعد بلائنا من قبورنا (فأتوا بآبائنا) أي: أحضروا لنا آباءنا. قال ابن كثير : وهذه حجة باطلة وشبهة فاسدة، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة لا في دار الدنيا، بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها يعيد الله العالمين خلقاً جديداً، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً. ثم أنذرهم تعالى بأسه الذي لا يرد كما حل بأشباههم من المشركين فقال سبحانه: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [الدخان:37]. قوله: (أهم خير) أي: في القوة والمنعة. قوله: (أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين) أي: أهلكناهم بجرمهم وفحشهم وفسادهم، وهم ما هم من حيث القوة والرخاء وكذا وكذا، فما بال قريش لا تخاف أن يصيبها ما أصابهم؟ وقوم تبع هم حمير وأهل سبأ أهلكهم الله عز وجل، وفرقهم في البلاد شذر مذر، كما تقدم في سورة سبأ. وقد ذكر تبع في القرآن مرتين هنا وفي سورة (ق)، وتبع من الصالحين الذين ورد ذكرهم في القرآن واختلف في إثبات نبوتهم، كـذي القرنين وكالخضر .. ونحو ذلك، فالأفضل في أمر ذي القرنين وتبع أن يتوقف الإنسان في إثبات النبوة لهما؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رواه الحاكم والبيهقي وصححه، وهو صحيح: (ما أدري أتبع نبي أم لا؟ وما أدري أذو القرنين نبي أم لا؟)، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يتوقف فنحن قطعاً لا بد أن نتوقف، وإن كان البعض من السلف خاضوا وناقشوا هذه القضية، لكن إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو مصدر العلم بالنسبة لنا لا يدري فنحن أحرى ألا ندري. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: كانوا عرباً من قحطان كما أن هؤلاء عرب من عدنان، وقد كانت حمير كلما ملك فيهم رجل سموه تبعاً، كما يقال: كسرى لمن ملك الفرس، وقيصر لمن ملك الروم، وفرعون لمن ملك مصر كافراً -يعني: لا يوصف حاكم مصر بأنه فرعون إلا إذا كان كافراً- والنجاشي لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من أعلام الأجناس، ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند، واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه، واتسعت مملكته وبلاده، وكثرت رعاياه، وهو الذي مصّر الحيرة، فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار وجعلوا يقرونه بالليل -يعني: كانوا يقرونه ويبذلون له القرى الذي يقدم للضيف من الطعام والإكرام بالليل-؛ لأنهم كانوا يرون هذا واجباً عليهم؛ لأنهم عرب كرام -فاستحيا منهم وكف عنهم، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه وأخبراه أن لا سبيل له على هذه البلدة؛ فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان، فرجع عنها وأخذهما- أخذ الحبرين اليهوديين- معه إلى بلاد اليمن، فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة فنهياه عن ذلك أيضاً وأخبراه بعظمة هذا البيت، وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان، فعظمها وطاف بها وكساها الملاء والوصائل والحبر، ثم كر راجعاً إلى اليمن، ودعا أهلها إلى التهود معه، وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام، فتهود معه عامة أهل