إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [51]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون لله سبحانه ما أثبته لنفسه في كتابه، وما أثبته له نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته؛ ومن ذلك أن الله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، وعلمه لا يخلو منه مكان، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

    1.   

    بيان شروط الشفاعة وبطلان شفاعة آلهة المشركين

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]].

    هذه الآية متعلقة بالآية التي قبلها، وهي قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:22-23]

    الشفاعة ملك لله

    في الآية الأولى ذكر الله أربعة شروط، يقول العلماء: كلها تبطل الشرك، أو كل واحد منها يبطل الشرك، فإذا اجتمعت هذه الشروط أزالت الشرك من أصله من قلب العبد ومعنى ذلك أنه لا يبقى في قلب الذي يؤمن بها مثقال ذرة من شرك لأنها تزيله نهائياً، ولهذا قال بعض العلماء: هذه الآية تقلع شجرة الشرك من عروقها، ولا تبقي منها شيئاً، وما أكثر الآيات التي تشبه هذه الآية في القرآن!

    والشروط الأربعة واضحة من الآية، وهي قوله جلَّ وعلا: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سبأ:22] و(زعم) في لغة العرب تطلق على الاعتقاد الكاذب، والقول الكاذب، كما قال الله جلَّ وعلا: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن:7] (زعم) أي: المشركون فقالوا: لن نبعث، وهذا القول كذب، ولهذا أطلق عليهم لفظ (زَعَمَ) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي [التغابن:7]، فهنا يقول جلَّ وعلا: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ... [سبأ:22] وزعمهم في المدعوين أنهم شفعاء لهم، هذه هي دعواهم، وهذا كذب، فهم ليسوا شفعاء؛ لأن الشفاعة ملك لله، ولا تقع إلَّا بإذنه كما قال جلَّ وعلا: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، ثم تحداهم بقوله: فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأعراف:194]، وقال: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [سبأ:22] إذا كانوا لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فكيف يُدعَون؟! لأن المدعو يجب أن يكون مالكاً لما يُدعى من أجله وإلَّا صارت دعوته ضلالاً لا فائدة فيها، هذا الأول.

    لا يشارك الله في الشفاعة أحد

    الأمر الثاني: قوله جلَّ وعلا: وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ [سبأ:22] يعني: ما لهم في السماوات والأرض اشتراك في مثقال ذرة، أي: أنهم لا يملكون مثقال ذرة استقلالاً، ولا يشاركون المالك في مثقال ذرة.

    لا يملك الشفعاء المدعوون المساعدة والمظاهرة من دون الله

    الأمر الثالث: وهو المساعدة والمظاهرة والمعاونة: وهو أن يكون أحد مساعداً له سبحانه، أو معاوناً له أو يكون وزيراً له تعالى الله وتقدس، فقال سبحانه وتعالى: وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22] يعني: ليس له معاون حتى يمكن له أن يدعي أن له شيئاً من الحق، هذا الأمر الثالث.

    لا تقع الشفاعة للمشفوع له إلا بإذن الله

    الرابع: الشفاعة، قال سبحانه: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:23] فأخبر الله جل وعلا أنه لا يأذن إلَّا لأهل التوحيد، فلا يأذن في الشفاعة إلَّا لمن عبده وحده.

    والخلاصة: أن الأمر كله لله، والخير كله بيد الله، والشر لا يدفعه إلَّا الله، فالعبد هو عبد لله مهما كان، سواءً كان نبياً أو كان ملكاً من الملائكة، أو كان ولياً حياً أو ميتاً, فدعوته بهذه المثابة.

    ومراد المؤلف بهذه الترجمة أن يبين أن أعظم المعبودات التي عُبدت من دون الله هي الملائكة، ومعلوم أن العبادة التي وقعت لغير الله وقعت للأصنام، ووقعت للجن، ووقعت للأنبياء والصالحين كعيسى وعزير وغيرهم، ووقعت للملائكة ووقعت لأصنام من جمادات ما بين شجر وحجر وشمس وقمر ونجوم وغير ذلك، فكل عبادات المشركين لا تخرج عن هذا، وأعظمها الملائكة، فإذا كان الملائكة أعظم المعبودات فلنستمع إلى صفاتهم التي وصفهم الله جلَّ وعلا بها فقال في هذه الآية: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] و(فُزِّع) يعني: أصابه الفزع، وشرح ذلك وبيانه سيأتي إن شاء الله في الحديث وفيه: إن الله جلَّ وعلا إذا تكلم بالوحي الذي يريد أن يوحيه -بأمره ونهيه وتدبيره في ملكه- إلى جبريل عليه السلام، فتشعر الملائكة كلها التي في السماء بصوت الوحي من الله، فتصيبهم رعده عظيمة، ثم يُصعقون خوفاً من الله، فتُصعق الملائكة -يُغشى عليهم- خوفاً من الله جلَّ وعلا، فإذا ذهب الصعق وفُزِّع عن قلوبهم -يعني: زال الفزع عن قلوبهم الذي هو الخوف من الله- صار يسأل بعضهم بعضاً: ماذا قال الله؟ -مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ [سبأ:23]؟ فينتهي السؤال إلى جبريل؛ لأنه هو أمين الله على وحيه، وهو أقرب الملائكة إلى الله، وهو الذي يوحي الله جلَّ وعلا بالأمر إليه سواءً كان الأمر في السماء أو في الأرض، فيقولون له: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] وكلهم يقولون هذا، قال: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، وفي رواية أخرى: (أن السماوات تأخذها رِعدة أو رَعدة أو رجفة شديدة خوفاً من الله جلَّ وعلا) وهذا يعني: أن السماء يصيبها هذا الشيء، ترتعد وترتجف خوفاً من الله، والسماوات التي هي جماد يجعل الله جلَّ وعلا فيها الإحساس والخوف منه وقد أخبر جلَّ وعلا أنها تسبح بحمده، فقال سبحانه: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44] فعند ذلك تتبين عظمة الله، وأن الذين يدعون أحداً غير الله ظالمون وهالكون، وأن الدعوة يجب أن تكون لله جلَّ وعلا، فإذا كان هذا بالنسبة للملائكة فكيف بالنسبة للبشر الضعفاء؟! كيف بالنسبة للجمادات وغيرها؟! فهذا دليل واضح على أن كل دعوة لغير الله باطلة.

    1.   

    إثبات صفة الكلام لله جل وعلا

    قال الشارح: [قوله: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [سبأ:23] أي: زال الفزع عنها، قاله ابن عباس وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي والحاكم وغيرهم.

    وقال ابن جرير : قال بعضهم: الذي فُزِّع عن قلوبهم: الملائكة، قالوا: وإنما فُزِّع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله بالوحي.

    وقال ابن عطية : في الكلام حذف يدل على الظاهر، كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم بل هم عبدة مسلمون لله أبداً يعني: منقادون، حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [سبأ:23] والمراد: الملائكة، على ما اختاره ابن جرير وغيره.

    قال ابن كثير: وهو الحق الذي لا مرية فيه، لصحة الأحاديث فيه والآثار.

    وقال أبو حيان: تظاهرت الأحايث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [سبأ:23] إنما هي في الملائكة، إذا سمعت الوحي إلى جبريل يأمره الله به سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبة، قال: وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآية تتسق هذه الآية على الأولى، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله: الَّذِينَ زَعَمْتُمْ [سبأ:22] لم تتصل له هذه الآية بما قبلها.

    وقوله: قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ [سبأ:23] ولم يقولوا: ماذا خلق ربنا؟ ولو كان كلام الله مخلوقاً لقالوا: ماذا خلق؟ انتهى من شرح سنن ابن ماجة].

    وهذا من الأمور التي انطلت على من تغيرت فطرته، وهذه من الفتن التي وقع فيها بعض المسلمين قديماً، حيث أنكروا أن يكون الرب جلَّ وعلا متكلماً، كما أنكروا أن يكون متصفاً بالصفات، ومعلوم أن هذا نقص في حق الله، وإنما أتوا من ناحية الشبهات التي تعلقوا بها فقالوا: إن الله لا يتكلم، وهذا نص صريح بأن الله يقول: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ [سبأ:23]، فهو يقول ويكلم عباده ويخاطب ملائكته، ويأمر وينهى، ومعلوم أن الذي يتكلم أكمل ممن لا يتكلم؛ ولهذا عاب الله جلَّ وعلا على المشركين كونهم يدعون ومن لا يرد عليهم جواباً، من لا يسمع ولا يبصر؛ لأن هذا نقص، والمدعو يجب أن يكون سامعاً لدعوة داعيه، ويجب أن يكون قادراً على حمايته، وعلى إنزال الخير له، وإزالة ما نزل به من الشر، وإلَّا كانت دعوته غير صالحة وغير صحيحة، والأدلة على هذا كثيرة جداً، والحمد لله فإن هذه الفتنة قد زالت وانتهت، ولا يقول بها إلَّا أهل البدع الذين بقيت عندهم البقايا من مذهب الجهمية، والمعتزلة الذين ألحقوا الله جلَّ وعلا بالجمادات، وعطلوه عن صفاته، وجعلوه ناقصاً تعالى الله وتقدس، فمعلوم أن الله جلَّ وعلا هو القادر على كل شيء، وأن الرسالة بأمره ونهيه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان الصحابة يرفعون أصواتهم بدعاء ربهم: (أربعوا على أنفسكم! فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) وهذه عقيدة المسلمين التي يعتقدونها، وكل مسلم يدعو ربه سراً ويعلم علماً يقينياً أن ربه يسمعه، وكل مسلم يعلم أن الله يكلم عباده يوم القيامة فيخاطب أحدهم ويقول: يا عبدي! ألم أنعم عليك؟ ألم أصح بدنك؟ ألم أعطك المال؟ ألم أزوجك؟ فماذا فعلت؟ كما في الحديث الصحيح: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) أي: يكلمه بلا واسطة، وهذا التكليم في آن واحد، كل الخلق يكلمهم الله جلَّ وعلا في آن واحد، وكل واحد يرى أنه يكلم وحده فقط، وذلك أن أفعال الله لا تقاس بأفعال المخلوقين تعالى الله وتقدس، فهو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وهو القادر على كل شيء.

    والمقصود: أن وصف الله جلَّ وعلا بالكلام أمر مستقر في قلوب عباد الله وفي فطرهم، وأدلة ذلك كثيرة جداً في كتاب الله، وفي أخبار الرسل، من أولهم إلى آخرهم، فمنكره مكابر ومصادِم لما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم بل عن رسل الله كلهم، وقد قال الله جلَّ وعلا في قصة موسى بعد أن ذكر الرسل قال: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمَاً [النساء:164] يعني: كلمه في الدنيا، وفضله على الخلق بالمخاطبة، وقد سمع موسى كلام الله بلا واسطة، وكان موسى في الأرض والله فوق عرشه جلَّ وعلا، وإذا كان يوم القيامة فإن الله جلَّ وعلا يأتي لفصل القضاء بين عباده إلى الأرض، وهو على عرشه، ويكلمهم ويخاطبهم، والذي ينكر الكلام معناه أنه ينكر الرسالة، وينكر قدرة الله، ويلحق الله جلَّ وعلا بالناقصات تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!

    1.   

    إثبات صفة العلو لله سبحانه

    قال الشارح: [ومثله الحديث: (ماذا قال ربنا يا جبريل؟) وأمثال هذا في الكتاب والسنة كثير.

    قوله: قَالُوا الْحَقَّ [سبأ:23] أي قالوا: قال الله الحق، وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله صُعقوا، ثم إذا أفاقوا أخذوا يسألون فيقولون: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ [سبأ:23] فيقولون: قال الحق:

    قوله: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات، فله العلو الكامل من جميع الوجوه كما قال عبد الله بن المبارك لما قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه على عرشه بائن من خلقه، تمسكاً منه بالقرآن، لقول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ [الفرقان:59] في سبعة مواضع من القرآن.

    قوله: الْكَبِيرُ أي: الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه تبارك وتعالى ...]:

    قوله عن الملائكة أنهم لما سألوا جبريل ماذا قال ربهم؟ فأجابهم قال: الحق، ثم يقولون كلهم: قال الحق، هذا دليل على خضوعهم وذلهم أمام الله جلَّ وعلا، وأنهم عند قول جبريل: قال الحق، ينتهون عن الاستفسار والسؤال، ومعلوم أن الله جلَّ وعلا لا يقول إلَّا الحق، وكل قوله حق تعالى وتقدس، فهم عندما صعقوا وخروا سجداً توقعوا أنه تكلم بالأمر بقيام الساعة، هذا سبب الخوف؛ لأن الوحي انقطع بعد عيسى عليه السلام، وقد علموا أن الوقت اقترب، والساعة خفيت عليهم؛ لأنها ثقلت في السماوات والأرض، ولا تأتي الخلق إلَّا بغتة، ولا يعلم مجيئها إلَّا الله، فلما تكلم الله جلَّ وعلا بالوحي الذي أوحاه إلى جبريل وأمره أن يذهب به إلى محمد صلى الله عليه وسلم، خشي الملائكة لما سمعوا ذلك وأحسوا به أن يكون الأمر وحي إلى إسرافيل بالنفخ في الصور، فصُعقوا خوفاً من قيام الساعة؛ لأن الله جلَّ وعلا يجزي كل مسيئ بإساءته، ويستقر أهل النار في النار، وأهل الجنة في الجنة، والملائكة يخافون الله جلَّ وعلا، مع أنهم لا يفعلون إلَّا ما يؤمرون، ولكن الله جلَّ وعلا في ذلك اليوم يغضب غضباً شديداً حتى أن أولي العزم من الرسل يقولون: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)، وغضبه ذلك على الكفار والعصاة والفجار الذين بارزوه بالمعاصي، وحاربوه في الدنيا، فهو يمهل لهم العقوبة إلى ذلك اليوم، وفي ذلك اليوم يظهر الجزاء، والملائكة خافوا أن يكون قد حضر وقت الجزاء، فهم يخشون ربهم أشد الخشية، وإن كانوا لا يعصون الله جلَّ وعلا؛ ولكن مع ذلك يخشون عذابه، فإذا قال لهم: قال الحق، انتهوا إلى هنا، فصاروا يرددون هذا القول، ويقولون: قال الحق .. قال الحق، فهذا دليل على تعظيمهم لله جلَّ وعلا، وعلى أنهم لا يتجاوزون ما قيل لهم، ولا يستفسرون أكثر مما قيل لهم.

    1.   

    أنواع العلو الثابتة لله عز وجل

    قوله جلَّ وعلا: (وَهُوَ الْعَلِيُّ) (العلي) من العلو، والعلو ثابت لله جلَّ وعلا من جميع الوجوه، والوجوه التي يوصف علو الله بها ثلاثة وجوه:

    علو القدر

    الوجه الأول: علو القدر، وهو يكون في قلوب عباده العارفين له، أما الفساق والفجار والكفرة فليس هو عليٌّ في قلوبهم، ولهذا يبارزونه بالمعاصي، فلو كان عالياً في قلوبهم لما بارزوه بالمعاصي؛ ولكن علو القدر هذا يكون في قلوب عباده المؤمنين من الملائكة والبشر والجن، أما أكثرهم فهم لا يرجون لله وقاراً، كما قال الله جلَّ وعلا: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارَاً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارَاً [نوح:13-14]، وقال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعَاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67] فالعصاة والكفار والفجرة ما قدروا الله حق قدره، ولا صار لله علوٌّ في قلوبهم، تعالى الله وتقدس.

    علو القهر

    الوجه الثاني: علو القهر: وهذا علو مطلق، فإنه قاهر لكل شيء، الخلق كلهم تحت قهره، يتصرف فيهم وأقدارُه تجري عليهم رضوا أم لم يرضوا: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَاً [مريم:93] يعني: ذليلاً مقهوراً خاضعاً ليس له شيء، وكذلك يخبر جلَّ وعلا أنه يخاطب الناس يوم القيامة، وأنهم يأتون إليه فرادى كما خلقهم، ويقول لهم: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام:94] يعني: تقطعت المودة والدعوات وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94] أي: الشيء الذي زعموه ضل عنهم وذهب، وحصحص الحق وظهر ظهوراً تاماً، فالملك كله لله، والقهر كله لله، فهو القاهر، وله علو القهر تعالى وتقدس.

    وهذان الوصفان -علو القدر وعلو القهر- لم ينكرهما أحد من أهل البدع حتى الجهمية والمعتزلة أقروا بهما؛ ولكن الأمر الثالث هو الذي أنكره أهل البدع.

    علو الذات

    الوجه الثالث: علو الذات: كونه العالي على كل شيء، العالي فوق خلقه كلهم، وليس فوقه شيء تعالى وتقدس، وأرفع المخلوقات وأعلاها هو عرش الرحمن، وهو أوسعها وأكبرها وأعظمها، وذلك أن السماوات ومنها السماء الدنيا أكبر من الأرض آلاف المرات بل ليس هناك نسبة؛ لأن السماء تحيط بالأرض من جميع الجهات، والأرض كالبيضة في قلب السماء الدنيا، والجهات جهتان: جهة العلو والسفل فقط، أما الجهات الأخرى فلا حقيقة لها، والسماء الثانية أوسع وأكبر وأعظم من السماء الدنيا بشيء كبير جداً، والسماء الثالثة أوسع وأعظم وأكبر من السماء الثانية، وكذلك الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، فأعظم السماوات وأوسعها وأكبرها السماء السابعة، وفيها الجنة التي أخبر الله جلَّ وعلا أن عرضها عرض السماوات والأرض، والعرش فوق السماوات كلها، وهو أعظم منها كلها، وقد جاء في الآثار أن الكرسي أوسع من السماوات والأرض، بل قال الله جلَّ وعلا: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] والكرسي كما في الآثار: السماوات السبع بالنسبة إليه كدراهم سبعة ألقيت في أرض فلاة، هذا بالنسبة للكرسي، أما العرش فنسبة الكرسي إلى العرش كحلقة ألقيت في أرض فلاة، فالعرش هو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها، ولهذا يقول الله جلَّ وعلا: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:129] رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116] والكريم هو: الواسع الحسن، والشيء العظيم إذا عظَّمه الله فهو عظيم جداً، وليس فوق العرش شيء من المخلوقات، وإنما فوقه رب العالمين تعالى وتقدس، وهو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، ولهذا يقول لنا ويخبرنا عن شيء من عظمته حتى نعلم ذلك ونقدره حق قدره: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعَاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67] وعلى هذه السعة والكِبَر والعِظَم يطويها بيده، وتكون بيده كالخردلة في يد الإنسان، ولله المثل الأعلى.

    فإن كان هذا شيء من عظمته فكيف يجوز للإنسان أن يعبد معه غيره؟! وكيف يجوز للإنسان أن يصفه بما يتصف به المخلوق الحقير الذليل الذي لا يملك مع الله شيئاً؟! وإذا شاء عذَّبه ولا يُسأل ربك عما يفعل، تعالى الله وتقدس.

    علو ذاته سبحانه لا ينافي قربه ومعيته لخلقه

    فإن كان هذا شيء من عظمته فكيف يجوز للإنسان أن يعبد معه غيره؟! وكيف يجوز للإنسان أن يصفه بما يتصف به المخلوق الحقير الذليل الذي لا يملك مع الله شيئاً؟! وإذا شاء عذَّبه ولا يُسأل ربك عما يفعل، تعالى الله وتقدس.

    فعلوُّ الذات هو علو على جميع المخلوقات، ومع علوه تعالى وتقدس فهو معنا يسمع كلامنا، ويرى أفعالنا، ولا يخفى عليه مما في صدورنا شيء، فهو يعلم ما في الصدور: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] معنا باطلاعه وإحاطته وقبضته، وبعلمه ورؤيته تعالى الله وتقدس، فهو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء؛ ولهذا يقول العلماء: لا منافاة بين المعية والعلو، ولهذا جمع الله جلَّ وعلا بينهما في آية واحدة، كما قال جلَّ وعلا: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:3-4] فأخبر بهذه الآية أنه استوى على العرش، وأنه يعلم كل شيء، وأنه معنا أينما كُنَّا، ومعيته جلَّ وعلا معية على حقيقتها؛ لأن المعية في لغة العرب معناها: المصاحَبة، وليس معناها: الامتزاج والاختلاط كما يزعم أهل الباطل، بل معناها: المصاحَبة، وهذا شيء معقول جداً، وهي تختلف باختلاف ما أضيفت إليه، فكل شيء تضاف إليه تكون معية مَن أضيفت له على ظاهرها، فمثلاً: يقول الإنسان: أنا مع فلان، وفلان يكون متحداً بنفسه فإنه وحده لا يختلط به، ويقول: معي مالي، وإن كان ماله في بلد وهو في بلد آخر، ويقول: معي زوجتي، وإن كانت زوجته في مكان وهو في مكان آخر، وسُمع من كلام العرب: سرنا مع القمر، والقمر في السماء وهم في الأرض، وكذلك: إذا ذُكرت المعية مع المصاحِب: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29] يعني: صحبوه بالإيمان والقتال والجهاد والاتباع والطاعة، فإذا جاءت صفةٌ لله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ) فهو تعالى وتقدس معيته تليق به، ولا يجوز أن تكون معيته كمعية المخلوق للمخلوق تعالى الله وتقدس.

    إذاً: معيته تعالى لا تنافي علوَّه، وكذلك لا تنافي قُربَه، فهو قريب منا وهو على عرشه تعالى وتقدس، فصفات الله يجب أن تكون خاصة به، وألَّا تكون خصائص الخلق التي تخصهم لله منها شيء، كما أن خصائص الرب جلَّ وعلا ليس للمخلوق منها شيء.

    قال: [قوله: (الكبير)، أي: الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه تبارك وتعالى].

    ولهذا شرع الله جلَّ وعلا لنا أن نكبِّره، وأن يقول الإنسان دائماً: (الله أكبر) في جميع الانتقالات في الصلاة، وإذا هوى الإنسان ساجداً في الأرض، وإذا ركب دابةً، وإذا صعد إلى شيء، أو رأى شيئاً يعجبه، أو شيئاً لا يعجبه، فيذكر ذلك بتكبير الله أن يقول: (الله أكبر)، ولا يجوز للمؤمن إذا قال: (الله أكبر) أن يكون هذا في لسانه فقط، بل يجب أن يستشعر ذلك في قلبه، وألَّا يكون شيء من المخلوقات عنده أكبر من الله جلَّ وعلا، فهو الكبير فوق كل شيء، والكبير معنىً وقدراً وذاتاً تعالى الله وتقدس.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756660925