إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب موانع الشهادة وعدد الشهود [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من نعم الله تعالى ولطفه بعباده أنه عند تعذر إقامة الشهود الأصليين، أجاز شهادة من سمع الشهود أن يشهد بها. ويشترط في الشهادة على الشهادة ما يشترط في الشهادة الأصلية، كالبلوغ والعقل والعدالة، ولا تكون الشهادة على الشهادة إلا بإذن الأصل أو إقراره عند القاضي، أو عزوه الشهادة لسبب من الأسباب. أما مسألة الرجوع في الشهادة فإنه يترتب عليها أحكام مهمة، سواءً كانت قبل الحكم أو بعده.

    1.   

    حكم الشهادة على الشهادة وما يشترط لها ومسائلها

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ولا تقبل الشهادة على الشهادة إلا في حق يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي].

    بعد أن بين المصنف رحمه الله أصول باب الشهادة، والأمور المعتبرة في قبول الشهادة وردها؛ شرع في بيان حكم الشهادة على الشهادة، والشهادة على الشهادة مركب يكون بعد بيان المفرد، والمراد بالشهادة على الشهادة: أن يكون هناك شاهدان على حق من الحقوق، فتعذر إقامة الشاهدين في القضاء، أو مات الشاهدان، وهناك شهود شهدوا على شهادتهما، وهذا من نعم الله عز وجل ولطفه بعباده.

    وقد نص الأئمة رحمهم الله واتفقت المذاهب الأربعة على قبول الشهادة على الشهادة من حيث الجملة، والدليل على قبولها عموم الأدلة التي دلت على قبول الشهادة، فإن الله تعالى لم يفرق بين كونها شهادة أصل أو شهادة فرع، فإن الله أمرنا بقبول شهادة العدل والعمل بها، فإذا جاء شهود على شهود وهم عدول، أي: شهود الأصول عدول، فإننا نقبل الشهادة كالشهادة الأصلية؛ لأن الفرع آخذ حكم أصله، فالشهادة على الشهادة مركبة على أصل، فإذا كان الأصل مقبولاً فالشهادة على الشهادة مقبولة؛ لأن حفظ الحقوق مقصود شرعاً، وهو يتأتى بالشهادة على الشهادة.

    وقد بيّن رحمه الله: أن الشهادة على الشهادة تكون فيما يكون فيه كتاب القاضي، وقد تقدم بيانه، فلا تقبل الشهادة على الشهادة في قصاص، ولا في إثبات حد من الحدود، وذلك لما ذكرناه، ومن أهل العلم من قال بعمومها، ولكن لوجود الشبهة وخوف الخطأ والخلل استثنى الحنابلة رحمهم الله الدماء وما لا يقبل فيه كتاب القاضي.

    ويشترط في الشهادة على الشهادة ما يشترط في الشهادة الأصلية، ولكن لا بد أن يكون الشاهد بالغاً عاقلاً عدلاً غير متهم في شهادته، ضابطاً للشهادة، فإذا استوفى الشروط المعتبرة، فيرد السؤال: هل تقبل فيها شهادة النساء، أو لا تقبل؟

    أولاً: الشهادة على الشهادة، الأصول تقتضي قبول شهادة الرجال والنساء عموماً، وهذا مذهب طائفة من العلماء، والحنابلة عندهم لا تقبل شهادة النساء في الشهادة على الشهادة.

    والصحيح: أنه تقبل شهادة امرأتين وتنزل منزلة شهادة الرجل الواحد، وتتعدد بتعدد شهادة الأصول في الرجال.

    متى تقبل الشهادة على الشهادة

    قال رحمه الله: [ولا يحكم بها إلا أن تتعذر شهادة الأصل بموته]

    إذاً: لو أن رجلاً كبيراً في السن عنده شهادة فجاء وقال: إن هذه الأرض ملك لوقف فلان، وهناك كبير سن آخر يشهد بنفس الشهادة، فيأتي شاهدان ويشهدان على شهادة الشاهد الأول الذي اسمه عبد الله في ثبوت الحق، ويسترعيهم الشهادة، وأيضاً يأتي شاهدان آخران لشهادة عبد الرحمن كبير السن الآخر، فإذا حصلت الشهادة فمعنى ذلك: أن أربعة شهود سيشهدون في مقابل شهادة الاثنين، وسينقلون شهادة الاثنين، وكلٌ منهما شاهدٌ على صاحبه، كل اثنين سيشهدان على ما شهد عليه، وحينئذٍ تقبل الشهادة إذا تعذر، إما لموت الأصل أو غيره من الأسباب، مثل أن أكون أنا وأخي سمعنا والدنا يقول كذا وكذا، ثم توفي الوالد، فأنا وأخي ملزمان شرعاً بأداء هذا الحق الذي طُلب منا، فهذا فيه حفظ للحقوق وصيانة لها.

