أما بعد:
فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور العامرة بالإيمان إن شاء الله جل وعلا، وأسأل الله سبحانه أن يتقبل مني ومنكم صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: إننا اليوم على موعد مع يوم كريم من أيام شهر رمضان، إنه يوم أعز الله فيه دينه، ونصر فيه عبده، وأعز فيه جنده، واستنقذ فيه بيته الحرام، وبلده الأمين من أيدي الكفار والمشركين، إنه يوم الفتح الأعظم الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، وأشرق به نور الأرض ضياءً وابتهاجاً، وتحطمت فيه الأصنام ونكست رءوسها في ذل شديد، وتهللت الكعبة فرحاً بشروق يوم التوحيد، إنه يوم الفتح الأعظم، إنه يوم فتح مكة في العاشر من رمضان في السنة الثامنة من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
تعالوا بنا -أحبتي في الله- لنعيش هذه الدقائق المعدودات مع هذا اليوم الكريم المبارك، وأنا أعلم يقيناً أن كثيراً من المسلمين لا يعلمون عن هذا اليوم إلا القليل القليل القليل، لماذا؟
لأن أعداء ديننا قد بذلوا كل ما يملكون، ليقطعوا الصلة بين المسلمين وبين تاريخهم المجيد المشرق، وذلك بتشويه حقائق التاريخ من ناحية، وبالحيلولة بين أبناء الأمة وأجيالها وبين حقائق التاريخ من ناحية أخرى، فنشأ جيل في فترة الاستغراب الطويلة الماضية، نشأ جيل لا يعرف عن إسلاميته ولا عن تاريخ فتوحاته ولا بطولاته وأمجاده شيئاً، في الوقت الذي يعرف فيه الكثير والكثير عن تاريخ الغرب، فقد تجد كثيراً من المسلمين يعرفون الكثير والكثير عن الثورة الفرنسية، أو عن الثورة البلشفية، ولا يعرفون إلا القليل عن غزوات خير البرية صلى الله عليه وسلم.
فقد ترى الشاب في هذه الأيام قد يعرف نابليون ، وقد يعرف إستالين ، وقد يعرف غيرهم وغيرهم، وهو لا يعرف شيئاً عن صلاح الدين ، ولا عن محمد بن مسلمة ، ولا عن خالد بن الوليد ، ولا عن عمرو بن العاص ، ولا عن غيرهم من هؤلاء الأطهار الأبرار الأخيار، فتعالوا بنا -أحبتي في الله- لنعيش مع هذا اليوم، وإني لأرى أنه من الواجب علينا أن نعاود من جديد دراسة تاريخنا الإسلامي، وأن نقف عند حقائقه؛ لأن التاريخ قد شُوه وحُرف وبُدل، وأن نعلم أولادنا حقيقة وعظمة تاريخنا، وعظمة وبطولات أبطالنا ورجالنا وأطهارنا؛ لينشأ الجيل على سير هؤلاء الأطهار الأبرار، بدل أن يغذى على سير أولئك الأوباش والأنجاس.
لقد كان من شروط صلح الحديبية أن من دخل في عقد قريش وعهدهم دخل، ومن أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده دخل، فدخلت قبيلة بني بكر في عهد قريش وعقدهم، ودخلت قبيلة خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، ولما طالت الهدنة بين الفريقين استغلت قبيلة بني بكر هذه الهدنة، وأرادت أن تنتقم وأن تثأر من قبيلة خزاعة لتحصل لها ثأراً قديماً بينها وبينها، فهاجمت قبيلة بني بكر قبيلة خزاعة على ماء لهم يسمى: الوتير، وأعملوا فيهم السيوف، وغدروا بهم، وقتلوا منهم عدداً كبيراً.
