إسلام ويب

شرح كتاب الإبانة - ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة [2]للشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كلام السلف رضي الله عنهم في لزوم السنة والجماعة، والمحافظة على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من السنة كثير، وهو يدل على أهمية ذلك، وأنه عصمة من الزلل، والناظر في كلامهم رضوان الله عليهم يجد أنه يشهد له كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تابع باب ما أمر به من التمسك بالسنة والجماعة والأخذ بها، وفضل من لزمها

    إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    لا يزال الكلام موصولاً عن فضل الجماعة ولزوم السنة، وذكرنا في الدروس الماضية بيان ذلك من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وموعدنا في هذه الليلة مع ذكر بعض النصوص لبعض السلف رضي الله تعالى عنهم أجمعين في أهمية لزوم ذلك، والناظر في كلام السلف رحمهم الله -خاصة الصحابة منهم- يعلم علماً يقينياً أنه ما من قائل تكلم في هذا الباب بكلمة إلا ولها أصل يشهد له من كتاب الله عز وجل أو من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا شأن من عاين الأمر معاينة وعاش معه سنوات كثيرة، ولذلك الواحد منا إذا عاش عيشة معينة أدبية أو نفسية أو غير ذلك يتأثر بها مع مرور الوقت.

    فالصحابة رضي الله عنهم لكثرة وطول ملازمتهم للنبي عليه الصلاة والسلام، ولما كانت السنة وحياً من عند الله عز وجل كاد السلف أن ينطقوا بالوحي، وكادوا أن يكونوا أنبياء، لأنهم اعتادوا لسنوات طويلة ألا يتكلموا إلا بوحي السماء قرآناً أو سنة، ولذلك تجد كلام الصحابة أشبه بكلام النبي عليه الصلاة والسلام، ويُشتاق لكل قول من كلامهم في لزوم السنة وأهميتها.

    حديث: (كان قتادة إذا تلا قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) )

    فهذا قتادة وهو سيد من سادات التابعين [ كان إذا تلا قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] ] أي: شهدوا وأقروا بربوبية الله عز وجل، وبأنهم مربوبون لله عز وجل، ثُمَّ اسْتَقَامُوا : على ما أقروا به.

    [ قال: إنكم قد قلتم: ربنا الله. فاستقيموا على أمر الله ]. أي: إذا كنتم أقررتم بالربوبية والألوهية؛ لأن الإقرار بالربوبية إذا جاء منفرداً شمل معه الإلهية، وإذا كان الإقرار بالإلهية منفرداً شمل معه الربوبية، أما إذا ذكر الإلهية والربوبية في نص أو في دليل فإن لكل واحد منها مدلولاً، فالإلهية لها مدلول والربوبية لها مدلول آخر، كما في قول الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، فهذه الآية قد شملت الإلهية كما في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ ، والربوبية كما في قوله: رَبِّ الْعَالَمِينَ ، فهذه الآية قد تكلمت عن الإلهية وعن الربوبية في آن واحد، أما إذا قال العبد: (الحمد لله) فإنه قد أقر بالإلهية والربوبية على السواء، وإذا قال: ربنا الله، فإنه أقر بالربوبية والإلهية كذلك، وهذا في معنى قولهم: الإلهية والربوبية إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وهذا كالإيمان والإسلام والإحسان.

    قال: [ إنكم قد قلتم: ربنا الله. فاستقيموا على أمر الله وطاعته وسنة نبيكم، وامضوا حيث تؤمرون ]، أي: استمسكوا بالعمل حيث قد أمرتم.

    قال: [ فالاستقامة ] -أي: فاستقامة المرء على الإسلام [ أن تلبث على الإسلام ]- أي: أن تقر وأن تعمل بالإسلام [ والطريقة الصالحة، ثم لا تمرق منها ] أي: لا تخرج من الإسلام، ولا من طريقته الصالحة، [ ولا تخالفها ولا تشذ عن السنة، ولا تخرج عنها، فإن أهل المروق من الإسلام ] أي: أهل الردة والخروج عن الإسلام، [ منقطع بهم يوم القيامة ]. أي: منقطع بهم آخر الانقطاع، فلا يصلون إلى الله عز وجل.

