إخواني الكرام: موضوعنا إن شاء الله حول الصمت والمنطق.
لقد امتن الله عز وجل على الإنسان بنعمة اللسان والبيان، كما قال الله عز وجل: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ [البلد:8-9].
وهذه اللسان من أبرز وأعظم مميزات الإنسان، فإننا نجد أن العرب يسمون الحيوانات عجماء، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: { العجماء جبار} وفي لفظ {العجماء جرحها جُبار} وذلك لأن العجماء لا تنطق ولا تتكلم، ولا تبين عن نفسها، فلا يدرى ماذا تتألم، وماذا تريد، وماذا تحتاج، ولا يعلم عنها شيئاً؛ لأنها لا تنطق ولا تعرب عن نفسها، أما الإنسان فميزه الله عز وجل بقوله: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ [البلد:9].
هذه نعمة، وكذلك يقول الله عز وجل: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:1-4].
فامتن الله على الإنسان بالبيان -أي أنه يَبِينُ عما في نفسه- ولاحظ أن الله عز وجل قال في الآية: (خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:3-4] وهذا فيه إيماءٌ وإشعار وإشارة إلى أن البيان من خصائص الإنسانية، أي أن من خصائص الإنسان أنه يبين عن نفسه، فبماذا يتميز الإنسان عن الحيوان؟
يتميز بأمور: منها العقل، والفؤاد، ومنها اللسان الذي يعرب عما في قلبه، ولذلك يقول الشاعر:
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده فلم تبقَ إلا صورة اللحم والدم |
وكم ترى من صامت لك معجبٍ زيادته أو نقصه في التكلمِ |
فقوله: (لسان الفتى نصف ونصف فؤاده) أي أن لسانك يعتبر نصفك؛ لأنه يعبر عما في نفسك.
فوصف أخاه هارون بالفصاحة، وبين أن هذه الفصاحة نعمة، يستفاد منها في الدعوة إلى الله عز وجل، فإن الإنسان الفصيح البليغ القادر على الحديث والتعبير، يكون لديه قدرة على الدعوة إلى الله عز وجل وإقناع الناس، وكم من متحدث أو خطيب إذا تكلم سكت الناس وأصغوا، وربما استثار عواطفهم، وربما غير كثيراً من أفكارهم ومفاهيمهم، وربما يهتدي إنسان بسبب كلمة سمعها، فالفصاحة والبلاغة سبب للهداية أحياناً، ولذلك وصف موسى بها أخاه هارون فقال: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً).
وفي مقابل ذلك وصف الله عز وجل جماعات من غير المؤمنين بالفصاحة والبلاغة والتقعر في الكلام، فقال مثلاً عن الكفار، كما في قوله تعالى: وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:58].
فوصفهم بالخصومة والجدل، وهذا دليل على أنهم يتكلمون ويعبرون ويعربون، وهذا معروف عند العرب، فوصفهم بذلك، كما وصف به سبحانه وتعالى المنافقين في مواضع، كما في قوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4] أي فصحاء بلغاء، يملكون أزَِمَّة القول، فإذا قالوا لم يملك الناس إلا أن يستمعوا وينصتوا لهذا القول البليغ، الذي هو في الذروة من الفصاحة والبيان.. وكذلك قال عز وجل عن المنافقين: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [الأحزاب:19].
إذا جاء الخوف -كما في أول الآية- رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت، خائفون فإذا ذهب الخوف جاءوا يتكلمون ويعتذرون، ويتوسعون في الكلام، حتى ربما أقنعوا بعض المؤمنين، بأنهم كانوا معذورين فعلاً، وأنهم كانوا صادقين فيما يقولون، وكذلك قال الله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ [البقرة:204].
أي يأتي إليك يتحدث ويقول لك: يا أخي أنا كذا وأنا كذا وأنا كذا وأنا أحب الله ورسوله والمؤمنين، وفيَّ وفيَّ وفيَّ، ثم إذا انتهى من كلامه، قال: يا أخي أنا أشهد الله على أني ما قلت لك إلا حقاً وصدقاً، ولا تظن أني منافق أو مخادع أو مجامل، والله عز وجل ذم مثل هذا الصنف، فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:204] وذلك لجماله وفصاحته، وأنه يكسوه بالألفاظ الحلوة وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:204-205].
وكثيراً ما تجد مثل هذا الصنف من الناس، فيخدعك لأول مرة، لأنك تستبعد أن يوجد إنسان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يجرؤ مثلاً على الحلف الكاذب، وعلى تحسين الكلام الكاذب، وعلى ادعاء القول الكاذب، ولكنك إذا تتبعت بعض حال هؤلاء وجدتهم والعياذ بالله على أسوأ حال، وقد رأيت أصنافاً من الناس يجلس بين يديك، حتى والله إن منهم من يبكي، فتذرف عيناه الدموع، ويتحدث ويعتذر، ويقول: الأمر كذا وكذا، وأنا وأنا، ويثني على نفسه فوق ما يخطر ببالك، فإذا تحققت من أمره وجدت هذا الرجل والعياذ بالله ماكراً غداراً لا عهد له ولا ذمة، ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، فهذا صنف من المنافقين والمخادعين فضحهم الله عز وجل، وذكر أن عندهم فصاحة وبلاغة وتوسعاً في المنطق، لكن هذا لا ينفعهم.
لاحظوا الآية: شياطين الإنس والجن، يتعاون بعضهم مع بعض ويوحي بعضهم إلى بعض، زخرف القول -وهو الكلام الحسن المعسول، والكلام اللين الجميل- يغرون به الناس ويخدعون به، لكن هذا الكلام الذي يخدعون به لا يضر إلا الذين لا يؤمنون بالآخرة، كما قال تعالى: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الأنعام:113] وهذا الكلام في العصر الحاضر، لم يعد مجرد حوادث فردية، ففي الماضي في الجاهلية كان يوجد مثلاً رجل شاعر والله عز وجل وصف الشعراء في قوله: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء:224-227] فالشاعر في الجاهلية كان يقول قولاً لا رصيد له من الواقع، فقد يتغزل الشاعر، وفي الواقع أنه رجل عفيف كما هو مشهور عن جرير وكثير من شعره غزل، لكن يُحكى عنه أنه كان من أكثر الناس عفة، وأبعد الناس عن الدنس، وعكسه يروى عن الفرزدق، أن شعره من أعف الشعر لكنه كان كما قال عنه الجاحظ: كان زير غوانٍ "زير نساء" أي رجل متورط في الشهوات والملذات -عافانا الله وإياكم- لكن شعره عفيف. فالشعراء كانوا يفعلون هذا، أما اليوم فلم تصبح القضية قضية واحد أو اثنين أو عشرة، لا.
اليوم في أنحاء العالم من أقصاه إلى أدناه، أصبح هناك أجهزة كاملة متخصصة في التزوير وزخرف القول، بحيث أنها تقلب الحق باطلاً، وتقلب الباطل حقاً في نفوس الناس، حتى يلتبس الأمر على كثيرٍ من المغفلين. وحتى تعرف معنى هذا الكلام، تأمل من أين يأخذ الناس -النساء والأطفال والشباب والشيوخ- آراءهم؟
وتصوراتهم ومفاهيمهم وأفكارهم؟
إنهم يأخذونها غالباً بواسطة أجهزة الإعلام العالمية، من إذاعة وصحافة وتلفزة، وكتب وغيرها.. وغالب هذه الأشياء هي زور وتزوير، فتزين للناس زخرف القول، كما قال تعالى: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:113].
