إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب القسمةللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ألحق العلماء باب القسمة بكتاب القضاء؛ لأن كثيراً من القضايا تكون ناتجة عن اختلاف الشركاء في القسمة، وعلى هذا فالقسمة قد تكون يشترط فيها رضا الشركاء، أو قسمة إجبار لا يشترط فيها ذلك.

    1.   

    القسمة.. تعريفها ومشروعيتها وأنواعها

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب القسمة].

    القسمة مأخوذة من قولهم: قسمت الشيء أقسمه أقساماً وقسمة. وأصل القسم: النصيب والحظ من الشيء، وغالباً ما يكون في الأشياء التي لها شركة، أو يجتمع فيها شخص فأكثر.

    وقوله: [باب القسمة].

    أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالقسمة، سواء كانت قسمة تنبني على التراضي أو كانت قسمة إجبار، هذان هما نوعا القسمة.

    والأصل في القسمة كتاب الله عز وجل، كما قال تعالى: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى [النساء:8] ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وتفرفت الطرق فلا شفعة)، وهذا يدل على مشروعية قسم الأشياء من المنقولات والعقارات، فالآية في المنقولات وشاملة أيضاً للعقار من جهة التبع، وبالنسبة للحديث فإنه في العقارات.

    النوع الأول: قسمة التراضي

    قال رحمه الله: [لا تجوز قمسة الأملاك التي لا تنقسم إلا بضرر أو إلا برد عوض].

    هذا هو النوع الأول من القسمة، وهو قسمة التراضي، ولا يمكن فيها أن نجبر أحد الشركاء على القسمة، بل إذا رضي بالقسمة قسمنا وإلا فلا؛ والسبب في ذلك وجود الضرر؛ لأن القسمة شرعت لدفع الضرر، والقاعدة تقول: (الضرر لا يزال بالضرر)، إلا في مسائل مستثناة، منها مسألة: (درء المفسدة العليا بارتكاب أخف الضررين وأهون الشرين) ونحو ذلك، لكن الأصل الشرعي: أن الضرر لا يدفع بالضرر.

    ومثال: إذا كان هناك مزرعة وفيها بئر واحد لا يمكن قسمته، أو كان هناك عقار لا يمكن أبداً أن يؤجر إلا مجتمعاً، فإذا قسم تعطلت منافعه، ونحو ذلك من المسائل كما ذكر المصنف في الأشياء الصغيرة كالحمام والغرف الصغيرة التي لا يمكن قسمتها.

    فهذا النوع يسمى (قسمة التراضي) بمعنى: أننا لا نحكم بالقسمة إلا إذا رضي الطرف الثاني -وهو المتضرر- فإذا رضي بذلك قسمنا، وهذا الحكم عام، فيدخل فيه استواء الأنصبة واختلاف الأنصبة.

    استواء الأنصبة: أن يكون لأحدهما نصف الأرض وللآخر النصف الآخر، أو تكون الأرض منقسمة أثلاثاً لكل واحد منهم ثلث الأرض، فالنصيب متساوٍ.

    أو يكون الضرر بسبب اختلاف في النصيب، كأن يكون لأحدهم ثلاثة الأرباع، والآخر له الربع، فلو قُسمت فلا شك أنه ستتحسن المنافع باجتماع الثلاثة الأرباع ولكنها لا تتحسن لمن له الربع، وقد يكون هناك عقار بين اثنين، لأحدهما فيه العشر وللآخر تسعة أعشار، فالذي له العشر لا يمكنه بحال أن ينتفع من العقار، وهذا كله مبني على أن الأصل في مشروعية القسمة هو دفع الضرر، ولذلك يعتبرون هذا الباب -وهو باب القسمة- مبنياً على القاعدة الشرعية: (الضرر يزال) وهي إحدى القواعد الخمس المشهورة التي أشرنا غير مرة أنه انبنى عليها الفقه الإسلامي.

    وقوله: [إلا برضا الشركاء].

    إلا برضا الشريك أو الشركاء، فإن كان العقار بين اثنين وطالب أحدهما بالقسمة سألنا الطرف الآخر أن يرضى، وإذا كانوا أكثر من واحد فإنه يُطْلَبْ رضا الأطراف الأخرى الذين لم يطالبوا بالقسمة، فلو اتفقوا كلهم على القسمة فلا إشكال، إنما الإشكال إذا كان أحدهما يطالب بالقسمة، والآخر يقول: أنا أتضرر بالقسمة ولا أريد القسمة.