اليمن. وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه ((السيرة)) وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا ومما لم نذكر، وذكر ابن عساكر أنه ملك دمشق، وساق ما روي في النهي عن لعنه. قال ابن كثير : وكأنه -والله أعلم- كان كافراً ثم أسلم، وتابع دين الكليم عليه السلام على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق، قبل بعثة المسيح عليه السلام، وحج البيت في زمن الجرهميين، وكساه الملاء والوصائل من الحرير والحبر، ونحر عنده ستة آلاف بدنة، وعظمه وأكرمه، ثم عاد إلى اليمن، وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة عن أبي بن كعب وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم وكعب الأحبار وإليه المرجع في ذلك كله، وعبد الله بن سلام هو أثبت وأكبر وأعلم، وكذا روى قصته وهب بن منبه ومحمد بن إسحاق في السيرة كما هو مشهور فيها. وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة تبع هذا بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل، فإن تبعاً هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه، ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة النيران والأصنام، فعاقبهم الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ. ثم قال: وتبع هذا هو تبع الأوسط واسمه أسعد أبو كريب، ولم يكن في حمير أطول مدة منه، وتوفي قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة سنة. وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة أن هذه البلدة مهاجر نبي في آخر الزمان اسمه أحمد صلى الله عليه وسلم قال في ذلك شعراً واستودعه عند أهل المدينة، فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفاً عن سلف، وكان ممن يحفظ هذا الشعر أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره، وهو: شهدت على أحمد أنه رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره لكنت وزيراً له وابن عم وجاهدت بالسيف أعداءه وفرجت عن صدره كل غم ثم ساق ابن كثير آثاراً في النهي عن سبه. وبالجملة فإن قصته المذكورة والمروية في شأنه، وإن لم يكن سنده على شرط الصحيح إلا أن ذلك مما يجوز التوسع فيه؛ لأنه عبارة عن خبر محض لا يتضمن حكماً شرعياً، لكن يؤكد حقيقة أخرى وهي أن تبعاً كان له خبر متواتر عند قريش يتناقلونه جيلاً بعد جيل، وكان خبراً عظيماً بدليل أن الله سبحانه وتعالى قال مخاطباً قريشاً: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) يعني: قوم تبع الذين تعرفونهم وتسمرون بأخبارهم، وتتناقلون أخبارهم جيلاً بعد جيل، فيفهم من قوله: (أهم خير أم قوم تبع) أن المخاطبين وهم قريش يعرفون من هو تبع، بل يعرفون خبر تبع، وأنه أقوى منهم وأملك منهم في كل شيء، فإذا كان قوم تبع مع قوتهم وشدتهم لما كفروا أهلكهم الله، أفلا يهلك قريشاً إذا سارت على درب الكفر؟! لا شك أن قريشاً كانت تعلم من فخامة نبئه المروي لها بالتواتر ما فيه أكبر موعظة لها، ولذا طوى نبأه إحالة على ما تعرفه من أمره، وما تسمر به في شأنه، وما القصد إلا العظة والاعتبار، لا جعل ذلك خبراً من الأخبار وسمراً من الأسمار كما هو السر في أمثال نبئه، وبالله التوفيق.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين)

    قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان:38-39] أي: خلق الله السماوات والأرض وبث فيهما من آياته؛ ليستدل العباد بهذه الآيات على توحيد الله سبحانه وتعالى، وينقادوا إلى طاعته وعبادته. قوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الدخان:39] أي: لا يعلمون حكمة خلقها؛ ولذا يعرضون عنه سبحانه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين)

    قال الله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان:40] أي: فصل الله بين الخلائق ليجزيهم بما أسلفوا من خير أو شر. قوله تعالى: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [الدخان:41] أي: للإثابة أو تحمل عقاب، كقوله عز وجل: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]. قوله تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الدخان:42] أي: بأن وفقه للإيمان والعمل الصالح. قوله: (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) أي: الغالب في انتقامه من أعدائه. قوله: (الرَّحِيمُ) أي: بأوليائه وأهل طاعته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم)

    قال الله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ [الدخان:43] أي: التي هي أخبث شجرة معروفة في البادية. قوله تعالى: طَعَامُ الأَثِيمِ [الدخان:44] أي: الفاجر الكثير الآثام. قوله تعالى: كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ [الدخان:45] قوله: ((كالمهل)) وهو دردي الزيت، كما تقول العرب: أول الدن دردي، أو أول القصيدة كفر كما يقولون، يعني: إذا كان الدن الذي فيه زيت دردياً ممتلئاً بالقاذورات والخبائث فماذا سيكون في أسفل الدن؟! قوله: (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) أي: يضطرب في البطون من شدة الحرارة فيحرقها. قوله: ((في البطون)) كقوله الله سبحانه وتعالى: نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ [الهمزة:6-7]. وكذلك آيات الصافات: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ [الصافات:62-67]. قوله تعالى: كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:46] أي: الماء الحار الذي انتهى غليانه. قوله تعالى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الدخان:47] العتل: هو الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر كعتل البعير. قوله: ((خذوه فاعتلوه)) يعني: جروه وادفعوه بعنف. قوله: ((إلى سواء الجحيم)) أي: وسطها ومعظمها. قوله تعالى: ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ [الدخان:48] لتستوفي جميع أجزاء بدنه نصيبها،لم يقل: صبوا فوق رجليه؛ لأنه إذا صب على الرجلين سيصيب الرجلين فقط، لكن لما يصب من فوق الرأس فإنه يصيب جميع البدن، فينال كل جزء من البدن نصيبه من العذاب عافانا الله وإياكم منه. قوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49] أي يقال له: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) يقال له ذلك على سبيل الهزء والتهكم، فيتم له مع العذاب الحسي بالنار العذاب النفسي والعقلي والعياذ بالله. فقوله: ((ذق إنك أنت العزيز الكريم)) فيه توبيخ وتقريع وتأنيب واستهزاء وتهكم به. قوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ قيل في تفسيرها: ذق بأنك أنت العزيز الكريم، أو لأنك العزيز الكريم؛ لأن أبا جهل -كما روي- لقي النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما معناه: لا تستطيع أن تفعل أنت ولا ربك لي شيئاً؛ فإنه ليس في قريش أعز مني ولا أكرم. فقال بعض المفسرين: إن هذا خطاب لـأبي جهل ومن كان مثله، فإنه يقال له يوم القيامة: ((ذق إنك أنت العزيز الكريم)) يعني: بزعمك كما قال قوم شعيب له: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87] على أحد التفسيرين: أنهم أرادوا الاستهزاء به؛ لأنهم يقصدون -والعياذ بالله- وصفه بأنه سفيه جاهل. قوله تعالى: إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان:50] أي: هذا العذاب أو هذا الأمر ما كنتم تشكون فيه مع ظهور دلائله، أو تتمارون وتتلاحون وتتجادلون وتناقشون فيه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في مقام أمين)

    قال الله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ [الدخان:51] أي: يأمن صاحبه من الخوف والفزع. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ [الدخان:52-53] قوله: ((سندس وإستبرق)) يعني: ما رق من الحرير وما غلظ من الديباج. ((متقابلين)) أي: في مجالسهم أو أماكنهم؛ لحسن ترتيب الغرف وتصفيف منازلهم كالإخوة يتجالسون مواجهة؛ لأنه قال في سورة الحجر: إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]. قوله تعالى: كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [الدخان:54] أي: قرناهم بما فيه قرة أعينهم واستئناس قلوبهم لوصولهم بمحبوبهم، وحصولهم على كمال مرادهم. قوله تعالى: يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ [الدخان:55] قوله: ((يدعون فيها بكل فاكهة)) أي: يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه. قوله: ((آمنين)) من كل ضرر. قوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى [الدخان:56] قال ابن جرير : أي: لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا. وكان بعض أهل العربية يوجه (إلا) هنا بمعنى سوى، أي: سوى الموتة الأولى فلا يذوقون الموت بعد ذلك، يعني: أن الاستثناء منقطع، ((ووقاهم عذاب الجحيم)). ثم قال تعالى: فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الدخان:57].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون)

    قال الله تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ [الدخان:58] يعني: سهلناه حيث أنزلناه بلغتك. قوله: (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي: يتعظون بعبره وعظاته وحججه؛ فينيبوا إلى طاعة ربهم ويذعنوا للحق.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فارتقب إنهم مرتقبون)

    قال الله تعالى: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ [الدخان:59] أي: ما يحل بهم من عذاب بسبب باطلهم. قوله: ((إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ)) أي: منتظرون عند أنفسهم غلبتك، أو المقصود بقوله: ((إنهم مرتقبون)) ما ورد في قوله تعالى: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور:30] فهم يرتقبون موتك، فارتقب كما قال تعالى: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:52] أنتم انتظروا ونحن سننتظر، وسنعلم لمن تكون العاقبة: وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:42]. فقوله تبارك وتعالى هنا: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ وعد له صلى الله عليه وسلم بالنصرة والفتح عليهم، ووعيد لهم، وقد أنجز الله وعده، كما قال سبحانه وتعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:21]، وقال عز وجل: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756524413