ومتى يكون الكلام حسنا؟
لقد أوصى الشارع بحفظ اللسان، واعتبر أن الكلمة مسئولية، فالإنسان يدخل الإسلام بكلمة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فإن هو قالها عصم منا دمه وماله إلا بحق الإسلام، وكذلك يخرج من الإسلام بكلمة، فربما كلمة يقولها الإنسان تكون سبباً في ردته، كما لو سب الله تعالى، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو استهزأ بالدين، أو سخر من المؤمنين لتدينهم، أو ما أشبه ذلك، وقد يدخل الإنسان الجنة بكلمة، وقد يدخل النار بكلمة، وقد يخسر الإنسان دنياه بكلمة، وقد يكسب ويربح في دنياه أيضاً بكلمة، فالكلمة ليست أمراً هيناً.
قال: يا أخي كلام طار في الهواء، إن هذا ليس كلاماً يطير في الهواء، إنما هو محفوظ، يقول الله عز وجل: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] فالإنسان عنده ملكان أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال، حاضران ينتظران ما يخرج من الإنسان لكتابته، وقد أجمع السلف رضي الله عنهم كما يقول ابن رجب الحنبلي -رحمه الله- على أن الذي عن يمين الإنسان يكتب الحسنات، والذي عن شماله يكتب السيئات (ما يلفظ من قول)، (قول) هنا نكرة في اللغة العربية، تشمل كل قول، سواء كان قولاً حسناً مثل الذكر والقرآن، أو قبيحاً مثل السب والشتم، وما أشبه ذلك، أما الكلام العادي، مثل ذهبت وجئت وأكلت وشربت ونمت وقمت وسافرت وأقمت، وما أشبه ذلك، من الكلام الذي ليس حسناً ولا قبيحاً، فهذا الكلام هل يكتب؟
اختلف العلماء والصحيح أنه يكتب، لأن الآية عامة مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] فكل ما لا يكتبه الملك الموكل بالحسنات صاحب اليمين، يكتبه الملك الموكل بالسيئات الذي هو عن شمال الإنسان، وقد ورد من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: [[إن الملكين يكتبان كل شيء، فإذا كان يوم الخميس محا الله عز وجل من كلام الإنسان ما لا إثم فيه ولا أجر له، فذلك قول الله عز وجل يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]]].
فقوله: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ [الرعد:39] معناه حسب رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه يمحو الكلام الذي ليس بحق ولا باطل، ولا خير فيه ولا ضرر منه، ويثبت ما سوى ذلك من الكلام الذي يحاسب عليه الإنسان سواء كان له أو عليه.
وكذلك ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت} إذاً أمامك طريقان: إما أن تقول خيراً أو تسكت، ولذلك أخذ بعض أهل العلم من هذا الحديث، أن كلام الإنسان إن لم يكن خيراً فهو شر، وإن لم يكن له فهو عليه، وكأنهم قالوا: ليس هناك كلام، لا لك ولا عليك، بل الكلام الذي ليس خيراً فهو شر، ولذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان إما أن يقول خيراً أو أن يسكت، ولا شك أن قول الخير واسع، والكلمة الطيبة صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، والدعاء صدقة، وتطييبك لخاطر ولدك أو أخيك أو صديقك أو جارك أو زوجك صدقة، حتى ولو لم تكن ذِكراً محضاً لله عز وجل، فإن هذا كله من الخير والبر وفضل الله تبارك وتعالى واسع، وما لم يكن للإنسان مصلحة من ورائه لا دينية ولا دنيوية، فهو على الإنسان، ويكتب عليه، ولذلك قال عليه السلام: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت }.
وجرح اللسان ليس كجرح اليد |
فقد تجرح الإنسان بالقول أشد مما تجرحه باليد أو بالسيف أو بالسنان، ولذلك روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده} هذه صفة المسلم، ومن أبرز وأخص خصائصه وصفاته، أن يسلم المسلمون من لسانه ويده، فلا يقع في أعراضهم، فيشتم هذا، ويسب هذا، ويطعن هذا، ويعتدي على هذا، ويغتاب هذا، وينم هذا، وما أشبه ذلك، فهذا ليس مسلماً حق الإسلام، وإن كان يدعي الإسلام، كما أن المسلم الحق لا يعتدي على المسلمين في أموالهم أو أجسادهم بضرب أو سرقة أو اختلاس، أو ما أشبه ذلك، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة كما في صحيح البخاري: {لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن} يعني أنه عند السرقة يضيع الإيمان فينسى الإيمان، ويغيب عنه الخوف من الله تعالى فيسرق، وليس معنى ذلك أنه كافر إذا سرق، كلا، بل هو مسلم لكنه لو كان يتذكر رقابة الله تعالى عليه لما سرق.
ولقد تعجب معاذ بن جبل رضي الله عنه من هذا، تعجب من كون الإنسان يؤاخذ بما يتكلم به ويحاسب على ذلك فقال: {يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به}؟!
يتعجب أننا نتكلم بكلام لا نقصد من ورائه شيئاً هل نحن مؤاخذون به؟!
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ثكلتك أمك يا معاذ!} وهذا دعاء لا يقصد به حقيقة معناه {وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم} والحديث رواه أحمد والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجة، والحديث يدل دلالة ظاهرة، على أن أكثر ما يدخل الناس النار هو اللسان.
وقد جاء هذا صريحاً في حديث أبي هريرة الذي رواه الترمذي، وغيره، وهو صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟
فقال: {تقوى الله وحسن الخلق} وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟
فقال: {الأجوفان: الفم والفرج} وذلك لأن اللسان يقع به الشرك بالله، كما قال الذين أشركوا حين عدلوا بالله تعالى غيره، ويقع به القول على الله تعالى بغير علم، وهو قرين الشرك في القرآن كما قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].
فالمفتي بغير علم نطق بلسانة، والمتكلم في الدين بغير علم تكلم بلسانه، والمحرم الحلال نطق بلسانة، ومحلل الحرام نطق بلسانه، وكل هؤلاء يتكلمون عن رب العالمين وعن شريعته، فهم موقعون عنه كما سماهم ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين، لكنهم يوقعون بالباطل، ولذلك يدخلون النار، ولذلك جعلها الله تعالى قرين الشرك.