    ويحصل هذا في الميراث، كأن يتوفى الرجل ويترك وارثين، فيرثا أرضاً، ومزرعة، وداراً، فالقسمة تضر بهما أو بأحدهما؛ فحينئذ لا نحكم بإجبار الطرف الآخر على القسمة.

    قال رحمه الله: [كالدور الصغار، والحمام والطاحون الصغيرين].

    الحمام والطاحون الصغيران لا يمكن قسمتهما؛ لأن منافع الحمام ومنافع الطاحون لا يمكن قسمتها، والحمام في القديم هو مكان الاغتسال، وليس الحمام الذي هو دورة المياة -كما يعرف في زماننا- فكان عبارة عن بناء يوقد تحته النار من أجل تسخين المياه.. وهو معروف إلى زماننا، فهذا الحمام لا يمكن قسم منافعه، ولا يمكن أبداً أن نعطي شخصاً تسعة أعشار الحمام، أو نعطي شخصاً ثلث الحمام، أو نعطي شخصاً ربع الحمام، إلا إذا كان كبير المساحة يمكن قسمته والفصل بين الأنصبة والأجزاء.

    فلو كان الورثة لهذا الحمام خمسة أبناء ذكور، فإن الحمام يقسم بينهم أخماساً، فإذا وجد في القسمة ضرر على أحد الشركاء فهذه يسمونها (قسمة التراضي) بمعنى أنه لا يجبر القاضي الطرف الآخر على أن يقسم لتحصيل مصلحة الطرف الأول.

    قال رحمه الله: [والأرض التي لا تتعدل بأجزاء].

    مثل أن يكون عنده أرض بعضها على الشارع وبعضها بعيد عن الشارع، أو بعضها يمكن الانتفاع به وبعضها لا يمكن الانتفاع به، أو بعضها جبل وبعضها غير صالح للزراعة، بعضها سبخة وبعضها صحراء ونحو ذلك، فإذا تفاوتت أجزاء الأرض ولا يمكن قسمتها لوجودالضرر، أو لا تمكن القسمة إلا برد العوض -ولذلك يضبطون هذا النوع وهو (قسمة التراضي) بأنها التي لا يمكن إعمالها إلا بوجود الضرر أو بتعديل الأجزاء بالمال- فإذا حصل ذلك وهو رد العوض فإنه يعتبر من قسمة التراضي.

    [ ولا قيمةٍ كبناءٍ أو بئر في بعضها].

    ففي هذه الحال لا يمكن قسمتها إلا بضرر أو بقيمة.

    [فهذه القسمة في حكم البيع]

    أي: تأخذ أحكام البيع، فإذا رضيا فحينئذ تجري عليهما أحكام البيع، مثلاً: يثبت فيها خيار المجلس، فلو أنه رضي ثم ندم على الرضا وهما جالسان، كان من حقه أن يقول: رجعت عن رضاي أو لا أريد القسمة؛ لأنها آخذة حكم البيع، والبيع يجوز فيه خيار المجلس، وهو ثابت بالسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أصح قولي العلماء.

    ومن فوائده: أننا لو قسمنا أشياء من الربويات كحبوب وكان فيها ضرر ثم تراضوا وقسموا كأن يكون على النخل، فحينئذ لابد من التقابض؛ لأن كل قسم في مقابل القسم الآخر، فلابد أن يحصل التقابض، كما يشترط في البيع، فتجري عليه أحكام البيع.

    [ولا يجبر من امتنع من قسمتها].

    وهذا من أحكامها التي تأخذ أحكام البيع، فمثلاً: ورثة ورثوا شيئاً واشتركوا فيه، فاشتكى أحد الورثة، وقال: أريد أن أقسم مع إخواني، ولما نظر القاضي فإذا بالعين التي يراد قسمتها لا يمكن قسمتها إلا بضرر على الأطراف الأخرى أو بعضهم، فامتنعوا، وقالوا: لا نريد، فحينئذ ليس من حق القاضي أن يجبرهم على القسمة.

    إذاً: قسمة التراضي لا يحصل فيها إجبار، وإذا تراضوا وتمت القسمة بينهم جرت أحكام البيع على ذلك.

    النوع الثاني: قسمة الإجبار

    قال رحمه الله: [ أما ما لا ضرر ولا رد عوض في قسمته، كالقرية والبستان والدار الكبيرة والأرض والدكاكين الواسعة، والمكيل والموزون من جنسٍ واحدٍ كالأدهان والألبان ونحوها، إذا طلب الشريك قسمتها أجبر الآخر عليها].

    هذا هو النوع الثاني من القسمة: وهو قسمة ما لا يحصل الضرر بقسمته، فلو كانت أرضاً والأرض كلها على الشارع ويمكن قسمها إلى أجزاء على حسب الحصص، فمثلاً: أخوان وارثان كل منهما له النصف، ورثا ميتاً عصبة، فقسمت الأرض بينهم مناصفة، قالوا: نريد القسمة، فتقسم بينهم مناصفة، وبما أن كلا النصفين على الشارع وكلا المميزات الموجودة في هذا النصف موجودة في النصف الآخر؛ فحينئذ يجوز قسمتها، ولا إشكال في هذا، وهذا معنى (لا ضرر فيه).

    كذلك المكيلات يمكن تحديد الأجزاء فيها بالكيل، فمثلاً: لو ترك المورث خمسين صاعاً من بر، وقال أحد الوارثين: أريد أن أقسم حتى أتصرف في قسمي، وقال الآخر: لا نقسم، بل نبيعها كلها، فحينئذ يجبر القاضي الطرف الآخر على القسمة؛ لأن قسمة الخمسين صاعاً لا ضرر فيها، ويمكن العدل فيها بين الطرفين، فيجبر الرافض للقسمة منهما على هذا، وهو أكثر ما يقع في مسائل الميراث وفي الشركات بين الشركاء، ولذلك أدخله العلماء رحمهم الله -والمصنف رحمه الله- في باب القضاء؛ لحصول التنازع فيه.

    [وهذه القسمة إفراز لا بيع].

    إفراز النصيب لكل منهما.

    وقد تكون القسمة في المنافع، وهي التي سميناها قسمة المهايأة، وهي أن يهيئ كل منهما للآخر نصيبه الذي يرتزق به، كما لو اتفق وارثان، أحدهما قال: أنا أسكن في الدور العلوي، والثاني قال: أنا أسكن في الدور السفلي، والدار بينهما، فحينئذ تهيأا للانتفاع من الدار، وهذه هي قسمة المهايأة.

    1.   

    من يقسم بين الشركاء وعلى من تكون أجرته

    [ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم، وبقاسم ينصبونه].

    (ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم) إذا حصلت القسمة بينهم برضا الأطراف، فحينئذ لا إشكال، ولا يجب عليهم أن يترافعوا إلى القاضي، ولا يجب عليهم أن يُنصبوا قاسماً يقسم بينهم، ما دام أنهم تراضوا، ورضي كل منهم بحصته.

    (وبقاسم ينصبونه) (يَنْصِبُوْنَه أو يُنَصِّبُوْنَه) أي: يأتون بشخص، فمثلاً: إذا كانت أرضاً وجاءوا بمهندس -كما في زماننا- ينظر إلى الأرض ويعدّلها ورضوا بقسمته، فإذا كان متبرعاً فلا إشكال، لكن لو قال: أريد أجرة على ما عملت، فحينئذ تنقسم الأجرة على قدر نصيب كل واحد منهم، فإذا كانت الأرض بين الاثنين مناصفةً، وجب على كل واحد منهما أن يدفع نصف الأجرة، وإذا كانت الأرض أرباعاً لكل واحد من الأربعة الربع، وجب على كل واحد أن يدفع ربع أجرة القاسم.

    فإذا قال: أجرة مثلي في هذه القسمة لهذا العقار أو هذه الأرض أو هذه المزرعة أربعمائة ريال، فإذا كانوا أربعة فحينئذٍ يدفع كل شخص مائة ريال؛ لأن هذه الأرض غنمها وغرمها على الجميع بقدر النصيب، كما أنها لو خسرت ونقصت قيمتها دخل النقص والخسارة على الجميع، كذلك لو ربحت وزاد نماؤها كان نماؤها على الجميع، وأصول الشريعة تقتضي هذا، ولذلك القاعدة الشرعية تقول: الخراج بالضمان، وتقول: الغنم بالغرم،، وبعضهم يقول: الغرم بالغنم، والمعنى واحد، وعلى كل حال الربح لمن يضمن الخسارة، وقد تقدم تقرير هذا في غير ما موضع، وأشرنا إلى حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود وغيره في تقرير هذا الأصل.

    قال رحمه الله: [أو يسألوا الحاكم نصبه، وأجرته على قدر الأملاك].

    قوله: (أو يسألوا الحاكم نصبه) إذا وجد عند الحاكم لجنة، أو لدى القاضي أناس من أهل الخبرة؛ لأن القضاة ينبغي عليهم أن يكون عندهم أناس لهم خبرة في شؤون الناس ومشاكل الناس وأحوالهم يرجع إليهم القاضي عند الحاجة، تارةً يكونون منصبين من قبل القاضي ويكون لهم رزق من بيت المال على خلاف بين العلماء رحمهم الله في مسألة إعطائهم أرزاقاً من بيت المال.

    فإذا سألوا القاضي أن ينصبه، فمذهب طائفة من العلماء أن هذه القسمة الحظ فيها للشركاء، وإذا كان الحظ للشركاء فلا تُدخل على بيت المال ضرراً، بمعنى أن بيت المال لا يتحمل أجرة القسمة، بل يتحملها الشركاء؛ لأنه لا علاقة لبيت المال في قطع خصومة ما، بحيث تحمل على بيت مال المسلمين.

    [وأجرته على قدر الأملاك]

    كما ذكرنا، من كان له النصف فيدفع نصف أجرته، ومن كان له الربع فيدفع الربع، وهكذا.

    قال رحمه الله: [فإذا اقتسموا أو اقترعوا لزمت القسمة].

    قوله: (فإذا اقتسموا) النصيب، وجرت القسمة لزمتهم، بالأطراف، والأصل يقتضي هذا، وإلا فما هو المراد من قسمتها.

    1.   

    القرعة في القسمة

    قال رحمه الله: [وكيف اقترعوا جاز].

    وكذلك القرعة، فمثلاً: لو قسموها قسمين، وهما شريكان، قال أحدهم: أنا آخذ اليمنى، وقال الآخر: أنا آخذ اليسرى، فلا إشكال، وكذلك لو شُق شارع وقسم الأرض قسمين، فقال أحدهما: أنا آخذ الشمالية. والآخر قال: أنا آخذ الجنوبية. أو قال أحدهما: الشرقية، وقال الآخر: الغربية. واصطلحوا على هذا؛ فلا إشكال، لكن لو قال أحدهما: أنا آخذ اليمنى، وقال الآخر: أنا آخذ اليمنى. وليس هناك تميز في إحداهما؛ لأن القسمة لا تمكن إلا بالتعديل، فإذا استوت أجزاؤها، لكن أحدهما قال: أنا أريد الشمالية، وقال الآخر: وأنا أريد الشمالية؛ فحينئذ لابد من القرعة.

    والقرعة لها أصل يدل على المشروعية، وهو قوله تعالى: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141]، والحديث الذي في قصة سليمان عليه السلام، والأصل يقتضي مشروعية القرعة وجريانها، ولها عدة صور؛ كيفما اقترعوا جاز، فمثلاً: لو أنهم وضعوا الشمالية في ورقة والجنوبية في ورقة، ثم تخلط الأوراق، وكل واحد منهما يأخذ ورقة أو يؤتى بشخص جاهل أو طفل لا يعلم -كما ذكر بعض العلماء- حتى يكون أبعد عن التهمة والريبة، وبعد خلطه للورقتين يقول أحدهما: أنا آخذ الورقة الأولى، والآخر يقول: أنا آخذ الورقة الثانية. وهكذا.

    وعلى كل حال أنهم: كيفما اقترعوا جاز، ما دام أنه أمر خفي، ولا تحصل فيه التهمة ولا الريبة، وليس فيه تنبيه لأحدهما على ما يريد وما يطلب، فإنه جائز.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756964597