إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الربا والصرف [5]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إذا صرف شخص عند آخر نقداً، فلا يجوز لهما أن يفترقا إلا وقد أعطى كل واحد منهما ما للآخر عليه، فإن افترقا قبل أن يقبض أحدهما حقه أو بعض حقه، فإن العقد يبطل فيما لم يقبض؛ وذلك لأن هذا يعتبر من ربا النسيئة المحرم، ويحصل الافتراق في كل مكان بحسبه، ولابد من التقابض قبل الافتراق.

    1.   

    افتراق المتصارفين قبل قبض الكل أو البعض

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: ومتى افترق المتصارفان قبل قبض الكل أو البعض بطل العقد فيما لم يقبض]:

    فإذا صرف الريالات بالدنانير أو بالدولارات أو بالجنيهات، فإنهما متصارفان، كل منهما يريد أن يصرف ما عنده بالذي عند الآخر، فقال رحمه الله: (متى افترق المتصارفان) ولم يقبضا (بطل العقد) فيهما، سواء في الريالات أو الدولارات، لكن لو لم يقبض أحدهما جزء الثمن المدفوع في مقابل نقده، أو لم يقبض الآخر معه، فإنه يبطل في الجزء الذي لم يقبض دون الذي قبض.

    وبالمثال يتضح الحال: أولاً: إذا أراد أن يصرف فإما أن يصرف مع اتحاد العملة كما ذكروا، فمثلاً: معك خمسمائة ريال تريد أن تصرفها مئات أو خمسينات، فجئت إلى رجل وقلت له: اصرف لي هذه الخمسمائة، فقال: أصرفها لك بخمسمائة، لكن ليس عندي الآن، وسوف أعطيك بعد ساعة، فافترقتما ولم تتقابضا، فحينئذٍ بطل الصرف، ووجب عليه أن يرد لك الخمسمائة، فإن قبضت الخمسمائة في اليوم الثاني مصروفة وقع الربا الذي حرم الله ورسوله، فلُعن الآخذ والمأخوذ، نسأل الله السلامة والعافية.

    إذاً: ينبغي للناس أن يتنبهوا لمسائل الربا؛ لأن الربا لا يتوقف على ريال بريالين أو تسعة بعشرة، التي هي الزيادة والفضل، بل يشمل حتى ربا النسيئة الذي يخفى على الكثير، ومن هنا قال بعض العلماء: إن الرجل قد يشيب عارضاه في الإسلام وهو يأخذ الربا، فيلعن صباح مساء؛ لأنه قصر في العلم والفهم.

    فمسألة التقابض لابد منها، وللعلماء الوجهان المشهوران:

    الوجه الأول: لو صرفت الخمسمائة تأخذ بيد وتعطي بأخرى، وهذا أكمل ما يكون في الصرف، وهو العدل الذي لا يظلم فيه الصارف، ولا من أخذ منه، وهذا هو عين العقل والحكمة؛ لأنه ربما رمى الخمسمائة في صندوقه وقال: ما أعطيتني شيئاً، وأنكر؛ لأنه نسي؛ فقد تكون جئته أثناء شغله وأعطيته الخمسمائة فرماها في الصندوق، وقال: ما أعطيتني شيئاً.

    وفي بعض الأحيان يقول: كم أعطيتني؟ فتقول: خمسمائة، فيقول: لا؛ بل أعطيتني مائة أو أعطيتني خمسين أو أعطيتني عشرة أو خمسة. إذاً: العدل أن تعطي بيد وتقبض بأخرى، وهذا هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء) .

    فأنت إذا أعطيت الخمسمائة بيد وقبضت الخمسمائة التي بيدك ضمنت حقك، ومن العدل مادمتما تتبايعان وتتعاوضان أنك كما أعطيته الخمسمائة يعطيك الخمسمائة؛ لأنك أعطيته حقه كاملاً، فوجب أن يعطيك حقك كاملاً.

    فلو قال لك: أنا آخذ الخمسمائة الآن وتأخذ مني غداً، أو آخر النهار، أو ليس عندي الآن صرف، فحينئذٍ يقع الربا ولو افترقا لحظة واحدة، فبمجرد أن يتفارقا يحصل المحظور الذي بيناه، فلابد إذاً من التقابض.

    وهذه الحالة بالنسبة لمسألة الافتراق، وهي أن يعطي بيد ويقبض بالأخرى.

