إسلام ويب

معالم في تفسير سورة قللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • سورة ق سورة عظيمة تضمنت الحديث عن أمور جسيمة، كالحديث عن إثبات اليوم الآخر، ودفع شبهات منكريه، كما تحدثت عن هذا الإنسان الذي قد يعرض عن خالقه، ودعته إلى إعمال جوارحه في جلب الهداية لنفسه.

    1.   

    اشتمال سورة ق على قضايا متنوعة

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي داوم عليها وما ملها ولا ملها الناس، يكررها عليهم في كل جمعة هي سورة ق، يصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقرأ عليهم هذه السورة العظيمة ثم ينزل، حفظها الناس من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، حتى حفظتها النساء والعجائز.

    في صحيح مسلم تقول أم هشام بنت حارثة رضي الله عنها وأرضاها: (وما أخذت سورة (ق) إلا من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس)، هذه خطبته، وهو عليه الصلاة والسلام أفصح الناس، وأقدر الناس على البيان، وأفصح من نطق بالضاد، ترك فصاحته وبيانه لفصاحة القرآن وبيانه، ترك منطقه لكلام الله.

    سورة ق وما فيها من القضايا الكبيرة التي يقررها الله جل شأنه كانت تستحق أن تكون خطبة يداوم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته حتى يحفظها من لسانه الصغار والكبار.

    كنت أود أن أقف مع قضية من القضايا في اليوم الآخر، ووجدت نفسي داخل آية واحدة من سورة ق، فقلت: لماذا الاجتزاء؟ ولماذا الاقتطاع؟ ولماذا لا نتحدث عن هذه السورة من أولها، ونقف مع مضامينها وعناوينها، فسورة ق فيها من القضايا الشيء الكثير، تضمنت إثبات وجود الله تعالى ووحدانيته، وإثبات المعاد والحساب والجزاء، وإثبات النبوة، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب، وغير ذلك من قضايا الإيمان، ونحن نقف في هذه اللحظات مع مطلع السورة، أو مع الفقرة الأولى من السورة في الحديث عن الإيمان باليوم الآخر.

    1.   

    الرد على منكري البعث

    إن صلب القضية التي من أجلها نزلت هذه السورة هي الرد على المنكرين للبعث، الرد على المنكرين للجزاء والحساب، والقرآن أبدى وأعاد في هذه القضية: إقامة البراهين والدلائل على البعث بعد الموت، وعلى الحساب والجزاء بعد هذه الدار؛ لأن كل طوائف الناس بما في ذلك من كان لديهم بقية من علم الكتاب، كل طوائف الناس غشيهم ما غشيهم من الانحراف في الإيمان باليوم الآخر، وإذا ضعف الإيمان باليوم الآخر أو فسد الإيمان باليوم الآخر فسدت أعمال الناس تبعاً لذلك، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً يحث على الأعمال الصالحة بعد ذكر الإيمان باليوم الآخر، كقوله: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت ) ( ولا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاث ليالٍ إلا مع ذي محرم )، إلى غير ذلك من النصوص.

    الإيمان باليوم الآخر هو الباعث على إحسان العمل، الباعث على اتقاء الله تعالى والوقوف عند حدوده، فجاءت سورة ق ترد على تلك الشبهة العظيمة التي استقرت في نفوس المشركين، كما قال الله عز وجل: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:1-3].

    هذه قضيتهم الأولى، إذا متنا وتفرقت أوصالنا، وتفتت أجسادنا، واختلط بعضنا في بعض مع تراب الأرض أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:3].

    تحديثنا بعد ذلك عن الرجوع، وإخبارنا بعد ذلك عن الحساب والجزاء، نوع وضرب من الخيال، ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:3]، كيف نعاد وقد تفرقنا في الأرض، واختلط الآخر بالأول، وتعاقبت الأجيال على الدفن في هذه الأرض فأصبحوا كلهم تراباً؟ كيف يعاد جسد الواحد الذي مات قبل آلاف السنين من نفس التربة التي مات فيها آخر من يموت قبل قيام الساعة، قالوا: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:3].