ولما لم تكن قبيلة خزاعة مستعدة لقتال ولا لحرب، فرت إلى البيت الحرام، ومن المعلوم عندهم أنه من دخل المسجد الحرام رفع عنه السيف، حتى ولو كان قاتلاً لأب الذي يحمل السيف وهو يريد أن يقتله، وبالرغم من ذلك لم تراعِ قريش حرمةً للبيت، ولم تراعِ قبيلة بني بكر حرمة للبيت كذلك، بل وأمدت قريش قبيلة بني بكر بالسلاح، ومنهم من قاتل في صفوف بني بكر مستخفياً بالليل.
ولما جاءت قبيلة بني بكر بقيادة رئيسهم نوفل بن معاوية الديلي ، وأرادوا أن يقتحموا المسجد الحرام على خزاعة، قال له بعض العقلاء من قبيلته: يا نوفل ! إنهم دخلوا المسجد الحرام، إلهك إلهك يا نوفل ! فقال هذا الرجل قولة خبيثة، قال: لا إله له اليوم، ثم قال لقبيلته بني بكر: فلعمري يا بني بكر إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تأخذون فيه ثأركم؟! ودخلوا عليهم الحرم وقاتلوهم فيه، وهنا انطلق عمرو بن سالم الخزاعي -رئيس قبيلة خزاعة- انطلق إلى المدينة المنورة مسرعاً، إلى محمد صلى الله عليه وسلم، حتى دخل المسجد على رسول الله فرأى النبي جالساً بين أصحابه، فوقف عمرو بن سالم الخزاعي على رأس النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
يارب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا |
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا |
قد بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعاً وسجدا |
فانصر هداك الله نصراً أبدا وادع عباد الله يأتوا مددا |
فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل البدر يسمو صعدا |
يا لها من بلاغة عجيبة! فقال له النبي: (نصرت يا
فرجع أبو سفيان يجر أذيال الخيبة والفشل، وعلم يقيناً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزم على أمر وسوف يباغتهم في مكة في أي لحظة من لحظات الليل أو النهار، وقيد الرعب أم القرى ، وعلمت مكة أنها قد أخطأت خطأً كبيراً في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما تجمع الناس واستنفر الرسول الناس جميعاً والمسلمين خارج حدود المدينة المنورة ، وتجمع في المدينة عشرة آلاف رجل موحد لله جل وعلا .. عشرة آلاف موحد بقيادة من؟! بقيادة سيد القادة وإمام الهدى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهنا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم القوم أنه سائر إلى مكة شرفها الله، وأمرهم أمراً جازماً أن يكتموا الخبر وأن ينطلقوا في سِرِّية تامة، وبالفعل -أيها الأحباب- انطلق المسلمون ينفذون أوامر النبي صلى الله عليه وسلم بمنتهى الدقة، حتى أنه قد ورد في حديث ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله، وقال: (اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها).
اسمعوا أيها الأحباب! لتعلموا أن الرجل الكبير قد يقع وقد يمر عليه وقت يصغر فيه، وقد يهلك لولا فضل الله ورحمته، حاطب بن أبي بلتعة صحابي جليل ممن شهدوا بدراً ، وقع في خطأ كبير متأولاً، كما قال الحافظ ابن حجر .. ما هو خطؤه؟
أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يكتموا الخبر، وأن يخرجوا في سرية تامة، ليدخل مكة بدون أدنى قتال، لا يريد أن يسفك دماً في بلد الله الحرام، إلا أن حاطباً رضي الله عنه وغفر الله له، قد تطوع بإرسال كتاب إلى قريش يخبرهم فيه بخروج رسول الله إليهم، إلا أن من يسمع ويرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، أخبر رسوله بكتاب حاطب، واستدعى النبي على الفور علياً والزبير والمقداد وأخبرهم بخبر كتاب حاطب بن أبي بلتعة، بل وحدد لهم النبي المرأة التي أعطاها حاطب الكتاب لتوصله إلى قريش، نظير مكافأة لها على توصيله، وحدد لهم النبي مكانها على الطريق إلى مكة شرفها الله.
والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله أنا و فاستدعى النبي حاطباً رضي الله عنه وقال: ما هذا يا حاطب ؟ قال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله! فوالله ما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإيمان، ولكني ما فعلت ذلك إلا لأنني أردت أن أقدم لي يداً في مكة يحمون بها قرابتي بعد ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقكم. فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه شهد بدراً ، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم. وفي رواية: فذرفت عينا عمر رضي الله عنه وقال: الله ورسوله أعلم
وهكذا -أيها الأحباب- غفر لـحاطب ماضيه المشرف في قتال المشركين والمنافقين، بل وأمر النبي الناس ألا يذكروا حاطباً إلا بما فيه من خير، وهنا تتجلى وتتألق عظمة ورحمة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فإنه ما كان قط عوناً للشيطان على أصحابه، بل والله ما جاء إلا عوناً لهم على الهدى والتقى والجنة.
وهكذا أخذ الله العيون والأخبار؛ فلم يصل خبر إلى قريش، وبدأ الجيش الزاحف يتحرك من المدينة بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
لقي النبي في الطريق إلى مكة عمه وابن عمه وابن عمته مسلمين لله جل وعلا، لقيه في الطريق عمه العباس بأهله وعياله مهاجراً مسلماً لله جل وعلا، ففرح النبي بعمه العباس فرحاً شديداً، ولقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم ، وهو يختلف عن أبي سفيان صخر بن حرب زعيم قريش وقائدهم في غزوة أحد والخندق؛ حتى لا يحدث لبس كما سنرى بعد ذلك .. لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم ، ولقيه ابن عمته عبد الله بن أبي أمية ، فأعرض عنهما النبي عليه الصلاة والسلام لشدة ما لقي منهما من الأذى، ومرير ولاذع الهجاء في مكة المكرمة .
فقالت أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك. إلا أن النبي قد أعرض عنهما صلى الله عليه وسلم، فذهب أبو سفيان بن الحارث إلى علي بن أبي طالب واستشاره ماذا يفعل؟
والله ما جاء إلا مسلماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه .. أتدرون ماذا قال علي الذكي العبقري؟
قال له: يا أبا سفيان ! اذهب إلى رسول الله من قبل وجهه، من بين يديه، وقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91] فإن رسول الله لا يقبل أن يكون أحد أحسن منه قولاً، وأخذ أبو سفيان النصيحة الغالية من علي رضي الله عنه، وانطلق مسرعاً إلى رسول الله بين يديه من قبل وجهه، وقال: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فنظر إليه النبي قائلاً: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) والحديث رواه ابن جرير الطبري، ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الإمام الذهبي، إلا أن الحديث حسن.
يقول العباس عم الحبيب صلى الله عليه وسلم: فسمعت -والله- صوت أبي سفيان وبديل بن ورقاء يتراجعان ويتكلمان .. وهذا أبو سفيان بن حرب سيد مكة وزعيمهم في أحد والخندق، وهو يختلف عن أبي سفيان بن الحارث الذي ذكرت آنفاً.
يقول العباس: سمعت أبا سفيان وبديل بن ورقاء يتراجعان، يقول أبو سفيان : والله ما رأيت نيراناً ولا عسكراً قط مثل هذه أبداً.
فيرد عليه صاحبه بديل بن ورقاء ويقول له: إنها قبيلة خزاعة التي اعتدينا عليها قبل ذلك، إنها خزاعة حمشتها الحرب.
فيقول أبو سفيان الذكي العبقري: لا والله إن خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. إنه رجل حرب ورجل ميدان.
يقول العباس : فعرفت صوت أبي سفيان فقلت: أبا سفيان .
فعرف أبو سفيان صوت العباس فقال: أبا الفضل .
فقال العباس : نعم.
فقال: مالك بأبي أنت وأمي.
فقال له العباس : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجيش، واصباح قريش والله!
فقال أبو سفيان : فما العمل فداك أبي وأمي؟!