فاللسان هو سبب شهادة الزور، التي هي قرينة الشرك بالله، كما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والغيبة، والنميمة، والكذب، والفحش، والسب، والبذاءة، والسحر، والقذف، كل هذه من الكبائر التي تمارس وتعمل باللسان، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم} إذاً، الكلمة ليست كلمة يطير بها الهواء.. إنما كما قال الله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
قابلت يوماً من الأيام أحد الشباب الذين كانوا منحرفين، ونرجو أن يكونوا ممن تاب الله عليهم، فذكر لي أن من الأسباب التي دعته لأن يراجع موقفه ويعيد النظر فيما كان عليه، يقول: كنت يوماً من الأيام في مصر في القاهرة، وأريد أن أسافر إلى المملكة، وكانت معي زوجتي، فذهبت إلى المطار ولي أصدقاء كثيرون في المطار يريدون أن يسهلوا لي الأمر، فقالوا لي: أبداً لا تقلق فالموضوع هين والأمر عادي، يقول: سبق لي في مرات كثيرة جداً أنني آتي وأذهب بصورة طبيعية.. يقول: رتبتُ الأمور كلها، وسار الموضوع طبيعياً، وكانت زوجتي متخوفة ألا نسافر.. فقالت: إن شاء الله نسافر، فقلت لها: سنسافر -سنسافر أي بدون إن شاء الله!! فقد قال كلمة بشعة استثقل أن أقولها لكنه قال: سنسافر- قال: فلما وصلت إلى باب الصالة الذي يدخل منه المسافرون، أخذ الضابط الموجود بالباب تذكرتي فنظر إليها ثم نظر إلي ثم مزقها وأنا أنظر، وألقى بها في القمامة، وقال: هذه لا قيمة لها ارجع، يقول: فصدمت ورجعت ورجعت زوجتي معي وهي تبكي، فذهبت إلى رجل آخر، فقال لي: الأمر هين وبعد ساعتين أو ثلاث هناك رحلة أخرى إلى جدة، ونيسر لك الأمر، يقول: وانتظرنا، فبعد قليل أتيت إلى الرجل فاعتذر مني، وقال: إن الأمر ليس لحسابنا لقد حدثت أمور فوق ما كنا نتصور ونتوقع، يقول: فذهبنا تلك الليلة ونمنا في أحد الفنادق، فيقول: من ذلك الوقت بدأت أعيد النظر، وأحسست بأن كلمتي السيئة التي عطلتُ فيها المشيئة هي السبب في تعطيلنا عن السفر، الذي اعتدنا أن نذهب بصورة طبيعية من خلاله.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك} تأمل هذه الوصايا الثلاث: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك، فأمر الإنسان أولاً بأن يمسك لسانه فلا ينطق إلا بحق، ويسعه بيته فلا يكثر من الاختلاط بالناس، وفضول الصحبة والرفقة والذهاب والإياب والزيارة، التي تكون مثل الإكثار من الطعام والشراب تضر بالإنسان، قال الشاعر:
عدوك من صديقك مستفادٌ فلا تستكثرن من الصحاب |
فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب |
{أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك}، فلا تغتر أو تدلي بعملك، وابك على ذنبك وخطيئتك، ولو قضيت حياتك ساجداً راكعاً ما بلغت حق شكر نعمة الله تعالى عليك، والحديث رواه أحمد والترمذي، والبيهقي، وأبو نعيم وهو حديث صحيح.
فالكلمة لها قيمة، ولها مسئولية، وفي حديث بلال بن الحارث المزني، الذي رواه الترمذي وغيره، وهو حديث صحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه} (ما يظن أن تبلغ ما بلغت) كلمة انـزلقت من اللسان عفوياً، ولذلك يقول علقمة أحد رواة الحديث: {كم من كلام منعنيه حديث
إذاً هذا الحديث يؤكد لنا جميعا مسئولية الكلمة، وأن كل كلمة تخرج من الإنسان إما له أو عليه، وينبغي أن ينتهي عندنا جميعاً نحن المسلمين قضية أن هناك مجرد كلام، يطير به الهواء، هذا لا قيمة ولا وجود له، فقد ذكر الله ذلك قال: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
أخي المسلم: لا تمدحن امرئٍ لصلاحه أو صلاته أو صيامه، وأنت لا تدري ما مدى حفظه لمنطقه، روى أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مات -بل في بعض الروايات- أنه قتل شهيداً، فقال بعض الصحابه: هنيئاً له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:{وما يدريك أنه في الجنة؟! لعله تكلم فيما لا يعني، أو بخل بما لا يغنيه} والحديث رواه الترمذي، ويقول الحافظ ابن رجب، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، أنه قال ذلك، مع أن الرجل قتل شهيداً فيما يحسبه الناس، ولكن منع الرسول صلى الله عليه وسلم من تزكيته، لماذا؟ قال:{ لعله تكلم فيما لا يعنيه}، إذاً من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
عثمان رضي الله عنه لما وُلِّيَ الخلافة صعد المنبر ثم حمد الله وأثنى عليه فقال: [[أنتم إلى إمام فعال، أحوج منكم إلى إمام قوال، ثم استغفر ونـزل]] لا يحتاج إلى خطب طويلة رنانة، وأقوال مكررة ومرددة وتشدق بالقول، بل كلمات معدودة ومحدودة ويسيرة وواضحة، حدد فيها رضي الله عنه ملامح الحياة التي سوف يعيشها، والأسلوب الذي سوف يسلكه مع المسلمين.
واقرءوا سيرة أبي بكر رضي الله عنه، فانظروا هل تجدون فيها كلمة واحدة يعتذر منها؟
أبداً!! منذ أسلم لا يعلم عنه رضي الله عنه إلا كل خير، ما نُقِلَ عنه أنه قال كلمة واحدة يُندم عليها أو يُعتذر منها، إلا ما يتبادر من الإنسان في حالة غضبه، وهذا أمر طبيعي، كما روى البخاري في صحيحه أن أبا بكر رضي الله عنه، غضب يوماً على ولده لأنه لم يكرم الضيوف ولم يقدم لهم العشاء، فسبه رضي الله عنه وقال: [[يا غنثر]] كلمة سب، ثم استغفر، وأكل الطعام مع ضيوفه، وتاب إلى الله عز وجل، وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يخبره بالأمر، فلا تكاد تجد له كلمة أخرى غيرها، ومع ذلك يمسك بلسان نفسه ويقول: [[هذا الذي أوردني الموارد ]].
وهذا عمر رضي الله عنه كان يوماً جالساً في رهطٍ من الناس فيهم الأحنف بن قيس فقال عمر للأحنف: [[من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل ورعه، ومن قل ورعه قل حياؤه، ومن قل حياؤه مات قلبه]] لاحظ هذه السلسلة من العيوب والذنوب، إذا كثر كلامك، كثرت الأخطاء، فلا شك أن كثرة الكلام سبب لكثرة الأخطاء، فإذا كثر الخطأ، قل الورع عند الإنسان، فأول مرة يمكن أن يندم الإنسان إذا قال كلمة ليست حسنة ويتمنى أنه لم يقلها، لكن في المرة الثانية تصبح هينة عليه، والثالثة لا يبالي بها، والرابعة ربما يتجرأ عليها؛ لأن كثرة الإمساس تقلل الإحساس، فإذا قل ورعه قل حياؤه، وأصبح لا يخاف من الخالق، ولا يستحي من المخلوق، فإذا قل حياؤه، مات قلبه، وإذا مات قلبه دخل النار!!
إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما روى عنه جماعة من الأئمة كـابن أبي الدنيا، وأبي نعيم، والطبراني، وأحمد، ووكيع، وهناد، كان يقول: "والله الذي لا إله غيره، ما شيء أحق بطول سجن من لساني" فيحتاج الإنسان إلى أن يسجن لسانه في فمه حيناً من الوقت، ولا يحتاج إلى أن يضع في فمه حجراً، كما نقل ابن الجوزي أو غيره عن بعض الصالحين، أنه كان زمانا طويلاً يدرب نفسه على الصمت، عن طريق أنه يضع في فمه حجراً، لا يخرجه إلا إذا أراد أن يأكل أو يصلي، هذا لا نحتاج إليه، إنما نحتاج إلى إنسان يكون قلبه يقظاً حياً، فيحبس لسانه في فمه، ويحاول أن يعود لسانه على الصمت، وسيأتي إن شاء الله ذكر بعض الوسائل التي تعين الإنسان على ذلك.
والإمام مالك رحمه الله إمام دار الهجرة، ذُكر عنده رجل، فقيل إنه رجل صالح، كثير الصيام، والصلاة، والعبادة، فقال: "نعم، ولكنه يتكلم كلام شهرٍ في يوم" فعابه بذلك، يعني كثير الهذر، وربما كان هذا سبباً في رد الإمام مالك لهذا الرجل، وعدم قبوله منه، والإمام مالك لم يتكلم في هذا الرجل عبثاً، أو غيبةً كلا؛ إنما تكلم لأسباب قد يكون منها أنه كان في مقام جرح أو تعديل لهذا الرجل، فتكلم بمثل هذا الكلام.
وكثير من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يثنون على الصمت، وترك الكلام فيما لا جدوى منه ولا طائل تحته.
والقصة هذه رواها ابن أبي الدنيا في كتابه المسمى الصمت وحفظ اللسان.
ولقمان الحكيم الذي ذكره الله تعالى في كتابه، وذكر بعض وصاياه، وهو حكيم مشهور في بني إسرائيل، قيل كان نبياً، وقيل: كان رجلاً صالحاً، مر به رجل، فقال: أنت لقمان؟
قال: نعم.. قال: أنت عبد بني فلان؟
كان يعرف أنه عبد عند جماعة، قال: نعم، قال له: أنت الذي كنت ترعى الغنم عند الجبل الفلاني؟
قال: نعم، قال: فما الذي صيرك إلى ما وصلت إليه؟
لأنه رأى الناس حوله يأخذون ويكتبون عنه الحكمة، فقال: بصدق الحديث، وطول السكوت عما لا يعنيني، صرت إلى ما ترى.
أترجو أمة قتلت حسيناً شفاعة جده يوم الحسابِ |
وقد جاء في حديث ورد عند الحاكم وغيره، عن أم سلمة [[أن النبي صلى الله عليه وسلم نام ثم استيقظ، وهو يبكي، فقالت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما يبكيك؟! قال: أريت مقتل ابني
فجاءوا إليه وقالوا: يا إمام.. قتل الحسين، فتأوه تأوهاً عالياً شديداً ثم قال هذه الآية: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الزمر:46] ما زاد عليها ولم يجدوا عليه ممسكاً ولم يزد على أن قال ونطق بهذه الآية: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الزمر:46] فلم يرد رحمه الله أن يدخل حكماً بين الحسين وبين خصومه، ووكَّل أمرهم إلى الله عز وجل، الذي تلتقي عنده الخصوم، كما قال الشاعر:
إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصومُ |
يقول أبو العتاهية:
قد أفلح الساكت الصموت كلامه قد يعدُّ قوتُ |
ما كل قول له جواب جواب ما يكره السكوت |
فقد يوجد قول لا يحتاج إلى رد، ورده أن تسكت وتعرض عنه، كما قال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63] وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55].
فالإنسان بعد أن يكبر تكبيرة الإحرام يُسِّر، لكن لا يكون ساكتاً صامتاً، بل يقول: {سبحانك اللهم وبحمدك.... إلى آخر الدعاء} أو يقول {اللهم باعد بيني وبين خطاياي...} كما جاء في حديث أبي هريرة المتفق عليه، وكذلك بعد قراءة الفاتحة ليس هناك صمت، وإنما المأموم يقرأ الفاتحة، ولا أرى للإمام أن يسكت سكوتاً مطلقاً؛ لأنها لم ترد عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم تثبت، لكن إن سكت فينبغي أن ينشغل بقراءة قرآن، أو نحو ذلك، أما سكوت هكذا، فلا أعلم أن في الشرع أو في الصلاة تعبداً بسكوتٍ محض، وكذلك السكوت قبل الركوع، إنما هو سكوت يسير، حتى يرتد إليه نفسه، وقل مثل ذلك في سائر العبادات، ولذلك يروي علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في سنن الترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا صمات يومٍ إلى الليل} أي لا ينبغي ولا يشرع للإنسان أن يسكت يوماً من الصباح إلى الليل، يتعبد بذلك، هذا غير مشروع، ورأى أبو بكر رضي الله عنه امرأة حاجة ساكتة، فنهاها عن ذلك، وقال: [[هذا من عمل الجاهلية، هذا لا يحل، وأمرها أن تتكلم]] إذاً الصمت بذاته ليس عبادة.
بعض الصوفية مثلاً، يتعبدون بأن يقفوا في الشمس، ويسكتوا أياماً، يقولون: نعود أنفسنا الصمت، هذه عادة من عادات أهل الجاهلية، وليست مشروعة في الإسلام، فالإسلام ليس فيه تعبد بالصمت قط، إنما إذا مدح الصمت، فإنما يمدح الصمت بالنسبة إلى الكلام السيئ، مثلاً هناك إنسان يقول لنا: أيهما أفضل أتكلم بكلام لا فائدة منه، أم أسكت؟
نقول له: اسكت فض الله فاك، هناك إنسان، يقول: أيهما أفضل أتكلم بكلام حسن، أم أسكت؟
أيهما نقول له؟
نقول له: تكلم بالكلام الحسن، وهذا هو المعروف عند السلف.
والأحنف بن قيس رحمه الله.. ذكر الناس عنده الصمت والكلام، فقال بعضهم: الصمت خير، وقال بعضهم: الكلام خيرُُ فقال الأحنف: [[كلا والله فإن الكلام الحسن خيرُُ؛ لأن الصمت لا ينفع إلا صاحبه، أما الكلام الحسن فينتفع به الناس]].
وكذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كانت عنده حلقة من مجالس العلماء، وكان العلماء يجلسون في مجلس عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رضي الله عنه فتكلموا في موضوع الصمت والكلام، فقال أحد العلماء في مجلس عمر بن عبد العزيز: [[إن الساكت بعلمٍ كالمتكلم بعلم]] فقال عمر بن عبد العزيز: [[كلا والله، إني لأرجو أن يكون المتكلم بعلمٍ، أرفع عند الله منـزلة يوم القيامة]] لأنه يتكلم فينفع الناس ويأمرهم ويعلمهم، فقال الرجل: [[يا أمير المؤمنين.. أرأيت فتنة المنطق]] يقصد كون الرجل يُفتتن بحلاوة لفظه وجمال كلامه، فيغتر بذلك، فبكى عمر رضي الله عنه عند ذلك بكاء شديداً.
ومن الطريف أن ابن رجب في جامع العلوم والحكم، تكلم في موضوع الصمت والكلام في مواضع عديدة وفي أحد المواضع قال: إني رأيت عمر بن عبد العزيز في المنام، وتناقشت معه في هذه المسألة، وإنه ذكر لي قريباً مما ذكر، أن الكلام الحسن خير من الصمت، والصمت خير من الكلام السيئ.