    إحاطة علم الله بالمخلوقات

    وهنا بدأ القرآن يفند هذه الشبهة ويرد عليها ويقيم الأدلة على خلافها، دليلاً دليلاً، وشبهة شبهة، بدأ أولاً برد الشبهة الأولى، وهي: كيف يعلم هذا الخالق -الذي تدّعون- أجزاء هذا الإنسان؛ ليعيد كل جسد كما كان، بعد أن اختلطت هذه الأجساد بعضها في بعض، وبعد أن اختلطت هذه الأجساد بتربة الأرض، كيف يعود زيد، وكيف يرجع عبيد؟ وكيف يرجع الأول ثم يعاد الآخر؟

    القضية الأولى هي رد هذه الشبهة؟ وردها الأول بإحاطة الله عز وجل بكل شيءٍ علماً، الله عز وجل لا تخفى عليه خافية، ولا تعزب عنه غائبة، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ[غافر:19]، لا يخفى عليه شيء، ولا يغيب عن علمه شيء؛ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا[الطلاق:12]، وإذا كان قد أحاط بكل شيءٍ علماً، فلا تستغرب بعد ذلك أن يميز جسد هذا من جسد هذا، هذه القضية الأولى: الاحتجاج بعلم الله، وأن الذي يعيد الناس بعد موتهم هو الذي أحاط بكل شيءٍ علماً، قال لهم سبحانه وتعالى في آخر سورة الحجر: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [الحجر:85-86].

    الله هو الخلاق، وهو سبحانه وتعالى مع أنه الخلاق فهو العليم، وقال لهم في سورة ق بعد أن قالوا: ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:3] قال لهم: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4]، هذه الأجزاء المتحللة المتفتتة نحن نعلمها، ولدينا كتاب مكتوب فيه كل شيء، وفي آخر سورة يس قال الله عز وجل عن هذا الإنسان: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:77-79]، فهو عليم سبحانه، وإذا كان عليماً، فلا تستغرب بعد ذلك إحاطته سبحانه وتعالى بكل الجزئيات، فهو يعلم سبحانه أين ذهب جسد هذا، وأين ذهب جسد هذا؟ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4].

    الاستدلال بالمخلوق الأعظم على إمكان المخلوق الأصغر

    ثم جاءت القضية الثانية: وهي كيف يعاد الإنسان إلى الحياة بعد أن مات، وقد خرجت منه الروح، فارقته هذه الروح فكيف تعاد إليه الحياة ثانية؟! وكيف ترجع إليه الحرارة ثانية بعد هذه البرودة؟! ويرجع إليه النشاط والحركة بعد ذلك السكون، فيستدل عليهم سبحانه وتعالى بآيات القدرة الباهرة، فالذي خلق ما هو أعظم من الإنسان قادر على أن يخلق هذا الإنسان، الذي خلق السماء وما فيها من إحكام وبديع الصنع، والذي مد الأرض وقسم فيها الأقوات والأرزاق، وهي أكبر جرماً، وأعظم خلقاً، وأكبر حجماً من هذا الإنسان، الذي خلق كل هذه المخلوقات العجيبة الكبيرة العظيمة، قادر على أن يعيد هذا الإنسان ويخلقه، وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق:4-7]، الله الذي خلق السماء على ما فيها من إحكام وإتقان، انظر إليها، وتأمل فيها، هل تجد فيها خللاً؟ هل ترى فيها عيباً؟ هل ترى فيها فتوقاً أو شقوقاً؟ هذا السقف الواسع، السقف العظيم من الذي رفعه بغير عمد؟ وكيف قدر على أن يحافظ عليه دون شقوق ولا انفطار، دون عيبٍ ولا خلل؟ الذي خلق هذه السماء قادر على أن يخلق هذا الإنسان الضعيف، وهذا السؤال يضعه عليهم سبحانه في القرآن في غير موضع: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس:81].

    يستدل سبحانه بالمخلوق الأعظم على إمكان المخلوق الأصغر، الذي قدر على أن يخلق المخلوق الأعلى قادر على أن يخلق الأدنى.

    الاستدلال بإحياء الأرض بعد موتها على البعث

    ثم يبرز لهم سبحانه وتعالى دليلاً آخر، وهو إحياء الأموات بعد الموت، أنت ترى آيات تمر عليك الليل والنهار، ترى أمواتاً يحيون، وأنت على هذه الدنيا، ترى أرضاً ميتةً خاشعة ينزل عليها الماء فتدب فيها الحياة، ويخرج منها الأحياء، وتهتز عليها الأشجار والزروع، من الذي أحياها بعدما أماتها؟ يقول لهم سبحانه وتعالى، وهو يتحدث معهم عن هذا الدليل، عن بسط الأرض: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:9-11].

    كما أننا أخرجنا هذه الأحياء من الأرض بعد موتها، (كذلك الخروج)، كذلك تخرجون أنتم، وهذه الهيئة هي هيئة خلق الإنسان للمرة الثانية، مثلها تماماً ينزل الله عز وجل ماءً من السماء يشبه مني الرجال، فتنبت أجساد الآدميين من الأرض من عجب الذنب، من العصعص الصغير، كما تنبت الشجرة الصغيرة في الأرض بعد موتها، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39].

    ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج:6].