قال: والله لو أدركك رسول الله ليضربن عنقك، فاركب معي لأستأمن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فركب أبو سفيان بغلة رسول الله خلف العباس ... وباختصار حتى لا أطيل أسلم أبو سفيان في اليوم التالي، ولكن العباس يعرف نفسية أبي سفيان، فقال: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم. من دخل دار
فقال العباس : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار.
فوقع الرعب في قلب أبي سفيان وقال: والله ما لهؤلاء اليوم قبل ولا طاقة.
فقال له العباس : نعم.
فقال أبو سفيان : يا عباس ، والله لقد أصبح اليوم ملك ابن أخيك عظيماً.
قال: إنها النبوة يا أبا سفيان .
فقال أبو سفيان : نعم.
فقال العباس : النجاة النجاة إلى قومك.
فانطلق أبو سفيان يسابق الريح إلى قومه، وإذا بأهل مكة يرون الجيش الزاحف يقترب رويداً رويداً، وتجمع الفرسان من الشباب والأبطال ينتظرون الأوامر من قادتهم وسادتهم، وإذ بهم يرون قائد القتال وسيد الميدان أبا سفيان يرجع بوجه آخر، فيصرخ فيهم أبو سفيان -وقد نجحت خطة النبي صلى الله عليه وسلم النفسية نجاحاً باهراً- فقال: يا معشر قريش! والله لقد جاءكم محمد بما لا قبل لكم به ولا طاقة، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فوثبت إليه زوجته هند بنت عتبة آكلة اللحم والكبد، وأمسكت بشارب زوجها وصرخت في قومها وقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمش الساقين، قبحت يا أبا سفيان من طليعة قوم اليوم. فنظر إليها ولم يلتفت إلى سبابها، فإن الساعة ليست ساعة مراجعة، وقال: لا تغرنكم هذه من أنفسكم، والله لقد جاءكم محمد بما لا قبل لكم به ولا طاقة، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
قالوا: قاتلك الله يا أبا سفيان! وما تغني عنا دارك يا رجل؟ قال -وتذكر ما أخبر به النبي-: ومن دخل بيته وأغلق عليه داره فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، وفي رواية مسلم : ومن ألقى السلاح فهو آمن.
أي كرامة هذه التي يتوج بها الحبيب في هذا الصباح الميمون؟!
أي نعمة هذه التي يمتن الله بها على الحبيب في هذا الصباح الكريم المبارك؟
ويدخل الحبيب المسجد وفي يده قوس، يدخل في وسط كوكبة من المهاجرين والأنصار، يحيطون به كما تحيط الكواكب بالقمر في ليلة البدر، ويدخل الحبيب وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، وبيد النبي قوس يطعن به هذه الأصنام؛ فتخر الأصنام على وجوهها بين يديه، وهو يتلو قول الله جل وعلا: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [الإسراء:81] والحديث رواه البخاري وغيره.
واستدعى النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة ، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتح النبي ودخل الكعبة من داخلها، فوجد صوراً، ووجد من بين هذه الصور صورة لإبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام، فقال: (قاتلهم الله! والله ما استقسما بالأزلام قط) والحديث رواه البخاري ومسلم .. فأمر النبي فمحيت الصور، وكسر النبي الأصنام بيده داخل الكعبة، وأغلق عليه باب الكعبة، وعلى أسامة وبلال ، وصلى لله بداخل البيت.
فخرج إليهم النبي عليه الصلاة والسلام، ونظر إليهم وقد وجمت الأبصار وشخصت، وصمتت الأنفاس، ونظروا إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم، فقال الحبيب: (لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، يا معشر قريش! إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبِّية الجاهلية وتعاظمها بآبائها، كلكم لآدم وآدم من تراب يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13] ثم قال: يا معشر قريش! ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال الحبيب: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء).