    الوجه الثاني: أن يعطيك في مجلس العقد، ولم يؤخر -أي: لم يؤخر إلى ما بعد المجلس- فأنتما في الدكان أو في الغرفة، وقلت له: يا فلان! معي خمسمائة ريال اصرفها لي، فأخرج المئات وجلس يعدها، أو أخرج مثلاً صندوقه أو كيسه أو نحو ذلك فتأخر، وأنت قد أعطيته الخمسمائة، فربما قبضها، وربما وضعها في حجره، وربما وضعها في جيبه، ثم جلس يعد، أو يبحث عن نقده الذي معه، أو يفك خزنته أو صندوقه، ثم أخرج لك الخمسمائة، فلم يحصل التقابض لكنهما لم يفترقا، فمن العلماء من قال: يجب أن يعطي بيد ويأخذ بأخرى، وهذا مذهب من شدد، وهناك من خفف وهو الصحيح، فقالوا: ما داما في مجلس العقد فالأمر يسير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله ابن عمر أن يبيع بالدنانير ويقتضي بالدراهم، ويبيع بالدراهم ويقتضي بالدنانير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، إذا كان بسعر يومه، ولا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء)، فجعل التحريم المنبني على عدم التقابض مركباً على الافتراق، فدل على أنهما إذا افترقا وليس بينهما شيء فلا بأس به.

    ومن هنا قال الجمهور: العبرة بمجلس العقد، فإذا أخذ منك الخمسمائة ثم تأخر قليلاً، ولكنه أعطاك الصرف قبل أن تفارقه وقبل أن تقوم من مجلس العقد، فالأمر يسير والحمد لله، وهذا هو الصحيح.

    بماذا يحصل الافتراق بين المتصارفين؟

    وقول المصنف رحمه الله: (متى افترق) الافتراق: إذا كانا في غرفة واحدة فالافتراق أن يخرج أحدهما من الغرفة، وإذا كانا في مكان منحصر كصالة أو موضع معين، فخرج أحدهما من هذا الموضع المعين، كما لو كانا داخل سيارة فخرج أحدهما من السيارة، مع أنها ليست بغرفة لكنها في حكم الغرفة، فبمجرد أن يخرج من بابها فقد افترقا.

    إذاً: الافتراق يختلف باختلاف الأمكنة والأحوال، وإذا لم يكن هناك محل منحصر كالصحراء، فيكون الافتراق بأن يعطي أحدهما ظهره للآخر، فلو أعطاك ظهره فقد تمت الصفقة الأولى في جميع المسائل، ولو تعاقد مباشرة مع آخر فقد أوجب البيع الأول وحل له أن يدخل في البيع الثاني.

    إذاً: افتراق المتصارفين في الموضع الواحد يكون بأن يغادره أحدهما، أو هما معاً، وفي المصارف الآن إذا فتح باب المصرف وخرج، لكن لو كانت المصارف لها مواضع معينة وكل صراف له غرفة مختصة به، فيكون الافتراق بالخروج من غرفة الصراف، حتى ولو كان داخل المحل فإنه قد فارق، وحل له أن يأخذ من الصراف ويخرج إلى صراف آخر، ويعقد معه عقداً ثانياً ولا بأس بذلك.

    إذاً: الافتراق يختلف باختلاف الأمكنة والأحوال، فقوله: (متى افترق المتصارفان) سواءً كان ذلك في النقد الواحد، أو في نقدين مختلفين.

    ومن الأخطاء التي تقع عند بعض الناس، مثلاً: إذا اشتريت الكتاب بعشرة ريال وأعطيته قيمته مائة ريال صار عندك عقدان، والشريعة أعطت كل شيء حقه: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، فكل صغيرة وكبيرة لها حكمها في الشرع، فإذا أعطيته المائة ريال ليأخذ منها العشرة، فمعناه: أنك اشتريت بعشرة كتاباً، وأنه سيصرف لك التسعين بتسعين، فهناك عقد بيع كتاب بعشرة، وهناك عقد صرف تسعين بتسعين، فمسألة الكتاب ليس فيها إشكال، لكن الإشكال في التسعين، فينطبق عليها ما ينطبق على قواعد الصرف، فيجب حينئذٍ أن يعطيك تسعين بتسعين دون زيادة أو نقص.

    وأيضاً: ينبغي أن يكون التقابض قبل أن تفارقه، فلو خرجت من الدكان أو خرج هو من الدكان فقد وقع ربا النسيئة، فقوله: (ومتى افترق المتصارفان) أي: إذا افترقتما وبينكما شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء)، أي: في الصرف، فإذا أعطيته مائة فأخذها، وقال لك: والله ليس عندي الآن تسعون ولكن تعال غداً أو آخر النهار أو بعد ساعة وأعطيك التسعين. فستخرج من الدكان وتفارقه وبينكما شيء، وهذا الشيء في الصرف؛ لأنك لم تبع له إنما هو صرف، بادل الثمن بثمن، ويريد أن يعطيك تسعين في مقابل تسعين، أما مسألة بيع الكتاب فذاك بيع قد انتهى، فقل له إذاً: لابد أن تعطيني الآن، فإذا قال: ما عندي، فحينئذٍ أنت بالخيار، فلك أن تسحب المائة وتعطيه رهناً كساعة، وتقول له: ضع الساعة عندك رهناً للعشرة حتى أحضرها لك، أو هذا القلم، وهو جائز في الشريعة، فتعطيه الرهن ثم تذهب وتصرف المائة وتعطيه العشرة قيمة الكتاب.

    لكن لو قال لك: سأذهب إلى جاري وأصرفها منه، فالأصل يقتضي أنه لا يجوز أن يفارقك وبينكما شيء، فتقول له: اذهب واصرفها من جارك، فتأخذ المائة وتعطيه إياها، وتقول له: خذها واصرفها، فحينئذٍ صار وكيلاً بالصرف، وليس بمالك للمائة إلى الآن، ولا يملك حتى العشرة التي فيها إلى الآن.

    ونريد أن نمثل بأشياء موجودة حتى يكون الإنسان على علم بالقواعد، مثل ذلك: لو ملأ لك البنزين بعشرة، ثم أعطيته المائة فقال: لا يوجد عندي الآن، فتقول له: اذهب واصرفها، فإذا قلت له: اذهب واصرفها، فقد وكلته.

    والفرق بين كونه هو بنفسه يخرج وبين كونك توكله: أنك إن وكلته صار أميناً، فلو تلفت بدون تفريط تلفت على ضمانك ولا تطالبه، وفي هذه الحالة يكون وكيلاً عنك وحكمه حكم الوكيل، فإذا جاء بالمائة وأعطاك ثم بعد ذلك تعطيه العشرة وتخرج، فليس هناك ضيق على الناس أو حرج أبداً، بل أي شيء فقد بينته الشريعة، وقد تحرم الشيء لكن هناك بديل عنه أفضل منه وأزكى.

    وبناءً على هذا فلابد من الصرف يداً بيد، فمتى افترق المتصارفان، سواء الاثنان أو أحدهما، وولى ظهره للآخر فقد تحقق الافتراق بينهما، وإن كان بينهما شيء فإنه يقع ربا النسيئة.

    صور افتراق المتصارفين قبل القبض

    وقوله: (ومتى افترق المتصارفان قبل قبض الكل أو البعض بطل العقد فيما لم يقبض).

    مثال ما لم يقع القبض في الكل: إذا قال لك رجل: عندي مائة ألف ريال وأريد أن أبادلها بدولارات، فقلت له: إذاً أشتري منك هذه المائة ألف بعشرة آلاف دولار، فقال: إذاً أنا أعطيك غداً، فقلت: وأنا أعطيك غداً، فهو نسيئة بنسيئة، فافترق المتصارفان، ولم يحصل القبض من الكل، فلا هذا أعطى ولا هذا أعطى، فوقع فوات الشرط منهما معاً بالريالات، وكذلك صاحب الدولارات.

    ومثال ما إذا وقع القبض من أحدهما دون الآخر: لو قال رجل: عندي مائة ألف ريال وأريد أن أبادلك بها بعشرة آلاف دولار، فخذ المائة ألف وائتني بالعشرة آلاف، ففارقه ولم يعطه، بل أعطى أحدهما وأجل الآخر، فصار عيناً بذمة، إذاً: يقع الربا، سواءً حصل التأخير منهما أو من أحدهما.

    إذاً: التأخير إما أن يقع على الكل أو على البعض، أما التأخير للكل، فكما قلنا: أعطيك غداً وتعطيني غداً، فهذا تأخير للكل، وأما تأخير البعض: فكأن يقول له: عندي مائة ألف ريال، فاشترها مني بعشرة آلاف دولار، فيقول: سأعطيك الآن خمسة آلاف دولار، وأنت أعطني خمسين ألف ريال، وغداً أعطيك الخمسة آلاف الدولار الباقية، وتعطيني الخمسين ألفاً الباقية عندك، فصار هذا التأخير للبعض وليس للكل.

    فإذا وقع التأخير للبعض دون الكل فللعلماء وجهان:

    فقيل: يبطل العقد فيهما؛ لأن الصفقة واحدة.

    وقيل: يصح في المعجل ويبطل في المؤجل.

    أي: يصح في الخمسة آلاف المعجلة، وحينئذٍ فكل منهما ملك ما أخذ، فإن جاءوا في اليوم الثاني ليأتوا بالباقي فنقول: أنشئا عقداً جديداً، فقد بطل العقد الأول ولا يجوز.

    وفائدة هذا: إذا اختلف السعر، فإذا اشترى منه مثلاً عشرة آلاف دولار بمائة ألف ريال، فأعطاه الخمسة آلاف دولار بخمسين ألفاً وتقابضا، ثم قال: غداً سأعطيك الباقي، فارتفع سعر الدولار، أو ارتفع سعر الريال، فحينئذٍ نقول: العقد عقد جديد، وأنشئا عقداً جديداً، فلو باعه في اليوم الثاني بضعف بيعه في الأول، أو نزل السعر فباعه بأقل، فهذا عقد جديد.