الخلاصة: أن الصمت لا يمدح لذاته، وليس فيه فضل لذاته، وإنما فُضِّلَ الصمت قياساً بالكلام الرديء والبذيء السيئ.
حتى نعرف الصمت الفاضل من غيره، نسأل بماذا يصمت الإنسان:
أعذني ربي من حصرٍ وعيٍ ومن نفسٍ أعالجها علاجاً |
بعض الناس فيه صعوبة في النطق، فلذلك يسكت عجزاً لا ورعاً ولا تقوى، ولذلك يقول أحيحة بن الجولاح:
والصمت أجمل بالفتى ما لم يكن عيٌ يشينه |
يقصد أن الصمت حسن وجيد، ما لم يكن سبب الصمت العي والحصر والعجز عن النطق وعن الكلام، فحينذٍ لا شك أن هذا عجز ونقص، يعاب عليه الإنسان، ولذلك دعا موسى ربه أن يفك ويحل عقدته، فقال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:27-28].
والظاهر أن الله تعالى أجاب موسى؛ لأنه قال تعالى في آخر الآيات: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36].
فأجاب الله تعالى دعاءه، وحل هذه العقدة من لسانه، ولذلك فإن قول فرعون الخبيث كما حكى الله عنه: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52].
هذا من خبثه، وكذبه، فإن موسى عليه السلام حل الله تعالى عقدته فأصبح بيناً فصيحاً يفقه قوله، ويفهم ويعلم، لكن فرعون يعرفه منذ طفولته، ويذكر أن به عقدة في لسانه، فسبه بأنه لا يكاد يبين، أي لا يكاد يفصح عما يقول، ولذلك فإن العي عيب.
ويروى أن بذر جمهر وهو أحد حكماء الفرس قيل له: أي شيء أستر للعي؟
أي إذا كان الإنسان فيه عي وصعوبة في النطق، أي شيء أستر له؟
قال: العقل؛ فالعقل يستر عيَّه؛ لأنه إذا تكلم ولو كلمات معدودة صعبة فإنها تنم عن عقل، قالوا: فإن لم يكن له عقل؟ قال: فمال يستره؛ لأن الإنسان إذا أعطى وكان كريماً جواداً نسي الناس عيوبه، قيل: فإن لم يكن له مال؟
قال: فإخوان ينطقون عنه، -فيكون له أصحاب ينطقون عنه، ويبينون مراده- قيل: فإن لم يكن له إخوان ينطقون عنه، ويبينون مراده؟
قال: فصمت يزينه، -يحلي نفسه بالصمت، لئلا يدرى ما وراءه- قالوا: فإن لم يكن له صمت؟
قال: فقبر يواريه، إذا كان عنده صعوبة في النطق، ومع ذلك لا عقل ولا مال ولا أصحاب ولا صمت، فالموت أولى به.
وكذلك نقل الجاحظ في كتاب البيان والتبيين، في مواضع كثيرة، -فـالجاحظ تسلط في الواقع على من بهم عيايه- في هذا الكتاب نقل من نوادرهم وطرائفهم وأخبارهم، الشيء الكثير والطريف، ولكنني لا أستحل ولا أستجيز نقل كثير مما قال؛ لأن الرجل في الواقع قبيح المنطق، ورديء الدين، ورقيق العرض، ولذلك ينقل ما هب ودب، وينحط فيما يروي وما يقول، فلا أرى نقل مثل هذه الطرائف والغرائب، التي في كتاب البيان والتبيين.
وأنبه الإخوة ممن يقرءون لهذا الرجل أن يتفطنوا إليه؛ لأن الرجل كان فيه اعتزال، ورمي بالزندقة، وفي كتبه خبث ظاهر، والله تبارك وتعالى يتولى السرائر، المهم أنه ذكر من الأشياء التي ذكرها ولا مانع من إيرادها، ذكر أن رجلاً دعا لرجل، فقال: أبقاك الله، وأطال الله بقاءك، وأمد الله في عمرك، فهذا من العي لأن هذه الدعوات الثلاث، معناها واحد، وقال رجل آخر لقوم: أنتم يا قوم لا صبحكم الله إلا بالخير، ولا حي وجوهكم إلا بالسلام وهذا من الكلام الذي هو حق في ذاته لكنه ليس مناسب أن يقال؛ لأن ظاهره الدعاء عليهم، وهو يريد أن يدعو لهم، لأنه إذا قال: لا صبحكم الله، خافوا أن يكون قد دعا عليهم، وإذا قال: لا حياكم الله، خشوا كذلك، وقيل لرجل من الأزد: متى ولدت؟
فقال: أكلت من عمر النبي صلى الله عليه وسلم سنتين، يقصد أنه ولد في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض الحضور: لا هنيئاً هذا الذي أكلته!
ويقال: إن رجلاً والياً بـاليمامة خطب بالناس، فقال لهم: إن الله تعالى لا يقر أصحاب المعاصي على معاصيهم، ألم تعلموا أن الله عز وجل أهلك قوماً بناقةٍ لا تساوي مائتي درهم، فضحكوا عليه؛ لأنه ماذا يدريه عن الناقة تساوي أو لا تساوي، وصاروا يلقبونه بمقوم ناقة الله، لأن هذه الناقة ليست القضية أنها تساوي مائتي درهم، أو أقل أو أكثر، القضية أنها ناقة بعثها الله عز وجل آية كما قال تعالى: لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:156]. فإذا كان السكوت بسبب العي، فإنه لا يحمد، ولا يمدح، وإن كان خيراً من المنطق؛ لأنه إذا تكلم زاد عجزه.