والحديث أخرجه ابن إسحاق وأبو داود وابن ماجة والنسائي والدارقطني ، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، ولكن حديثه حسن بالشواهد، ويشهد للحديث حديث أبي هريرة في مسند الإمام أحمد ، فالحديث حسن بشواهده إن شاء الله تعالى.
هذه هي رحمة الحبيب صلى الله عليه وسلم اليوم، كما قال سعد بن عبادة حينما مر عليه أبو سفيان ، قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل فيه الحرمة، اليوم أذل الله فيه قريشاً. فلما بلغ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا. اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً).
صلى الله وسلم وبارك على إمام الهدى ونهر الرحمة وينبوع الحنان، وأسأل الله جل وعلا أن يجزيه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
أما بعد:
فيا أيها الأحبة: وهكذا أعز الله دينه، ونصر عبده، واستنقذ بيته الحرام وبلده الأمين من أيدي الكفار والمشركين.
وفي اليوم التالي وقف صلى الله عليه وسلم خطيباً في قريش، فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله، ثم قال: (يا معشر الناس! إن مكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله لها إلى يوم القيامة، ولا يحل لامرئ أن يسفك فيها دماً، فإن ترخص أحد بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما حلت لي ساعة من نهار، وإن حرمتها تعود اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب) والحديث رواه البخاري ومسلم .
ودعا النبي بعد ذلك على الصفا فوقف بعض الأنصار الأطهار الأبرار الأخيار وحزنوا، ودب الرعب والخوف في قلوبهم في يوم الفرح، لماذا؟ لقد خاف الأنصار أن يبقى النبي في مكة ولا يرجع معهم مرة أخرى إلى المدينة ، ولما أنهى النبي الدعاء ورآهم يتهامسون، نزل وقال: ماذا تقولون؟
قالوا: لا شيء يا رسول الله!
قال: ماذا تقولون؟
قالوا: لا شيء يا رسول الله!
فما زال النبي بهم حتى أخبروه.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (معاذ الله! بل المحيا محياكم، والممات مماتكم أيها الأنصار) والحديث رواه مسلم وغيره.
ويقطع هذه المشاعر المتداخلة صوت ندي رخيم عذب جميل، إنه صوت الحق، صوت بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه، وهو يرفع صوته بكلمة التوحيد، وبالتكبير لله جل وعلا .. الله أكبر الله أكبر! الله أكبر الله أكبر! أشهد أن لا إله إلا الله .. نعم. فلقد سقطت اليوم كل الآلهة المزعومة المكذوبة، ذهبت وكانت بالأمس القريب تعبد من دون الله، تحطمت اليوم على يد نبي التوحيد صلى الله عليه وسلم، نسأل الله أن يحطم الطواغيت والأصنام على أيدي أبناء الموحدين، إنه ولي ذلك ومولاه.
ولكن تحطمت الأصنام ونكست رءوس هذه الآلهة المكذوبة على يد من؟ من الإمام؟ من القائد؟ من الطليعة الخيرة؟ من الهادي إلى الحق؟ يجيب بلال : أشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله وسلم وبارك عليه، ونسأل الله جل وعلا أن يجزيه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، وأن يجزي عنا أصحابه الأخيار الأطهار الأبرار الذين أوصلوا إلينا الإسلام على جماجمهم، وعلى أرواحهم وعلى دمائهم وأشلائهم، فنسأل الله أن يقيض للأمة اليوم من يعيد للإسلام مجده، ومن يعيد للإسلام عزه، ومن يعيد للإسلام رايته خفاقة عالية، كما تركها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خفاقة عالية.
وأكتفي بهذا القدر من أحداث فتح مكة ، وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم أهلاً لنصرة الإسلام وعز المسلمين، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأعلِ بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم اجعل جمعنا هذا في هذا اليوم الكريم المبارك جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا شقياً ولا محروماً، اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الطيب ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً على أحد منا إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا طائعاً إلا ثبتَّه، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضىً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين، اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، اللهم تقبل منا الصيام والقيام وصالح الأعمال، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر