إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [107]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لا يجوز الحلف بغير الله؛ لما في ذلك من الغلو في المحلوف به، ومنازعة الله فيما هو من خصائصه، ومن الغلو المحرم أيضاً: الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، ورفعه فوق مكانته التي أعطاه الله إياها.

    1.   

    من أحكام الحلف بغير الله

    كفر من حلف بغير الله

    قال المصنف رحمه الله تعالى : [ وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير لله فقد كفر أو أشرك) ، رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم ].

    قوله في هذا الحديث: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) ، الحلف يراد به: تأكيد المحلوف عليه بذكر اسم الله العظيم الذي يعاقب الكاذب إذا كان كاذباً، ويثيب الصادق ويعلم صدقه ويطلع على ذلك ويثيب عليه، ولا يجوز الحلف بغير الله جل وعلا أو بصفة من صفاته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).

    وفي هذا: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) قيل: إن (أو) هنا للشك، يعني: شك الصحابي هل قال النبي صلى الله عليه وسلم: كفر، أو قال: أشرك، وقيل: إنها بمعنى الواو. يعني: أنه وقع في الكفر والشرك؛ لأن الشرك يكون كفراً، وإن كان من الشرك الأصغر فهو من الكفر الأصغر، أما إذا كان من الشرك الأكبر فهو من الكفر الأكبر.

    والعلماء قسموا الكفر إلى أقسام خمسة: أحدها: الشرك، والشرك قسم إلى أقسام منها: شرك الدعوة، وشرك المحبة، وشرك الطاعة.

    وفي هذا نص على أن الحلف بغير الله لا يجوز؛ لأنه محرم، وهو من التنديد الداخل تحت قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22].

    والحلف قد يدخل في شرك الربوبية، وقد يدخل في شرك العبادة، ومعلوم أن التنديد بواحد من أنواع التوحيد هو من أعظم الذنوب كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود : (قلت: يا رسول الله! أيُّ الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) ، والند هو الشبيه والنظير ولو في صفة من الصفات، أو بحق من الحقوق، أو بفعل من الأفعال، وسيأتي قوله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال: ما شاء الله وشئت، أنه قال له: (أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده) ، وفي هذا أن الحلف بغير لله يكون تنديداً وشركاً، وتختلف درجته باختلاف الحالف، فإن كان الحالف جرى ذلك على لسانه من غير قصد، أو أنه تكلم بهذا وهو لا يريد تعظيم المحلوف به التعظيم الذي يوصله إلى العبادة؛ أو أنه ناسٍ أو ساهٍ، فهذا يكون من الشرك الأصغر؛ شرك الألفاظ التي يجب أن يطهر المسلم لسانه منها.

    أما إذا كان يقصد بذلك تعظيم المحلوف به، واقترن مع ذلك عقيدته في أنه يطلع على حاله، وأنه قد يعاقبه؛ فإن هذا يكون من الشرك الأكبر الذي يخرج من الدين الإسلامي.

    ثم الحلف بغير الله لا يجوز بأي شيء كان: لا بالأمانة، ولا بالذمة، ولا بالكعبة، ولا بالنبي، ولا بالملائكة، ولا بالسماء، ولا بغير ذلك من مخلوقات الله، وما قاله بعض العلماء من أنه استثنى من ذلك الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه جائز؛ فهذا باطل لا دليل عليه؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء بإخلاص الدين لله جل وعلا، فلا يجوز أن يشرك بالله جل وعلا في شيء من الأشياء: لا بالحلف ولا بالفعل الذي قد يضاف مثلاً إلى سببه كما سيأتي، ولا التصرف، ولا في التأله، ولا الحب والتعظيم، ولا الابتلاء، ولا في شيء من خصائص الله جل وعلا.

    ثم إن الشرك وإن كان في الألفاظ وإن كان غير مقصود فإنه عظيم، حتى كان يجري على اللسان من غير قصد فإنه أعظم من الكبائر، فيجب على المسلم أن يتوب من ذلك.

    تعظيم الصحابة للحلف بغير الله

    قال المصنف رحمه الله: [ وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أحلف بغيره صادقاً ].

    معلوم أن الكذب محرم في جميع الأديان، ولا يجوز للمؤمن أن يكذب، كما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل له: (أيسرق المؤمن؟ قال: نعم، قيل: أيزني المؤمن؟ قال: نعم، قيل: أيكذب المؤمن؟ قال: لا) ، وأخبر أن الكذب لا يصلح في شيء، ولكن رخص فيه في ثلاثة مواضع: في الحرب، والرجل لزوجه أو المرأة لزوجها، ولا يتضمن ذلك إبطال حق أو إغفاله أو إحقاق باطل، أو الرجل يصلح بين المتخاصمين، وفي الواقع أن هذه الأمور الثلاثة هي من المعاريض وليست من الكذب.

    يأتي إنسان مثلاً إلى المتخاصمين يقول: أنتم إخوة فلان يحبك ويريد لك الخير والفلاح.. ونحو هذا الكلام يريد به أن يصلح ما بينهما.

    وكذلك كلامه مع زوجه، وكذلك في الحرب أن يوري إما في القول أو الفعل خلاف ما يقصد، وما عدا ذلك فلا يجوز الكذب في شيء من الأشياء.

    والصدق حسنة وهو من صفات المؤمنين، والله يحض عليه ويأمر به، ويقول: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] ، ومع هذا يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً ) والسبب في هذا: أن الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم الذنوب وأكبرها، وهو رضي الله عنه لا يحب هذا ولا هذا، ولكن يريد أن يبين المفاضلة بين الكذب فيما هو توحيد وعبادة لله وما هو شرك.

    قوله ( لأن الحلف بالله كاذباً ) قيل: إنها هي اليمين الغموس، وقد جاء عَدُّ ذلك في الموبقات التي توبق صاحبها في النار وتهلكه إذا حلف بالله كاذباً، وقال آخرون: إن اليمين الغموس هي أن يحلف كاذباً على حق لغيره ليقتطعه بيمينه.

    والمقصود بهذا: أن حسنة الصدق لا تساوي ولا تقاوم سيئة الشرك في أي وجه من الوجوه، وسيئة الشرك أعظم من الكذب، بل الشرك هو أعظم الذنوب، وقد جاء ذلك صريحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) ، والند هو الشريك، ويشمل أن يكون نداً في العبادة أو الصفات أو الأفعال التي يفعلها الله جل وعلا، فإذا جعل الإنسان لله نداً في ذلك فقد وقع في الشرك الذي هو أعظم الذنوب، والحلف من هذا.

    وهذا يدلنا على عظم الشرك عند الصحابة رضوان الله عليهم، وأنهم عرفوا عظمه، بخلاف الذين يأتون بالمتناقضات، يقول: لا إله إلا الله وهو يدعو ميتاً رميماً تحت التراب يستغيث به ويناديه، وقد يطوف بقبره أو يسجد عليه، أو يأخذ من ترابه، أو يقدم له نذراً، وما أشبه ذلك. وهذا كله من الشرك الأكبر الذي إذا مات عليه الإنسان يكون خالداً في النار؛ لأن الله جل وعلا يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ، ويقول: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة:72].

    وليس الشرك هو الاعتقاد أن فلاناً شارك الله في خلق السموات والأرض، أو أنه شاركه في إنزال المطر، أو الإحياء والإماتة والتصرف، فإن هذا لا يعتقده عاقل، وإنما كان شرك المشركين الذين بعثت إليهم الرسل هو من طريق طلب الوساطة: أنهم يطلبون من المخلوق أن يكون واسطة لهم عند الله يقربهم إلى الله ويشفع لهم، هذا هو الشرك الأكبر الذي كثر ذكره في كتاب الله جل وعلا حتى نعلم أن فئاماً من المسلمين لا يعلمون الشرك، ولا يعرفون حقيقة الشرك، ولا يعرفون حقيقة التأله والعبادة مع أن هذا لا يعذر في جهله أحد؛ لأنه من الأمور الضرورية التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم.

    على كل حال هذا الأثر عن عبد الله بن مسعود يبين لنا خطر الشرك، وأن الصحابة رضوان الله عليهم قد عرفوا قدر التوحيد، وأن الشرك أكبر من جميع الذنوب.

    1.   

    مقارنة بين مشركي زماننا ومشركي العرب

    قال الشارح رحمه الله رحمة واسعة: [ قوله: (فقد كفر أو أشرك) يحتمل أن يكون شكاً من الراوي، ويحتمل أن تكون (أو) بمعنى الواو، فيكون قد كفر وأشرك ويكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر، كما هو من الشرك الأصغر، وورد مثل هذا عن ابن مسعود بهذا اللفظ.

    قال المصنف رحمه الله: (وقال ابن مسعود : لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً ). ومن المعلوم من أن الحلف بالله كاذباً كبيرة من الكبائر، لكن الشرك أكبر من الكبائر وإن كان أصغر كما تقدم بيان ذلك، فإذا كان هذا حال الشرك الأصغر فكيف بالشرك الأكبر الموجب للخلود في النار؟ كدعوة غير الله والاستغاثة، به والرغبة إليه، وإنزال حوائجه به، كما هو حال الأكثر من هذه الأمة في هذه الأزمان وما قبلها من تعظيم القبور، واتخاذها أوثاناً، والبناء عليها، واتخاذها مساجد، وبناء المشاهد باسم الميت لعبادة من بنيت باسمه وتعظيمه، والإقبال عليه بالقلوب والأعمال والأقوال.

    وقد عظمت البلوى بهذا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله وتركوا ما دل عليه القرآن العظيم من النهي عن هذا الشرك وما يوصل إليه، قال الله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأعراف:37] كفرهم الله تعالى بدعوتهم من كانوا يدعونه من دونه في دار الدنيا].

    هذا إقرار بأنهم كفرة، وقوله جل وعلا في هذه الآية لما سألهم: (أين الذين كنتم تدعونهم)، يعني: كنتم تستغيثون بهم وتنزلون بهم حاجاتكم، أو تجعلونهم وسطاء بينكم وبين الله؟

    (قالوا ضلوا عنا) أي: ذهبوا عنا فلا نراهم؛ لأنها دعوى باطلة، ولو كانوا أمامهم لكفروا بهم وتبرءوا منهم، ثم قال الله تعالى في الآية الأخرى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5-6].

    ويقول جل وعلا في آية أخرى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ [البقرة:166] ؛ فالأسباب التي تقطعت بهم هي الوسائل التي يزعمون أنها توصلهم وتقربهم بقولهم: إنا نتوسل بهم، أو قولهم: نتشفع بهم، ويجعلون التشفع الذي هو من قبيل الشرك الأكبر، تشفعاً، أو توسلاً، وقد يسمونه تعظيماً للصالحين، وإحسان الظن بهم، وإذا نهوا عن ذلك قالوا: هذا لا يحب الصالحين، ويجعلون التوحيد منكراً والشرك معروفاً؛ لأنهم عاشوا على هذا وتربوا عليه ووجدوا كبراءهم كذلك، وربما علماء يجدونهم على هذا، ثم هم يستبعدون أن يكون هذا شرك أبي لهب ، وأبي جهل وأضرابهما، مع أنه أعظم من شركهما.

    وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [البقرة:167] ، يعني: أن كل واحد من الداعي والمدعو يتبرأ من الآخر، وتصبح الدعوى في ذلك المكان حسرة على الداعي، وكذلك يكون المدعو عدواً له متبرئاً منه، كما قال الله جل وعلا عن إبراهيم عليه السلام وهو يخاطب قومه: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت:25] ، هكذا يكفر الداعي بالمدعو، والمدعو بالداعي، ويلعن المدعو الداعي، وكذلك الداعي؛ لأنها كلها ضلالات، وذلك لأن الحسرات والعذاب كله بحذافيره يجري على المشرك يوم القيامة.. يتحسر على فعله حيث فعل فعلاً أوبقه وأوجب له النار، ثم لا يغني عنه هذا التحسر وهذه الندامة شيئاً، فلا بد له من العذاب الأليم.

    أما في هذه الدنيا فيمكنه أن يتوب، ويطلب من ربه العتبى، ويراجع نفسه، ويعلم ما أوجب الله عليه من توحيده والكفر بالطاغوت، وكل معبود من دون الله فهو طاغوت، سواء كان معبوداً حقيقة أو معنىً، وسواء كان من أجل الدعوة والتوسل، أو من أجل الحكم واتخاذه قانوناً أو دستوراً غير الشرع، فهو طاغوت يجب أن يكفر به، والكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله يجب أولاً، لأن الله تعالى يقول: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256] ، فالتوحيد ليس مجرد صلاة وصوم فقط، بل مبني على شيئين: عبادة الله والإخلاص له، والكفر بالطواغيت عموماً والبراءة منها، وإلا كان الإنسان من الهالكين.

    والمقصود أن الوقوع في الشرك كثير جداً، فالإنسان لا يستبعد ذلك، فإن الشرك أنواع شتى، وسيأتي أنه أخفى من دبيب النملة على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهذا يكون في شرك النيات والمقاصد، وقد يكون في شرك الأقوال.

    أما الشرك الذي هو مخرج من الدين الإسلامي فهو واضح في كتاب الله وجلي، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوضحه، والله جل وعلا أوضحه.

    1.   

    غلو الصوفية

    قال الشارح رحمه الله: [وقد قال تعالى : وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] وقال تعالى : قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا [الجن:21] [الجن:20] ].

    المساجد قد تطلق على جميع ما يسجد فيه لله تعالى، فكل مكان سجد الإنسان فيه فهو مسجد، فيكون المعنى أن السجود لله جل وعلا.

    ولا يجوز أن يدعى مع الله في ذلك أحد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)، الأرض كلها جعلت له مسجداً وطهوراً صلوات الله وسلامه عليه،فاحتمل أن المقصود أن البيوت التي بنيت لله جل وعلا، فيجب أن تكون العبادة التي تقام فيها خالصة لله جل وعلا كما يجب أن يكون بناؤها خالصاً لله جل وعلا، ومعلوم أن الآية إذا جاءت تشمل المعاني الصحيحة كلها أولى من أن تقصر على معنى واحد.

    الغلو في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم

    قال الشارح رحمه الله: [ وهؤلاء المشركون عكسوا الأمر، فخالفوا ما بلغ به الرسول الأمة، وأخبر به عن نفسه صلى الله عليه وسلم، فعاملوه بما نهاهم عنه من الشرك بالله، والتعلق على غير الله، حتى قال قائلهم:

    يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم

    إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم

    فإن من جودك الدنيا وخيرتها ومن علومك علوم اللوح والقلم ].

    هذه يقولها البوصيري في قصيدته التي تسمى البردة، والتي يغلو فيها كثير من الناس، ويجعلها أفضل من آية الكرسي، ويجعلها ورداً له، يحفظها ويقرؤها مساء صباح، وهذا في الواقع من الشرك الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تفعله كما فعلته اليهود والنصارى.

    ومعلوم أن قائل هذه الأبيات هو ممن كان يكتب التفسير والحديث، وهذا دليل على أنه لا يجوز الاغترار بالإنسان وإن كان من العلماء؛ لأن الواجب أن ينظر في فعل الإنسان هل هو موافق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أنه مخالف، أما بعض الذين يدافعون عنه فيقولون: هذا كله من باب الشفاعة، فألفاظها لا تساعده، بل هي صريحة في الشرك، خصوصاً عند قوله: ما لي من ألوذ به).

    وأين الله؟ مع أنه يستعيذ بالرسول صلى الله عليه وسلم من الله، ووجود مخلوق يستعاذ به من الله هذا أمر جلل، تعالى الله وتقدس! (ما لي من ألوذ به سواك)، يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: أنت وحدك الذي ألوذ به؛ فنسي رب العالمين ،وهو الملاذ والمعاذ الذي يجب أن يلاذ ويستعاذ به.

    وقوله: (عند حلول الحادث العمم) الحادث العمم الذي يعم الخلق كلهم إذا جمعوا في صعيد واحد، وقاموا لرب العالمين ، ولهذا قال في البيت الثاني يخاطب الرسول أيضاً:

    إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم

    يعني: إن لم تتفضل يا رسول الله وتأخذ بيدي، وتنقذني من عذاب الله وغضبه، فقد زلت قدمي، وهويت بالعذاب، وهذا صريح في أنه يلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم من الله، ومن عذابه تعالى الله وتقدس.

    ولهذا قال:

    ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم

    يقول: إذا غضب الله جل وعلا يوم القيامة على خلقه فأنا مستجير بكرمك، ولا يضيق كرمك بي أن تحميني من غضب الله، نعوذ بالله من الخذلان.

    ويقول في البيت الآخر:

    فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم

    إذاً: ما الذي تركه لله تعالى إذا كانت الدنيا والآخرة من جملة جود النبي صلى الله عليه وسلم، فماذا بقي فوق هذا من غلو النصارى نسأل الله العافية.

    ومع ذلك يأتي من هو واقع في الشرك، وفي عبادة الأشخاص، ويعتبر أن هذا الشرك من التشفع ويقول: هذا تشفع. مع أن الشفاعة لا تطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا طلبت منه فهو الشرك؛ لأن الشفاعة تطلب من الله مالكها، كما قال جل وعلا: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر:43-44]، ويقول جل وعلا: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، ولا يوجد أحد يشفع بدون إذنه.

    ولما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم شفاعته التي يكرمه الله جل وعلا بها في الموقف، ذكر أنه يسجد لله أولاً، ثم يدعه الله جل وعلا ما شاء، ثم يأمره برفع رأسه، ويقول: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فقبل أن يقول له: اشفع. لا يمكن أن يشفع.

    وفي رواية: أنه يحد له حداً هذا في الشفاعة الأخرى، أما الشفاعة الكبرى فلا حد فيها، لأنها شفاعة في أن يحاسب الله خلقه فقط، وإنما الحد في الشفاعة في الذين دخلوا النار، فإنه إذا شفع يحد الله جل وعلا له حداً معيناً، لأن الشفاعة لله جل وعلا.

    وحقيقة الشفاعة: هي أن الله جل وعلا يريد رحمة هذا المشفوع له، وإكرام الشافع وإظهار كرامته فقط ، وإلا فلا أحد يملك مع الله شيئا، وكل هذه المزاعم مزاعم شركية وثنية لا تعدو أن تكون من دين أبي جهل وأبي لهب وغيرهم.. بل هي فوقه.

    وكم وقع الناس في هذا البلاء والشرك العظيم باسم مدح الرسول صلى الله عليه وسلم؛ مع أنه صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (يا سيدنا وابن سيدنا، ويا خيرنا وابن خيرنا، قال لهم: قولوا بقولكم أو بعض قولكم، فأنا عبد الله ورسوله لا أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله جل وعلا)، وفي حديث آخر يقول: (ولا يستجرينكم الشيطان)، يعني: لا يتخذكم مراكز له ويجريكم في الباطل، وترتكبوا ما نهيتكم عنه.

    فقد بين صلوات الله وسلامه عليه الحق الذي يجب اتباعه، وحمى حق الله جل وعلا خير حماية، وسد طرق الشرك التي يمكن أن يدخل الشيطان منها، ولكن يأبى كثير من الناس إلا أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم صراحة، ويزين له الشيطان أن هذا من حبه مع أنه من بغضه؛ فالذي يفعل ذلك يبغضه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل وعلا يقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].

    فحبه صلى الله عليه وسلم في طاعته، واتباع أمره؛ فمن كان محباً له أطاع أمره، واستن بسنته، وانتهى عما نهى عنه، وإلا فهو كاذب في دعواه.

    مقام النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه جل وعلا

    قال الشارح رحمه الله: [فانظر إلى هذا الجهل العظيم؛ حيث اعتقد أنه لا نجاة له إلا بعياذه ولياذه بغير الله، وانظر إلى هذا الإطراء العظيم الذي تجاوز الحد في الإطراء الذي نهى صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله)، رواه مالك وغيره.

    وقد قال تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام:50]].

    هو عبد، والعبد هو العابد. هذا هو العبد الممدوح الذي يعبد ربه، وقد أثنى الله جل وعلا عليه بلفظ العبودية في أشرف المقامات؛ لأن أشرف مقام الإنسان أن يحقق عبادة ربه؛ قال جل وعلا: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1]، وأثنى عليه جل وعلا في مقام الدعوة فقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19]، وأثنى عليه جل وعلا في مقام الإسراء فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء:1]، وأثنى عليه جل وعلا في مقام التحدي: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ [البقرة:23].

    هذه المقامات الأربع هي أشرف مقامات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فذكره الله جل وعلا فيها بلفظ العبودية؛ وذلك أنه ليس شريكاً لله جل وعلا في الإلهية، أو الربوبية، أو له شيء من الإلهية، بل هو عبد يتأله ربه، وكان يصيبه ما يصيبه فيلجأ إلى ربه جل وعلا، وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.. كان يمد يديه إلى ربه مفتقراً إليه يسأله متضرعاً خاشعاً، وهو أعلم خلق الله جل وعلا.

    ومع ذلك قد يصيبه الكفار بالأذى، كما جرحوا وجهه صلوات الله وسلامه عليه يوم أحد، وكسروا ثنيته فصار الدم يسيل على وجهه صلوات الله وسلامه عليه ، وكان يقول: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم)، وهو يدعوهم إلى الله جل وعلا، فينزل الله جل وعلا عليه: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ [آل عمران:128] يعني: أنك عبدي فامتثل أمري، وامض في الدعوة التي كلفتك بها، أما هؤلاء فهم عبادي إن شئت عذبتهم، وإن شئت عفوت عنهم؛ فهو ليس له من الأمر شيء صلوات الله وسلامه عليه.

    أما دعوى الأفاكين المبطلين فهي مخالفة لكتاب الله جل وعلا، ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدعوته، ولنهج السلف الذين عرفوا الحق، وميزوا بين الحق والباطل، لكن الشيطان يأتي إلى الإنسان في صورة تعظيم الرسول صلى لله عليه وسلم فيزين له الشرك، ويجعل هذا الشرك من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجعل له ما هو من خصائص الله جل وعلا حتى يخرج به من الدين الإسلامي إلى الكفر، والله أعلم.

    ثم هذا الكلام وهذه الأبيات للبوصيري صاحب البردة نقول: هذه الأبيات شرك صراح، ولكن الرجل لا يجوز أن نحكم عليه بأنه مشرك؛ لأننا لا ندري ما الذي مات عليه، فربما هداه الله وتبرأ من ذلك وتاب منه، أما إذا علم أنه مات على هذه العقيدة فهو مشرك، ولكن هذا لا يعلم؛ فالحكم على الكلام ليس على الشخص، أما الشخص فأمره إلى الله، فلربما أنه تاب، وعرف الحق ورجع عن الباطل.

    قال الشارح رحمه الله: [ فانظر إلى هذه المعارضة العظيمة للكتاب والسنة، والمحادة لله ورسوله. وهذا الذي يقوله هذا الشاعر هو الذي في نفوس كثير، خصوصاً ممن يدعون العلم والمعرفة، ورأوا قراءة هذه المنظومة ونحوها لذلك، وتعظيمها من القربات، فإنا لله وإنا إليه راجعون ].

    ولا يزال هذا الأمر له من ينميه، ومن ينشره بين الناس، ويدعو إليه، ويروون في هذا حكايات باطلة، أو منامات قد يريهم إياها الشيطان ليضلهم بها، أو أحاديث مكذوبة لا أصل لها، أو دعاوي هي تلبيس للحق بالباطل، وليس لهم دليل على هذه الأمور أبداً، وأدلتهم لا تخرج عن كونها مرائي يريهم إياها الشيطان، أو حكايات تحكى عن بعض الناس قد يكون لها أصل، وأصلها الشيطان، وقد لا يكون لها أصل وإنما هي مكذوبة؛ لأن الحكايات لا يجوز أن يعتمد عليها إلا ما كان من كتاب ربنا وسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم، أو أحاديث مكذوبة يريدون أن يجعلوا الحق يدل على الباطل فيها؛ هذه هي أدلتهم لا تخرج عن ذلك.

    1.   

    النهي عن قول: ما شاء الله وشاء فلان

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان)، رواه أبو داود بسند صحيح.]

    هذا من حماية التوحيد؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد من كل جانب، وقوله: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان)، وذلك أن الواو تقتضي الجمع والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، وقد يكون فيها مساواة، وقد لا يكون فيها مساواة، بخلاف (ثم) فإنها تدل على الترتيب مع التراخي، فإذا وجد الترتيب مع التراخي زال المحظور أي: لم يكن هناك تشريك، (ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان)؛ فإن (ثم) هذه ليست كالواو للمعنى الذي ذكرنا.

    وهذا فيما يكون فيه لله مشيئة وللعبد مشيئة، أما الأمور التي يختص بها الله جل وعلا فلا يجوز أن يقال فيها مثل هذا، حتى ما كان له سبب، فالأسباب قد يقوم بها إنسان، ومعلوم أن الأسباب لا تقتضي وجود المسبب بالسبب نفسه، فإن السبب قد يجعل الله جل وعلا له موانع تمنع من حصول المسبب، والأمور كلها بيد الله جل وعلا؛ لأنه هو المالك المتصرف في كل شيء.

    المقصود بهذا أن نبين أن الله جل وعلا هو الذي يملك كل شيء ويتصرف فيه، وإذا كان هناك سبب جعله الله لمخلوق فلا يجوز أن يساوى فيه بين الخالق والمخلوق، بل لابد من التمييز بكلمة (ثم).

    قال الشارح: [وذلك لأن المعطوف بالواو يكون مساوياً للمعطوف عليه، لكونها إنما وضعت لمطلق الجمع فلا تقتضي ترتيباً، ولا تعقيباً، وتسمية المخلوق بالخالق شرك إن كان في الأصغر -مثل هذا- فهو أصغر، وإن كان في الأكبر فهو أكبر، كما قال الله عنه في الدار الآخرة: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97-98]، بخلاف المعطوف بثم؛ فإن المعطوف بها يكون متراخياً عن المعطوف عليه بمهلة، فلا محظور لكونه صار تابعاً ].

    يجب أن يعلم أن هذا القسم الذي صدر من الكفار وهم في النار تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الشعراء:98] يخاطبون فيها من كانوا يعبدونهم، ويتوجهون إليهم ، ومعلوم أن هذه التسمية ما سموهم بها ويقصدون فيها خلق السموات والأرض، هذا لا يقوله عاقل، ولا في إيجاد الجنة والنار ولا التصرف في الكون، وإنما التسوية التي سووهم فيها إما الحكم والتعظيم، أو التعلق القلبي التي تعلقوا بها فقط، هذا الذي سووهم فيه، فقولهم: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الشعراء:98]، أي: وقت تسويتنا لكم برب العالمين وإن سووهم به في الحكم، أوالدعاء، أو التعلق القلبي حيث يقولون: نرجوهم أن ينفعونا ويشفعوا لنا. هذا أمر واضح وضحته الآيات الأخرى، وكذلك الواقع يوضحه.

    قال المصنف رحمة الله تعالى: [وجاء عن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا يقول: لولا الله وفلان ].

    أي: يجوز أن يتعوذ بمخلوق إذا كان المخلوق حياً حاضراً قادراً على أن يعيذك بهذا الشيء؛ لأنه استعاذ بالله أولاً، والاستعاذة بالله من التوحيد بلا شك، ولا ينافي ذلك كون الإنسان يستعيذ بحي حاضر بشيء يمكله هو، أما إذا كان ميتاً أو غائباً أو لا يملك هذا الشيء، فالاستعاذة به تكون شركاً.

    قوله: (أعوذ بالله ثم بك)، ولا يقول: (أعوذ بالله وبك)؛ لأن الأمر كما مضى أن الواو تجعل المعطوف مساوياً للمعطوف عليه بالشيء الذي ذكر، فهذا من الشرك بالله.

    والمقصود في هذا أن الموحد المؤمن يتنزه في ألفاظه التي يتلفظ بها أن يقع في الشرك، والألفاظ قد تجري عادة بدون قصد، ومع ذلك لا يجوز ذلك، كما يجري على ألسنة كثير من الناس الحلف بالنبي، وهذا حلف بغير الله جل وعلا وهو من الشرك؛ فيجب أن يتنزه عن ذلك، وأن يستغفر الله من ذلك؛ لأنه لا يجوز الحلف إلا بالله جل وعلا أو بصفة من صفاته، وكذلك الاستعاذة، وكذلك اللياذ، وكل ذلك من أنواع العبادة.

    وكذلك لا يجوز أن يضاف الأمر إلى سببه، كأن يقول: لولا الله وأنت ما صار كذا وكذا، فإن هذا تشريك ممنوع من جهتين:

    - الجهة الأولى: التشريك.

    - والثانية: أنه لا يجوز أن يضاف الفعل إلى فلان الذي قد يكون هو السبب، أو جزءاً من السبب، بل يجب أن يضاف إلى الله جل وعلا.

    قال الشارح: [وقد تقدم الفرق بين ما يجوز، وما لا يجوز من ذلك، وهذا إنما هو في الحي الحاضر الذي له قدرة وسبب في الشيء، وهو الذي يجري في حقه مثل ذلك، وأما في حق الأموات الذين لا إحساس لهم بمن يدعوهم، ولا قدرة لهم على نفع ولا ضر، فلا يقال في حقهم شيء من ذلك، فلا يجوز التعلق عليه بشيء ما بوجه من الوجوه،والقرآن يبين ذلك وينادي بأنه يجعلهم آلهة إذا سئُلوا شيئاً من ذلك، أو رغب إليهم أحد بقوله، أو عمله الباطن أو الظاهر، فمن تدبر القرآن، ورزق فهمه صار على بصيرة من دينه، وبالله التوفيق ].

    يجب على كل مؤمن أن يتدبر القرآن؛ لأن الله أمر به؛ فإن من لم يتدبره فهو مرتكب لمحرم وسوف يحاسبه الله على ذلك، وبالنسبة للميت كالغائب فلا يجوز أن يستعاذ به، وإنما يستعاذ بالحي الحاضر القادر.

    قال الشارح رحمه الله: [ والعلم لا يؤخذ قسراً وإنما يؤخذ بأسباب ذكرها بعضهم في قوله:

    أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان

    ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وإرشاد أستاذ وطول زمان ].

    هذه الأسباب كلها إذا فعلها الإنسان قد ينال العلم وقد لا يناله ، وإنما الذي سبب الأسباب هو الله جل وعلا؛ فإذا أراد بعبده خيراً فإنه ييسر له هذه الأسباب.

    قال الشارح رحمه الله[ وأعظم من هذه الستة: من رزقه الله تعالى الفهم والحفظ ،وأتعب نفسه في تحصيله، فهو الموفق لمن شاء من عباده، كما قال تعالى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113].

    ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى حيث قال:

    والجهل داء قاتل وشفاؤه أمران بالتنفيذ متفقان

    نص من القرآن أو من سنــة وطبيب ذاك العالم الرباني

    والعلم أقسام ثلاث ما لها من رابع والحق ذو تبيان

    علم بأوصاف الإله وفعلــه وكذلك الأسماء للرحمن

    والأمر والنهي الذي هو دينـه وجزاؤه يوم المعاد الثاني

    والكل في القرآن والسنن التـي جاءت عن المبعوث بالقرآن

    والله ما قال امرؤ متحذلق بسواهما إلا من الهذيان ].

    يعني: أن العلم لا يخرج عن هذه الأقسام الثلاثة، وهو العلم بالله بأسمائه وصفاته، والعلم بأمره وخبره، يعني: أخباره التي يخبر بها، وأمره الذي يأمر به عباده. وهذا هو العلم النافع وما عدا ذلك لا خير فيه.

    1.   

    ذكر المسائل التي اشتمل عليها الباب

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل:

    - الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد ].

    آية البقرة هي قوله جل وعلا: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، وهي في سياق قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22].

    أي: يعلمون أن ما ذكر يختص بالله الذي خلقهم، وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل الأرض على هذه الصفة، وجعل السماء فوق الأرض مبنية، وهو الذي ينزل من السماء ماء فينبت به النبات الذي يأكلون منه وتأكل منه أنعامهم.. يعلمون أنه لا يشاركه في ذلك شيء، وإذا كانوا يعلمون أنه لا مشارك له في هذه الأفعال فيجب أن تكون العبادة له وحده، ولا يجوز أن يتوجه إلى شيء من المخلوقات، سواء كانت من الأحياء المتصرفة أو الجمادات بأن يجعلوها وسائط بينهم وبين الله يدعونها ويزعمون أنها تقربهم، فإن هذا من الضلال.

    هذه إقامة الحجة عليهم بالشيء الذي يقرون به وبالشيء الذي يرتكبونه وينكرونه.

    ثم يدخل في هذا ما ذكر بعد ذلك كله من قول: لولا الله وفلان؛ هذا بحسب الألفاظ، وكذلك بالحلف بغير الله، وكذلك التشريك في الشيء الصغير والكبير حتى بالألفاظ التي تدخل في التنديد، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما ذكره ابن عباس صريحاً.

    [ المسألة الثانية: أن الصحابة رضي الله عنهم يفسرون الآية النازلة بالشرك الأكبر أنها تعم الأصغر ].

    يعني: أنها تعم الشرك عموماً صغيره وكبيره، وإن قصد بها في الأصل الشرك الأكبر، ولكن الأصغر يدخل فيها، فإن الشرك كله منهي عنه.

    [ المسألة الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك ].

    لحديث: (فقد كفر أو أشرك) ووجه كونه شركاً: ما سبق أنه يذكر اسم المحلوف عليه تعظيماً له، وتصديقاً للخبر، فهو كأنه يقول: إن كنت كاذباً فهذا الذي ذكرته يعاقبني، وإن كنت صادقاً فهو يثيبني، وأن هذا المذكور يطلع على ما أقوله، وإذا كان بهذا المعنى فقد دخل في الشرك الأكبر، وليس الأصغر، وإنما يكون من الشرك الأصغر إذا جرى على اللسان مجرداً عن هذا المعنى فقط بدون أن يكون في نيته أنه يعاقب، أو يطلع، أو يثيب.

    [ المسألة الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقاً فهو أكبر من اليمين الغموس ].

    اليمين الغموس: هي أن يحلف الإنسان عند الحاكم على مال لغيره كاذباً فيقتطعه بيمينه، وقد جاء في خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحج الأكبر أنه قال: (من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان).

    والحلف بغير الله صادقاً أكبر من هذا، وذلك أن الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم الذنوب، وأما اليمين الغموس فهي من الجرائم، والموبقات، ولكنها لا تصل إلى الشرك.

    [ المسألة الخامسة: الفرق بين الواو وثم في اللفظ ].

    الفرق: أن الواو تقتضي مطلق الجمع، والتسوية بين المعطوف عليه والمعطوف.

    أما (ثم) فإنها تدل على التراخي مع الترتيب فيختلف الحكم في العطف بها، ولهذا أذن صلى الله عليه وسلم بأن يقول: لولا الله ثم أنت، ولا يقول: لولا الله وأنت، وما أشبه ذلك، فثم تختلف عنها؛ لأن هذا وضعها في اللغة العربية، وهذا لمن يفهم اللغة، أما الذي لا يفهمها، ويقول (ثم) ومقصده التسوية أو المشاركة، فالحكم واحد وهو آثم، وواقع في الشرك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756555751