    كما أنه سبحانه وتعالى يحيي الأرض بعد موتها، كذلك يحيي الموتى من بني آدم بعد موتهم كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق:11]، وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف:57]، كما أخرجنا الثمرات وأخرجنا الأشجار كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف:57].

    خلق الإنسان الأول وإيجاده من العدم

    ثم ينتقل سبحانه وتعالى إلى دليل ثالث في نفس السورة: وهو خلق الإنسان الأول، من الذي خلق الإنسان الأول؟ من الذي أوجده من العدم؟ من الذي خلق الإنسان بهذه الهيئة الكاملة؟ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، هذا الإنسان الأول من الذي أبدأه من عدم؟ من الذي أوجده على غير مثالٍ سابق؟ من غير دليل أو غير صنعة سابقة، من الذي أحدثه؟ إن الذي أوجده قادر على أن يعيده ثانية، وإعادة التركيب أسهل من بدء الاختراع، قال سبحانه وتعالى في هذه السورة وهو يتحدث عن الخلق الأول: كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ [ق:11-15]، هل عجزنا عن الخلق الأول؟ ما دمنا قدرنا على الخلق الأول، وأنشأنا هذا الإنسان بهذه الهيئة، ولم يعجزنا ذلك، ألسنا نقدر بعد ذلك على أن نعيد صنعه ثانية؟ فالصنع الثاني أسهل من الصنع الأول، أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:15]، اشتبهت عليهم الأمور، واختلطت عليهم العقائد، ولم يفرقوا بين الأسهل والأصعب، وقال لهم في موضع آخر: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27] الإعادة أهون من الخلق الأول، إعادة التركيب أهون من البداية، أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:15].

    1.   

    أهمية التفكر في مخلوقات الله

    ثم ينقلهم سبحانه وتعالى بعد ذلك إلى التفكر في هذا الإنسان، وفي المخلوقات من حول هذا الإنسان، ندبهم في هذه الآيات إلى التفكر في الأرض، وما فيها من أحياء، وما فيها من مخلوقات، وفتح باب الفكرة للقلب، فتح نافذة التفكر على قلب ابن آدم، بوابة السعادة، عنوان الفلاح، إذا رزق الإنسان التفكر في مخلوقات الله، التفكر فيما حوله؛ رزق العقائد الصحيحة، والأعمال الحسنة، رزق التصورات المستقيمة، والأخلاق الفاضلة فقد رزق خيراً كثيراً.

    فاسمح لنظرك أن ينظر حولك عن اليمين وعن الشمال، تفكر في المخلوقات العليا، والمخلوقات السفلى، انظر إلى من فوقك وإلى من دونك، تفكر في الكائنات من حولك لترى قدرة الله عز وجل النافذة، لترى علمه المحيط، لترى إحاطته سبحانه وتعالى بكل شيء وقدرته على كل شيء، ومما يستطرف أن أبا نواس شاعر الرذيلة الذي دعا إلى الخمر، والذي دعا إلى الرذيلة رآه بعض الصالحين كما حكى الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمته من سير أعلام النبلاء، حكى في ترجمته أن بعض الصالحين رآه في المنام، فقال له: ما فعل الله بك يا أبا نواس ! وأنت الذي كنت تقول:

    دع المساجد للعباد تسكنها وسر بنا نحو خمار ليسقينا

    ما قال ربك ويل للألى سكروا بل قال ربك ويل للمصلينا

    هذا الذي كان يدعو إلى الرذيلة، إلى الخمر، إلى الفاحشة، يراه الصالحون في منامهم بعد الموت، فيسألونه هذا السؤال: ماذا فعل الله بك يا أبا نواس ؟! قال: غفر لي بأبيات قلتها في زهرة النرجس، أبيات أنشدتها من ضمن أبيات كثيرة في الفحش، لكنها أبيات في التفكر في مخلوقات الله، التفكر في عظمة الخالق سبحانه وتعالى، أبيات قلتها في زهرة النرجس، قال: ما هي؟ قال:

    تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك

    عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك

    يشبه الزهرة على الأرض بعين الإنسان.

    عيون من لجين يعني: من الفضة

    عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك

    على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك

    التفكر في مخلوقات الله باب عظيم لتقوية الإيمان وتثبيته، ولذلك كان سفيان بن عيينة إمام المحدثين في مكة يقول، ويردد دائماً هذا البيت:

    إذا المرء كانت له فكره ففي كل شيء له عبره

    إذا كان الإنسان له عبرة وتفكر فيما حوله، فإنه يجد العبرة في كل المخلوقات من حوله.

    سئل الإمام أحمد رحمه الله عن إقامة برهان ودليل على وجود الله عز وجل وخلقه وقدرته، فأخذ بيضة بجانبه، ولم يتكلف لإيجاد دليل، وقال: هذا الحصن الأبيض المغلق من جميع جهاته، لا يدخله الهواء ولا الغذاء، بينما هو مصمت مغلق على هذه الهيئة، ينشق فيخرج منه مخلوق حسن جميل، يتشقق هذا الجدار فيخرج من هذا الجدار المصمت الطائر المليح في منظره، البديع في خلقته، ترى من خلقه داخل هذا القفص؟ من أمده بالغذاء والهواء وأسباب الإمداد؟ من الذي كان يحافظ على حياته داخل هذا القفص المغلق؟

    وسئل الشافعي رحمه الله عن إيجاد دليل على وجود الله وقدرته، فقال لهم: هذا النبات الذي تأكله دودة القز، وتأكله الشاة، المدخول واحد، والمخرج متعدد، تأكله دودة القز فيخرج حريراً ناعماً، وتأكله الشاة فيخرج بعراً قذراً، دخل شيء واحد، وخرجت أشياء متعددة، وهكذا إذا تأمل الإنسان فيما حوله، وجد الأدلة الكثيرة المتظافرة على قدرة الله سبحانه وتعالى، وعلى تمام علمه وإحاطته، ومنه هذا الإنسان، وهذا ما لفت إليه القرآن في هذه السورة، بعد إقامة هذه الأدلة، وهو ما ستسمعونه في الخطبة التالية.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    التفكر في النفس

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! بعد أن أقام سبحانه وتعالى الأدلة السابقة، وهي الاستدلال بالمخلوقات الكبرى على المخلوقات الصغرى، والاستدلال بإحياء الأموات بعد موتهم، على إحياء هذا الإنسان بعد موته، والاستدلال بالخلق الأول على الخلق الثاني، لفت الله عز وجل الأنظار إلى التفكر في المخلوقات، ومن أجل هذه المخلوقات وأقربها إليك نفسك، تفكر في نفسك، قال سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ [ق:16]، فلماذا لا ينظر الإنسان إلى الإنسان؟ لماذا لا ينظر الإنسان إلى نفسه؟

    الله عز وجل يأمرنا بالتفكر في أنفسنا، قال: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].. لقد خلقنا الإنسان، وخلق الإنسان متضمن للأعاجيب، هذا العقل المفكر، هذا القلب المدبر، هذه الإرادات التي تصنع ما نرى من المصنوعات، هذه العقول التي تسوس وتفكر وتدبر، من أين أوجدت؟ من أين خرجت؟ من أين خلقها الله؟ هذا الإنسان المستقيم، هذا الإنسان الجميل الظريف النظيف المليح، هذا الإنسان من أين جاء؟ من أين خرج؟

    إنه من تلك النطفة القذرة التي إذا رآها الإنسان على ثوبه سارع إلى إزالتها وغسلها، تلك النطفة التي لا نقيم لها وزناً، ولا نحسب لها شأناً، أخرج الله منها هذا الإنسان بما فيه من الكمالات، بما فيه من العقل، بما فيه من التفكير والتدبير، بما فيه من العلوم، بما فيه من الإرادات، هذا الإنسان على ما يكتسبه من الرفعة خلقه الله عز وجل من تلك القذارة، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، هذا الإنسان الذي خلقناه، فإذا استوى تكبر وتجبر، لا يعزب عنا شيء من أحواله، ولا يغيب عنا شيء من أعماله، نحفظ كل ما يقول وكل ما يعمل، ولا نكله إلى علمنا، بل وكلنا به من يسجل له الأعمال، فـنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ[ق:16]، هذا الوريد الذي تجري فيه دماؤه نحن أقرب إليه منه بملائكتنا، بكتبتنا يكتبون، ويسجلون كل ما يفعل، ونحن أقرب إليه من الوريد بعلمنا وإحاطتنا، هذا الإنسان إذا لم ينتبه إلى هذه الحقيقة، فإن حليفه الخسران.

    إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17-18]، وهنا تنتهي حياة هذا الإنسان، أقيمت له الدلائل والشواهد، وأقيمت له البينات التي تعرفه بربه، وتعرفه بمصيره، وأنه مجزي بعمله، وأن هذا العمل محسوب عليه، مدخر له، مكتوب كل صغير وكبير منه، انتهت الرحلة الأولى لينتقل بعد ذلك الإنسان إلى ما بعد هذه الحياة، القيامة الصغرى بالموت، والقيامة الكبرى بالبعث والنشور، وما فيهما من آيات من خلال سورة ق، يأتينا الحديث عنه إن شاء الله في الخطبة القادمة.

    أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يفتح قلوبنا لدينه، وأن ينفعنا بكتابه، وأن يحشرنا في زمرة رسوله، اللهم يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، وأولها وآخرها، وسرها وعلانيتها.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756541446