    هذا بالنسبة للمقبوض، وقد مثلنا بالريالات؛ لأنها أنشط وتعين الناس أكثر، أما في الطعام، فلو قال لك: عندي مائة صاع تمر من السكري، وأنت قلت: وأنا عندي مائة صاع من البرحي، فيجب أن يكون يداً بيد، فإذا قال: ليس عندي الآن إلا خمسة وسبعون صاعاً، وقلت أنت: وأنا ليس عندي إلا خمسة وسبعون صاعاً. فأعطيته ثلاثة أرباع الصفقة، وأعطاك هو ثلاثة أرباع الصفقة، وبقي الجزء المتبقي، فيقال: يصح البيع بثلاثة أرباع الصفقة، ويلغى في الربع الذي وقع الربا فيه.

    وهذا معنى قوله: (بطل العقد فيما لم يقبض) فإن لم يحصل التقابض بالكل بطل بالكل، وإن حصل التقابض في البعض صح في البعض، وبطل فيما لم يحصل التقابض فيه.

    وبناءً على هذا: لو صرف لك المائة دولار بعشرة آلاف ريال، فأعطاك نصفها، ثم ارتفع السعر أو نزل، فقد تحمل كل منكما المسئولية بعد تصحيح العقد الأول، وصح في جزء ما حصل القبض فيه، وأما ما عداه فإنه يحكم ببطلانه.

    حالات المبيع

    قال رحمه الله: [والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد فلا تبدل].

    المبيع لا يخلو من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يكون عيناً.

    الحالة الثانية: أن يكون ذمة.

    وبناءً على ذلك فالبيوع لا تخلو:

    1- إما أن تكون عيناً بعين.

    2- أو ذمة بذمة.

    3- أو عيناً بذمة.

    وكل من هذه الثلاث لا يخلو كل واحد منها إما أن يكون:

    1- نسيئة من الطرفين.

    2- أو ناجزاً من الطرفين.

    3- أو نسيئة من أحدهما ناجزاً من الآخر.

    فأصبحت البيوع تسعة، ولذلك يقول بعض العلماء: لن تجد بيعاً على وجه الأرض يخرج عن هذه البيوع التسعة ألبتة.

    إما عيناً بعين، وإما ذمة بذمة، وإما عيناً بذمة.

    والعين بالعين إما أن يكون:

    1- ناجزاً من الطرفين.

    2- نسيئة من الطرفين.

    3- ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.

    والذمة بالذمة إما أن يكون:

    1- ناجزاً من الطرفين.

    2- نسيئة منهما.

    3- ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.

    والعين بالذمة إما أن يكون:

    1- ناجزاً من الطرفين.

    2- نسيئة منهما.

    3- ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.

    فالعين بالعين: مثل أن يبيعك هذا الكتاب بهذا الكتاب، فإذا قال: أعطني الآن، وأعطيك الآن. فأعطى كل منهما عيناً بعين، ناجزاً من الطرفين.

    ولو قال: نتعاقد على أن أسلمك بعد شهر وتسلم لي بعد شهر، فهذا نسيئة من الطرفين.

    ولو قال: خذ الكتاب الآن وأعطيك غداً، فصار عيناً بعين، ناجزاً من أحدهما نسيئة من الآخر.

    أما ذمة بذمة: فكأن يبيعك كتاباً من صحيح البخاري من طبعة كذا وعدد أجزائه كذا وكذا، بكتاب من صحيح مسلم عدد أجزائه كذا، من طبعة كذا، فأصبح ذمة؛ لأنه موصوف، فالتزم في ذمته أن يعطيك هذا الموصوف المقدر بهذه الأوصاف المعينة، فصار ذمة بذمة.

    وقد يكون ناجزاً من الطرفين، كأن يقول: الآن أنزله لك وأعطيك، وتقول أنت أيضاً: وأنا أنزله لك الآن وأعطيك، وأنتما في مجلس واحد، فصار ناجزاً من الطرفين، وهو ذمة بذمة.

    أما إذا قال: أعطيك غداً وتعطيني غداً، أو أعطيك بعد شهر وتعطيني بعد شهر، فهذا نسيئة من الطرفين.

    وإذا قال: سأعطيك الآن، فقلت: لا أستطيع أن أعطيك الآن، وإنما سأعطيك بعد غدٍ أو بعد شهر، فصار هذا ناجزاً من أحدهما ونسيئة من الآخر.

    أما عين بذمة: فكأن تأخذ واحد من الأول في مقابل واحد من الثاني، فتقول: أبيعك هذا الكتاب بنسخة من صحيح البخاري، فهذا الكتاب عين، والنسخة من صحيح البخاري موصوف في الذمة، أي: التزم في ذمته بهذه النسخة.

    وما فائدة قولهم: عين وذمة؟ فائدتها العدل وإعطاء كل ذي حق حقه، حتى نعلم أن الشريعة أعطت البيوع دقة لن تجدها في أي قانون على وجه الأرض من هذه الدقة المتناهية، حتى في المبيع، حينما تقول: بعتك هذا الكتاب، معناه: أن الإيجاب والقبول منصب على معين يفوت بفواته.

    فلو أن هذا الكتاب ظهر به عيب، أو وجد فيه صفحات مطموسة وجئت للبائع، وقلت له: رد لي هذا الكتاب؛ لأن هذا الكتاب فيه عيب، فقال لك: أعطيك بدلاً عنه، ولن أرجع لك الفلوس. فقلت: لا. أنا أرغب في هذا الكتاب بعينه، واشتريت منك هذا الكتاب بعينه فرد لي الثمن؛ لأن البيع يفوت بفواته.

    من تجده يفصل هذا التفصيل وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا [المائدة:50] لكن لمن؟ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، فالله تعالى أعطى كل ذي حق حقه في معاملات الناس.. في أمورهم الشخصية.. في أمورهم المالية.. في جميع الشئون والأحكام.

    ومنها ما ذكرنا في المبيعات، فقد دخل الفقهاء حتى في كيفية البيع، فقالوا: إذا انصب على معين فات بفواته، فلو باعك كتاباً واشتريته منه بعينه، ثم ظهر الكتاب مغصوباً، فإنه قد وقع على عين ليست ملكاً للبائع، فبطل البيع، ووجب رد العين إلى صاحبها، ولا يبدل هذا البيع ببيع آخر.

    لكن لو جئت إلى صاحب المكتبة وقلت له: أعطني نسخة من صحيح البخاري. فقال: بعشرة، فقد التزم في ذمته أن يعطيك نسخة من صحيح البخاري بعشرة، فإن وجدت النسخة الأولى التي أعطاك إياها معيبة، كان من حقه أن يقول: أنا التزمت لك، فإذا فاتتك الأولى أعطيك بدلاً عنها.

    ومن هنا نجد بعض الناس إذا وجد عيباً في السلعة يغضب، خاصة إذا وجد فيها شيئاً من التلاعب والغش، فإنه يقول: لا أريد أن أتعامل مع هذا الرجل، ولا أريد أن أعطيه ربح مالي، فإذا أصر المشتري على موقفه، وقال: أعطني مالي. وقال البائع: بل تأخذ بدلاً عنه؛ فلابد أن يرجع إليه ماله.

    ولو لم نضع هذه القواعد لما استطعنا أن نعدل بين اثنين، فالشريعة قد تجد فيها نوعاً من التشدد، لكنها في الحقيقة فيصل بين الناس.

    فهذا من تفصيل الأحكام أن كل إنسان يأخذ حقه، فإذا جاء القاضي وهو يريد أن يفصل في الخصومة، وقد وضعت الشريعة ضوابط المبيعات والعقود، لا يوجد أي عائق يعوقها عن إيصال الحق لكل ذي حق، فيوصل لكل ذي حق حقه.

    فهنا إذا وقع البيع على معين فات بفواته، فإذا صرف الدراهم والدنانير وقلنا: إن الدراهم والدنانير تتعين بالعقد، فحينئذٍ إذا ظهرت معيبة أو مغشوشة مزيفة فات العقد بفواتها.

    1.   

    حكم بيع المغصوب والمغشوش

    قال رحمه الله: [وإن وجدها مغصوبة بطل] ولا يستطيع أن يأتي ببديل عنها، لأنها تعينت ففات البيع بفواتها؛ لأنها ملك هذا المعين.

    وقوله: [ومعيبة من جنسها أمسك أو رد].

    كأن يستبدل دنانير أو دراهم ويكون فيها عيب في نفس ذات الدينار والدرهم، فإذا وجد فيها عيباً فإن العيب ينقص المالية، وينقص قيمتها، كأن وجد فيها غشاً، ففي القديم كان الذهب فيه الخالص وفيه المغشوش، فكانوا ربما زيفوا الدنانير والدراهم، فأدخلوا فيها غشاً وشوباً، وهذا يؤثر في قيمتها؛ لأن المالية والثمنية الموجودة فيها من الذهب ناقصة فتنقص بنقصانها، فهذا عيب ينقص قيمتها، فلو كان هناك نوع من الدنانير المغشوش الناقص، فباعه كاملاً على أنه من النوع الجيد، فظهر أنها معيبة، فالمشتري يخيّر بين الأمرين:

    الأمر الأول: أن يمسكها ولا أرش.

    الأمر الثاني: أن يردها ويبطل العقد ويفسخه.

    1.   

    حكم التعامل بالربا بين المسلمين والكفار

    قال رحمه الله: [ويحرم الربا بين المسلم والحربي وبين المسلمين مطلقاً بدار إسلام أو حرب].

    التعامل بالمحرم يختص بالمسلم مع المسلم؟ أم أن التحريم يشمل المسلم وغير المسلم؟

    فبعض العلماء يقول: إذا بعت الحرام من كافر، وكان مال الكافر ملكاً لنا، فإنه يصح ويكون ذلك جائزاً لنا؛ لأن أموالهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم وأعراضهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، فجعل حرمة المال مقيدة بالإسلام، فإذا كان غير مسلم فإنه يمكن أن يأخذ الريال بالريالين؛ لأن أصل ماله ليس له حرمة، فهذا وجه إدخال مسألة غير المسلم.

    وغير المسلم إن كان ذمياً فإن الذمة تجعل ماله ودمه حراماً؛ لأن عقد الذمة يعطيهم حق الحفظ، والشريعة تحترم هذه المواثيق التي بين المسلمين والكفار، وأن الكافر إذا دخل بلاد المسلمين بأمان فله أمان الله ورسوله.

    ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ذمة المسلمين واحدة)، حتى قال بعض العلماء: لو أن امرأة أجارت رجلاً فهو في ذمة المسلمين كلهم، كما في الصحيح أن أم هانئ لما دخل ابن عمها عليها في يوم الفتح واستجار بها، وأراد علي أن يقتله، فمضت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكت إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ )، فجعل حرمة الدم بالأمان.

    فإذا دخل الكافر بلاد المسلمين كان له أمان في دمه وعرضه وماله، وهذا بأصل عقد الذمة التي بينه وبين المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم)، فلو أن أصغر المسلمين أمَّن كافراً؛ بل حتى لو أمَّن أهل قرية بكاملها فإنها أمان من المسلمين كلهم، لا تخفر هذه الذمة ولا تنقض، ولا يجوز أن يعتدى عليها؛ لأنهم ما داموا قد دخلوا في أمان المسلم فينبغي حفظ هذا الأمان؛ لأن المسلمين لا يغشون ولا يخونون ولا ينكثون، حتى إن الإسلام إذا أراد أن يحارب من بينه وبينه عهد ينبذ إليه وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58]، فالإسلام لا توجد فيه الخديعة؛ بل أمره واضح أشد من وضوح الشمس.

    فمن هنا إذا كان الكافر له ذمة في ماله فإنه يحرم التعامل مع الذمي بالربا؛ لأن الذمي له حرمة في ماله، وقد يحتال في غير الذمي ممن ليس له أمان كالحربي؛ فالحربي ماله حلال، فقال بعض العلماء: الحربي ماله حلال، ويجوز أن تأخذ ماله بالعقد وبغير العقد، فهنا لو تعاقد مع حربي وأعطاه مائة على أن يردها مائة وخمسين، حلت له الخمسون على أن ماله لا حرمة له.

    لكن الإشكال أن العقد حرمه الله على المسلمين، فلو قلنا بجواز هذا لأجزنا بيع الخمر لأهل الذمة، ومذهب جماهير العلماء على حرمة هذا العقد، أي: تحريم أخذ الربا من المسلم والكافر على حد سواء، وهذا مبني على عموم الأدلة؛ لأن الله عز وجل أنزل من فوق سبع سماوات على رسوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، فكل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر ويتلو كتابه، ويُلزم بهذا الكتاب، فإنه يلزم بتحريم الربا مطلقاً، ما فرق الله بين مسلم وبين كافر، وما فرق الله بين ذمي وغير ذمي، فالحكم عام.

    ومن الفوائد التي قد تستفاد من هذا: أنه إذا حرم الربا مع الذمي كان أبلغ في إحياء سنة الإسلام وإبطال ما خالفه؛ لأن الذمي إذا أخذ منك الدين مائة ورده لك مائة؛ أحب الإسلام، ونظر إلى الفرق بين معاملة المسلم ومعاملة غير المسلم.

    ومن هنا لو وضع ماله في مصرف كافر وأعطاه عليه فائدة فلا يأخذها؛ لأن الله أوجب عليه أن يأخذ رأس ماله فقط: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ [البقرة:279]، ولو قيل بأخذ هذه الزيادة حتى لا يستفيد منها الكافر، لنظر الكفار إلى المسلمين على أنهم يتعاملون بالربا كما يتعاملون هم، ولم يحسوا بسماحة الإسلام وبمزيته، فنحن نصلح جهة ونخرب جهات، ونجد أن من يقول بأخذها يحتار ويقول: لا تصرف في بناء المساجد ولا في الأطعمة ونحوها، وإنما تصرف في أشياء بعيدة عن أجساد الناس، فمعناه أنه يحس أن هذا المال فيه شبهة.

    إذاً: لماذا لا نتمسك بالنص: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] ونترك هذا المال، ولو تركناه فعلاً فإن الكافر يشعر أن المسلم له مزية على غيره، ووالله لقد فعلها بعض أهل العلم من مشايخنا، قال: فوجدت لها أثراً بليغاً في نفسي؛ لأنه كان في سفر، واحتاج أن يجلس فترة في بلد كافر؛ فأعطوه فوائد زائدة عن المبلغ الذي معه، وكان مضطراً إلى حفظه عندهم، فلما قال: لا آخذ إلا رأس مالي، فحاولوا معه فما استطاعوا، ثم ذهبوا إلى مدير المصرف، فقال له: لماذا لا تأخذ الربح؟ قال: إن ديني لا يسمح لي أن آخذ إلا مالي، فظل مدهوشاً، ثم قال: ما هي ديانتك؟ فقلت: الإسلام. قال: الإسلام يفعل هذا! وتعجب! قال: ثم صرت أشرح له الإسلام، وأقول: إن العدل إذا أعطيتك عشرة آلاف ريال أن آخذ عشرة آلاف ريال فقط، فأصبحت أقنعه، فتعجب كيف أنه يأخذ من الناس العشرة بزيادة؟ وكيف يأخذ من الناس الزيادة؟ فأصبح هذا درساً له، وكما أن الدروس تكون قولية تكون أيضاً عملية، والدروس العملية قد تكون أبلغ؛ لأنك تترك له الفائدة فيحس بعزتك واحتفاظك بدينك، وأن الدنيا تحت قدميك إن عارضت دينك.

    فهناك عبر يمكن أن تستفاد، لكن عندما يلتزم بالأصل الذي قال الله: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] مع أن هذه الآية نزلت في بقايا ربا الجاهلية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:278-279]، فدل على أنه يسحب رأس المال، لا تَظْلِمُونَ [البقرة:279] لو سحب الرصيد ناقصاً وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، فكما أنك لا ترضى أن ينقص رصيدك، فينبغي لك أن لا تطالب بالزيادة.

    إذاً: لم يفرق الله بين مسلم وبين كافر في هذه المسألة، ولو قلنا بهذه العلة في أخذ مال الكافر لدخلنا حتى للمسلم غير الملتزم وقلنا أيضاً: هذا غير الملتزم ربما يستعين بالفائدة، ثم نخوض في الرأي إلى ما لا نهاية، فالنص إذاً أحمد وأسلم وأدق، وإذا وجد الشخص في الرأي علة وفائدة، فإنه سيجد في النص والتزام الأثر والمنقول حكماً أعظم من علله التي يستنبطها، وصدق الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] .

    فالخلاصة: أن الربا لا يجوز بين المسلم والمسلم، وبين المسلم وغير المسلم أياً كان ذلك؛ للأمور والأدلة التي دلت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    ومما يدل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للصحابة أن يتعاملوا مع اليهود الذين كانوا في المدينة بالفضل والزيادة، وكان ذلك أربح لهم وأكثر تجارة لهم، ولكنه لم يبح لهم ذلك، ونزل النص عام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجب العمل بعمومه وعلى ظاهر ما ورد.

    1.   

    الأسئلة

    بذل المجهود في دراسة الفقه

    السؤال: يجد بعض طلاب العلم في أبواب المعاملات عامة وفي مسائل البيوع كصفة خاصة بعض الصعوبة وعدم الفهم لهذه المسائل والأبواب، فما هو الطريق الصحيح الذي يسلكه طالب العلم لكي يستطيع أن يفهم ويدرك ذلك؟ وجزاكم الله خيراً.

    الجواب: أولاً: ينبغي أن يعلم أن الله تعالى فضل العلم وشرفه وأعلى مقامه ومقام أهله، وأثنى عليهم في كتابه، وإذا كان العلم صعباً ويحتاج إلى عناء فاعلم أن الرحمة فيه أكثر، وأن الأجر فيه أعظم، وأن البلاء فيه يعلي درجة العبد أكثر من غيره.

    فإتقان المسائل المستعصية والصعبة يعلي الله عز وجل به قدر صاحبه، وهذه هي سنة الله، فإن الله تعالى إذا علم الإنسان وفتح عليه وتعب في تحصيل العلم، سيأتي اليوم الذي يجد فيه ثمرة ما تعلم، فيجد بلاءه في هذه المسائل المستعصية الدقيقة أعظم من المسائل السهلة، ويجد من نفع الناس وعظيم الخير الذي يترتب على هذه المسائل التي ضبطها ما لم يجده في واضح المسائل. نعم، إن مسائل المعاملات صعبة، وأصعب من ذلك أن يتركها طلاب العلم، حتى تصبح منسية ولا تدرى أحكامها، فيقع الناس في الحرام وهم لا يعلمون، فهذا من الجهاد في طاعة الله عز وجل: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] .

    فمن جهاد طالب العلم صبره على المسائل الصعبة، ومن سنن الله تعالى أن يبتلي طالب العلم في بعض الأحيان بالسآمة والملل مما يجد من صعوبة المسائل، لكن إذا فتح الله عليه بطمأنينة الصدر، وأحس بفضل هذا العلم وحاجة الناس إليه، وقال: أصبر وأحتسب والله يعين، فتح الله له من أبواب رحمته ما لم يخطر له على بال.

    وإني والله أقولها وأشهد أن من تعب في هذا العلم فإنه سيجد من أثره وبركته ما لم يخطر له على بال، ولكل زمان رجال، وقد تأتي في بلدة أو قرية أو منطقة بل وفي مدينة لا يتقن هذا الباب غيرك، فتصبح الوحيد الذي تقام به حجة الله على عباده في ذلك المكان.

    وكفى بذلك شرفاً وفضلاً، أن يأتي طالب العلم فيقرأ باب الفرائض، ومسائل المواريث، ويأتي إلى القرية فيصبح هو الوحيد الذي يرجع إليه، فينال من دعوات الناس، وصالح ذكره، وجميل ذكرهم، ما يكون له به عاجل الخير في الدنيا، وما ينتظره عند الله أعظم وأجل.

    لا تسأم من العلم ولا تمله، بل أحب كل كلمة وجملة فيه، تحبها لله وفي الله، وابتغاء مرضات الله، وتحس أنك قد غفلت وفاتك، فإن التاجر الآن إذا جاء موسم التجارة عمل وكدح وتعب، ثم جاءه تاجر مثله وقد ربح أكثر من ربحه، وقال له: أين أنت عن التجارة الفلانية؟ تقطع قلبه حسرة على متاع الدنيا الزائلة الفانية، ولربما مرض لما يجد من الغبن والحرقة في نفسه أنها فاتته هذه الصفقة، فلا إله إلا الله ما أعظم صفقة الآخرة! وما أعظم ثوابها عند الله سبحانه وتعالى!

    ولذلك وصف الله يوم الآخرة بيوم التغابن، حتى أصحاب الخير يغبنون بما فاتهم من الخير، فمن كان ملتزماً مسجده وعبادته غُبن أنه لم يكن من أهل العلم، الذين تعدى خيرهم إلى الغير، وانتفعت بهم الأمة، مما يرى من مثاقيل الحسنات وعظيم الدرجات التي أعدها الله لصالح المؤمنين والمؤمنات الذين تعبوا في تحصيل هذا العلم.

    فأقول هذا الكلمة شحذاً للهمم، فالإنسان يشحذ همته للخير، واعلموا أنكم تعاملون الله، لا تتعلم هذا العلم لكي يقال: فلان عالم، أو فلان يضبط، أو فلان فقيه، ولكن لكي تعذر إلى الله أولاً بتعلمك وضبط هذا العلم، فتتقي ما حرم الله، وتفعل ما أحل الله لك، ثم تعلم غيرك، إن فعلت ذلك عظم أجرك.

    قال بعض العلماء: عجبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الرجل الذي جر غصن الشوكة عن طريق المسلمين: (مر على غصن الشوك، فقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم، فزحزحه عن الطريق، فزحزحه الله به عن نار جهنم)، وفي رواية: (فغفر الله له ذنوبه) .

    قال بعض العلماء: إذا نظرنا إلى الجهد في سحب غصن الشوك وجدناه جهداً يسيراً، قالوا: لكنه لما انطوى على نية الخير للمسلمين، فقال: أزحزح هذا الغصن عن طريق الناس لا يؤذيهم بالشوك، فكيف بمن تعلم مسائل الربا لكي يزحزح الناس عن نار جهنم؟ فهذا أجر من يزحزح غصن شوك من طريق المسلمين، فكيف بمن يتعلم هذه المسائل لكي ينقذ الأمة الحائرة الجاهلة ويعلمها ويوجهها؟

    أرجو من الله أن يكون له الخير، بل حتى لو نوى بقلبه ولم يتم هذه المسائل، فإن المعامل كريم، الله الله أن يحتسب طالب العلم ويصبر، كم سهرنا من الليالي مع الأصحاب والأحباب! وكم لقينا من المشقات ونحن ننتظر تجارة من الدنيا، وننتظر أمراً من مباحات الدنيا، أو نبني منـزلاً! كم سهرنا من الليالي في بناء المنازل! وكم.. وكم! ولا نسهر ولا نتعب على قال الله وقال رسوله، هذا العلم الذي قل من يطلبه ويبحث عنه.

    فلا تمل ولا وتسأم ولا تضجر، وإن وجدتها صعبة فقل: أصعب منها أن أولي ظهري لهذا العلم، وأصعب منها أن أتقاعس؛ لا بل تتعب، فإن كنت ضعيفاً في الحفظ فإن الله يفتح لك من أبواب رحمته، وكرر فربما كان طالب العلم ضعيف الحفظ، لأن الله يريد منه أن يكرر المرة تلو المرة، تلو المرة فيسطر في صحيفة عمله من الحسنات ما لم يخطر له على بال.

    قد يحفظ الحافظ في مرة واحدة، لكن أنت تجلس عشرين مرة أو ثلاثين مرة لكي تكتب لك ألوف الحسنات ومثاقيل الحسنات، ورب ضارة نافعة، لكن متى؟ إذا تعبت وجديت وكدحت، فإياك أن تجعل بينك وبين الخير حاجزاً، وصاحب الهمة الصادقة لا يبالي بالتعب؛ لأن هذا في مرضات الله تعالى ورضوانه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756519844