إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الخيار [4]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أقسام الخيار: خيار التدليس، وهذا الخيار فيه عدل من الله سبحانه وتعالى ولطف بعباده، ويقع هذا الخيار إذا دلس البائع على المشتري، فيظهر له الشيء كاملاً والحقيقة أنه خلاف ذلك. ومن أقسام الخيار أيضاً: خيار العيب، وقد شرع هذا الخيار دفعاً للضرر عن المسلم، وفيه توبيخ وقرع لأهل الغش. والعيوب منها ما هو مؤثر في المبيع ويستحق به الرد، ومنها ما هو يسير يتجاوز عنه أو لا يستحق إلا بالشرط، وقد تكون العيوب حسية وقد تكون معنوية. وإذا ثبت العيب فله أحكام مترتبة على ثبوته.

    1.   

    خيار التدليس تعريفه ومشرعيته

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    يقول المصنف رحمه الله تعالى: [الرابع: خيار التدليس]:

    شرع المصنف رحمه الله في النوع الرابع من أنواع الخيارات، وهذا النوع يتعلق بالتدليس، وأصله من الدلسة وهي الظلمة.

    ويقع هذا الخيار إذا دلس البائع على المشتري، فأظهر له حسن الشيء المبيع وجماله وكماله، وكان الواقع والحقيقة أنه بخلاف ذلك، فإذا دلس عليه وأوقعه في لبس من أمره، فاشترى الشيء على أنه كاملٌ فبان ناقصاً، واشترى الشيء على أنه سالِمٌ فبان معيباً، فإنه حينئذ يكون للمشتري الخيار، فيقال له: إن شئت قبلت، وإن شئت رددت.

    وخيار التدليس فيه عدل من الله سبحانه وتعالى، ولطف بعباده، وذلك أن المبيعات ربما اغتر المشتري بظاهرها، وظن أنها سالمة فدفع فيها القيمة على أنها تستحق ما دفع، ثم يتبين له أن الأمر بخلاف ذلك، وحينئذٍ لطف الله عز وجل به، فشرع له أن يرد المبيع؛ لأنه اشتراه كاملاً فبان ناقصاً، واشتراه سالماً فبان معيباً، ولم يقع البيع على شيء معيب، وإنما وقع البيع على شيء سالم من العيوب، فشُرِع له أن يرده.

    وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الواجب على المسلم أن ينصح لأخيه المسلم، وألَّا يغشه ولا يدلس عليه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من غشنا فليس منا) والسبب في ذلك: أنه دخل السوق، فوجد رجلاً يبيع الطعام، فأدخل يده صلى الله عليه وسلم في طعامه، فأصابت يدُه البلل، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما هذا يا صاحب الطعام؟ فقال: أصابته السماء يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: هلَّا وضعته فوق الطعام حتى يراه الناس؟! من غشنا فليس منا).

    فدل هذا الحديث الشريف على حرمة التدليس على المسلم.

    ويقع التدليس بوضع الشيء الطيب من أعلى ووضع الرديء من أسفل.

    ويقع التدليس بتسوية الأشياء، فتُرى على أنها جميلة وكاملة وعلى أنها فاضلة، ثم يتبين أن الأمر بخلاف ذلك.

    وقد ذكر المصنف رحمه الله لهذا أمثلة، تعتبر بمثابة التطبيق لما ذكر من نص.

    صور لخيار التدليس

    قال رحمه الله: [كتسوية شعر الجارية وتجعيده]:

    وفي بعض النسخ: [كتسويد شعر الجارية] وقد كانوا في القديم يشترون الجواري والإماء، ويحصل التدليس في صفة الجواري فيسرح الشعر، فترغب الناس فما كان أسود الشعر، ويكون شعرها أشقر فيضرب بلون السواد، أو يكون شعر الجارية أحمر فيصبغ بلون السواد، كل ذلك ترغيباً للمشتري في الصفقة، فإذا فعل هذا وصبغ شعر الجارية على لون يحبه الناس، ثم تبين أن الأمر بخلاف ذلك، شرع حينئذٍ خيار التدليس.

    وكذلك على النسخة الأخرى [كتسوية شعر الجارية ] وهذه التسوية تكون بتسريحه على وجه يكون فيه التواء، وهذا النوع من الشعر إذا كان ملتوياً، كان فيه دليل على قوة البدن وصحته، بخلاف ما إذا كان الشعر رقيقاً فالغالب أنه يدل على ضعف البدن، فحينئذٍ إذا سواه بهذه الصفة، رغب المشتري في الجارية، وظنها قوية وظنها جميلة الشعر، ثم يتبين أن الأمر بخلاف ذلك.

    هذه أمثلة قديمة، وفي عصرنا الحاضر ربما فعل البائع شيئاً في صفقته التي يعرضها للبيع، فجملها وحسن صورتها من الظاهر وهي في الباطن بخلاف ذلك، فيثبت خيار التدليس كما يثبت فيما ذكره المصنف رحمه الله من الأمثلة القديمة.

    قوله: (وتجعيده)

    وهكذا التسوية والتجعيد، ومن التسوية تسوية الثياب، وقد ذكرها العلماء رحمهم الله، وهذا بالمبالغة في كيها وتنظيفها حتى تبدو كأنها جديدة، وهي قديمة، أما لو كانت قديمة، وكويت وعرضت للبيع فلا بأس، لكن أن تكون قديمة ثم يحسن ظاهرها فإذا رآها الإنسان ظنها جديدة، والواقع بخلاف ذلك، فهذا يعتبر من التدليس كما ذكر المصنف في تجعيد الشعر، فإن تجعيد الشعر إذا سرحه على وجه يبدو فيه ملتفاً، فإنه يرغب في الجارية أكثر، فهذا من التدليس والغش والكذب ويوجب للمشتري الخيار.

    قال رحمه الله: [وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها]:

    وقد كانت المزارع في القديم يستقى لها، وإذا جمع الماء وأرسل أمام الزبون أو أمام المشتري رغب في البستان وظن أن الماء كثير، وهكذا في زماننا ما يوجد من (المكائن)، ففي بعض الأحيان تدار (المكينة) فيكون الماء قوياً عند إدارتها في الأول، ثم يبدأ يضعف فيضعف حتى يصل إلى مستواه المعتاد، بعد ساعة أو بعد ساعتين، أو بعد ثلاث، فإذا جاء المشتري يريد أن يشتري المزرعة، فإنه يدير (المكينة) أو نحوها، فينظر فإذا بالماء كثير؛ لأنه في بداية الصب، فيظن المشتري أن ماء المزرعة كثير، ويرغب فيها، ويعتقد أنها متوفرة الماء، فيشتريها وإذا بالماء قليل، فإذا فعل البائع هذا الشيء، فإنه يثبت للمشتري خيار التدليس، وقد كان الواجب على البائع أن يقول له: هذا الماء كثير، ولكنه بعد ساعة أو بعد ساعتين، يبقى مثلاً (بوصتين) أو يبقى (ثلاث بوصات)، أو يبقى (بوصة) أو (نصف بوصة) كما هو متعارف عليه في أعراف الناس اليوم، فإذا لم يبين له ذلك على هذا الوجه فقد ظلمه ودلس عليه، وحينئذ يثبت خيار التدليس.

    1.   

    تعريف خيار العيب وصوره

    قال المصنف رحمه الله: [الخامس: خيار العيب]:

    يذكر المصنف رحمه الله: القسم الخامس من أقسام الخيار، وهو خيار العيب.

    والعيب في اللغة: النقص، يقال: عابه عيباً ومعيباً إذا انتقصه، والمراد بالعيب في البيع: نقصان المالية نقصاً مؤثراً.

    (نقصان المالية): والمالية: تأتي على وجهين:

    فيراد بها القيمة، فمثلاً: أنت تشتري السيارة على أنها سالمة من العيب، فتكون قيمتها عشرة آلاف، وبهذا العيب تنقص قيمتها إلى تسعة آلاف، فمعنى ذلك: أنها انتقصت عشر قيمتها، وحينئذٍ يقولون: إن وجود هذا العيب أنقص المالية والقيمة، فالعيب هو الذي ينقص المالية أي: القيمة.

    وقال بعض العلماء: المال هو كل شيء فيه منفعة. وعلى هذا يكون نقصان المالية: إما نقص المنفعة الحسية أو نقص المنفعة المعنوية.

    ونقص المنفعة الحسية كأن يشتري دابة مقطوعة القدم، تبدو شلاء أو بها عرج أو نحو ذلك.

    أو نقصان النفع بحيث يكون العيب راجع إلى النفع، مثل الجنون في الأرقاء.

    وهكذا بالنسبة للعيوب الخلقية الموجودة في الدواب، فقد كانت الدواب في القديم، لها عيوب خَلقية وخُلقية.

    فمن العيوب الخُلقية: إذا أراد أن يركب على الدابة جمحت ونفرت، وفي بعض الأحيان ربما أسقطت الرجل من على ظهرها، والجنون أيضاً في البهيمة، فهذه عيوب كلها تؤثر في نفسية المبيع.

    وتارةً يكون العيب راجعاً إلى الذات، فإذا رجع إلى ذات المبيع -كما ذكرنا- كالشلل، فباعه عبداً فبان مشلولاً أو باعه دابة فبانت مشلولة، أو بان بها عمى أو مرض في جسمها، أو نحو ذلك، فهذه العيوب الجسدية تنقص المنفعة، فأنت إذا أردت أن تنتفع من دابة جموح فإنها تضر بك، وتعطل مصالحك.

    وإذا كانت الدابة مريضة واشتريتها على أنها سليمة، فإذا جئت تركبها فإنك تتعطل عن مصالحك وتتأخر عن منافعك ووجود المرض فيها قد يضر في لبنها وحليبها، وقد يضرك بلحمها إذا أكلتها.

    فنقصت المالية من جهة نقص المنفعة، فالمنفعة إذا قلنا: نقصان المالية نقصان القيمة فلا إشكال، وإن قلنا: نقصان المالية نقصان المنفعة سيتم تأوليها على هذا الوجه.

    العيوب التي تؤثر في المبيع والعيوب التي تستحق بالشرط

    والعيوب تارة تكون عيوباً في ذات المبيع، أو تكون عيوباً مستحقة بالشرط.

    فالعيوب التي تكون في ذات المبيع هي التي تعطل منافع المبيع أو تنقص قيمته، وهي ترجع إلى ذات الشيء فيبدو ناقصاً بعد أن ظنه كاملاً، وهذا العيب ينقص المنفعة أيضاً فلا يستطيع أن يجد منه من المنافع والمصالح ما كان يرجوه ويأمله.

    وكذلك أيضاً تكون العيوب عيوب كمال، والعيوب الكمالية: هي التي لا يستحق فيها المشتري الخيار، إلا إذا اشترطها على البائع، فمثلاً:

    إذا اشترى الإنسان سيارة، واشترط شيئاً في السيارة، والسيارة بذاتها كاملة، فمنفعة السير موجودة، ومنفعة الركوب عليها ممكنة، لكنه اشترط أن يكون فيها (مسجل)، فهذا شرط كمال، إذ يمكن أن تباع السيارة بدون مسجل.

    فلو بيعت بدون مسجل وجاء المشتري يقول: هذه السيارة معيبة، قلنا: ما عيبها؟ قال: ليس بها مسجل، نقول: عدم وجود المسجل ليس بمؤثر في منافع السيارة، وليس بعيب في ذات السيارة، فالسيارة تراد للركوب غالباً ومنافع الركوب فيها ممكنة، وحينئذ نقول: هذا ليس بعيب.

    لكن لو قال عند الشراء: أشترط أن يكون بها (مسجل)، فإن عدم وجوده عيب. أو باع بيتاً.

    فإذا قال لك: أبيعك بيتي، وصفته كذا وكذا، وصف لك طوله وعرضه، وصفاته الكاملة، لكنك قلت له: أشترط أن يكون فيه -مثلاً- الهاتف أو الماء أو الكهرباء، فهذه منافع، والبيت لذاته إنما يعد للسكنى.

    فلو أن رجلاً اشترى بيتاً، ثم لم يجد فيه الهاتف، وقال: هذا عيب، قلنا: ليس بعيب؛ لأن البيت يراد للسكن، ولا يراد للاتصال فعدم وجود هذا الجهاز فيه لا يقتضي نقصانه ولا يقتضي كونه معيباً؛ لكن لو أنه اشترط عليه وجود هذا الجهاز فيه فإنه يعتبر عيباً، ويجوز له أن يرد إذا لم يجد هذه الصفة فيه.

    لو اشترى أرضاً فقال للبائع: أشترط أن يكون لها صك شرعي، فقال البائع: وهو كذلك، أي: لها صك شرعي، وتم العقد بينهما على هذا الأساس، وتبين أن الأرض لا صك لها، أو أنه لا يملكها بصك، فحينئذ من حق المشتري أن يرد الأرض ويعتبر هذا العيب.

    إذاً: العيوب الكمالية لا تكون عيوباً إلا إذا اشترطت. وفي بعض الأحيان تكون الكمالات عيوباً إذا لم تشترط إذا جرى بذلك العرف، فمثلاً:

    لو قال لك: أبيعك هذه السيارة بعشرة آلاف، فنظرت في السيارة وإذا بها على ما تريد وترغب، وجميع أوصافها وما تريده منها من الانتفاع ممكن ومتيسر، لكنك لما دفعت العشرة آلاف وركبتها، إذا بها لا يوجد بها المكيف -مثلاً- فجئت وقلت: هذا عيب.

    ففي هذه الحالة ننظر: لو جرى العرف أن هذا النوع من السيارات الغالب أن يكون فيها مكيفاً، فحينئذٍ: (المعروف عرفاً كالمشروط لفظاً).

    فنقول: صحيح أنه لم يقل: أشترط أن يكون بها هذا الجهاز؛ ولكنه معروف بالعرف أن هذا النوع من السيارات يوجد به هذا الكمال فهو كالشرط، أي: جريان العرف به كالشرط، وإنما سكت المشتري لأنه سيشتري شيئاً معروفاً.

    الخلاصة:

    هناك عندنا عيوب مؤثرة في ذات المبيع، وعندنا عيوب تستحق بالشرط، وهذا ما مثلناه في العصر الحديث وفي القديم كأن يقول لك: أشتري منك العبد بشرط أن يكون كاتباً، أي: يعرف الكتابة؛ لأنهم يحتاجونه في كتابة الرسائل ونحوها، حتى يستأجره الناس وينتفع من وراء ذلك.

    أو أشترط أن تكون له صنعة.. إلى آخر ذلك من الشروط، فالرقيق بذاته منفعته موجودة؛ لكن اشتراط الكتابة فيه يستحق به الرد، متى ما وجد على خلاف الشرط.

    وهكذا بالنسبة للدابة -كما مثلنا في الحديث- فقد كانوا في القديم يشترطون أن تكون الدابة هملاجة، أي: السريعة، أو أن يكون الفرس سريعاً، أو أن يكون البعير سريعاً؛ لأنه يريده للركوب ولأن الدواب في القديم تارةً تشترى للحم، ويسمونها: الشاة الأكولة، الناقة الأكولة، البقرة الأكولة، أي: أنها اشتريت من أجل لحمها لكي تؤكل.

    وتارةً تشترى للركوب، فيقال: دابة ركوب، ناقة ركوب، أي: اشتراها من أجل أن يركب عليها.

    وتارةً تشترى من أجل الحليب، فيقال: شاة حلوب، وبقرة حلوب، وناقة حلوب.

    فهذه الكمالات: كونها حلوباً، وركوباً، أو سمينة طيبة اللحم؛ لا تعتبر عيوباً إلا إذا اشترطها المشتري.

    وبهذا يتبين أن العيب في قول العلماء: هو نقصان المالية، وذلك إما أن يكون نقصاً في الذات، أو نقصاً في النفع، ثم هذان النوعان -نقص الذات ونقص النفع- يعتبر منها العيب المؤثر أي: الذي يعتبر نقصه قوياً.

    وأما النوع الثاني من العيوب: وهي العيوب التي تستحق بالشروط، وهي التي يسميها العلماء رحمهم الله: عيوب الكمالات، فلا تستحق بالطلب والدعوى، ولكن إذا جرى العرف بوجودها ولم توجد في المبيع، كان من حق المشتري أن يرد المبيع، ويثبت له خيار العيب، وهذا من حيث الإجمال.

    من حيث التفصيل:

    المبيعات تارة تكون عقارات.

    وتارة تكون منقولات.

    وتارة تكون من الأثمان.

    فإذا باع الإنسان أو اشترى فإما أن يبيع ثمناً، ويشتري ثمناً، وإما أن يبيع مثمناً ويشتري مثمناً، أو يبيع ثمناً ويشتري مثمناً، كما ذكرنا في تقسيمات البيع الثلاثة:

    - مثمن بمثمن، وهو بيع المقايضة.

    - ثمن بثمن، وهو بيع الصرف.

    - ثمن بمثمن وهو البيع المطلق.

    ففي الثمن يكون النقص في الورق النقدي والعيب في الورق النقدي، كأن يبيعه ورقاً أو يصرف له ورقاً مزوراً أو مزيفاً، وفي القديم كانوا يقولون: (دراهم زيوف ودنانير زيوف).

    في عصرنا الحاضر يصرف له دولارات مزيفة، هذه الدولارات المزيفة إذا ثبت زيفها، كان من حقه أن يردها وأن يأخذ عين ما دفع.

    وكذلك أيضاً بالنسبة لنقص القيمة الشرائية لها، فهذه ليس لها قيمة شرائية أصلا،ً ما دامت زيوفاً.

    في بعض الأحيان يكون الورق الموجود دولارات، قال لك: أصرف لك هذه المائة دولار بألفين ريال مثلاً، فقلت له: قبلت، فأخذت المائة دولار فوجدتها مقطعة، وهذه المقطعة لا يمكن أن تسري في السوق، ولا تقبل ولا تروج، فمن حقك أن تردها؛ لأن هذا نقص يؤثر في الانتفاع من هذه الدولارات؛ لأنك حينما أخذتها إنما أخذتها من أجل أن تكتسب بها وتنتفع بها، فتتعطل منفعتك بهذا النقص، فحق لك أن تردها وتستبدلها أو تلغي العقد نهائياً.

    الحالة الثانية: أن يكون البيع في المثمونات، والمثمونات إما عقارات وإما منقولات.

    فالعقارات مثل البيوت، ومثل الأرضين، ففي البيوت يبيعه بيتاً فيه عيب، وعيوب البيوت تنقسم إلى قسمين:

    - إما عيوب في ذات البيوت ومنافعها والانتفاع بها من السكنى تحتها والاستظلال ونحو ذلك.

    - وإما عيوب نفسية تؤثر في سكنك في البيت، فتزعجك وتقلقك ولا تريحك.

    فإن كانت العيوب في ذات البيت، كانكسار سقفه، فإنه إذا باعك البيت ثم تبين أنه منكسر السقف، أو لا تأمن أن يسقط السقف عليك، فهذا نقص في المالية، من حقك أن ترد به البيع، أو باعك عمارة وتبين أن فيها دوراً كاملاً مشقق، أو جميع أدواره مشققاً، بحيث قال أهل الخبرة: هذا ضرر فادح أو فيه خطر على السكنى في مثل هذا، فمن حقك أن ترد.

    كذلك أيضاً إذا باعك وكانت الغرف مقسمة على وجه لا يمكن معه الانتفاع، كأن تشتريها للسكنى، وقلت له: أريد عمارة فيها شقق من أجل أن أؤجرها، أو من أجل أن أسكنها، وتبين أن هذه العمارة كانت سكناً للعمال، ونظامها في التقسيم لا يصلح أن تصير به شققاً، فهذا مضر لمنفعتك ويمنعك من الارتفاق بها، فيحق لك الرد، فهذه كلها عيوب حسية في ذات المبيع.

    وهناك عيوب في العقارات، فقد يكون العقار أيضاً فيه عيب حسي إذا كان من الأراضي والمزارع، مثل:

    أن يبيعه مزرعة في مجرى السيل، فإن المزرعة في مجرى السيل عرضة إلى أن يأتي السيل ويأخذ ما فيها من زرع وحرث وما فيها من ماشية، بل وما فيها من أنفس، فإذا تبين أن مكانها مهدد بالسيل، كان من حقه أن يرد؛ لأن هذا العيب يضر به، وقد يؤدي إلى هلاكه وذهاب أمواله. وحينما ذكرنا عيوب العمائر، أو عيوب البيوت من انشقاق السقف ، أو انكسار خشبه، أو وجود الأرضة التي كانت تأكل السقف في القيديم، فهذه كلها عيوب حسية.

    لكن قد يكون العيب في البيت معنوياً، وذلك مثل سكن الجن في البيت، أي: إذا كان البيت مسكونا،ً وهذا معروف بالمشاهدة والتجربة، وقد نبه الإمام ابن قدامة رحمه الله والمتقدمون على مثل هذه العيوب، فلو كانت الدار مسكونة، وهذا له علامات، ففي بعض الأحيان ينفتح الباب بدون وجود شخص، وفي بعض الأحيان ينطفئ المصباح بدون أن يطفئه آدمي، وفي بعض الأحيان تسمع الأصوات، فلابد أن توجد دلائل بشهادة أهل الخبرة أن هذا البيت مسكون، ففي هذه الحالة من حقه أن يرد البيت.

    كذلك أيضاً: الجار السوء، فجار السوء الذي يؤذي الإنسان ، قال بعض العلماء: إنه عيب معنوي، فذات الدار كاملة، وصفاتها كاملة؛ لكن إذا تبين أن جارها جار سوء يؤذي الإنسان في عرضه، ويؤذيه في نفسه بالكلام عليه، ولا يأمنه إذا غاب على أهله، ففي هذه الحالة قال بعض العلماء : إن جار السوء يستحق به الرد، خاصة إذا كان شريراً ومضراً.

    إذاً: العقارات يكون عيبها حسياً، ويكون عيبها معنوياً.

    فإذا كانت البيوت فيها عيب السكن، وعيب جار السوء، فكيف يكون في المخططات والأرضين؟

    يكون في المخطط بعدم القيمة للأرض، وذلك بعدم وجود الصك الشرعي لها، فلو باعه أرضاً وتبين أن صكها مزور، أو أن الصك ليس لها إنما هو لغيرها، ففي هذه الحالة من حقه أن يرد، فكل هذه الصفات وهذه العيوب مؤثرة في المبيع، إما أثرت في عين المبيع، أو أثرت في قيمة المبيع والانتفاع به.

    وأما عيوب الدواب فكما ذكرنا، فيكون العيب في ذاتها، الذي هو العيب الحسي، مثل مقطوعة القدم، ومقطوعة الرجل، مقطوعة اليد والشلاء، ومقطوعة الأذن، مثلاً:

    لو اشتريت شاة للأضحية، وتبين أنها مقطوعة الأذن، فحينئذٍ من حقك الرد؛ لأن مثلها لا تستطيع أن تضحي بها، على قول من قال: في حديث عدي رضي الله عنه: إن مقطوعة الأذن لا يضحى بها.

    في زمننا الحاضر مثلاً: لو اشتريت شاة وتبينت فيها الأورام والغدد، التي قد تضر بالإنسان إذا أكل من لحم هذه الشاة، فإذا تبين أن فيها هذا العيب وفيها هذا الضرر، كان من حقك أن ترد.

    وعيوب الدواب المعنوية مثل: إذا جاء يركب على الفرس ينفر منه، إذا جاء يركب على الناقة نفرت منه، وهذه يسمونها الدابة الجموح، وهي التي لا ترتاح ولا تستأنس للراكب، وفي بعض الأحيان قد تتسبب في قتله، كما في حديث ابن عباس في الرجل الذي وقصته الدابة في حجة الوداع.

    كذلك أيضاً الرقيق تكون فيه عيوب دينية، أو عيوب دنيوية، وسيذكرها المصنف رحمه الله.

    وكذلك بقية المبيعات تقاس على هذا.

    مثلاً: الثياب لها عيوب والأطعمة لها عيوب، فالطعام لو اشتريته وتبين أنه قد انتهت صلاحيته، وقد باعك في المدة التي قد انتهت صلاحية المبيع فيه، أو قال لك: هذا الطعام مدته إلى شهر، وتبين أن مدته أقل من شهر، وأنت تريده لشهر، فكل هذه تمنعك من الانتفاع؛ فالإنسان إذا اشتراه ووجد العيب في الذات أو في المنفعة أو كان عيباً معنوياً، فمن حقه أن يرد المبيع.

    مشروعية خيار العيب

    ذكر المصنف رحمه الله خيار العيب، والسؤال: ما هو الدليل على كون المسلم يستحق عند وجود العيب رد المبيع؟

    الدليل على ذلك: كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماع أهل العلم.

    أما كتاب الله: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] هذه الآية الكريمة وجه الدلالة منها في قوله : لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] و(الباطل) أكل المال بدون وجه حق.

    وعلى هذا: لو باعك السيارة كاملة بعشرة آلاف، وظهر بها عيب ينقص قيمتها إلى ثمانية آلاف، فمعناه أنه قد أخذ منك الألفين بدون وجه حق.

    ولذلك يقولون: بيع المعيبات وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل؛ لأنك تدفع القيمة كاملة في شيء كامل، والواقع أنه ناقص، فكأن ثمن المبيع على النقص يعتبر مأكولاً بالباطل، فهذا وجه الدلالة من الآية الكريمة.

    وأما من السنة: فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث المصرّاة أنه قال صلى الله عليه وسلم: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين، إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)

    وهذا حديث عظيم، فقد فرع عليه العلماء رحمهم الله مسائل العيوب، وحاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى فيه المسلم عن أن يصر الإبل والغنم، وفي حكمهما بقية الدواب.

    ومعنى (تصرية الإبل والغنم): أنهم كانوا في القديم يأخذون الناقة، ويمتنعون من حلبها ثلاثة أيام أو يومين أو أربعة، فينتفخ اللبن في ضرعها، فإذا رآها رجل ظنها كثيرة اللبن، فاشتراها على أنها حلوب، ثم تبين أن حليبها ليس بالصفة التي اشتراها إذاً: فالتصرية أن يمتنع من حلب الشاة أو الناقة مدة حتى يكثر أو يعظم اللبن في ضرعها، قال صلى الله عليه وسلم لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها أي: من اشترى شاة أو ناقة مصراة (فهو بخير النظرين) أي: هو بين أمرين وإن شاء أمسكها، أي: إن رضيها وقال: رضيتها، والله عز وجل يعوضني في الآخرة، وسكت عن العيب، فهذا حقه، كما لو سامح المسلم المسلم في حقه، وإما أن يسخطها ويردها على صاحبها، فقال صلى الله عليه وسلم: (وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) أي: رد الناقة أو الشاة ومعها صاع من تمر، جبراناً لذلك النقص الذي استفاده من حلبها في الأيام الماضية.

    إذاً: حديث المصراة دليل على إثبات خيار العيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن ابتاعها -أي: اشتراها- فهو بخير النظرين)، فقوله: هذا يدل على أن من اشترى شيئاً معيباً، أنه بخير النظرين إما أن يمسك وإما أن يرد.

    وفي هذا الحديث دليل أيضاً على حرمة التدليس والغش؛ لأنه قال: (لا تصروا) والنهي للتحريم؛ لأن القاعدة: (أن النهي يحمل على ظاهره الموجب للتحريم، حتى يدل الدليل على خلاف ذلك).

    وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء رحمهم الله على إثبات خيار العيب من حيث الجملة، فكلهم متفقون على أنه إذا باعه شيئاً معيباً واشتراه المشتري دون أن يعلم بالعيب، أن من حقه أن يرد، على تفصيل سنذكره إن شاء الله، يختلف بحسب اختلاف مذاهب العلماء رحمهم الله.

    وفي خيار العيب حكم عظيمة منها: دفع الضرر عن المسلم.

    فقد شرع الله خيار العيب دفعاً للضرر عن المسلم، ولذلك أمر من اشترى المعيب أن يرده إذا لم يرد، أو يبقيه إن رضيه، وأذن الله عز وجل له أن يرد المعيب، وهذا يدل على مشروعية أخذ المسلم بحقه إذا تبين له أنه مظلوم، فقد قال عليه الصلاة والسلام وإن سخطها ردها، فمن حقك أن ترد المعيب لأنك ظُلمت، وقد اشتريت الكامل ولم تشتر الناقص، ودفعت ثمن الكامل ولم تدفع ثمن الناقص فقط، وكأنك حينما اشتريت الشيء على أنه كامل وتبين أنه ناقص فكأنك عقدت العقد الذي بينك وبين البائع على شيء غير هذا الشيء، وبناء عليه تستحق الرد.

    وفي خيار العيب -أيضاً- قرع وتوبيخ لأهل الغش وصيانة لأسواق المسلمين من الكذابين والغشاشين، ولو أنه كلما ظهر عيب ردت المبيعات لعُرف الغشاشون، ولم يستطيعوا أن يتسلطوا على المسلمين، ولكن إذا لم يعط المسلم خيار العيب، فإن معنى ذلك أن يتسلط الغشاشون ولا يجدون من يردعهم عن غش المسلمين، فتصبح الأسواق مليئة بالغش والكذب، حتى لا يأمن الإنسان في تجارته وبيعه وشرائه.

    1.   

    العيوب الحسية والمعنوية وتأثيرها في المبيع

    قوله رحمه الله: (خيار العيب) أي: من أقسام الخيار التي دل عليها دليل الشرع خيار العيب.

    وقوله: [وهو ما ينقص قيمة المبيع كمرضه]:

    وبعض العلماء يقول: (نقصان المالية)، والمالية هي القيمة فلا إشكال.

    فقوله: (ما ينقص قيمة المبيع): أي: الشيء المبيع، سواء كان ثمناً أو مثمناً.

    (كمرضه): الكاف للتمثيل أي: مثل المرض، والمرض ينقص قيمة المبيع؛ لأن المبيع المريض منفعتُه أقل من المبيع الصحيح؛ ولأن المبيع المريض يكلف المشتري كلفةَ دوائه وعلاجه والقيام عليه؛ ولأن المبيع المريض قد يدخل الضرر على الإنسان، كما لو كان به مرض معدٍ، أو نحو ذلك، فذكر المرض في العيب يشمل المرض الذي هو حسي، والمرض المعنوي.

    فالمرض الحسي: مثل الأمراض التي تُرى وتُشاهد كالجرب ونحو ذلك.

    والأمراض المعنوية: مثل أن يكون به مرض نفسي مما يوجب أو يمنع الانتفاع به على الوجه المطلوب.

    قال رحمه الله: [وفقد عضو أو سن أو زيادتهما]:

    (وفقد عضو): كاليد، كما إذا باعه رقيقاً، وتبين أنه مشلول اليد، وهكذا، هذا في القديم.

    وفي الحديث: لو باعه سيارة ليس لها عجلات مثلاً، والسيارات تراد للركوب، فلو باعها بدون أن يكون لها فهذا في حكم فقد العضو؛ لأنها لا يمكن أن تسير ولا أن ينتفع بها إلا بوجود هذا الشيء الذي هو (إطارها) الذي تسير عليه.

    (أو سن)

    فقد السن يؤثر في الدواب، ويؤثر أيضاً في الأرقاء، والسبب في هذا: أن السن يؤكل به، وفقده يضعف أكل الدابة فتضعف، وكذلك أيضاً فقد السن ربما يدل على مرض كما يقع في بعض الأمراض من تساقط الأسنان، وكذلك أيضاً فقد السن ينقص الجَمال في الأمة، إذا اشتراها من أجل أن يعف نفسه عن الحرام؛ لأن الله أحل له وطأها.

    فالمقصود: أنه مثل رحمه الله من بيئته بما كان موجوداً في القديم.

    (أو زيادتهما)

    أي: زيادة الأعضاء فإن هذه الزيادة تنقص المالية؛ لأن بعضها يؤثر في المبيع؛ لأن بعض الأسنان إذا زيدت تحدث الألم، وهذا يضر بالمبيع.

    وبعض الأعضاء إذا زيدت يمتنع الارتفاق، ويمتنع الانتفاع بالرقيق بالوجه الكامل، أو بالوجه الأفضل والأكمل.

    قال رحمه الله: [وزنا الرقيق]:

    هناك عيوب حسية، وعيوب معنوية إذا أردت أن تقسم العيوب.

    العيوب الحسية: هي التي تكون النقص فيها في الخِلقة في الآدميين والدواب، أو النقص في أركان البيت، وفي منافعه.

    لو باعه بيتاً بدون دورة مياه مثلاً، فهذا يعتبر نقصاً مؤثراً، فهذه عيوب حسية، وهي تشاهد وترى.

    وهناك عيوب معنوية، والعيوب المعنوية لها ضابط عند العلماء: وهي ما كانت راجعة إلى الخلُق، والنفس، وهذه العيوب النفسية أو المعنوية منها ما هو ديني، ومنها ما هو دنيوي.

    فالعيوب الدينية مثل زنا الرقيق، والسبب في هذا: أنه إذا كان الرقيق قد عرف بالزنا، فإنه لا يؤمن على العرض، وكان الأرقاء يحتاجون لقضاء مصالحهم، وربما دخل البيت لقضاء المصلحة، كحمل المتاع ونحو ذلك، وربما غاب السيد عنه وسافر، فوجود الزنا في الرقيق عيب، وهذا مذهب جمهور العلماء.

    وخالف الإمام أبو حنيفة النعمان عليه من الله الرحمة والرضوان، فقال: الزنا في الرقيق ليس عيباً، واحتج بما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد، ولا يثرّب عليها، ثم إذا زنت الثانية فليجلدها الحد، ولا يثرّب عليها، ثم إذا زنت الثالثة فليجلدها الحد ولا يثرّب عليها، ثم ليبعها ولو بظلف شاة) قال: فإذا بيعت وهي زانية، فهذا يدل على أن الزنا ليس بعيب.

    قال: ولأن الزنا قد يقع بسبب التساهل في البيئة، فتكون زانية عند زيد وليست بزانية عند عمرو، فزيد يتركها تتعاطى ذلك أو يتساهل في حفظها، وعمرو يحفظها، فهو يقول: ليس بعيب؛ لأن هذا الشيء يحتاج إلى تحفظ ويحتاج إلى صيانة، وهكذا بالنسبة للذكر.

    وهي مسألة خلافية مشهورة، والأقوى أنه عيب كما ذهب جمهور العلماء، وحديثنا وهو قوله : (ثم ليبعها ولو بظلف شاة) لا يمنع أن تباع ويبين أنها زانية؛ لأن هذا من العيوب التي تبين، فإذا بين أنها زانية ارتفع الاستدلال بالحديث، ولم يستقم استدلاله رحمه الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار... -ثم قال-: فإن صدقا وبينا) لأن من المعلوم أنها إذا كانت زانية وجاء يبيعها، فإنه يجب عليه أن يبين أنها ليست بمستقيمة وأنها تقع في الزنا، فإذا بين ذلك انتفى كونه عيباً، ومن هنا لا يقوى اعتبار هذا الحديث حجة على جمهور العلماء رحمهم الله، والصحيح أنه عيب.

    قال رحمه الله: [وسرقته]:

    هذا من دقة المصنف، فقد ذكر رحمه الله العيوب التي هي نقصان في الخِلقة: (كمرضه، وفقد عضو، أو سن أو زيادتهما) وفقد الأعضاء من العيوب الحسية، ثم جاء بالعكس وهي زيادة الأعضاء، فإن زيادة الأعضاء تنبئنا أو تشير إلينا وتخبرنا أن الأمر لا يختص بالنقص، بل بعض الأحيان تكون الزيادة عيباً، فليس العيب فقط بالنقص، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، وهو أن العيب قد يكون بالزيادة، وعلى هذا انتهى رحمه الله من العيوب الحسية، وشرع في العيوب المعنوية فقال رحمه الله: [وزنا الرقيق] فهذا راجع إلى العيوب المعنوية.

    فقوله: (وسرقته): السرقة خسة في الطبع، ولؤم في النفس أن يسرق من مال سيده، أو يسرق من أموال الناس، فهذا راجع إلى وازع نفسي، فالعبد إذا كان فيه هذه الصفة فإن معناه أنه سيء الخلق، وهذا من سوء الأخلاق الجامعة بين الدين والدنيا؛ لأن الدين لا يرضى مثل هذا، وأيضاً الناس بعقولهم وفطرهم السوية ينفرون ممن يسرق، فالسرقة تعتبر عيباً؛ لأن هذا يدخل الضرر على السيد.

    وعلى هذا قالوا: إنه إذا تبين أن العبد سارق أو معروف بالسرقة، جاز له أن يرده، فلو اشترى منه عبداً بثمانمائة دينار، ثم تبين له أنه زانٍ، أو تبين له أنه سارق، أو شهد شهود أن هذا العبد معروف بالسرقة أو بالزنا، وأثبتوا ذلك عليه، حينئذٍ يأتي إلى القاضي ويثبت هذا العيب ويرد القاضي المبيع ويعطيه قيمة ما دفع فيه.

    قال رحمه الله: [وإباقة]:

    الإباق كثرة الفرار، كأن يشتري عبداً كثير الهروب، فإن الهروب عيب، وهذا العيب يمنعه من الانتفاع به، ويضر بمصالحه؛ لأنه ربما وضعه على مصلحة فهرب عنها، فهذا فيه ضرر عليك، فإذا تبين أنه كثير الهروب، أو أنه يهرب عن سيده، فمن حقه أن ترد بهذا العيب.

    قال رحمه الله: [وبوله في الفراش]:

    هذا من العيوب، وقد ذكروا عن أعرابي أنه اشترى عبداً، فقال له البائع: فيه عيب، قال: ما عيبه؟ قال: يبول في الفراش، وهذا في القديم يعتبر عيباً؛ لأن هذا يفسد المتاع، ووجود النجاسة أيضاً تضر بمصالح المشتري.

    1.   

    الآثار المترتبة على وجود العيب

    قال رحمه الله: [فإذا علم المشتري العيب بعد أمسكه بأرشه]:

    في هذه الجملة شرع المصنف في بيان الأحكام المترتبة على وجود العيب:

    فيشترط في العيب شروط لا بد من وجودها، فمتى نحكم بأن من حق المشتري أن يرد بالعيب؟ ومتى يثبت خيار العيب؟

    نقول: الشرط الأول: أن يكون العيب مؤثراً، فخرجت العيوب غير المؤثرة، ومثال ذلك:

    لو أن رجلاً اشترى سيارة، فوجد خدشاً بسيطاً في مفارشها، فقال: هذا عيب، وأريد أن أرد السيارة، نقول: هذا عيب لكنه ليس بمؤثر. أو وجد غباراً في فراشها، نقول: هذا ليس بمؤثر، فحينئذٍ نقول: إن وجود العيب لا يكفي بل يشترط أن يكون العيب مؤثراً.

    الشرط الثاني: أن يكون المشتري غير عالم بالعيب، فلو اشترى سيارة وفيها عيب، فقال له البائع: هذه السيارة عيبها كذا وكذا، فقال المشتري: رضيت، ثم بعد أن ركب السيارة وتفرقا قال: فيها عيب لا أريدها، نقول: علمك بالعيب وإخباره لك، يسقط حقك في الرد.

    والثالثة: أن يكون حدوث العيب قبل البيع، أو مقارناً للبيع، أي: قبل صفقة البيع، أو مقارناً لصفقة البيع، أما لو أن العيب طرأ وجدّ بعد انتهاء العقد وبعد التفرق فإنه لا يثبت على البائع، وإنما يثبت على المشتري؛ لأن المشتري إذا تفرق عن البائع وحدث في المبيع عيب بعد ذلك، فإنه يكون قد حدث في ملك المشتري، وليس في ملك البائع.

    إذاً: يشترط أن يكون العيب موجوداً قبل العقد، أو أثناء العقد؛ لأنه قبل الافتراق لا تزال الصفقة في ذمة البائع ولم تنتقل بعد إلى ذمة المشتري.

    وعلى هذا: فإنه لا يحكم بالعيب إلا بهذه الأمور التي ينبغي توفرها للحكم باعتبار العيب وتأثيره.

    فقوله: (فإذا علم المشتري العيب بعد أمسكه بأرشه)

    أي: إذا علم المشتري العيب بعد تمام العقد والتفرق فلا يخلو من حالتين، فنقول له:

    إن شئت رددت المبيع، وإن شئت أبقيته، فإن قال: لا أريد أن أرد، بل أريد أن أبقي هذه السيارة، ولكن أريد حقي الذي هو أرش النقص، فله ذلك.

    فالحالة الأولى: أن يرد ويقول: أريد مالي، وخذ سيارتك، فهذا من حقه.

    الحالة الثانية: أن يكون المشتري راغباً في السلعة، ويريد أن يمسكها، ولكنه يريد حقه، الذي هو حصة العيب، فحينئذ يكون له الأرش، والأرش: أن تقدر السلعة كاملة، وتقدرها معيبة، وتنظر الفرق بينهما فتسقطه من قيمتها بنسبته من قيمتها معيبة.

    مثال ذلك: لو باعه السيارة بعشرة آلاف ريال، وظهر فيها عيب يجعل قيمتها تسعة آلاف ريال، فمعنى ذلك: أن القيمة انتقص منها قدر ألف ريال، فتنظر الفرق بين قيمة السيارة كاملة وقيمتها معيبة، بأن تسأل أهل الخبرة عن قيمتها كاملة، وعن قيمتها معيبة، ثم تنظر قدر الفرق بين القيمتين، فإذا كانت قيمتها كاملة عشرة آلاف، وقيمتها معيبة تسعة آلاف، فالفرق ألف، فانظر نسبتها من القيمة كاملة، وهي أنها تعادل عُشر القيمة.

    فإذا علمت أن نسبة النقص تعادل عشر القيمة، فعليك أن ترجع مرة ثانية وتقدرها بقيمتها وتنقص هذه القيمة من العشرة، وحينئذٍ يكون أرش السيارة أن يدفع له هذه القيمة -أعني: الألف ريال- التي انتقصها من مبيعه، وقد ذكر ذلك المصنف رحمه الله بقوله: [وهو قسط ما بين قيمة الصحة والعيب].

    فقد يكون قيمة العيب العشر، وأحياناً يكون الربع، وأحياناً الثلث.. إلى آخره.

    قال رحمه الله: [أو رده وأخذ الثمن].

    أي: رد المبيع، وأخذ الثمن، فمثلاً:

    إذا اشترى سيارة وفيها عيب، ثم قال: لا أريد هذه السيارة، قلنا له: نعطيك الأرش، فإذا قال: لا أريد الأرش، وأريد قيمة سيارة كاملة والسيارة بهذا العيب لا أريدها، نقول: من حقك رده، أي: رد المبيع وأخذ الثمن كاملاً.

    قال رحمه الله: [وإن تلف المبيع، أو عتق العبد، تعين الأرش]

    بعد أن بين لنا رحمه الله أن الخيار للمشتري يبقى السؤال:

    هذا الخيار يثبت لو كانت السيارة موجودة، ويثبت لو كان المبيع كما هو، لكن في بعض الأحيان يكتشف العيب بعد أيام، أو بعد سنوات، أو شهور وقد تغير المبيع.

    أو يكتشف العيب بطريقة فيها تغير للمبيع، كأن يكسر البيض أو يفتح البطيخ مثلاً، فحينئذٍ إذا فتح البطيخ أو كسر البيض، وأراد أن يرد فإنه لا يستطيع أن يرد المبيع.

    وهكذا لو اشتريت رقيقاً ثم أعتقته، وبعد أن أعتقته وجدته ناقصا،ً أو وجدت فيه عيباً، فحينئذٍ لك حق، ولكن لا تستطيع أن ترده؛ لأنه قد عتق.

    فقال: (وإن تلف المبيع) كأن اشترى سيارة، ثم وجد بها عيباً، وتلف المبيع على ضمان المشتري، فحينئذٍ إذا تلف المبيع استحق المشتري الأرش فقط، فلو جئته واشتريت طعاماً، وكان في هذا الطعام عيب، وأنت اشتريته بعشرة آلاف ريال، والعيب الموجود فيه تستحق به ألف ريال -الذي هو عشر القيمة- حينئذٍ إذا كنت تستحق عشر القيمة، يكون من حقك أن تأخذا الأرش إذا اكتشفت العيب بعد أن تصدقت به؛ لأنه تلف وأخذه الفقراء وأكلوا منه، فحينئذٍ يكون لك عند البائع حق وهو الألف، فتلف الطعام بالاستهلاك والأكل، لا يسقط حقك في الأرش.

    فيبين لنا رحمه الله أن العيب يوجب ثبوت الحق لك في الأرش، وأنه لو تلف المبيع عندك وفي ضمانك بأن استنفذته وأكلته أو أعطيته الغير، وثبت بالبينة أنه كان ناقصاً معيبا، فإنك تستحق الرجوع عليه بالأرش، فمثلاً:

    لو اشتريت لدابة برسيماً، أو علفاً، فأكلت الدابة العلف أو البرسيم، وتبين أن فيه مرضاً، أو فيه عاهة، وأثبت الطبيب أن هذا العلف الذي أكلته من نوع معين فيه ضرر، وأنت اشتريت هذا العلف على أنه يكون سالماً من هذا العيب، فحينئذٍ يقدر لك هذا الأرش، ويكون من حقك أن ترجع عليه بهذا الأرش الذي تضمن به حقك عند البائع.

    1.   

    الأسئلة

    الوجاء وعدّه من العيوب

    السؤال: هل وجاء البهائم يعد من العيوب؟ علماً أن وجاءها يكون أنفع بلحمها، أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فالوجاء يطيب اللحم، ولذلك ضحى عليه الصلاة والسلام بكبشين أملحين أقرنين موجوئين، والوجاء هو الخصاء وخصاء البهيمة يطيب لحمها.

    والعلماء يذكرون الوجاء ويقولون: قد يكون النقص في المبيع كمالاً، والكمال ينقسم إلى قسمين:

    1- كمال طبيعي.

    2- كمال شرعي.

    والكمال الطبيعي: مثل الوجاء، والكمال الشرعي: مثل الختان، فإن الختان كمال شرعي، ولذلك يعتبر هذا النقص -الذي هو الختان- نقصاً في الخلقة لكنه كمال في الشرع، فالمقصود: أن الوجاء بعض العلماء لا يعتبره عيباً؛ لأنه يطيب اللحم، ويكون نقصانه في الظاهر ولكنه كمال في الباطن، والله تعالى أعلم.

    حكم الامتناع من رد أرش العيب للمشتري

    السؤال: هل يجوز للبائع أن يمتنع من رد الأرش، ويقول للمشتري: إما أن ترد السلعة أو تمضي البيع فيما حصل به الاتفاق؟

    الجواب: ليس من حق البائع أن يمنع المشتري من حقه إذا ثبت أن السلعة معيبة، فإذا طالبه بالرد رد، وهكذا إذا طالبه بالأرش، على أصح قولي العلماء رحمهم الله، والسبب في هذا: أن العقد قد تم بينهما ويكون وجود النقص موجباً للضمان في الشرع فيبقى إمضاء العقد على ظاهره، لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] فيتم البيع على صورته، ويلزم بدفع الأرش؛ لأن الله سبحانه وتعالى نهى عن أكل المال بالباطل، والأرش حق للمشتري عند البائع يجب عليه أن يدفعه ولا يماطله فيه، والله تعالى أعلم.

    رد المبيع بالعيب بعد التصرف فيه

    السؤال: من اشترى شاة، وتبين له بعد ذبحها وسلخها أن فيها عيباً في أكلها فكيف يرجعها، أو كيف يكون الحال في هذه المسألة؟

    الجواب: إذا كان العيب الموجود في الشاة يمنع من أكلها، فحينئذٍ يرجع القيمة كاملة، ويجب على بائع الشاة أن يرد له القيمة كاملة؛ لأنه لا يمكنه الانتفاع بها، أما لو كان يمكن الانتفاع بها، بحيث كان العيب يمنع من شيء في اللحم، أو في مواضع من اللحم، ولا يمنع من بقيتها، فمذهب طائفة من العلماء أنه يرد له القيمة الأصلية ناقصاً منها قدر ذبحها الذي هو فرق ما بين كونها حية وكونها ميتة.

    والسبب في هذا: أنه قد أتلف الشاة فأزهق روحها، ويبقى الانتفاع للبائع بقدر ما بقي للشاة من أعضاء، وحينئذٍ يكون العدل بين البائع والمشتري من هذا الوجه، كما في بيع الجوز، فجوز الهند إذا كسر، يرده مع ضمان أرش الكسر، كما سيأتي إن شاء الله.

    لكن إذا كانت الشاة لا ينتفع بها أصلاً، أو تبين أن بها مرضاً لا يمكن بحال أن ينتفع بها فالمرض معدٍ، ولا يمكن أن تطعم، لا لآدمي ولا لسباع ونحوه، فحينئذ من حقه أن يرجع عليه بالقيمة كاملة كالبيض، بيض الدجاج إذا باعه ثم كسره فوجده فاسداً يرجع بالقيمة كاملة، وهنا يفرق بين ما يكسر وتزهق روحه؛ لأن الشاة إذا ذبحت لا يمكن أن يردها إلى حالتها الأولى، كما لا يمكن أن يرد البيض إلى حالته الأولى.

    فحينئذٍ ينظر بنفس التفصيل الذي ذكرنا، إن كان اللحم فاسداً، بحيث لا يمكن الانتفاع بها كلياً، رجع عليه بالقيمة كاملة.

    وإن كان يمكن الانتفاع بها في قدرها، فحينئذٍ يكون حصة الإزهاق والإتلاف؛ لأنها من كسب المشتري، وسيأتي إن شاء الله بيانه وكلام العلماء رحمهم الله فيه، والله تعالى أعلم.

    حكم بيع ما كان معيباً

    السؤال: من أراد أن يبيع سيارة بها عيوب بسعر رخيص، مع أن هذه السيارة لو كانت سالمة من العيوب فستباع بضعف الثمن الذي يريد أن يبيعها به، فما حكم هذا البيع، أثابكم الله؟

    الجواب: يجوز للبائع أن يبيع الشيء المعيب إذا بيّن العيوب الموجودة فيه، فإذا بيّن للمشتري أن هذه السيارة بها العيب الفلاني -ويسمي العيوب ويبرأ منها- فحينئذٍ يبارك له في صفقته، ولا يكون للمشتري عليه وجه حق، ولقوله عليه الصلاة والسلام : (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما) فالبيع يبارك بالبيان وتمحق بركته بالكتمان، والله تعالى أعلم.

    حكم طلب الزيادة في المبيع وفضل الاستغناء بالله وعدم سؤال الناس

    السؤال: إذا اشتريت من محل مثلاً فاكهة أو خضروات وطلبت قليلاً من الزيادة، وأخذتها برضا البائع، فهل يجوز لي هذه الزيادة، أثابكم الله؟

    الجواب: بالنسبة لطلب الزيادة فيه تفصيل: فإن كان المالك الحقيقي للمحل تطلب منه الزيادة فهذا ماله، يعطيك منه ما شاء، ولكن لا خير في سؤال الناس، فسؤال الناس إذا لم توجد حاجة لا خير فيه؛ لأنه يريق ماء الحياء من الوجه، والأفضل والأكمل لعبد الله أن يجعل فقره إلى الله، وغناه بالله سبحانه وتعالى، ومن يستعفف يعفه الله، وما أعطي عبد عطاءً أفضل من الغنى بالله جل جلاله.

    فمن استغنى بالله أغناه، ومن استكفى بالله كفاه، ومن استغنى بخلق الله لم يزده الله إلا فقراً، وجعل هم الدنيا بين عينيه، يلهث وراءها ويطلب ما فيها، فلا يشبع ولا يهنأ ولا يطيب حاله، ولو صبت أموال الدنيا بين يديه؛ لأن الله نزع البركة من قلبه، ونزع البركة من ماله، ونزع الرضا من قلبه.

    فاعلم رحمك الله! أن الخير أن تستغني بالله عز وجل، ولذلك عتب النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابي حينما سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، فقال: (ما يكون عندي من خير فلن أبخل به) وبين أن الإنسان لا يزال يسأل حتى يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم.

    فلا ينبغي سؤال الناس خاصة لطالب العلم، فإن من حمل كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في صدره، عليه أن يتورع، وأن يستغني بالله، وأن يحس أن هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه أنه أغنى الناس بها، ومن أعطي كتاب الله عز وجل وظن أن غيره قد أعطي خيراً مما أعطي فقد ازدرى ما عظم الله، فينبغي على طالب العلم، ومن هو قدوة كالعالم ألا يمد يده للناس، وألا يريق ماء وجهه لأحد غير الله جل جلاله.

    وهذا أمر من الأهمية بمكان أن يعتني به طالب العلم ، وليس في قضية الخضروات وغيرها ، الأمر عام، فينبغي أن يجعل غناه بالله سبحانه وتعالى.

    ومن قرأ أحوال السلف رحمهم الله، وكيف كان الاستغناء بالله جل جلاله شعاراً لهم ودثاراً، وكيف أن الله عز وجل أعطاهم خير الدين والدنيا والآخرة، وجمع لهم الفضائل، ويسر لهم المكارم، فعاشوا بأحسن عيشة، فكانت ثيابهم مرقعة، وفرشهم بالية، ولكن قلوبهم غنية زاكية بالله جل جلاله.

    والعبد إذا استغنى بالله جل جلاله، لم يضره ما يلبس ، ولذلك قال علي رضي الله عنه: (إنك إن اتقيت الله لم يضرك ما لبست)، لبست لباس الغني أو لبست لباس الفقير، فلا يضرك ما دمت تتقي الله في قلبك.

    المقصود: أن الأفضل والأكمل ألا يسأل العبد غير الله جل جلاله، وكانوا يقولون: إن سؤال الناس وكثرة اللهث وراء الدنيا يمحق بركة العلم، وبركة الاستقامة، فلذلك تجد الشخص الذي يكثر من سؤال الناس ويلح فإذا دخل السوق سأل البائع، وإذا جاء في عمله ووظيفته سأل، حتى لربما سأل فوق حاجته وفوق ما يستحق، فلا يزال يسأل ويسأل حتى تذهب مكانته من قلوب الناس، فيرتفع وهو وضيع، ويكرم وهو مهان، مجاملة ينظر إليه في ظاهره؛ لكنه إذا استغنى بالله جل جلاله وكان على العكس، فيكون عند الناس عزيزاً كريماً، ولو كان في أضعف المراتب وأدنى المناصب، وذلك باستغنائه بالله سبحانه.

    والشيء بالشيء يذكر! فقد ذكروا عن رجل أنه كان من أهل المدينة فأصابته والحاجة، فأراد أن يذهب إلى ابن عامر وكان أميراً على البصرة، وكان من أجواد العرب، ومن أهل السخاء والجود، المعروفين بالمكرمات، فجاء هذا الأعرابي إلى أحد أبناء جابر بن عبد الله رضي الله عنه وقال له: يا فلان! إني أريد منك أن تذهب معي إلى ابن عامر فقد أصابتنا الفاقة كما ترى، فلو ذهبت إلى ابن عامر معك رجوت أن يحسن إليّ، فخرجا من المدينة، حتى دخلا البصرة، فلما دخلا البصرة قال جابر لهذا الرجل: أولا أدلك على خير مما نحن فيه؟ قال: وما هو؟ قال: أن نصلي ركعتين ونستخير الله فإن كان الخير في دخولنا دخلنا، وإن كان الخير غير ذلك صرفنا الله إليه، فصلى هذا ركعتين، وصلى هذا ركعتين، فقال جابر: يا فلان! ماذا وجدت؟ فقال الرجل: وجدت أننا ندخل عليه، فقال ابن جابر : أما أنا فقد طابت نفسي أن أرجع إلى المدينة، فإن الذي أعطى ابن عامر هذا الخير الكثير هو الله، وكما أغناه يغنيني، وكما سد فقره يسد فقري -فقال كلاماً حسناً- ثم رجع إلى المدينة، ودخل الأعرابي على ابن عامر ، فلما دخل عليه، وكان البريد يأتي من المدينة، فيه أخبار الناس الذين يسافرون، فبلغ ابن عامر أن فلاناً خرج مع فلان، فلما رآه قال له: أين جابر؟ فقال: رحمك الله! إنه كان من أمره كيت وكيت. فقال ابن عامر : يا فلان! أعطِ فلاناً -أي: ابن جابر - مائتي درهم، وأعط فلاناً مائة درهم، فقال هذا الأعرابي أبياتاً من الشعر تدل على فضل الاستغناء بالله جل جلاله، والتوكل على الله سبحانه وتعالى، فقال وهو يخاطب زوجته وكان اسمها: أمامة

    أمامة ما سعي الحريص بزائدٍ فتيلاً ولا عجز الضعيف بضائر

    خرجنا جميعاً من مساقط روسنا على ثقة منا بجود ابن عامر

    فلما أنخنا الناعجات ببابه تأخر عني اليثربي ابن جابر

    وقال ستكفيني عطية قادر على ما أراد اليوم للخلق قاهر

    فإن الذي أعطى العراق ابن عامر لربي الذي أرجو لسد مفاقري

    فلما رآني قال أين ابن جابر ومن كما حنت طراب الأباعر

    فأضعف إذا غاب عبد الله حظه على حظ لهفان من الجوع فاغر

    فالله جل جلاله إذا صدقت معه صدق معك، وإذا كان في قلبك أنك تستغني بالله سبحانه وتنصرف من المخلوق إلى الخالق، فإن الله يسوقك إلى خير الدين والدنيا والآخرة، واقرأ في تراجم السلف والعلماء تجد الأمر جلياً واضحاً، وكون الإنسان يبلغ إلى أن يأتي عند الميزان ليحرج هذا في قبضة من طعام أو في حبة من فاكهة، فهذا أمر يزري بالإنسان كثيراً، فلا ينبغي للمسلم أن يوقف نفسه مثل هذه المواقف ويحرج الناس في أموالهم وبيعاتهم، فالأفضل له أن يعف نفسه فإن أعطاه ذلك بطيبة نفسه فالحمد لله، وإذا لم يعطه فإن الله سبحانه يغنيه من واسع فضله.

    أما إذا كان الذي في المحل أو المتجر عاملاً، فالعامل لا يملك هذا المال، وليس من حقه أن يضر بمال سيده، فهذا لا يجوز، وحينئذٍ قال بعض العلماء: من الورع ألا تقبل من العامل الزيادة؛ لأنه كريم بمال غيره، وقد يضر بسيده، أي: يعلم أن سيده يؤذيه، فيؤذي سيده بمثل هذه التصرفات، فالورع والأكمل والأفضل للمسلم ألَّا يفعل هذا.

    وكنت أرى بعض مشايخنا رحمة الله عليه يتورع عن الكيس الذي يعطيه البائع زائداً عن حاجته، يكون الكيس -مثلاً- صغيراً يمكن أن يكفي لحاجته فيعطيه كبيراً، فلا يقبل، ويقول: هذا ليس ماله ويقول: هذا من الورع.

    وإذا تعود طالب العلم الورع، وتسربل بسربال التقوى، وأخذ يحمل نفسه في مثل هذه الأمور، خاصة في أمور الدنيا التي فيها فتنة، وفيها رغبة وشهوة، والنفوس جُبلت على حبها وطلبها؛ إذا صرف همته لله مع وجود هذه الرغبة وهذه الشهوة، فإن الله يغنيه من واسع فضله، والله ذو الفضل العظيم، فإنها والله لسعادة للمؤمن ألَّا يمسي ولا يصبح إلا وهو غني بالله جل جلاله.

    وكم من أشياء يظن الإنسان أنها تأتي بخير، فيلهث وراءها، ويسعى وراءها، فلا تزيده إلا هماً وغماً ونكداً!

    وكم من إنسان سعى لتجارة من الدنيا، جعل الله حتفه فيها!

    وكم من إنسان سعى إلى رزق من الدنيا بالَغَ في طلبه، حتى فرَّط في صلاته وفي خشوعه، فمحق الله بركة تلك التجارة.

    فالعبد دائماً يجعل الآخرة نصب عينيه، وليس معنى هذا أن نترك الدنيا؛ ولكن المراد ألَّا نغلو، وألَّا نبالغ في التمسك بالدنيا، حتى إنك قد تجد الرجل إذا لم يجد هذا الشيء ولم يصل إليه، كأنه يفوته كل شيء.

    فعلى المسلم أن يحمد الله على فضله، ويعلم أن الله سبحانه خلق الخلق فأحصاهم عدداً، وقسم أرزاقهم فلم ينسَ منهم أحداً، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6]، فالله جل جلاله متكفل بعباده.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يغنينا من واسع فضله العظيم.

    اللهم إنا نسألك أن تغنينا من واسع فضلك العظيم، وأن تفتح لنا من بركاتك ورحماتك ما تغنينا به عن خلقك، وألَّا تجعل لنا إلى لئيم حاجة يا رب العالمين.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756505613