    فبين رحمه الله أنه عند التعذر من موت أو مرض كأن يشهد ثم مرض، وتعذر عليه أن يأتي إلى مجلس القضاء، وعلى هذا فتقبل الشهادة عند وجود العذر، أما إذا لم يوجد العذر فللعلماء وجهان:

    الوجه الأول: لو كان الأصل موجوداً في المدينة أو موجوداً في مدينة أخرى، ويمكن أن يسافر ويأتي، فمن أهل العلم من قال: إنه إذا كان على مسافة القصر فإنه يسقط عنه الحضور.

    الوجه الثاني: إذا كان في داخل المدينة فإنه لا تقبل الشهادة على الشهادة؛ لأن القدرة على اليقين تمنع من الشك؛ ولأن نقل الشهادة على الشهادة مزلة الخطأ والخلل، فينبغي إشهاد الأصل، وهذا القول فيه احتياط، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله، والأصول تقتضي القبول.

    قال رحمه الله: [ أو غيبة مسافة قصر ].

    كما ذكرنا، كأن يكون في مدينة والقاضي في مدينة أخرى.

    متى يشهد الفرع بدلاً عن الأصل

    قال رحمه الله: [ ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلا أن يسترعيه شاهد الأصل ].

    كأن يقول له: اشهد على شهادتي أن فلاناً له على فلان كذا وكذا، واشهد على شهادتي أن فلاناً أوقف داره أو أوقف أرضه، أو أن فلاناً وهب، أو أن فلاناً شارك فلاناً، أو أن فلاناً أعطى فلاناً قرضاً، فقوله: اشهد على شهادتي هذا استرعاء.

    قال رحمه الله: [ فيقول: اشهد على شهادتي بكذا، أو يسمعه يقر بها عند الحاكم ].

    إذا شهد بها عند الحاكم فهي شهادة شرعية وحينئذٍ ينقل هذه الشهادة.

    قال رحمه الله: [ أو يعزوها إلى سبب من قرض أو بيع أو نحوه ].

    كأن يقول: إن لفلان على فلان مائة من أصل بيع، سواء كان من قيمة أرض أو من قيمة سيارة، فيسندها إلى أصل، أما لو قال: إن له في ذمته كذا ولم يبين السبب، فلا تقبل.

    1.   

    مسألة الرجوع عن الشهادة وصورها

    قال رحمه الله: [وإذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض].

    هذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة الرجوع عن الشهادة، أن يشهد الشهود ثم بعد شهادتهم يقولون: رجعنا، فهذه على صورتين:

    الصورة الأولى: أن يقولوا: كذبنا وزورنا، ونحن قد تبنا إلى الله ورجعنا عن شهادتنا، فهذا اعتراف بالخطأ، بمعنى: أنهم تحملوا وأدوا الشهادة زوراً وكذباً.

    أو أن يكون منهم الرجوع لتبين خطأ، فيقولون: رجعنا، فإن الذي قتل فلاناً ليس بفلان، نحن أخطأنا وما تعمدنا شهادة الزور، وإنما تبين لنا أن الذي قتل فلاناً هو فلان، وأننا أخطأنا في الشهادة الأولى.

    وهذا الرجوع إما أن يكون قبل الحكم بالشهادة، وإما أن يكون بعد الحكم، فإذا كان بعد الحكم إما أن يكون قبل تنفيذ الحكم فإما أن يكون بعد تنفيذ الحكم.

    الحالة الأولى: أن يرجع الشهود قبل الحكم بشهادتهم: فإن القاضي لا يحكم بشهادتهم قولاً واحداً عند العلماء، مثاله: لو ادعى شخص على شخص ديناً، ثم أقام شاهدين فشهدا عند القاضي وقالا: إن فلاناً له على فلان كذا، وقد سبق أن قلنا: إنه إذا شهد الشهود فيبحث القاضي عن الشهود هل هم عدول؟ هل هم أهل للشهادة أو لا؟ فإذا قالوا بعد ذلك: رجعنا عن شهادتنا، فهذا قبل الحكم، أو قال المدعى عليه: هؤلاء الشهود فسقة لا تقبل شهادتهم، وسأُقيم البينة على فسقهم، فلما أعطى القاضي مهلة ثلاثة أيام حتى يثبت -كما تقدم معنا في أدب القاضي- رجع الشهود، إذاً شهدوا وقبل أن يحكم بشهادتهم رجعوا.

    فإن رجعوا وقالوا: إنهم مزورون، فحينئذٍ يترتب حكمان:

    الأول: رد الشهادة.

    الثاني: تعزيرهم من القاضي، وقد اختلفت عبارة العلماء في التعزير، حتى قال بعضهم: له أن يشوه، كأن يحلق لحى الشهود، ويمشي بهم في الأسواق، ويقال: هؤلاء كذبة وشهود زور.

    والصحيح: أنه لا تحلق اللحية، وإنما يطاف بهم في الأسواق إذا رأى المصلحة، ويقول: هؤلاء شهود زور وكذبة؛ لأنهم كذبوا على القاضي، وهذا يفضي إلى اختلال الأحكام الشرعية، واستغلال القضاء للسوء؛ ولأنه قد تستباح الدماء، وقد تستباح الفروج، فالطواف بهم بين الناس يردع غيرهم عن هذا الفعل الذي به قوام العدل عن هذا الفعل، الذي يؤدي إلى ضياع العدل وانتهاك الحرمات، فبعض العلماء رحمهم الله يقولون: إنهم يعزرون بالطواف، والأصل يقتضي أن الأمر إلى القاضي فيعزرهم بما يرى من المصلحة.

    أما إذا كان رجوعهم بالخطأ، وقالوا: نحن شهدنا وتبين لنا الخطأ، فحينئذٍ لا يعزرون، لكن يسقط شهادتهم، وإذا أسقط شهادتهم تبين أنهم أناس فيهم خلل في الشهادة؛ لأنهم اعترفوا على أنفسهم أنهم أخطئوا، فمعنى ذلك: أنهم أناس لا يضبطون الشهادة، وحينئذٍ لا تقبل شهادتهم بعد ذلك.

    الحالة الثانية: أن يكون رجوعهم بعد الحكم بالشهادة وقبل تنفيذ الحكم، فحينئذٍ إذا شهدوا بحق مالي، وشهدوا أن فلاناً باع سيارته، وأن فلاناً باع أرضه، فإن رجوعهم عن الشهادة بعد الحكم ساقط، ولا يؤثر في الحكم؛ لأنه إذا شهد أن لفلان على فلان ألفاً، وكانت شهادتهم مزكاة معتبرة شرعاً، فحينئذٍ ثبت عندنا أن لفلان على فلان ألفاً، فإذا قالوا: كذبنا وزورنا، فقد طعنوا في أنفسهم بالفسق، وحينئذٍ جرحوا أنفسهم، فلا يقبل رجوعهم؛ لأنهم شهدوا على أنفسهم أنه لا يقبل قولهم، ونحن قد قبلنا قولهم قبل ذلك بالتعديل، فحينئذٍ لا نرجع إذا غلب على ظننا صدقهم إلى أمرٍ تبين أنهم فسقة، وأنهم لا تقبل شهادتهم، فلو شهدوا بحق لمحمد، ثم قالوا: كذبنا وزورنا، فإن قولهم: كذبنا وزورنا إنما شهدوا على أنفسهم بالفسق، ومن شهد على نفسه بالفسق فقد أسقط شهادته، فحينما يقولون: كذبنا وزورنا، والحق إنما هو لفلان وليس لفلان، فحينئذٍ سقطت شهادتهم الثانية وبقيت شهادتهم الأولى على الأصل؛ وكذلك الحكم إذا ثبت أنهم قالوا: زورنا فإنهم يعزرون.

    ولو قالوا: أخطأنا، والحق ليس لفلان وإنما هو لفلان، وكان هذا بعد حكم القاضي بالحق المالي، فنقول: إذا حكم القاضي بالمال وسدد، فحينئذ لا ينقض الحكم؛ لأنه ثبت بصورة شرعية معتبرة.

    وقولهم: أخطأنا، فهم شهدوا على أنفسهم بسقوط شهادتهم، فهناك سقطوا بالتزوير، وهنا سقطوا بخفة الضبط؛ لأن من شرط قبول الشهادة أن يكون الشاهد ضابطاً لشهادته؛ لأن الله تعالى يقول: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، فتسقط الشهادة الثانية وتبقى الشهادة الأولى، ويثبت الحق لصاحبه، ولا يؤثر في حكم القاضي؛ لأن الأحكام القضائية لا تنقض إلا في مسائل خاصة، وهذه ليست منها، وحينئذٍ يبقى الحكم على ما هو عليه وينفذ.

    الحالة الثالثة: أن يكون رجوعهم بعد الحكم، وأن يكون الحكم مشتملاً على حد أو قصاص، فحينئذ يسقط الحد ويسقط القصاص؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات.

    فلو قالوا: زورنا وكذبنا، فإن فلاناً ما سرق، فحينئذٍ لا تقطع اليد، أو أن فلاناً ما زنى، فإنه لا يرجم؛ ولذلك سبق أن قلنا: إنه عند الرجم يؤتى بالشهود بحيث لو كانوا كذبة فقد يرجعون عن شهادتهم، فإذا قالوا: إنهم كذبوا، فحينئذ يسقط تنفيذ الحد، وإذا كان في الحد حق مالي، مثل السرقة؛ فإنه يثبت المال لصاحبه، ولكن لا يقام الحد.

    والخلاصة: أنهم إذا رجعوا قبل الحكم وجهاً واحداً لا ينقض، وإذا رجعوا بعد الحكم، فإن كان بعد الحكم وقبل التنفيذ مضى الحكم ونفذ، إلا أن يكون مشتملاً على حدٍ أو قود دون قصاص، فحينئذٍ لا ينفذ؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات.

    ولو حكم الحاكم بشهادتهم ونفذ الحكم في القتل، وجاءوا وقالوا: رجعنا عن شهادتنا، فعلى صورتين:

    الصورة الأولى: إما أن يقولوا: كذبنا وتعمدنا قتله، فإنهم يقتلون؛ لأنهم تسببوا في قتله، ولولا شهادتهم لما حصل قتل، وهي السببية المفضية إلى الزهوق، وقد تقدم معنا شرحها في كتاب القصاص، وحينئذٍ قال علي رضي الله عنه كما في القصة عنه: أنه شهد عنده شهود أن فلاناً سرق فقطع يده، ثم جاءوا وقالوا: أخطأنا، فقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما. صحيح أن الذي قطع هو الذي أمره القاضي بالقطع، وهذه السببية يسمونها: السببية المفضية للزهوق، فالسببية المؤثرة المفضية للزهوق لا شك أنها توجب القصاص، فحينئذٍ يقتص منهم إذا تعمدوا قطع الأطراف، لكن لو قالوا: أخطأنا، فحينئذٍ لا يقتص، فيسقط القصاص، ولكن يجب عليهم الضمان.

    قال رحمه الله: [ويلزمهم الضمان دون من زكاهم ]

    يرد السؤال: هل الذين زكوا الشهود يحكم بوجوب القصاص عليهم؟

    إذا قالوا: تعمدنا، ونعلم أنهم فسقة وأعنَّاهم على هذا، فحينئذٍ هم شركاء، لكن لو قالوا: نحن نعلم أنهم فسقة وزكيناهم مجاملة، ولا نعلم أن هذا سيفضي إلى الزيغ، فللعلماء أوجه: فمن أهل العلم من قال: إنه يقتص منهم، ومنهم وقال: لا يقتص منهم، من الذين يرون القصاص قالوا: إذا كان المزكون علموا أنهم ليسوا بأهل الشهادة وزكوهم، فإنه يقتص منهم.

    والخلاصة: أن المزكي يلزمه الضمان إذا علم أن شهادته زور؛ لأنه أعانه على الزور؛ ولأنه أعانه على الإثم، وحينئذ يكون الحكم كما ذكرنا في قتل الجماعة، وأن كل سببية تفضي وتعين على الزهوق فتأخذ حكم الاشتراك.

    حكم رجوع الشاهد مع اليمين وما يجب عليه

    قال رحمه الله: [وإن حكم بشاهد ويمين ثم رجع الشاهد غرم المال كله].

    قوله: (وإن حكم بشاهد ويمين)، قال بعض العلماء: إنه يجزئ؛ لأن اليمين مقام الشاهد، والشاهد الذي أخطأ عليه ضمان نصف المال. والصحيح: أن عليه ضمان المال كله؛ لأن اليمين لا تكون إلا بعد وجود الشاهد، وحينئذٍ الشاهد هو الذي تسبب في الحكم كله، وعلى هذا يجب عليه ضمان المال كله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756969665