يعني: أن الإنسان يخاف أن يقول كلام، فينقل إلى غيره فيكون فيه حتفه، يعاقب بسجنٍ أو عقوبةٍ أو قتلٍ أو ما أشبه ذلك من العقوبات، فهؤلاء خافوا من المخلوقين، فامتنعوا من الكلام، وهذا في الإسلام ليس مطلوباً على الإطلاق، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {أفضل الشهداء -وفي رواية- سيد الشهداء فالصمت ليس محموداً دائماً، بل قد يكون محموداً وقد يكون مذموماً، فإن كان الصمت لا يفوت خيراً ولا رشداً، ولا يجلب مضرة، فإنه حسن، لأن فيه حماية ووقاية للإنسان من أن يقتل أو يصاب أو يؤذى، فلا حرج في ذلك، لكن إن كان صمته سبباً في فوات بعض الخير، أو حصول بعض الشر، فإنه لا يجوز له حينئذٍ؛ ولذلك أذكر قصة وقعت لـرجاء بن حيوة، رحمه الله وهو من فقهاء التابعين، فقد جاء رجل إلى الخليفة، وقال له: إن فلان يسبك، ويقع فيك ويشتمك، فغضب الخليفة على هذا الرجل غضباً عظيماً، ودعاه إليه في مجلسه، وأحضر السيف يريد أن يقتله، وكان رجاء بن حيوة وزيراً للخليفة جالساً عنده، فلما جاء الرجل خاطبه الخليفة، وقال: لماذا تسبني وتقول في وفي، قال: ما فعلت، قال رجاء بن حيوة: أنا أشهد أنه ما فعل، وأنا كنت معه في ذلك المجلس، والله ما قال فيك كلمةً واحدة، والذي حدثك كاذب، وهو مغرض، بينه وبين هذا عداوة، ويريد أن يوقع به، فغضب الخليفة على الجاسوس، الذي أخبره بالخبر، ودعا بإحضاره وجلده مائة جلدة، فخرج الجاسوس، وفي يوم من الأيام، مر ووجد رجاء بن حيوة في الشارع، وكانوا حاضرين في مجلس، فحصلت غيبة وكلام في السلطان فقال الجاسوس لـرجاء بن حيوة: يا رجاء.. بك يستسقى المطر من السماء، ومائة سوط في ظهري، يعني أنا أجلد مائة جلدة، وأنت تعرف أني صادق، فقال له رجاء بن حيوة: والله! مائة سوط في ظهرك، خير من أن تلقى الله بدم امرئ مسلم، يقتل فتلقى الله تعالى وأنت مسئول عن دمه، فهنا لا يجوز الصمت خوفاً من المخلوق، بل يجب على الإنسان أن يتكلم بكلمة الحق، ولا يخاف إلا الله عز وجل. يُقالُ أن الأحنف بن قيس التميمي كان في مجلس معاوية رضي الله عنه فتكلموا في أمر من الأمور، فأفاضوا كلهم في الحديث، إلا الأحنف لم يتكلم، فقالوا له: لماذا لا تتكلم؟ قال: إن تكلمتُ فقلت الحق، أخافكم، وإن قلت غير الحق، أخاف الله، فآثرت الصمت، لأنني لا أرى مصلحة في الكلام، فالكلام الباطل الكذب لا يمكن أن أقوله خوفاً من الله، والكلام الحق الذي أعتقده لا أريد أن أقوله خوفاً منكم، وليس هناك ضرر في فوات هذا الحق فسكت عنه.
الحالة الأولى: أن الإنسان أحياناً يعتقد أنه يوجد من هو أجدر وأقوى منه في الكلام، فهناك مجلس من المجالس، يستدعي الكلام، لكن قد كفيت أنت بغيرك ممن هو أقدر وأجدر وأبصر منك في الحديث، فتكل الأمر إليه وتعتبر أنه يقوم بالمهمة عنك، شريطة ألا يكون في ذلك مدعاة إلى التواكل، وكل إنسان يلقي بالمسئولية على غيره، فهنا قد تعتقد أو قد ترى أن الصمت أولى بك من الكلام.
الحالة الثانية: التي يكون الصمت فيها أولى من الكلام: أن يعتقد الإنسان أنه لا جدوى من الكلام، وأن هناك ضرر، مثلما إذا كان إنسان فيه طغيان وعدوان، وإسراع إلى الدماء وإلى الضرب والجلد والاعتداء، أو إنسان فيه سلاطة لسان، وربما لو خاطبته، لزاد من شره، فترى أن الصمت أجود، لأن الكلام لا جدوى من ورائه، ولذلك الله عز وجل يقول في القرآن: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9].
فلو علمت أن تذكيرك وكلامك وأمرك ونهيك سيكون سبباً في زيادة الشر واستفحاله، فلا شك أنه حينئذٍ لا يجوز أن تتكلم، ولا أن تأمر، ولا أن تنهى، لأن الضرر يُدْفَعْ، والمقصود من الأمر والنهي تحصيل المصلحة، فإذا كانت سوف تزداد المفسدة وتقل المصلحة في الأمر والنهي تسكت حينئذٍ، وتبقى على المصلحة القليلة الباقية، والمفسدة القليلة الموجودة، لا تزيدها فتزداد النار اشتعالاً.
أولاً: لا بد أن يتعلم هذا وهذا، كما قال أبو الدرداء فيما سبق: [[تعلموا الصمت كما تتعلمون الكلام]].
وكذلك يتدرب الإنسان، فإن الإنسان إذا لم يتدرب على أمر من الأمور فإنه لا يستطيعه، فمثلاً: إذا أراد الإنسان أن يتحدث أمام الناس بأمر بمعروف أو نهي عن منكر أو موعظة، لا شك ولا ريب.. أنه سوف يجد هيبة أول الأمر من ذلك، حتى يعتاد.
وأذكر أنني أول مرة قمت أمام الناس لأتحدث، كنتُ أتكلم من ورقة مكتوبة، وكنتُ أحس بإرتباك وخوف، حتى أنني تمنيتُ أن لم أكن ألزمتُ نفسي بهذا الأمر، لكنني ما إن وقفت، وقرأتُ أول الكلام، حتى بدأت أهدأ شيئاً فشيئاً، ثم أصبحتُ طبيعياً، وتمنيتُ أن الكلمة أو النصيحة تطول أكثر مما هي، فالإنسان أمامه حاجز وهمي من الخوف للوقوف أمام الناس، لا يزول إلا بأن يُقْدِم الإنسانُ، ويكسر هذا الحاجز، ولعلكم تلاحظون أحياناً أن المعلم يكون في الفصل يدرس الطلاب، وربما يدرسهم في الجامعة، وهم من أرقى المستويات، فيدخل عليهم بصفة طبيعية، ويتكلم كما لو كان ليس عنده أحد، لكن لو وقف أمام خمسة أو ستة من العامة، في مسجد ليتكلم ارتبك وأصابه ما قرب وما بعد!! لأنه لم يتعود على هذا الأمر، إذاً لا بد من الاعتياد، {فالخير عادة، والشر لجاجة} كما جاء في الحديث، فيعود الإنسان نفسه على الكلام الحسن، وكلما أمكن على الإنسان أن يعود نفسه على أن يكون كلامه فصلاً، بحيث لا يسترسل في الكلام بسرعة، خاصة في البداية، لئلا يقع في خطأ، لأن بعض المتدربين يخطئ أول مرة، فبعد ذلك يصبح عنده خوفٌ شديد، ولا يكرر المحاولة مرة أخرى، فحاول أول مرة أن تتكلم بكلام هادئ، وتجعل بين الكلمة والأخرى فاصلاً، وإن أعرض الناس عنك أو قاموا أو ما أشبه ذلك، لا تبالي بذلك؛ لأن المهم أن تتدرب.
الوسيلة الأولى: أن يزن الإنسان الكلام قبل أن يخرجه، فإن وجد أن الكلام له قاله، وإن وجد أن الكلام عليه تركه، وهذا يحتاج أن يتعود الإنسان إلى ألا يقول كل ما يخطر بباله، فليس كل ما خطر ببالك من شيء قلته، لا،انتظر إذا أردت أن تقول شيئاً ففكر في هذا الكلام، هل هو حسن أم قبيح، لك أم عليك؟ فإن كان حسناً قله، وإن كان خلاف ذلك دعه، وإذا شككت فيه فدعه أيضاً، لأن السلامة أولى.
الوسيلة الثانية: أن يحاسب الإنسان نفسه على ما مضى، فكلما قال الإنسان قولاً، أو تكلم في مجلس، أو نطق بكلمة، فليرجع إلى نفسه، يجعل على نفسه حسيباً ينظر، ماذا أردت بهذه الكلمة؟ هل كانت حسنة أو غير حسنة؟ ربما كان غيرها أحسن منها، حتى يعود نفسه، ويصحح ويستفيد من أخطائه، والناس يستفيدون من أخطائك، فلماذا لا تستفيد أنت من أخطاء نفسك؟
الوسيلة الثالثة: أن يتخذ له صاحباً يحصي عليه عيوبه، فاجعل لك زميلاً أو صاحباً من أصحابك الذين تثق بهم، يحصي عليك وينبهك، على ما قد يبدر منك من خطأ، أو زيادة في القول، أو تسرع أو ما أشبه ذلك، وحاول أن تقبل ما يقول؛ لأنه ربما لا يعرف الإنسان خطأه، فالإنسان يحتاج إلى مرآة.
شاور سواك إذا نابتك نائبةٌ يوماً وإن كنت من أهل المشوراتِ |
فالعين تبصر فيها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة |
أنت لا ترى نفسك إلا بمرآة، فاجعل أخاك في الله مرآة لك، يحصي عليك عيوبك، وكذلك أنت تحصي عليه عيوبه، بالأسلوب المناسب الحسن، لا يخرج إلى حد الإفراط، والزيادة التي قد تمقت وتبغض.
الوسيلة الرابعة: أن يعوِّد الإنسان نفسه على القول الطيب، وكثرة الكلام الحسن، يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله:
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت فارغاً مستريحا |
وإذا ما هممت بالقول بالباطلِ فاجعل مكانه تسبيحا |
فعود نفسك كثرة الذكر، والاستغفار، والكلام الطيب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى يصبح عادةً لك، ولذلك الإمام البخاري، رحمه الله عود نفسه على الكلام الحسن، حتى قال رضي الله عنه: [[والله ما اغتبت أحداً منذ علمتُ أن الغيبة حرام]] رضي الله عنه، حتى حين كان يتكلم في الرجال في الجرح والتعديل، كان يتورع ويتحاشى عن الألفاظ الشديدة، مثل كذَّاب، أو وضَّاع، أو متروك، أو ما أشبه ذلك وأقصى ما يستخدم البخاري، يقول: فيه نظر، ولذلك يقول أهل العلم: إذا قال البخاري عن رجل: فيه نظر، فهو متروك لا يقبل حديثه، هذه أشد ألفاظ الجرح عنده، وقد ينقل عنه خلاف ذلك، لكن غالب ما ينقل عنه يكون نقله عن غيره كما قال بعضهم: كان رحمه الله إذا أراد أن يتكلم في رجل، يقول: فيه نظر، وهذا من باب النصيحة، لأنه لا يريد أن يعود نفسه، وبعض الناس يقول: أنا أغتاب مثلاً أهل البدع، أو أغتاب الضالين أو المنحرفين، فيتوسع في ذلك حتى يكون هذا ديناً له، ويتجرأ لسانه على الوقيعة في الصالحين والطالحين، والمنحرفين والمستقيمين، ويجد لنفسه من التأويلات والحجج والأعذار، ما يخرج به من العتاب والتوبيخ.
الوسيلة الخامسة: وهي أن يراقب الإنسان ربه، ويتذكر قول الله عز وجل: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80].
فمن يعلم أن الله تعالى يعلم سره ونجواه، ويراقبه في السر والعلن، فإنه لا يتكلم إلا بحق، ولذلك قال بعض العارفين: إذا تكلمت فاذكر أن الله تعالى يسمعك، وإذا سكت فاعلم أن الله تعالى ينظر إليك ويراك، وبذلك لا يتكلم الإنسان إلا في خير.
الجواب: كثرة الكلام في غير ذكر الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب العلم، لا يُمدح، وكذلك الصمت لا يمدح، إنما الذي يمدح هو الكلام بالحق.
الجواب: في هذا الأمر إشكال، فإذا عزم على قول كلام، لكنه امتنع منه عجزاً، فحسب الأصول والله تعالى أعلم أنه قد يأثم بذلك، لأن النية والعزيمة القوية في قلبه لفعل الشر هي بذاتها إثم، أما إذا كان مجرد خاطر خطر في باله فهذا لا يضره سواء كان أخرساً أم غير ذلك.
الجواب: إذا كان يقع في محظور فالصمت ليس محموداً على الإطلاق، بل يتكلم بالكلام الحسن، وقد سبق أن بينت أن الكلام الحسن واسع ليس فقط هو الكلام الذي يكون ذكراً محضاً.
فإذا كان القصد مثلاً استصلاح هؤلاء القوم، وتأليف قلوبهم بكلامٍ حسنٍ مباحٍ، فهذا من الكلام المحمود، لكن إذا كان فيه ما يخالف فهذا لا يجوز.
الجواب: عاب الرسول صلى الله عليه وسلم نشر هذا، ونهى عن أن الرجل يفضي إلى زوجته، وتفضي إليه، ثم يفضح ويفشي ويتكلم، فقامت امرأة وقالت: والله يا رسول الله إنهن ليتكلمن -يعني النساء في مجالسهن والرجال يتكلمون- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن مثل ذلك، مثل شيطان لقي شيطانة في قارعة الطريق فوقع عليها} فهذا من الأمر الذي يعاب ويذم، ويعتبر حطاً من مروءة الإنسان، وينبغي تجنبه، وألا يتحدث الناس فيه، باعتبار أن هذه أسرار زوجية، وخاصة حين يكون هناك نشء؛ لأن هذا فيه ضرر بليغ عليهم، ولا شك أن هؤلاء أناس عندهم فراغ، ليس لديهم ما يشغلون به أوقاتهم، فيتلهون ويتسلون بهذه الأمور الوضيعة.
الجواب: نعم هذا ورد، والذي أعلم أنه صحيح من حديث حذيفة، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم خطبهم من الصباح إلى المغرب، فلم يدع فتنة منذ عهده عليه الصلاة السلام، إلى قيام الساعة، يكون فيه جمعٌ إلا أخبرهم بها صلى الله عليه وسلم ولكن هذه حالة نادرة، أما الغالب عليه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كانت كلماته فصلاً وخطبته قصيرة، وقال صلى الله عليه وسلم: {إن من فقه الرجل طول صلاته وقصر خطبته}.
الجواب: ورد مرفوعاً ولا أدري عن مدى صحته، ولا أظنه يصح، وإنما ورد عن جماعة من السلف، الصمت حكمٌ، أو الصمت حكمة، وقال الشاعر:
الصمت حكمٌ وقليل فاعله |
الجواب: هذا من نقصهم هم؛ لأن كثرة الكلام إذا لم تكن في خير وذكر فهي ليست حسنة، والرجل الصامت يلقى الحكمة، فإذا كان صمته بحكمة وتعقل ويتكلم عند الحاجة إليه، فهذا مما يدل على عقله وثقله.
الجواب: بلى أرى ذلك، والسبب أنه يَجدُّ للناس من الأشياء بقدر ما يَجِدُّ لهم من الأمور التي هي نقص في ذاتها، لكن لا بد من مقابلتها. يجدّ للناس من الأقضية، بقدر ما يجدّ لهم من الفجور، أي أنه يقع عند الناس نقائص، ولا بد من مواجهتها بأمر، هو في الأصل مفضول أي ليس هو الأفضل، لكن أصبح الآن أفضل نظراً لحاجة الناس.
الجواب: لعل من أهم الأسباب ضعف الثقة بالنفس في مثل هذه المواقف، وعدم التجربة كما أسلفت.
الجواب: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى} لكن الكلام الطيب، يكفيك اسمه أنه كلام طيب، وإن لم يؤجر الإنسان على الكلمة التي لم ينوها.
الجواب: إذا أحس الإنسان أنه بالكلام ارتفع وأصابه العُجْب، فليسكت، وإذا أحس أنه بالصمت أصابه العجب فليتكلم.
الجواب: إذا كان عبوسه هذا يضر به، فيكفيه نقصاً، أنه يحرم من الخير والأجر، وقد يترتب على هذا العبوس ضرر وتقصير في حق أخيك المسلم، ولا ينبغي لك ذلك إلا أن يكون لذلك سبب.
الجواب: هذا من شر الناس، إذا كان يقع فيهم، وإذا كان يتكلم على سبيل الوضيعة في أهل العلم فهو من شر الناس، يقول ابن عساكر: "اعلم أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة".
ما انتقص رجل أحداً من أهل العلم، إلا ابتلاه الله عز وجل بعقوبة عاجلة، وقد علمت علم اليقين، وتثبتُّ من ذلك أن رجلاً نال من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، فما مر عليه أشهر إلا وقد انحرف وضل عن سواء السبيل والعياذ بالله، وأنا أعرفه، فليتق الإنسان ربه من الكلام في أهل العلم، أما إن كان الكلام في الخلاف بين العلماء، فلان قال كذا والراجح كذا، وما أشبه ذلك، دون النيل من أهل العلم، بل مع معرفة قدرهم، فلا حرج في ذلك.
الجواب: هذا خطأ؛ لأن كثرة الكلام بغير ذكر الله من قسوة القلب، والله تعالى يبغض القلب القاسي.
الجواب: نعم إذا جلس الإمام في التشهد الأول وأطال تقرأ {اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد} حتى يقوم الإمام، فالصمت المطلق لا أعلم أنه مشروع في الصلاة.
الجواب: كلا، هنا الرجل قصد الكلمة، لكنه ما ظن أنها تبلغ ما بلغت، فهو يعرف أنه تكلم بهذا الكلام، وهو كلام سيئ والكلام السيئ لا يحتاج إلى نية، فهو سيئ وصاحبه آثم، ولو كان بغير نية، أو حتى إن كان بنية حسنة فصاحبه آثم.
أما الكلام الحسن، فإنه يفتقر إلى نية، وهذا الرجل نيته طيبة لكنه ما ظن أن الكلمة تبلغ ما بلغت، بل يظنها أقل من ذلك.
الجواب: الهجرة الشرعية الكلام فيها يطول، ولكن على كل حال إذا كان الهجر يفيد فيه فاهجره، وإذا كان الهجر يضره فإنه يحرم هجره، وإذا كان عندك شك فالأولى ألا تهجره؛ لأن الأصل أنه لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث.
الجواب: قصة هذا الرجل الإسرائيلي مثل القصة التي قلت لكم أنه وضع في فمه حصاة حتى لا يتكلم، لكن هذه ليست أموراً تؤخذ وتطبق، هذه أمور يستفاد منها فوائد عامة، مثل ما كان بعض السلف، يقول: فلان كان لا يعرف الدرهم والدينار، ليس معناه أنه لا يبيع ولا يشتري، والرسول عليه الصلاة والسلام يبيع ويشتري ويعرف الدرهم والدينار ولكن مقصودهم المبالغة في وصف الإنسان بعدم التعلق بالدنيا، فلا يأخذ الشاب إذا سمع كلمة على أنها للتطبيق، وغداً يأتي وفي فمه حصاة، ويقول: أريد ألا أتكلم، لا يصلح هذا!!
الجواب: الله تعالى حين كلف هؤلاء الملائكة بمهمة كتابة ما يقول الإنسان أو يفعل، فإنه منحهم جل وعلا القدرة على ذلك، أقول هذا بصفة عامة، والله تعالى بين أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فإذا أمروا بالكتابة على الإنسان معناه أنهم أقدر على ذلك.
الجواب: هذا يختلف بحسب المقام، والحال، والمصلحة، وخبرتك، ومعرفتك.
الجواب: لعل الرسول عليه الصلاة والسلام أنكر عليه أنه شَرَّك في الضمير في قوله: {ومن يعصهما} والرجل كان حديث عهد بالإسلام، فيخشى أن يكون في هذا نوع من (الندِّيَّه) أي أنه جعل الرسول عليه الصلاة والسلام في مقام مع الله عز وجل في قوله ومن يعصهما، وكان الأحسن أن يقول: ومن يعصِ الله ورسوله، وقيل غير ذلك.
الجواب: ينبغي أن تتعود على أن تتكلم عندما يسكتون، فتعطيهم فرصة، ولا تقاطعهم، لكن لابد أن تتعود على الكلام في الأمور المفيدة.
الجواب: نعم، يستحب لك أن تقول له ذلك، لكن بينك وبينه.
الجواب: نعم، الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، وزيادة ثلاثة أيام أيضاً، ما لم تُغشَ كبيرة.
الجواب: لا شك أن الشعر الغزلي من الكلام الذي أقل ما يقال فيه: أنه ضار بالإنسان وليس مفيداً، وكثرة سماعه تقسي القلب، وتوجد عند الإنسان ميلاً إلى هذه الأمور، لكن بعض الأبيات، يكون فيها حكمة، ولو كانت ضمن أبيات الغزل، فمثلاً: بعض العلماء حين يتكلمون في موضوعنا موضوع الصمت، يستشهدون ببيت أظنه لـكثير عزَّة أو لـجميل يقول:
أحب المكان الخلو من أجل أنني به أتغنى باسمها غير معجم |
فيقصدون به معنى آخر، وهو أن الإنسان إذا خلا تكلم بما يريد من الكلام الحق، فإذا كان بحضرة الناس كف، لئلا يؤخذ عليه قول، ومما يجب التنبيه عليه أن بعض الصوفية ينقلون شعر الغزل، ويخاطبون به رب العالمين، وهذا -لا شك- أنه من قلة أدبهم مع الله جل وعلا، فقد عابهم في ذلك أهل العلم والفقه والإسلام.
الجواب: خطرت في بالي هذه القصة، ووقفت عليها من رواية عبد الملك بن قريب الأصمعي، ولا أظن أن هذه القصة صحيحة، فإنها منكرة، وقد ذهب الأصمعي إلى أن صاحبة هذه القصة -إن صحت الرواية- عنه إلى أنها شيعية، على كل حال القصة منكرة، ولو صحت لما كان فيها قدوة وأسوة، بل عملها مذموم، لأنها تضع القرآن على غير مواضعه، فتقول: يا يحيى خذ الكتاب بقوة، وهي تعني ولدها، أو يا داود ويا زكريا وهي تعني أولادها.
الجواب: لا شك أن تقليد أصوات الحيوانات مذموم؛ لأن الله تعالى ذمه فقال: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19] كذلك أصوات السباع والحيوانات مذموم التشبه بها، فقد ورد النهي عنه في الكتاب والسنة.
الجواب: الحديث صحيح.
الجواب: نعم، يسكت الإنسان إذا قرأ الإمام.
الجواب: لا يجوز التساهل في ذلك، والتزوير مذموم كله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر