إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [122]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد نهى الشارع الحكيم عن التسخط وعدم الرضا بالقدر، لما في ذلك من الاعتراض على الله سبحانه وتعالى وشرعه وحكمه؛ وهذا منافٍ للإيمان، ومن ذلك التسخط بكلمة (لو) على أقدار الله، والظن بأن الأسباب تغير المقادير.

    1.   

    باب ما جاء في اللو

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في اللو.

    وقول الله تعالى: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، وقوله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168] ].

    من المعلوم أن الطريق إلى الله جل وعلا ليس إلا بإتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يصل الإنسان إلى السعادة الأخروية إلا إذا سلك الطريق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن والحديث الذي كان يقوله ويبلغه الأمة من أن الله تعالى موصوف بالصفات العلى، موصوف بأنه سميع عليم بصير، وبأنه حي قادر مريد، وبأنه يتكلم جل وعلا ويفعل ما يشاء، وبأن له وجهاً كريماً جل وعلا، وبأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وأنه جل وعلا هو الذي بيده ملكوت كل شيء، وأنه الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء.

    وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أو قاله الله جل وعلا يجب أن يعتقد على ظاهره، ولا يجوز أن يُؤَوَّل وتطلب له الوجوه البعيدة الغريبة التي تخرج الكلام عن ظاهره، كما يفعله أهل الكلام الذين ابتلوا بالفلسفات وبالكلام الذي لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم.

    ولهذا كان الأئمة، مثل: سفيان بن عيينة وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه وغيرهم رحمهم الله يقولون: من اعتقد في مثل قول الله جل وعلا: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] غير ما في قلوب عوام المسلمين فإنه ضال.

    ومقصودهم بهذا أن القرآن على ظاهره، أن الله خاطبنا بخطاب واضح جلي لا نحتاج معه إلى أن نبحث عن فلسفات وأمور بعيدة على اللغة، وذلك أن الله جل وعلا يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67]، فهذا أمر من الله جل وعلا للرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ المنزل إليه إلى الأمة، ولا شك أنه بلغ، ولم يبلغنا التأويل الذي يقوله هؤلاء المتكلمون، وهذا يدل على أنه باطل؛ إذ لو كان من الحق لبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم.

    ومعلوم أن الله جل وعلا إذا قال لنا: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] .. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن:27] وما أشبه ذلك من الآيات أن ظاهر هذه الآيات أن له سبحانه وتعالى وجهاً يليق بجلاله، على حد قوله جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وقوله جل وعلا: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، وقوله جل وعلا: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا [البقرة:22]، وقوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، وما أشبه ذلك من الآيات التي تدل على تفرده جل وعلا بالكمال وبما يتصف به، وأن المخلوق لا يشاركه جل وعلا في صفاته أو أفعاله.

    فإذا أخبرنا أن له يداً وأن له رجلاً جل وعلا، وأنه يضع رجله في جهنم حتى ينزوي بعضها إلى بعض وتتضايق على أهلها، إذا أخبرنا بذلك وجب قبول هذا والإيمان به على ما يليق بعظمة الله جل وعلا، وكذلك إذا أخبرنا أن له وجهاً.

    أما التأويل الباطل مثل قولهم: الوجه المقصود به الذات فهو باطل، ولا يقال في اللغة العربية: (اثنان وجه)، أو: (يد فلان وجه) أو (رجل فلان وجه)؛ فإن هذا لا يفهم ولا يأتي لغة ولا شرعاً.

    إذاً هو باطل، ولو أن أمامنا رجلين أحدهما أخذ بظاهر القرآن وبظاهر أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والآخر لم يأخذ بذلك بل قال: هذا الظاهر يدل على التشبيه ولا يجوز أن نأخذ به، ويجب أن نؤوله حتى لا نقع في ظاهر التشبيه ومضيا على هذا السبيل، ثم وقفا أمام الله وحاسبهما، فقال الأول: يا رب! سمعتك تقول كذا وكذا فاعتقدت ذلك، وسمعت رسولك صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا فاعتقدت ذلك.

    والآخر يقول: ظننت أن هذا هو الحق، واعتقدت أن ظاهر خطابك وخطاب رسولك أنه غير مراد فأيهما أولى بالنجاة؟

    لا شك أن الأول هو أولى بالنجاة؛ لأنه اعتصم بقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يقال في جميع الصفات؛ لأن باب الصفات واحد، فهو باب إثبات ونفي المشابهة -مشابهة المخلوقين- وليس باب تأويل، ومن كان سالكاً هذا المسلك -التأويل- فإنه على خطر عظيم بغير شك، بل لا نشك أنه ضال في ذلك، وأمره إلى الله جل وعلا هو الذي يتولى حسابه؛ لأنه هو الذي يتولى حساب عباده جل وعلا.

    يقول: [باب ما جاء في اللو] (اللو) هنا أصلها (لو)، فأدخلت (أل) عليها، وإدخال (أل) عليها لا يفيد المعرفة؛ لأن (لو) حرف وضع لمعنى كما هو معلوم، و(أل) قد تدخل على المعرف ولا تزيده تعريفاً، كما يقول الشاعر:

    رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً شديداً بأعباء الخلافة كاهله

    فأدخل (أل) على يزيد ولم تزده تعريفاً، ولكنها قد تدخل في اللغة على المعرف ويبقى على ما هو عليه.

    ومقصوده بهذا ما جاء من النهي والوعيد لمن قال: (لو) معترضاً بذلك على قدر الله جل وعلا.

    أي: إذا وقع في أمر من الأمور يعترض ويقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولو أني ما فعلت كذا ما كان كذا وكذا.

    و(لو) في مثل هذا المعنى فيها محاذير عدة، سواء قصد بها الاعتراض على المقدر أو قصد بها الاعتراض على الأمر والنهي، والأمر والنهي هما متلازمان، فأمر الله جل وعلا وشرعه يجب أن ويمتثل كما يجب أن يجتنب نهيه.

    والذي جاء فيها هو الاعتراض على المقدر، ولكن (لو) قد تأتي في أمور مستقبلة تدل على أن المتكلم بها يريد أن يفعل كذا وكذا فلا تكون داخلة في النهي، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة).

    فهذا يدل على أنه في المستقبل الذي سيقع سيفعل كذا وكذا، ولا يدل ذلك على أنه يعترض على الواقع، وكذلك قوله: (لو كنت راجماً أحداً بلا بينة لرجمت هذه) يقصد امرأة معينة، وما أشبه ذلك كثير مما جاء في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه تدل على أنه لو تبين له في المستقبل الأمر على هذا النهج أنه يفعل كذا وكذا، فهو يخبر عن عقيدته وعن فعله الذي سيفعله إذا صار ذلك، وهذا ليس فيه اعتراض على القدر.

    سبب نزول قوله تعالى: (لو كان لنا من الأمر شيء ...)

    أما الآية التي ذكرها المؤلف، وهي قوله جل وعلا: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154].

    فالآية نزلت في قصة أحد كما هو معلوم من سياق الآيات، والآيات كلها في قصة أحد، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج بألف مقاتل من أهل المدينة، وفي أثناء الطريق بين أحد والمدينة رجع عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين ورجع معه ثلاثمائة من الذين تأثروا به، وقال: يطيع أمر الصبيان -يعني الرسول صلى الله عليه وسلم- ويترك رأيي ورأيه!

    لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرى أن يبقى المسلمون في المدينة ولا يخرجون، ولكن ألح عليه بعض الصحابة الذين تخلفوا عن وقعة بدر طلباً للشهادة، وكانوا يحبون لقاء العدو، فألحوا عليه وطلبوا أن يخرج بهم إلى العدو، وكان يشير عليهم أن يجلسوا في المدينة، فإن دخلوا عليهم قاتلوهم في الطرقات والنساء ترميهم من فوق السطوح، وكان هذا هو الرأي الذي يكون موفقاً في ذلك الوقت، ولكن أمر الله لابد من نفاذه.

    فلما أكثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيته ولبس سلاحه، ثم لام بعضهم بعضاً وقالوا: أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء ما ينبغي لنا ذلك. فلما خرج قالوا له: يا رسول الله! إن شئت أن نبقى بقينا فقال صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لنبي لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه).

    فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجوا معه، وفي أثناء الطريق رجع عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش من أصحابه وبقي بعضهم، فهؤلاء هم الذين قالوا: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، فهم يعترضون على ما وقع، وذلك أنه -كما هو معلوم- لما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المكان الذي فيه القتال وزع الجيش، ووضع سبعين من الرماة على الجبل -وهو يسمى الآن جبل الرماة- وقال: انضحوا عنا الخيل ولا تعدوا مكانكم حتى أرسل إليكم، وإياكم أن تتركوا المكان قبل أن أرسل إليكم ولو رأيتمونا تخطفنا الطير. يعني: لو رأيتمونا نقتل فلا تعدوا مكانكم وهذا تأكيد.

    فلما بدأ القتال ما هي إلا ساعة من نهار حتى انهزم الكفار أمام المسلمين، والمسلمون خلفهم يقتلون ويأخذون ما يأخذون، فلما شاهد الرماة ذلك قالوا: علام نجلس هنا وقد انهزم الكفار؟ ما لجلوسنا هذا فائدة فذكرهم أميرهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا أن يطيعوه، ولحقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم مع المسلمين ليأخذوا من الغنائم، فجاءت خيل المشركين وكانت بقيادة خالد بن الوليد -قبل أن يسلم- من خلف المسلمين، فقُتِل من المسلمين سبعون رجلاً، وجرح من جرح، وجُرح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

    هذا الذي أخبر الله جل وعلا به فقال: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران:152] يعني: حصل ذلك بسبب الفشل والتنازع ومعصية أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فحصل ما حصل من قتل، فلما قتل من قتل. قال هؤلاء: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154].

    ومعلوم أن هذا شيء مقدر مكتوب قبل خلق السموات والأرض، وأن الشيء إذا وقع يجب أن ينقاد له المؤمن ويؤمن به ويسلم لله جل وعلا، وأن يقول (إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل).

    1.   

    الاعتراض على الله

    قولهم: (لو كان لنا من الأمر شيء) يعني: لو كان التدبير لنا ما خرجنا إلى هذا المكان، ولا قتل من قتل من أصحابنا. والمقصود بقولهم: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، المقصود به أصحابهم الذين قتلوا من إخوانهم من نسب وأقرباؤهم وغيرهم من الذين قتلوا، فهم يقولون ذلك على سبيل الاعتراض على القدر، وأنهم كان يستطيعون أن يغيروا من الواقع بتدبيرهم.

    يقولون ذلك على سبيل التحسر والتأسف لما وقع، وكل هذا لا يجوز أن يكون؛ لأنه لا يمكن أن يقع دقيق ولا صغير ولا كبير إلا بتقدير الله جل وعلا وإرادته، وهذا لا ينافي الحديث الذي سيذكره المصنف، بل هو يتفق معه.

    فالإنسان عليه أن يعمل السبب الذي أمر به ويجتهد فيه، ثم إذا وقع شيء خلاف ما قصد فعليه أن يسلم لقضاء الله وقدره، والإيمان بالقضاء والقدر أصل من أصول الإيمان، فأركان الإيمان ستة، وأحد أركانه الإيمان بالقدر خيره وشره، أي: أن كل ما وقع من الأمور التي تسر أو تضر كلها مقدرة ومقضية قبل أن توجد الأنفس التي وقع عليها ذلك، كما أخبر الله جل وعلا بذلك فقال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22] أي: مكتوب مسجل مقضي ومفروغ منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء).

    أي: كل شيء كتب في ذلك اليوم، ثم يقع على وفق هذه الكتابة بلا زيادة ولا نقص في الوقت المحدد الذي حدده الله جل وعلا لذلك بغير تقدم ولا تأخر، ولا زيادة ولا نقص، وما تسقط من ورقة ولا يحصل كبير ولا صغير إلا وقد قدر وكتب وفرغ منه، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [التغابن:11] يعني: بأمر الله وتقديره وإرادته وخلقه .. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11].

    إذاً: قول القائل عندما يقع في أمر مكروه: لو أني فعلت كذا لما صار كذا، هذا من شأن المنافقين الذين يظنون بالله ظن الجاهلية، وظن الجاهلية سيأتي الكلام عليه في باب ظن السوء بالله جل وعلا، أنه كل ظن يتضمن باطلاً يخالف الشرع أو القدر فهو من ظن الجاهلية، وأن ظن السوء يجب أن ينزه العبد ربه سبحانه من هذا الظن؛ لأنه متوعد عليه إذا فعله.

    فمثلاً: إذا سافر الإنسان فوقع له حادث أو ذهب ببضاعة فخسر فيها فيقول: لو أني لم أسافر ما وقع لي كذا، ولو أني ما ذهبت بهذه الأموال إلى هذا البلد الفلاني أو هذا المكان الفلاني ما خسرت. فهذا لا يجوز؛ لأنه بذلك يظن أنه يمكن أن يواجه الواقع، ويمكن أن يتغير الواقع، وهذا غير ممكن، فالشيء الواقع لا يمكن تغييره، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس : (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ). يعني: ليس هناك تغيير، وكل ما يقع فإنه أمر مقدر لا يجوز الاعتراض عليه بقول (لو)، واعلم أن (لو) تفتح عمل الشيطان مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.

    إذاً هذا هو معنى قوله تعالى في هذه الآية: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154] يعني: أنهم قالوا ذلك على سبيل الاعتراض على ما وقع من قتل الصحابة وهزيمة من انهزم، وما وقع من انتصار الكافرين، وهذا من باب الابتلاء، ولهذا قال جل وعلا في حكمة ذلك قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] يعني: بسبب أنفسكم، وأنتم الذين أفسدتم في هذا وعصيتم. وهذه يجب أن يعتبر بها الإنسان، فهؤلاء أفضل الخلق من هذه الأمة، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، ومع أفضل الخلق من رسل الله محمد صلى الله عليه وسلم، ووقعت لهم هذه المخالفة فأصيبوا بهذه المصيبة بسبب ذلك، فكيف إذا خالف الإنسان فيما هو أعظم من ذلك وهو أيضاً لا يصل إلى عشر أولئك، فإنه لا يجوز أن يقول: لماذا أنا أصبت بكذا؟

    وقد يخرج الإنسان من ظل الإسلام بالاعتراض على القدر، فكثيراً ما تسمع بعض ضعاف الإيمان إذا أصيب بمصيبة، إما مرض أو مصائب أصيب بها بسبب والد أو ولد أو ما أشبه ذلك، تجده يقول: أنا لا أدري من أين جاءتني هذه المصيبة؟ أنا أعمل كذا وكذا، وأنا أصلي!

    ما معنى هذا؟ معناه أنه ما رضي بما قدره الله، وكأنه يقول: إن الله ظلمني، فأنا لا أستحق هذا الشيء الذي وقع في! وهذا إذا قاله الإنسان بهذا المعنى يخشى إن يخرجه من دين الإسلام؛ لأنه اعترض على ربه ولم يرض بما قدره له جل وعلا، ولهذا فالذين يذعنون ويسلمون وينقادون يثيبهم الله جل وعلا مع أنهم لا يغيرون في الواقع شيئاً، قال تعالى: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157]، ففرق بين من ينقاد لربه ويعلم أنه ملك لله، وأن الله يتصرف فيه كيف يشاء فهو مملوك له، وإذا أعطاه شيئاً فهو فضله عليه، وإن أخذه فهو ملكه، فيقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، ويقول: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً) هذا هو الذي يصلي عليه ربه ويزيده على الصلاة رحمة، أما الذي يعترض فيقول: لا أدري من أين أصابتني هذه المصيبة؟ أنا لم أعمل شيئاً أستحق به ذلك يعترض على ربه جل وعلا، ولم يسلم بالقدر: فهو إما جاهل يجب أن يعلم ويحذر من ذلك، وإما أن يكون عارفاً بذلك ويكون شأنه شأن المنافقين الذين اعترضوا على ما وقع بتقدير الله جل وعلا.

    ومعلوم أن مناسبة ذلك لباب التوحيد ظاهرة، فالذي يعترض على أقدار الله إما أن يكون منافياً للتوحيد وإما أن يكون توحيده ناقصاً على أقل حال، ويجب أن يتلافى هذا النقص ويبتعد عنه بأن يعلم أنه عبد لله مملوك لله، وأن أقدار الله جل وعلا جارية، وأنه لا ينفع قوله (لو)، وإنما (لو) تزيد في الأسى، وتفتح باب التسخط والحزن، وتكون وبالاً عليه.

    1.   

    شرح قوله تعالى: (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا ...)

    [قال المصنف رحمه الله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168] ].

    وهذا في نفس سياق قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156]: يعني لو أطاعونا في مشورتنا لهم بأن لا يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حصل لهم القتل.

    وقد أخبر الله جل وعلا في الآية التي قبلها أنهم لو كانوا في بروج مشيدة وكانوا في بيوتهم وفي حصونهم لبرز الذي كتب عليهم إلى مضاجعهم، فلابد أن يأتي شيء يبرزهم إلى ذلك؛ لأن الله كتب قبل خلق السموات والأرض أنهم سيقتلون في هذا المكان، فلابد أن تتهيأ الأسباب إلى إخراجهم إلى المضاجع التي سقطوا فيها قتلى.

    فهذا نفس السياق السابق، فهذا شأن المنافقين التحسر على ما وقع، وظنهم أنهم يستطيعون أن يغيروا من الواقع بالتدابير التي يتخذونها، وهذا كذب واعتراض على أقدار الله.

    وقد جاء في تفسير ابن أبي حاتم بسنده، وكذلك في تفسير ابن إسحاق عن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال: (ألقى الله جل وعلا علينا النعاس بعدما وقعت الواقعة). والنعاس في مواطن القتال علامة النصر وعلامة الإيمان، ولهذا قال الله: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران:154] ليسوا كلهم: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]، هؤلاء هم المنافقون، وهم أخور الناس وأخوفهم، فلشدة الخوف والخور لا يأتيهم النعاس، بخلاف أهل الإيمان فإنه يلقى عليهم النعاس، وهذا علامة النصر وعلامة الظفر في مواطن القتال، والنعاس عند الصلاة علامة استحواذ الشيطان على الإنسان.

    يقول عبد الله بن الزبير عن أبيه: ألقي عليّ النعاس حتى صار سيفي يسقط من يدي فآخذه، بينما أنا كذلك إذ سمعت معتب بن قشير كأنه حلم يقول: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، وهذا وإن كان قاله فرد فمؤكد أنه قول طائفة المنافقين أجمع؛ لأنهم كلهم على هذا النحو.

    فهم الذين قالوا لإخوانهم: لو أطاعونا ما قتلوا. والمقصود بالإخوان هنا إما إخوان النسب وليس إخوان الدين؛ لأن المنافقين ليسوا إخواناً للمؤمنين إلا في الظاهر، أو يكون المقصود الظاهر؛ لأنهم يشاركونهم بالأعمال الظاهرة من الصلاة ومن الجهاد وغيرها من أمور الإسلام ولكنهم في الباطن ليسوا إخواناً لهم، فإما أن يقصد به الظاهر أو يقصد به إخوان النسب؛ لأنه معلوم أن الأنصار في القبيلة الواحدة بل البيت الواحد فيه مؤمنون خلص من أفضل المؤمنين، وفيه منافقون.

    والنفاق ما كان إلا في المدينة، ولم يكن النفاق إلا بعد وقعة بدر، وقبل ذلك لم يكن هناك نفاق؛ لأن الأمر فيه واضح إما كفر وإما إيمان، والنفاق لا يكون إلا إذا اشتد الإسلام وظهر وصار له قوة وسلطة، عندها يحدث النفاق فيوافقون في الظاهر وهم مخالفون في الباطن، فهؤلاء هم الذين قالوا هذه المقالة أيضاً، قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا [آل عمران:168] يعني: تخلفوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168] يعني: أطاعونا بعدم الخروج. وهذا اعتراض على القدر وتأسف على الواقع وحزن عليه، فهم يظنون لو أنهم امتثلوا مشورتهم ما حصل لهم ما حصل، وهذا خلاف الإيمان بالقدر؛ لأن القدر الذي وقع وكتب لابد من نفاذه، ويقال في هذه الآية ما قيل في الآية السابقة تماماً.

    1.   

    الاستعانة بالله وترك كلمة (لو)

    [قال المصنف رحمه الله تعالى: وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان) ].

    قوله: (وفي الصحيح) يعني: في الحديث الصحيح. والحديث في الصحيحين: البخاري ومسلم، ولكن اللفظ الذي ذكره هنا من رواية مسلم ، ويجوز أن يكون في الصحيح؛ لأنه اختار لفظ مسلم، وهذا جائز، والحديث أوله قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان).

    وهذا حديث عظيم، لهذا يقول ابن القيم رحمه الله: فهذا الحديث يجب على كل مسلم أن يعرفه ويتحلى به، ومعرفته إياه ضرورة أشد من ضرورة الطعام والشراب. لعظم هذا الحديث، وذلك أن فيه أصلاً عظيماً جداً، وهو الإيمان بالقدر.

    1.   

    شرح حديث: (المؤمن القوي خير وأحب ...)

    وقوله: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) المقصود بالقوي هنا: القوي في إرادته ودينه وقوة الإيمان لا تستلزم قوة البدن، بل قد يكون الإنسان ضعيف البدن وإيمانه مثل الجبل وعزيمته أقوى من الحجر، وهذا الذي يحبه الله جل وعلا.

    فالله جل وعلا قوي يحب القوي من المؤمنين، وهو جميل يحب الجمال، وهو كريم يحب الكرماء، وهو رحيم يحب الرحماء، والمؤمن القوي في أمر الله وفي دينه وفي عزيمته يحبه الله جل وعلا، وهو خير من المؤمن الضعيف.

    وهنا كلمة (خير) تفضيل، والجانب الثاني يكون فيه خير، والمؤمن الضعيف فيه خير ولكن المؤمن القوي أفضل منه، ومحبة الله له أفضل من عمله الذي يعمله وأعظم؛ لأن أسباب المحبة هي قوة الإيمان لموافقة أمر الله جل وعلا والامتناع عن نهيه بقوة وعزيمة، هذه هي التي سببت له محبة ربه جل وعلا، فالله يحبه أكثر من المؤمن الضعيف؛ لأن الضعيف قد تغلبه شهوته فيواقع المعصية، وقد تكون إرادته في فعل الفرائض ضعيفة فيترك بعضها، أو يقصر فيها فيحصل له الضعف من نواحي الترك والفعل.

    ومعلوم أن الله جل وعلا علام الغيوب، ويعلم أن هذا العبد القوي والضعيف سيفعل كذا قبل وجوده، ولكن هذا فضل الله يضعه حيث يشاء، فهو أعلم حيث يضع الفضل، كما قال جل وعلا: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، فيضع فضله في المكان اللائق به، ويمنع فضله المكان الذي لا يليق أن يوضع الفضل فيه، والفضل يتفاوت كما في هذا الحديث، وبعض المؤمنين يكونون أحب إلى الله وهم يتفاوتون، وكلما كان إيمان العبد أكمل فمحبة الله له أكثر وأتم.

    (وفي كل خير) يعني أن المؤمنين على خير، إلا أنهم يتفاوتون هذا التفاوت العظيم في المحبة وكذلك في الجزاء. ولهذا عرف أن الجنة درجات بعضها فوق بعض، وما بين درجة والأخرى مثلما بين السماء والأرض، وكون الذي يكون في الأعلى يكون بقوة الإيمان وبكثرة العمل الذي يعمله، وفرق بين من يكون في أدنى درجات الجنة ومن يكون في أعلاها عظيم جداً، فالفرق في الجزاء مرتب على الفرق في القوة في الإيمان والعمل.

    ثم قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك) أمر من الرسول صلى الله عليه وسلم بالحرص يكون بأمرين: أحدهما: هو بذل الوسع والجهد والطاقة على الفعل.

    الثاني: أن يكون الحرص في الفعل النافع. فإذا وجدا هذان الأمران فمعنى ذلك أن هذا عنوان السعادة للإنسان، فيكون حريصاً ويكون حرصه على ما ينفع، ومعلوم أن النفع المقصود به نفع الآخرة والنفع في الدين، أما الدنيا فإن الله يعطيها من يحب ومن لا يحب؛ لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، أما الدين فلا يعطيه الله جل وعلا إلا من يحبه.

    فالمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالحرص، والحرص هو بذل الوسع والجهد في العمل، والإنسان يحرص أن يكون حرصه على النافع، ثم يضاف إلى هذين الأمرين الاستعانة بالله جل وعلا، فيفعل السبب ويكون جاداً في ذلك حريصاً عليه مستعيناً بالله.

    قوله: (واستعن بالله) وهذا يكون بتمام العبادة، وصاحبه متحلٍ بقوله جل وعلا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

    فحرصه على ما ينفع عبادة، والاستعانة بالله جل وعلا على حصول ذلك عبادة، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: إن هذا الحديث من أنفع ما ينبغي أن يتحلى به الإنسان ويعرف معناه.

    وقوله: (ولا تعجزن) العجز ضد الحرص. يعني: أن يكسل ويترك العمل لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فلا يكلف الإنسان شيئاً لا يطيقه، ولكن لا يترك الشيء الذي يطيقه ويستطيعه، فإن تركه فهو عاجز، فالذي ترك الشيء الذي يستطيع فعله من الطاعات عاجز. أي: أخلد إلى الأرض واتبع هواه، وترك ما ينبغي له أن يفعله، وهذا هو العجز.

    (ولا تعجزن) والنون هنا مؤكدة، فهي تأكيدٌ للفعل المضارع، فيؤكد ليهتم الإنسان بذلك ويبتعد عن العجز.

    ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فإن أصابك شيء) يعني: إذا حرصت على النافع واستعنت بالله فلم يحصل لك مرادك فلا تقل: (لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَّر الله وما شاء فعل).

    ويجوز أن تقول بالتخفيف (قدر الله) بالإضافة. يعني: هذا الذي وقع هو قدر الله الذي قدره. ويجوز أن تقول: (قدّر الله وما شاء فعل)، و(قدّر): يعني: هذا الذي وقع قدّره الله. والله يفعل ما يشاء تعالى وتقدس، فيسلم الإنسان وينقاد لربه، ويعلم أن عمله الذي عمله لا يؤثر في الواقع في شيء، ولكن الإنسان يؤمر بالحرص والعمل؛ لأنه لا يدري ماذا سيقع، وعند وقوع الشيء فإنه ينقاد لربه ويؤمن بقدره، ويؤمن بأن هذا لا يمكن أن يتغير أو يتبدل، فالأقدار مقدرة غير معلومة، والإنسان مأمور بالطاعة والحرص على ذلك.

    وأما الذين يحتجون بالقدر فهم في الواقع يغالطون أنفسهم ويخالفون قدر الله وشرعه، فمثلاً: إذا قلت لإنسان صلِّ يقول: لا. كتب الله علي ألا أصلي. فهذا كذب، وفعله كذب ومغالطة، فهل اطلعت على اللوح المحفوظ وعلمت أن الله كتب عليك أنك لا تصلي؟ أو أنك تريد أنك تبرر لفعلك، وتبرر ما أنت عليه فتحتج بالقدر وتجعل اللوم على القدر وتجعل نفسك ليست ملومة؟!

    هذا هو الواقع، وهذا القول أسوء من الفعل -نسأل الله العافية-؛ لأن العبد إذا وقع في معصية يجب أن يستغفر ويتوب ويقول: أستغفر الله وأتوب إليه، ولا يقل: إني مكتوب علي كذا. فإذا قاله فمعناه أنه يقول: أنا راضٍ بما أنا فيه ولن أغير مما أنا فيه. وهذا هو الواقع هو الحقيقة، فيجعل اللوم على القدر وهو بريء من ذلك، وكفى بهذا اعتراضاً على الله جل وعلا وعدم امتثال لأمره؛ فإن الله لم يأمر العباد إلا بالشيء الذي يستطيعونه، والشيء الذي يستطيعونه ليس بضيق وبكلفة، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وتعالى وتقدس.

    فالواجب على العبد أن يكون عبداً لله جل وعلا ممتثلاً لأمره؛ فإن وقع في شيء لا يرضاه من مصيبة أو ما أشبه ذلك فعليه أن يسلم لقضاء الله الذي قضى، ويؤمن بذلك، ويعلم أنه مكتوب عليه وأنه لا يمكن تغييره، ولهذا ثبت في الصحيحين أن موسى عليه السلام قال لربه: (يا رب! أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة فأراه الله جل وعلا آدم، فقال له موسى: أنت أدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟)، وفي رواية: (لماذا خيبتنا ونفسك أخرجتنا من الجنة؟) فقال له آدم عليه السلام: (أنت موسى الذي كلمك الله بلا واسطة، وكتب لك التوراة بيده، واصطفاك على الناس بكلامه، فقبل كم وجدت في التوراة مكتوباً قبل أن أخلق: (فعصى آدم ربه فغوى)، فقال موسى: وجدت أن هذا كتب قبل أن تخلق بأربعين سنة) يعني: هذا مكتوب في التوراة وليس هو في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق بأربعين سنة، فقال: (أتلومني على شيء كتب علي قبل أن أخلق؟! فحج آدم موسى) قالها ثلاثاً، يعني: غلبه في الحجة ومعنى ذلك أن موسى عليه السلام لام آدم على المصيبة التي وقعت له وهو ليس بذنب؛ لأن الذنب قد علم موسى أنه تاب منه وتاب الله عليه، والتائب من الذنب لا يجوز أن يلام عليه، والإنسان إذا وقع في ذنب وتاب منه فلا يجوز أن تأتي إليه وتقول: أنت وقعت في كذا وكذا. فهذا حرام، وموسى أعلم بالله وأتقى من أن يلوم آدم على ذنب قد أخبر الله جل وعلا أنه تاب عليه؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب عليه، ولكن اللوم على المصيبة والأثر الذي هو الخروج من الجنة، ولهذا قال: (أخرجتنا ونفسك من الجنة)، والخروج مصيبة، ولو كنا في الجنة ما حصل ما يحصل الآن، أعني كون أكثر الناس كفاراً، وكون أشياء كثيرة تحدث، فأخبر أن هذا الشيء مكتوب لا يمكن تغييره ولابد منه، ولهذا غلبه في الحجة، فالشيء الذي يقع للإنسان أمر مقدر عليه يجب أن يسلم ويرضى؛ فإنه لا حيلة له فيه، فما أمامه إلا أن يقول: (قدر الله وما شاء فعل)، أما إذا كان له فيه حيلة مثل المعصية فيجب أن يتوب ويستغفر ويقلع عن الذنب، أما إذا وقع في ذنب يمكن استدراكه ويقول: (هذا قدر الله) ويستمر عليه فهذا لا يجوز، وعليه أن يستدرك ما يستطيع، أما أن يتعذر بالقدر فلا، ولهذا يقول العلماء: الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب والمعائب هي الذنوب، ويجب على العبد أن يتوب ويستغفر، والمصيبة التي تقع يجوز أن يقول فيها: الحمد لله، هذا قدر الله، وأنا راضٍ بقدر الله فيتسلى بذلك، كما قال آدم عليه السلام: (أتلومني على شيء كتب علي قبل أن أخلق).

    فإن فإن وقع الشيء الذي لا تريده وحصل خلاف ما تريد فلا تقل: (لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان) يعني: قولك (لو) لا يأتي بخير، وإنما يفتح عمل الشيطان من الأسى والتأسف والحزن والاعتراض على القدر، وعمل الشيطان كله شر يقود الإنسان إلى ما هو شر، ولهذا يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم للنافع وينهى عما فيه افتتاح عمل للشيطان، وهو أنه إذا وقع في مصيبة فإن كانت المصيبة يمكن استدراكها وتمكن الحيلة فيها والإقلاع عنها إذا كانت ذنباً بالاستغفار فهذا واجب العبد أن يستغفر ويتوب ويقلع عن الذنب، أما إذا كانت مصيبة في ماله أو في نفسه بمرض أو في ولده أو في قريبه أو ما أشبه ذلك فله أن يقول: هذا قدر الله، وأنا راضٍ بقدر الله، والحمد لله رب العالمين. وهذا هو شأن العبد المؤمن.

    1.   

    الوعيد والنهي عن قول (لو)

    [قوله: باب ما جاء في اللو أي: من الوعيد والنهي عنه عند الأمور المكروهة كالمصائب إذا جرى فيها القدر؛ لما فيه من الإشعار بعدم الصبر، والأسى على ما فات مما لا يمكن استدراكه.

    فالواجب التسليم للقدر والقيام بالعبودية الواجبة، وهو الصبر على ما أصاب العبد مما يكره، والإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان الستة ].

    الصبر أصل عظيم لا يمكن أن يستقيم إيمان الإنسان إلا به، والصبر في دين الله جل وعلا في أمور ثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله إذا وقعت، ويجب أن يكون المؤمن متحلياً بهذه الأقسام كلها، فيصبر على الطاعة ويصابر، ويصبر عن المعصية فلا يقع فيها، ويصبر على قدر الله جل وعلا إذا وقع فيه كالمصائب.

    [وأدخل المصنف رحمه الله أداة التعريف على (لو)، وهذه في هذا المقام لا تفيد تعريفاً كنظائرها؛ لأن مراد هذا اللفظ كما قال الشاعر:

    رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً شديداً بأعباء الخـلافة كاهله

    وقوله: وقول الله عز وجل: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، قاله بعض المنافقين يوم أحد لخوفهم وجزعهم وخورهم.

    قال ابن إسحاق : فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: قال الزبير : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم، فما منا رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154]، فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله عز وجل: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154] لقول معتب . رواه ابن أبي حاتم .

    قال الله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154] أي: هذا قدر مقدر من الله عز وجل، وحكم حتم لازم لا محيد عنه ولا مناص منه.

    وقوله: وقوله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168] قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168] أي: لو سمعوا مشورتنا عليهم بالقعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل. قال الله تعالى: قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168] أي: إذا كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت فينبغي لكم ألا تموتوا، والموت لا بد آت إليكم ولو كنتم في بروج مشيدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين.

    قال مجاهد عن جابر بن عبد الله : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه، يعني أنه هو الذي قال ذلك ].

    ومما يستشهد به على ذلك لما حضرت الوفاة خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو على فراشه قال: (قاتل الله الجبناء -أو قال: لا نامت أعين الجبناء- ليس في بدني موضع إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة رمح، وها أنا ذا أموت على فراشي) يعني: لأن القدر الذي قدره الله وكتبه لابد من وقوعه.

    1.   

    العمل بالأسباب لا ينافي القدر ولا يصادمه

    [ وأخرج البيهقي عن أنس أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل يسقط سيفي وآخذه ويسقط وآخذه. قال: والطائفة الأخرى -المنافقون- ليس لها هم إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه وأخذله للحق: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]، إنما هم أهل ريب وشك بالله عز وجل.

    قوله: قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران:154] يعني: لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154] .

    قال شيخ الإسلام رحمه الله لما ذكر ما وقع من عبد الله بن أبي في غزوة أحد قال: فلما انخذل يوم أحد وقال: يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان -أو كما قال- انخذل معه خلق كثير كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك، فأولئك كانوا مسلمين، وكان معهم إيمان هو الضوء الذي ضرب الله به المثل، فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق لماتوا على الإسلام ولم يكونوا من المؤمنين حقاً الذين امتحنوا فثبتوا على المحنة، ولا من المنافقين حقاً الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة، وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم إذا ابتلوا بالمحنة التي يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيراً وينافق كثير منهم، ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالباً، وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة، وإذا كانت العافية أو كان المسلمين ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين وهم مؤمنون بالرسل باطناً وظاهراً، لكنه إيمان لا يثبت على المحنة، ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم، وهؤلاء من الذين قالوا: آمنا فقيل لهم: لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] أي: الإيمان المطلق الذي أهله هم مؤمنون حقاً؛ فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله تعالى كما دل عليه الكتاب والسنة، فلم يحصل لهم ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب. انتهى.

    قوله: وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا ما فيه عبرة.

    قلت: ونحن كذلك رأينا من ذلك ما فيه عبرة عند غلبة العدو من إعانتهم العدو على المسلمين، والطعن في الدين، وإظهار العداوة والشماتة، وبذل الجهد في إطفاء نور الإسلام وذهاب أهله، وغير ذلك مما يطول ذكره والله المستعان.

    قوله: في الصحيح -أي صحيح مسلم - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (احرص) الحديث ].

    قوله: (باب ما جاء في اللو) المقصود الاعتراض على القدر أو الاعتراض على الشرع، أما الاعتراض على القدر فيكون بعد وقوع الشيء، ينظر إلى الأسباب وإلى الأمور التي يفكر أنه يمكن أن يفعلها، فينجو من ذلك فيقول: لو أني فعلت كذا ما صار كذا وكذا. وفي نفسه عند هذا القول من الضيق والحرج والأسى والسخط لما وقع فيه، فهو غير راضٍ بما وقع، ويرى أنه يمكن أن يغير، وهذا كله من الكفر بالله جل وعلا. أما الاعتراض على الشرع فمثله ما ثبت عن أبي عن عبد الله بن أبي رئيس المنافقين حينما قام يخاطب أصحابه في أحد ويقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان فلهذا حصل ما حصل! فهو يعتمد على ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وما أمر به، ويرى أنه غير حكيم وغير رأي حازم كما هو شأن المنافقين في كل وقت، والآية فيها أن الله جل وعلا قسم الناس إلى قسمين: قسم أنزل عليهم النعاس في مصافهم أمام العدو، ونزول النعاس في موطن الخوف والحرب دليل النصر ودليل الإيمان، لهذا قال الله: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران:154] يغشى طائفة وليس كلهم.

    هذا قسم، وهؤلاء هم أهل الإيمان الخُلَّص الذين تبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علم ويقين وبصيرة، وعلموا أنه لا يقع إلا ما قدره الله جل وعلا، وهم راضون بما قدر الله، وإنما إذا وقع ما يرون أنه مصيبة يقولون: (إنا لله وإنا إليه راجعون) فيزدادون بذلك إيماناً.

    أما القسم الثاني فهو ما ذكر في قوله: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ [آل عمران:154] يعني: ليس لهم هم إلا حياتهم، يخافون الموت ويخافون أن يقتلوا، أما أمر الدين ونصره فهذا لا يهمهم، وإنما همهم كله خوفهم على أنفسهم، ولهذا وصفوا بالجبن لأنهم يخافون أن يقتلوا، ووصفوا بالخذلان لأنهم خذلوا المسلمين في المواطن، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في أحد، فإنه رجع بثلث الجيش، وهؤلاء الذين رجعوا ليسوا كلهم منافقين ولكن عندهم ضعف إيمان، وأما المنافق الخالص فهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان، ولا يخاطب بمثل هذا قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ [آل عمران:154]، وسيأتي الكلام على ظنهم هذا وهو ظن الجاهلية: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154] أي: لو جعل لنا التصرف وأخذ برأينا وامتثل قولنا ما حصل ما حصل. وهذا واضح في أنه اعتراض على ما قدره الله، أي: أنهم يقولون: يمكن أن يتغير ما وقع، ولو أخذ برأينا ما وقع القتل. مع أن هذا شيء قد كتبه الله جل وعلا قبل خلق السموات والأرض ولا يمكن تغييره، فكل ما يقع من دقيق أو جليل فهو بإذن الله بإرادته وبتقديره السابق، والأمور التي يرى أنها أسباب لا تؤثر في ذلك، وإنما يعتقد هذا من لا يؤمن بقدر الله جل وعلا ولا يؤمن بأسماء الله وصفاته؛ لأن من أسمائه وصفاته جل وعلا (العليم الخبير) الذي خلق كل شيء وقدره تقديراً، فلا يقع شيء إلا عن خلقه وتقديره، وقد كتب ذلك في كتاب تأكيداً لهذا، وإلا فالله جل وعلا لا ينسى ولا يخفى عليه شيء، فقول هؤلاء: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154] يعنون به: ما قتل من قتل من قومنا ومن إخواننا لأن المقتول لا يقول: ما قتلت. ولكن عبروا عن قتل إخوانهم بأنه كقتل أنفسهم، وقد علم أن هؤلاء يقولون ذلك غير راضين به، بل ساخطين بما صار وآسفين عليه، ومتضايقين منه أشد الضيق، وهم مع ذلك يعتقدون أنه يمكن أن يتغير، ولو أخذ برأيهم ما وقع ذلك.

    فهذا المقصود من المنع من قول (لو) أنها إذا كانت بالاعتراض على قدر الله جل وعلا وعدم الرضا بما وقع، فإن هذا لا يجوز أن يقع من المسلم، أو كان المقصود الاعتراض على تدبير الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره ونهيه وشرعه الذي شرعه الله له، وأنه غير حكيم، وأن غيره يمكن أن يكون أحسن منه، فهذا اعتراض على الله وهو من الكفر بالله جل وعلا، كما أن الأول أيضاً عدم رضا بتقدير الله وكذلك عدم إيمان به وأنه لم يقدر ولم يقع عن كتابة وعلم سابق ويمكن أن يغير.

    أما إذا جاءت (لو) في ذكر شيء يعتقد الإنسان في المستقبل أنه سيفعله، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة)، وكقوله صلى الله عليه وسلم (لو كنت راجماً أحداً بلا بينة لرجمت هذه) لامرأة معينة حصلت الملاعنة بينها وبين زوجها، فلما جاءت بالولد فإذا هو على صفة الرجل الذي رمي بها على نعته شبيهاً به، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجماً أحداً بلا بينة لرجمت هذه) أي أن في ذلك يظهر صدق زوجها، ولكن اللعان يمنع من إقامة الحد كما هو معلوم، وكذلك ما جاء من أقواله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كما ذكره البخاري في صحيحه، فإنه ذكر جملة من قول (لو) التي تدل على جواز ذلك وليست من هذا الباب، ولهذا نقول: إن الممنوع أن يقولها الإنسان على سبيل التسخط للواقع وأنه يمكن تغييره بأسباب، فإذا قالها على هذا الوجه فهذا ممنوع، وهو قدح في التوحيد؛ بل قد يكون منافياً له، يقولها أيضاً على وجه الاعتراض على الحكمة التي أمر الله جل وعلا به من أجلها.

    وقد بين الحكمة جل وعلا في هذه القضية أو شيئاً من الحكمة؛ لأن الحكم كثيرة ولا يعلمها إلا الله جل وعلا، والله جل وعلا يبتلي عباده بأشياء قد لا تظهر لهم الحكمة منها، ويكون ذلك المقصود به تسليم عقولهم لله جل وعلا وانقيادهم بدون اعتراض، أما إذا حصل اعتراض فإنه يحصل الكفر، وهو اعتراض كامن في نفوس كثير من الناس على شرع الله وقدره، وكثير من الناس قد لا يجرؤ أن يقول ما هو في نفسه فيستتر به ويقول: آمنت بالله. ولكن في قرارة نفسه غير ذلك، وقد -مثلاً- يأمن من اللوم والعتاب أو يأمن من النكال والعقاب ولكنه لا يسلم بما في قلبه، وهذا كثير، حتى إنه يوجد في كلام الذين ينسبون إلى العلم، ولكن علمهم لم ينفعهم، كما يقول المعري معترضاً على الله جل وعلا في أبيات له:

    إذا كان لا يحظا برزقك عاقل وترزق مجنوناً وترزق أحمقاً

    فلا ضير -يا ربي- على امرئ رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا

    ومثلها أشياء كثيرة يذكرها هو وغيره، فهذا اعتراض على الله جل وعلا، وكأنه يقول: إنك لست حكيماً، ولست بعادل، ولست بمنصف؛ لأن الذين ينبغي أن ترزقهم ما يحصل لهم الرزق، والذين ينبغي ألا ترزقهم يرزقون، مثل المجانين والحمقى، أما الأدباء والعقلاء فيتمنون الرزق. وهذا أول من قاله إبليس -لعنه الله- حينما قال لربه: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:33]، وقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12] يقول: ينبغي أن يسجد هو لي، وليس أنا الذي أسجد له فهذا اعتراض على الله جل وعلا، ومعلوم أن مثل هذا الذي يعترض على الله لا يرضى أن يكون شريكاً لله، بل يجعل نفسه فوق الله، يجعل نفسه مستدركاً على الله جل وعلا، وهل فوق هذا كفر -نسأل الله العافية-؟

    وكثير من العوام إذا أصيب بمصيبة وجدته غير راضٍ ووجدته متسخطاً، ويقول: أنا لم أعمل شيئاً أستحق به هذا الذي وقع في! ومعنى ذلك أن الله ظالم له، وكثير من الناس إذا وقع إنسان في مصيبة تجدهم يقولون: ماذا صنع؟ يصلي، ويكرم الجار، ويصنع كذا وكذا، لا يستحق ما وقع به! لأن الله جل وعلا حكيم عليم، وإذا أصيب الإنسان بمصيبة فهي خير له؛ لأنها إما تكفير عن ذنوبه أو رفع لدرجاته، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما معناه: (إن الرجل تكون له المنزلة عند الله لا يدركها بعمله، فيبتلى بالمصائب والأمراض حتى يصل إلى تلك المنزلة).

    ويقول جل وعلا: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، ويقول: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]. يعني: لو أن كل إنسان يؤخذ بعمله لأهلكوا جميعاً؛ لأنهم لا يقومون بالحقوق التي تلزمهم لله جل وعلا فإذا ابتلي الإنسان في بلوى يجب أن يعلم أنه أتي من قبل نفسه، قال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] أنى هذا؟ أي: من أين جاءنا هذا؟

    قال جل وعلا: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ). يعني: بسبب فعلكم وسبب اكتسابكم وما صنعتم. ولهذا يجب على العبد أن يرضى بالله رباً، ويعلم أن الله لا يفعل فعلاً إلا لحكمة، وأنه جل وعلا بر رؤوف رحيم كريم، وأنه إذا أصاب عبده بشيء يضره أو لا يرغب فيه فإن هذا إما بذنبه، وإما لأن الله جل وعلا يرفع بذلك درجته، فالله جل وعلا رؤوف رحيم بعباده.

    جاء في الأثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم (أنه زار رجلاً من الأنصار شاباً فوجده هزيلاً قد أنهكه المرض، فقال له: هل كنت تدعو بشيء؟ قال: نعم. كنت أقول: اللهم ما أنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. قال صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! ألا تسأل ربك العفو والعافية) أي: تسأل ربك العفو والعافية. فينبغي للعبد أن يحسن الظن بربه جل وعلا، ويعلم أنه رؤوف رحيم، وأنه إذا قدر قدراً فأصاب الإنسان شيءٌ من ذلك فإنه خير له، كما سيأتي النص على ذلك صريحاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    [اختصر المصنف رحمه الله هذا الحديث، وتمامه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك) أي: في معاشك ومعادك. والمراد الحرص على فعل الأسباب التي تنفع العبد في دنياه وأخراه مما شرعه الله تعالى لعباده من الأسباب الواجبة والمستحبة والمباحة، ويكون العبد في حال فعله السبب مستعيناً بالله وحده دون كل ما سواه، ليتم له سببه وينفعه، ويكون اعتماده على الله تعالى في ذلك؛ لأن الله تعالى هو الذي خلق السبب والمسبب، ولا ينفعه سبب إلا إذا نفعه الله به، فيكون اعتماده في فعل السبب على الله تعالى، ففعل السبب سنة والتوكل على الله توحيد، فإذا جمع بينهما تم له مراده بإذن الله.

    قوله صلى الله عليه وسلم : (ولا تعجزن) النون: نون التأكيد الخفيفة نهاه صلى الله عليه وسلم عن العجز وذمه، والعجز مذموم شرعاً وعقلاً، وفي الحديث: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)، فأرشده صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إذا أصابه ما يكرهه فلا يقل: (لو أني فعلت كذا لكان كذا)، وكذا ولكن يقول: (قدر الله وما شاء فعل) أي: هذا قدر الله. والواجب التسليم للقدر والرضا به واحتساب الثواب عليه.

    وقوله: (فإن لو تفتح عمل الشيطان) أي: ما فيه من التأسف على ما فات والتحسر ولوم القدر، وذلك ينافي الصبر والرضا، والصبر واجب والإيمان بالقدر فرض، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:22-23].

    قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد)، وقال الإمام أحمد : ذكر الله الصبر في تسعين موضعاً من القرآن.

    قال شيخ الإسلام رحمه الله -وذكر حديث الباب بتمامه، ثم قال في معناه-: لا تعجز عن مأمور ولا تجزع من مقدور، ومن الناس من يجمع كلا الشرين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحرص على النافع والاستعانة بالله، والأمر يقتضي الوجوب وإلا فالاستحباب، ونهى عن العجز وقال: (إن الله يلوم على العجز)، والعاجز ضد (الذين هم ينتصرون)، فالأمر بالصبر والنهي عن العجز مأمور به في مواضع كثيرة، وذلك لأن الإنسان بين أمرين: أمر أُمر بفعله فعليه أن يفعله ويحرص عليه ويستعين بالله ولا يعجز، وأمر أصيب به من غير فعله فعليه أن يصبر عليه ولا يجزع منه، ولهذا قال بعض العقلاء -ابن المقفع وغيره-: الأمور أمران: أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه. وهذا في جميع الأمور، لكن عند المؤمن الذي فيه حيلة هو ما أمره الله به وأحبه له؛ فإن الله لم يأمره إلا بما فيه حيلة له، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وقد أمره بكل خير له فيه حيلة، وما لا حيلة له فيه هو ما أصيب به من غير فعله].

    واسم الحسنات والسيئات تناول قسمين: [.. فالأفعال مثل قوله تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [الأنعام:160]، ومثل قوله تعالى: إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء:7]، ومثل قوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، ومثل قوله تعالى: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة:81] إلى آيات كثيرة من هذا الجنس والله أعلم ].

    1.   

    المقصود بالقوة في حديث: المؤمن القوي

    حديث الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الذي روي في الصحيح يقول: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف)، والمقصود بالقوة هنا قوة الإرادة وفعل السبب، قوي في إرادته مبادر إلى ما أمر به بدون توانٍ ولا فتور.

    هذا هو القوي الذي يحبه الله؛ لأنه قوي في إرادته وفي عمله الذي أمر به، ويعلم أنه عبد مأمور يجب عليه أن يمتثل ويبادر.

    قوله: (أحب إلى الله من المؤمن الضعيف) أي: ضعيف الإرادة فقد يكون ضعيفاً في إرادته، وضعيفاً فيما يواجه ولكنه مؤمن ليس عنده اعتراض ولا عنده تسخط، غير أنه ضعيف الإرادة، فهذا يحبه الله، ولكن الأول أحب إلى الله منه، وفي هذا أن الله يحب المؤمنين، وقد جاءت النصوص كثيرة في أن الله يحب أنواعاً من المؤمنين، كما قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، ويحب الصادقين، ويحب الذين يسارعون في الخيرات.

    فالمحبة التي يوصف الله جل وعلا بها صفة تليق به لا يجوز أن نجعلها مثل محبة المخلوقين، ولا يجوز أن نعتقد أن محبة الله كالمحبة التي يفسرها الأشاعرة وغيرهم بأنها ميل في النفس إلى الملائم الذي يقتضي الموافقة أو نحو ذلك؛ فإن هذه محبة المخلوق.

    أما محبة الله جل وعلا فهي كبقية صفاته لا نعلم حقيقتها، ولكن نعرف ما معنى المحبة، كما أننا نعرف معنى السمع والبصر، أما حقيقة اتصاف الله جل وعلا بها فهذه لا نعلمها ولا نعرفها، فعلينا أن نثبت ما أثبته الله جل وعلا حقيقة ونؤمن به، ولا نجعله كالشيء الذي نعرفه من أنفسنا، كما أنه جل وعلا هو بنفسه لا يماثل شيئاً من خلقه، وكذلك هو في صفاته.

    فالمؤمن القوي محبوب إلى الله جل وعلا أكثر من المؤمن الضعيف، وهو الذي يكون عنده قوة في تنفيذ أمر الله والامتناع عن مناهيه بقوة، ذو إرادة قوية، فهو يفعل الأسباب أسباب الخير، ويجتنب أسباب الشر مستعيناً بربه ومتوكلاً عليه.

    عدم العجز والحرص على ما ينفع

    ثم قال صلى الله عليه وسلم مؤكداً هذا المعنى: (احرص على ما ينفعك)، وهنا أمر بالحرص، والأمر إما أن يكون واجب الامتثال، أو يكون على الأقل مستحباً، ومثل هذا لا يقال: إنه مستحب فقط؛ لأن من الحرص على ما ينفع فعل الصلاة وأداء الزكاة وصوم رمضان والحج وغير ذلك من الأفعال الواجبة.

    قوله: (احرص على ما ينفعك ولا تعجزن) هنا تأكيد؛ لأن العجز هو عدم فعل السبب الممكن فعله، هذا هو العجز، التقاعس عن فعل السبب الذي يستطيع أن يفعله، يقال: عجز عنه، بمعنى ضعف عنه. أما الشيء الذي لا يستطيع فعله فلا يوصف بأنه عجز عنه، والله جل وعلا يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، والوسع المقصود به هو الشيء الذي يفعله الإنسان بغير مشقة، هذا هو الصحيح في تفسير الوسع، أما إذا فعل الشيء بمشقة فإنه ليس بوسعه، فالله جل وعلا لم يشق على عباده فيما أمرهم به، بل يريد الله بهم اليسر ولا يريد بهم العسر إرادة شرعية.

    فقوله: (احرص على ما ينفعك) أي: على فعل الطاعات وترك المعاصي هذا هو حقيقته، احرص على فعل الطاعة وقم بها واجتنب المعصية، هذا هو النافع في الواقع، وأمور الدنيا أيضاً يجب أن تكون موافقةً لما أمر الله جل وعلا به، فإن كانت في اكتساب مال فيجب أن يحرص على أن يكتسبه من طريق شرعي، بأن يكون حلالاً، حيث لو أنفق منه أثيب، وإذا تصدق منه أثيب، وإذا تركه لمن خلفه أثيب.

    أما إذا كان من طريق غير شرعي فإنه إن أنفق منه لم يبارك له فيه، ولم يثب عليه، وإن أنفق منه أيضاً لم يقبل، وإن خلفه للورثه أيضاً لم يثب على ذلك بل يعاقب، فيكون حساباً ثم يكون عذاباً، وأمور الدنيا سبب لأمور الآخرة يجب أن يحرص عليها الإنسان.

    ثم إذا حرص الإنسان وفعل السبب فليست الأسباب مرتبة على مسبباتها؛ لأنها قد تتخلف، ولأن الأسباب لها موانع، ولا يقع إلا ما أراده الله جل وعلا، فإذا وقع للإنسان الشيء الذي لا يريده وما كان يتوقعه فهنا له حالة أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، وهي أن يرضى ويسلم، ويقول: الحمد لله، ويقول: هذا تقدير الله، وأنا مؤمن به وراضٍ.

    عدم الاعتراض على أقدار الله عز وجل

    قوله: فلا تقل: (لو أني فعلت كذا وكذا) يعني: لو أني ما قلت كذا أو ما فعلت كذا ما صرت إلى هذا الذي صرت إليه.

    لأن هذا اعتراض على القدر، فكأنه يقول: لو أني فعلت كذا ما وقع علي هذا الشيء. وهذا الذي وقع لا يمكن تغييره، ولو اجتمع الخلق كلهم على أن يمنعوا وقوعه لما استطاعوا؛ لأن الله كتبه وقدره، فقل: قدر الله وما شاء فعل. فإن لو تفتح عمل الشيطان، وعمل الشيطان هو الاعتراض على القدر، وهو التأسف والأسى والحزن لما وقع وعلى ما فات، هذا عمل الشيطان، ثم يوقعه ذلك في الاعتراض على ربه جل وعلا.

    وعمل الشيطان كله شر ويدعو إلى الشر ونهايته أن يجتمع الإنسان معه في النار، وهذا الذي يسعى إليه الشيطان، ومقصوده كله أن يلقيه في النار ثم يتخلى عنه ويتبرأ منه هناك، فماذا تكون الحالة؟ يكون من أسوأ ما يكون، فإن الشيطان إذا أوقع الإنسان في الشر تبرأ منه، كما أخبر الله جل وعلا في ذلك أنه إذا اجتمعوا في النار، يقوم خطيباً في أهل النار -قيل: إنه ينصب له منبر حتى يسمعه أهل النار كلهم- ويقول لهم: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ [إبراهيم:22]، يعني: ليس لي عليكم حجة وبرهان يجعلكم تتبعوني، وإنما هي دعوة: إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22]، مجرد دعوة فقط، ثم قال لهم: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم:22] يعني: ما أنا بمغن عنكم، وما أنا بمغيثكم، وأنتم كذلك لسم بمغنين عني ولا مغيثين لي، ثم يقول: إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:22]، هذه هي الحالة، ثم يلعن بعضهم بعضاً ويكون بعضهم عدواً لبعض، فهذا عمل الشيطان يؤول إلى هذا الشيء، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك، وأنك إذا وقعت في شيء تكرهه: (فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)، يعني: هذا قدر الله لا يمكن تغييره، وأنا راضٍ به ومؤمن به؛ لأنه لا يتغير، ومسلم لذلك غير معترض ولا منزعج ولا متسخط وآسف على ما أنا فيه؛ فإن تقدير الله كله خير، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (عجباً للمؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)، فهذا ما يكون إلا للمؤمن الذي يكون على هذه الصفة.

    1.   

    حال الإنسان عند النعم والمصائب وحقيقة كل منهما

    [والقسم الثاني: ما يجري على العبد بغير فعله من النعم والمصائب، كما قال تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] والآية قبلها، فالحسنة في هاتين الآيتين النعم، والسيئة المصائب، هذا هو الثاني من القسمين ].

    الآية التي قبلها هي قوله جل وعلا: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النساء:78]، قال جل وعلا: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78]، ثم جاءت الآية التي بعدها: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، والحسنة هنا المقصود بها الخير الذي يصاب به الإنسان، إما رزق، وإما عافية في بدنه، وإما ولد، وإما غير ذلك مما هو مفروح به ومسرور به، فكل ما نفع الإنسان فهو حسنة.

    أما السيئة هنا في هاتين الآيتين فالمقصود بها المصيبة، مثل مرض، ونصر عدو، وفقد ولد، وذهاب مال، وما أشبه ذلك، فالله جل وعلا أخبر أن كلاً من عنده، يعني: كله مقدر من عند الله، سواء أكان حسنة أم سيئة: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) تقديراً وخلقاً وإيجاداً.

    ثم فصل جل وعلا فقال: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) يعني: من فضل فهو بفضله وكرمه وجوده وإحسانه، فعليك أن تشكر ربك وتعرف منته عليك.

    وقوله: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) يعني: بسبب نفسك. فما أصبت إلا بذنبك الذي أذنبت؛ لأن الناس لو أقاموا أمر الله لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وَلَمَا أصابهم شيء، ولكن لم يقيموا أمر الله ولم يستطيعوا ذلك، فهم يعصون الله، وهذه حكمة الله، فلابد أن يذنبوا، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)؛ لأن الله غفور رحيم.

    لو أن الخلق لم يذنبوا فأين معنى (غفور)؟ وأين معنى (رحيم)؟ وأين معنى (بر)، و(رحمن)؟ لابد أن تظهر معاني أسماء الله جل وعلا على خلقه، لابد أن تظهر، لابد أن يذنبوا فيرحمهم ويستر عليهم ويعفو عنهم، لابد، ولكن يجب أن لا يتعمدوا المعاصي، ويجب أن لا يعاندوا، ويجب أن لا يكابروا، ويجب أن ينقادوا لله، ثم إذا وقعوا في الذنب يجب أن يعترفوا بالتقصير ويستغفروا ربهم، فإنه إذا كان هذا شأنهم فإن الله يغفر لهم.

    [وأظن شيخ الإسلام رحمه الله ذكره في هذا الموضع، ولعل الناسخ أسقطه والله أعلم.

    ثم قال رحمه الله: فإن الإنسان ليس مأموراً أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه المصائب التي لا حيلة له في دفعها].

    يعني أن الإنسان إذا أمر بأمر من الأمور ما يجوز له أن يقول: إن كان هذا مقدراً علي سأفعله. لا يجوز هذا، بل يجب أن يقول: سمعاً وطاعة كما يقع لبعض المعاندين أو الجاهلين إذا قيل له: لماذا ما تصلي؟ يقول: ما كتب لي أن أصلي. وهذا غير صحيح، فما يدريك؟ وهل وأطلعت على الغيب؟ وأطلعت في الكتاب؟ لا. ولكنك راضٍ عما أنت فيه، وتريد أن تبرر لنفسك فعلك وتجعل اللوم على القدر، فهذا هو الواقع؛ لأنه إذا وقع الإنسان في مصيبة، فهنا نعم ينظر إلى القدر، فيقول: الحمد لله، هذا قدر الله. ويتسلى بذلك.

    أما عند فعل الواجبات وترك المحرمات فإنه يجب أن يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، فإذا وقع في محرم لا يقل: هذا بقدر. بل يقول: أستغفر الله وأتوب إليه؛ لأن الاستغفار والاعتراف بالتقصير هو الواجب عليه، ولا يقل: هذا مقدر علي لأنه إذا قال ذلك فمعنى ذلك أنه راضٍ بما صار، وأنه يرى أنه على حق، وأن القدر هو الذي يلام، وهذا لا يجوز أن يقع من المسلم.

    أما المصائب التي ليست ذنوباً مصائب مثل فقد ولد، وفقد مال، واحتراق وما أشبه ذلك فهنا يقول: هذا تقدير الله أو مثلاً رفعت مصيبة تترتب على فعل ذنب، مثل أن يسرق سارق فتقطع يده، فمثل هذا إذا نظر إلى يده فإنه يقول: الحمد لله هذا تقدير الله. أما السرقة فلا؛ لأن السرقة هي فعل السارق يجب أن يتوب منها ويستغفر، أما المصيبة فهي ما ترتب على ذلك وهو قطع اليد، فهذه مصيبة.

    فالمصيبة يلتفت إلى القدر فيها؛ لأنه لا حيلة له في ذلك، أما السرقة فله حيلة وهي الاستغفار والتوبة، فيستغفر ويتوب ولا يحتج بالقدر على وقوع السرقة؛ لأنها فعله، وهذا هو معنى ما جاء في الحديث الذي في الصحيحين أن موسى عليه السلام قال: (يا رب! أرني آدم فأراه الله جل وعلا آدم، فقال له: أنت آدم أبو البشر؟ قال: نعم. قال: لماذا خيبتنا ونفسك أخرجتنا من الجنة؟ فقال: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه؟ قال: نعم. قال: قبل كم وجدت في التوراة مكتوباً قبل أن أخلق: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:121]؟ قال: وجدته مكتوباً عليك قبل أن تخلق بأربعين سنة، فقال: أتلومني على شيء كتب علي قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى، فحج آدم موسى).

    هنا لا يجوز أن يقال: إن موسى عليه السلام لام آدم على الذنب؛ لأن آدم عليه السلام تاب من الذنب، والذنب إذا تيب منه لا يجوز أن يذكر؛ لأنه لم يصر عليه، فهو انتهى، فلا يُعَير إنسان بذنب أصابه، ولكن لامه على الخروج من الجنة، والخروج هو المصيبة التي ترتبت على الذنب، فهو لامه على المصيبة، ولهذا احتج آدم بالقدر على المصيبة، قال: (أتلومني على شيء قد كتب علي؟)، فهذا لا يمكن استدراكه ولا حيلة فيه.

    فهكذا -مثلما قلنا- في السارق تماماً: إن الذنب الذي وقع منه إن كان تاب من السرقة فلا يجوز أن نعيره بذلك أو نلومه عليه، ولكن إذا قيل له: لماذا قطعت يدك؟ يقول: هذا قدر الله، والحمد لله.

    أما قوله في حديث آدم: (قبل كم وجدت مكتوباً في التوراة قبل أن أخلق؟ فقال: بأربعين سنة)، فهذا لا ينافي الحديث الذي في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي فيه: (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وآدم آخر المخلوقات، وقال: بأربعين سنة).

    فهذا مكتوب في التوراة، والتوراة الله كتبها بيده جل وعلا، خطها بيده تعالى وتقدس، ثم أنزلها على كليمه، فالله جل وعلا باشر ثلاثة أشياء بيده: غرس جنة عدن بيده تعالى وتقدس، وخلق آدم بيده، وخط التوراة لموسى بيده. وهذا جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما بقية الأشياء فإنه يقول لها جل وعلا: (كوني) فتكون: إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، تعالى وتقدس، ولا يعجزه شيء، وهذا خاص، ولهذا قال الله جل وعلا لإبليس: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، كأنه جل وعلا يقول: أنا لم أتكبر عن مباشرة الخلق بيدي، وأنت تتكبر من أن تسجد له.

    فالمقصود أن الاحتجاج بالقدر على المصيبة التي تصيب الإنسان هو من باب التسلي، يتسلى بذلك ويقول: هذه المصيبة لا حيلة لي فيها قد كتبت علي ولهذا يقول العلماء: الاحتجاج بالقدر على المصائب والآلام لا على المعائب والآثام، والمعائب: هي الذنوب، فما يجوز أن يحتج على الذنب ويقول: هذا الذنب الذي فعلته مقدر علي. بل يجب عليه أن يتوب ويستغفر.

    وجوب التسليم والرضا بقدر الله سبحانه

    [وأظن شيخ الإسلام رحمه الله ذكره في هذا الموضع، ولعل الناسخ أسقطه والله أعلم.

    ثم قال رحمه الله: فإن الإنسان ليس مأموراً أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه من المصائب التي لا حيلة له في دفعها، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم فاصبر عليه وارض وسلم، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11].

    ولهذا قال آدم لموسى: (أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى)؛ لأن موسى قال له: (لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟) فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله، لا لأجل كونها ذنباً، وأما كونه لأجل الذنب كما يظنه طوائف من الناس فليس مراداً بالحديث، فإن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس. انتهى.

    قال العلامة ابن القيم رحمه الله: فتضمن هذا الحديث أصولاً عظيمة من أصول الإيمان:

    أحدها: أن الله سبحانه موصوف بالمحبة، وأنه يحب حقيقة.

    الثاني: أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها، فهو القوي ويجب المؤمن القوي، وهو وتر يحب الوتر، وجميل يحب الجمال، وعليم يحب العلماء، ونظيف يحب النظافة، ومؤمن يحب المؤمنين، ومحسن يحب المحسنين، وصابر يحب الصابرين، وشاكر يحب الشاكرين.

    ومنها: أن محبته للمؤمنين تتفاضل فيحب بعضهم أكثر من بعض.

    ومنها: أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده، والحرص: هو بذل الجهد واستفراغ الوسع فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محموداً، وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصاً، وأن يكون حرصه على ما ينتفع به، فإن حرص على ما لا ينفعه، أو فعل ما ينفعه من غير حرص فاته من الكمال بقدر ما فاته من ذلك، فالخير كله في الحرص على ما ينفع.

    ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه، أمره أن يستعين بالله ليجتمع له مقام: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله تعالى، ولا يتم إلا بمعونته، فأمره أن يعبده وأن يستعين به، فالحريص على ما ينفعه المستعين بالله، ضد العاجز، فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور إلى ما هو أعظم أسباب حصوله، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده، ومصدرها منه، ومردها إليه.

    فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان: عجز، وهو مفتاح عمل الشيطان فيلقيه العجز إلى (لو) ولا فائدة في (لو) هاهنا، بل هي مفتاح اللوم والعجز والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان.

    فنهاه صلى الله عليه وآله وسلم عن افتتاح عمله بهذا الافتتاح، وأمره بالحالة الثانية، وهي: النظر إلى القدر وملاحظته، وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد، فلم يبق له هاهنا أنفع من شهود القدر، ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجوب المقدور.

    وإن انتفت امتنع وجوده، ولهذا قال: (فإن غلبك أمر فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)، فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين: حالة حصول المطلوب، وحالة فواته، فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبداً، بل هو أشد إليه ضرورة، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار والقيام بالعبودية ظاهراً وباطناً في حالتي حصول المطلوب وعدمه، وبالله التوفيق. انتهى].

    خلاصة الباب أن العبد يجب عليه إذا أصابه شيء أن يسلم ويرضى بالله جل وعلا، وأن يجتنب قولة: لو فعلت كذا لكان كذا لأن قولة: (لو) لا يخلو الأمر لمن قالها من أن يكون متسخطاً لما يقع وغير راضٍ به، أو أنه يعتقد أن الأسباب التي يذكرها -لو فعلت كذا لكان كذا- أنه يمكن أن تغير الواقع، وهذا كله خلاف الإيمان بالقدر؛ لأن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة، فإنه لابد أن يعلم أن كل ما يقع فإنه معلوم لله أزلاً وقد كتبه، وأنه يقع على وفق كتابة الله له وعلمه ويكون في الوقت المحدد، ولا يمكن أن يتغير أو يزيد أو ينقص.

    ثم إن العبد مأمور بفعل السبب والحرص على ما ينفع، فيفعل الأسباب ويحرص عليها، ويقوم بها ويستعين بالله جل وعلا، وهذا هو معنى الكسب والاختيار، أي: أنه يعمل الأعمال التي توكل إليه باختياره، يفعلها بقدرته، وفعله ينسب إليه حقيقة.

    فالله جل وعلا خلقه وخلق له قوى، وخلق له الفكرة والإرادة التي يريد بها مع المقدرة، فالمقدرة والإرادة مخلوقتان لله جل وعلا، وهي للعبد، ويفعل بالقدرة وبالإرادة فيكون الفعل له وإن كان مقدراً، ففعل العبد لا ينافي التقدير، كونه ينسب إليه ويضاف إليه حقيقة أنه فعله، فالله هو الذي خلق العبد وخلق له الإرادة والقدرة، فصار فعله مكتسباً له يثاب عليه أو يعاقب عليه.

    فبهذا يجتمع القدر مع فعل العبد حقيقة، ولا يكون فيه مخالفة ومنافاة كما يعتقد أهل الضلال، فهذا هو الحق الذي دلت عليه النصوص، وهو الذي يقول به أهل السنة.

    1.   

    تفسير مسائل باب ما جاء في اللو

    [ فيه مسائل: الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران ].

    قوله جل وعلا: يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154] عرفنا أن معنى قوله: (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ) يعني: لو كان التدبير إلينا والاختيار لنا، ولكنه للرسول صلى الله عليه وسلم، فهو اعتراض على شرع الله، واعتراض على قدر الله جل وعلا، ولهذا ذموا في ذلك.

    [الثانية: النهي الصريح عن قول: (لو) إذا أصابك شيء].

    فإن النهي هنا يقتضي التحريم، فإذا أصاب الإنسان شيء وقال: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا فهذا يكون محرماً.

    [الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يصبح عمل الشيطان].

    هو عاب التعليل لكونه يفتح عمل الشيطان، فلا يكفي في كون الأمر محرماً، ولكن هذا من الحكمة؛ لأن الإنسان إذا ذكرت له العلة يقتنع ويقف غالباً، ولكن أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم يجب أن يمتثل ولو لم يعلم الإنسان حقيقة ذلك وحكمته.

    [الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن].

    هذا الكلام الحسن هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (قل: قدر الله وما شاء فعل)، فالإنسان إذا وقع في شيء يكرهه يقول هذا القول الحسن، والمراد بالقول الحسن: قدر الله وما شاء فعل. يعني: أن تقديره فيه التسليم والانقياد، والإخبار أن الواقع لا يتغير عما أراده الله جل وعلا.

    [ الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله ].

    الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالحرص، والحرص جعله فيما ينفع، والذي ينفع هو عمل طاعة الله جل وعلا، هذا هو النافع، سواءٌ أكان بامتثال الأمر أو باجتناب النهي.

    [السادسة: النهي عن ضد ذلك، وهو العزم].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756533019