    قال: [ ثم إياكم وتصرف الأخلاق ]، أي: وابتعاد أخلاقكم عن أخلاق نبيكم، [ واجعلوا الوجه واحداً، والدعوة واحدة، فإنه بلغنا أنه من كان ذا وجهين وذا السانين كان له يوم القيامة لسانان من نار ]. هكذا قال قتادة رحمه الله، وهو من سادات التابعين، وتربى على يد أنس بن مالك .

    أثر ابن عباس: (عليك بالاستقامة..)

    [ قال عثمان بن حاضر الأزدي : دخلت على ابن عباس فقلت: أوصني ]. وأنتم تعلمون منزلة ابن عباس فهو من بيت النبوة، وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوه من كبار أصحابه عليه الصلاة والسلام، وهو عم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو ممن بذل الغالي والرخيص في سبيل نصرة الإسلام والإيمان، وابن عباس هو ربيب بيت النبوة، وقد دعا له النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين)، (علمه التأويل) أي: تفسير القرآن الكريم بمعرفة معانيه وأسراره وحكمه.

    [ قال عثمان بن حاضر لـابن عباس : أوصني. قال: عليك بالاستقامة، اتبع ولا تبتدع ].

    قوله: (عليك بالاستقامة) أي: الاستقامة على أمر الإسلام، وعلى أخلاقه وآدابه وعقائده. قال: اتبع أي: اتبع ذلك كله، ولا تبتدع من عند نفسك شيئاً، فإن من ابتدع في دين الله شيئاً، فكأنما اتهم الله عز وجل بالنقص في شرعه وعدم كماله، واتهم النبي عليه الصلاة والسلام أنه ما بلغ عن ربه سبحانه وتعالى.

    أثر الزهري: (الاعتصام بالسنة نجاة.. )

    [ وعن الزهري قال: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة ]، والزهري من فقهاء المدينة، فإما أن يقول هذا عن متأخري أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، أو عن كبار التابعين، كما كان يروي عن أنس بن مالك ، ويقرأ عن كبار التابعين، وأي رواية عن الزهري يرويها عن بعض أهل العلم، فيقول: كان من مضى من علمائنا، فمعناه أنها عن الصحابة أو كبار التابعين يقولون: (الاعتصام بالسنة نجاة). أي: التمسك والاستمساك بحبل الله المتين وبسنة نبيه الأمين نجاة من كل هلكة.

    وحبل الله تعالى هو كتابه الكريم، وهو وحي السماء إلى الخلق أجمعين، فهذا الكتاب له طرفان، طرف بيد الله عز وجل، وطرف بأيدي الموحدين، كما جاء ذلك في رواية عن النبي عليه الصلاة والسلام.

    قال: [ الاعتصام بالسنة نجاة، والعلم يقبض قبضاً سريعاً ]، أي: يرفع رفعاً سريعاً، وتكلمنا في دروس مضت وفي خطب مختلفة أن قبض العلم لا يكون برفع العلم، وإنما يكون بقبض العلماء، فقبض العلماء علامة على نهاية الزمان، وقرب الساعة، وبئست هذه العلامة للناس، وبئس قوم يموت علماؤهم ويبقون هم بلا علم وبلا علماء، كيف يعيشون والعلماء هم منارات الهدى في كل عصر وفي مصر؟ فإذا مات عالم في قرية فأشبه بموت القرية بأسرها، وأنتم تعلمون أن العالم في القرية ينفع أهل القرية في أرواحها وفي عقيدتها، وفي الأخذ بنواصيها إلى الله، فهو كعين تنبع لهم بالماء وتغذيهم؛ لأن العالم يغذي الأرواح والقلوب، ويقيم الأفكار والعقول على كتاب الله عز وجل وعلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام، بخلاف الدنيا فإنها تغذي الأبدان، وشتان ما بين الجنتين.

    قال: [ والعلم يقبض قبضاً سريعاً، فنعش العلم ثبات الدين والدنيا، وذهاب العلم ذهاب ذلك كله ].

    وعن الزهري قال: الاعتصام بالسنة نجاة، والعلم يقبض قبضاً سريعاً، فنعش العلم ثبات الدين، وذهاب ذلك كله ذهاب العلماء.

    قول ابن مسعود (الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة)

    [ وقال عبد الله : الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة ]. وهذا كلام لا يقوله إلا إنسان قد عايش الوحي، ولهذا الكلام عدة معانٍ، يشهد لذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (خير العمل أدومه وإن قل)، والصحابة رضوان عليهم لا يتكلمون بكلام إلا ولكلامهم أصل في كتاب الله أو في سنة نبيه عليه الصلاة والسلام، فقول ابن مسعود قد قاله غير واحد، ولكنه أول من قال هذا، قال: (الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة)، يعني: تداوم على العمل القليل الخيري المستقيم الصالح وإن كان قليلاً، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)، فهذا في مقدور كل إنسان أن يفعله، ومع هذا لا يفعله كثير من الناس، وأبناء الصحوة لا يفعلون هذا، بل كثير منهم يجيد العلو ووسائله، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام أولى بذلك لو كان عملاً صالحاً، لكنه كان يتهلل فرحاً لأصحابه ويستبشر لقدوم غائبهم، وغير ذلك من أخلاقه العالية عليه الصلاة والسلام.

    يذكر أن أعرابياً كان يأتي من البادية ومعه طعام، فيهديه للنبي عليه الصلاة والسلام، وكان إذا دخل على النبي عليه الصلاة والسلام يستقبله بالبشر والترحاب، وذات يوم أتى هذا الأعرابي بغير ما كان يتزود به في كل مرة، فاستحيا أن ينزل على النبي عليه الصلاة والسلام؛ فنزل في سوق المدينة، وكان النبي عليه الصلاة والسلام في السوق، فعرف الرجل، فأتى من خلف ظهره ووضع يديه على عينيه، وقال: (من يشتري العبد؟) وهو ليس عبداً، بل هو حر، فعرف هذا الأعرابي صوت النبي عليه السلام، قال: (يا رسول الله! إذاً: يجدني كاسداً) أي: لن يربح من ورائي شيئاً قال: (لا والله بل رابحاً) فبكى هذا الأعرابي فرحاً بلقاء النبي عليه الصلاة والسلام، وبممازحته له عليه الصلاة والسلام، وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يضاحك النساء والرجال على السواء، وهو من هو في منزلته، وهذا في حقنا يجوز مع من تكون محرماً له، أما من لم تكن كذلك فلا يحل لأحد مخافة الوقوع في الفتنة إلا للنبي عليه الصلاة والسلام.

    قال: الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة، أي: أن تكون تابعاً لغيرك في لزوم سنة، خير لك من أن تكون رأساً في البدعة. هذا التفسير الثاني، الأول: ألا تحقر من المعروف شيئاً، وأن تداوم على العمل الصحيح الصالح وإن قل، والتفسير الثاني: لأن تكون تابعاً في الحق خير لك من تكون رأساً في الباطل، فحين نرى إنساناً مغموراً على التزام السنة خير من أن يتشبه بـواصل بن عطاء وهو رأس الاعتزال، وأنتم تعلمون أن الخميني رأس في البدعة، فهل تريد أن تكون في منزلة الخميني رأساً في الشيعة، أم تريد أن تكون إنساناً مغلوباً مقهوراً وقد رزقت الحفاظ على السنة والعمل بالسنة، وإن لم يسمع بك أحد؟ أتريد أن تكون رأساً في البدعة أو أن تكون تابعاً في الحق؟ بلا شك أن تكون تابعاً في الحق.

    وهكذا كان السلف رضي الله عنهم، كانوا يلتزمون بالسنة في كل حياتهم، حتى قال ابن المبارك إن استطعت ألا تحك قفاك إلا بأثر فافعل، فتصور أن السنة أقيمت إلى هذا الحد، ألا يتحرك أحدنا بحركة ولا يقرأ القرآن، ولا يفعل شيئاً إلا ومعه دليل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فالعلة من الاتباع هو العصمة، أن يعصم الإنسان نفسه من الزلل، ويعصم نفسه من الزيغ والانحراف؛ لأن كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة رضي الله عنهم ليس فيه زيغ ولا انحراف، بل قد أتى بالحكمة من جميع الجوانب، فمن تمسك به فهو عن الزلل والانحراف أبعد، وإذا انحرف الإنسان عن كتاب الله وسنة رسوله وهدي السلف رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فإنه سريع إلى الوقوع في الانحراف والابتعاد عن الخير.

    أثر عمر بن الخطاب: (أيها الناس إنه لا عذر لأحد بعد السنة)

    [ قال الأوزاعي: بلغني أن عمر بن الخطاب قال: أيها الناس! إنه لا عذر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها، ولا في هدى تركه، حسبه ضلالة، فقد بينت الأمور، وثبتت الحجة وانقطع العذر ]، هذا الكلام لو صح عن عمر -وهو غير صحيح- لاحتاج إلى مجلدات في شرح هذه الكلمات، ولكنه لم يقل: قال عمر، وإنما قال: بلغني أن عمر بن الخطاب، وهذا القول روي بلاغاً، والبلاغ منقطع، وهو علة في عدم ثبوت النص، لكن هب أنه ثبت من طريق آخر عن عمر رضي الله عنه، فمعناه العام: أن السنة قد ظهرت ظهوراً يجب على كل أحد أن يطلبها إن لم تذهب إليه، وهناك فرق بين مجتمع العلم فيه غالب، وبين مجتمع العلم فيه غير غالب، فلو أن شخصاً في السعودية الآن أو قطر أو الكويت أو غيرها من بلاد الإسلام يقول: أنا لا أدري أن الصلاة فرض من فرائض الإسلام، فهل يقبل منه ذلك؟ هل يقبل من أحد يسمع الأذان في اليوم خمس مرات أن يقول: أنا لا أدري ما الصلاة، أو لا أدري ما الزكاة؟ الجواب: لا يقبل منه في بلاد الإسلام، إنما يقبل من إنسان في بلاد الكفر قد أسلم حديثاً، وهو لا يعرف الصلاة ولا الصيام ولا الزكاة.. ولا غير ذلك من فرائض وشرائع الإسلام، أما إنسان في بلاد الإسلام فقد قامت عليه الحجة بظهور السنة في كل هذا، فلا عذر له حينئذ.

    وصية عمر بن عبد العزيز لبعض عماله: (أوصيك بتقوى الله والاتباع وعدم الابتداع)

    [ وقال سفيان : إن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض عماله ] أي: بعض طلابه وأنصاره: [ أوصيك بتقوى الله ]، وهكذا كانت وصية الله للأنبياء والمرسلين، وهي وصية الأنبياء بلغتهم وأخلاقهم. قال: [ أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره ]. أي: أخذ الدين شيئاً فشيئاً؛ لأن من أخذ العلم جملة فاته جملة، ولابد أن تعلم أن هذه سنة الله تعالى في طلب العلم، شخص الآن يأتي يريد أن يحصل على شهادة من شهادات الدنيا، يصبر على الدراسة في الجامعات والمدارس عشرين عاماً حتى يحصل عليها، وبعد أن يحصل عليها ربما لا تنفعه، ومع هذا تجده صابراً محتسباً، وربما صابراً غير محتسب، وفي طلب العلم الشرعي ربما يطلب العلم شهراً أو شهرين ثم يتطرق إليه الملل والنفرة، وإذا أشكل عليه علم من العلوم تجده ينصرف عنه بكليته ولا يختاره ولا يدرسه، كعلم أصول الفقه، أو علوم اللغة، أو علم مصطلح الحديث، فهذه علوم جافة تحتاج إلى تفصيل، فهب أنه رزق بأستاذ أو بشيخ لا يحسن التفصيل فتجده ينصرف ولا يثبت، وهو في الجامعة يدرس مواد لا قبل له بها ولا طاقة، ومع هذا يصبر عليها؛ لأنه قد وضع نصب عينيه أن يحصل على بكالوريوس كذا، ولا سبيل له إلى الحصول عليه إلا أن يصبر على المر في سنوات دراسته.

    إذاً: فعلوم الشرع أولى بذلك كله، ولا سيبل لك إلى الاستقرار في العلم الشرعي إلا بطلب السهل والعسير، والصبر عليهما على السواء.

    فقال: أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره. أي: أن تأخذه شيئاً فشيئاً. شخص يقول لك الآن: أن لا أفهم شيئاً من الحديث، فإنه يقول: عن.. وعن.. وعن.. ما هذا؟ فحتى أصل إلى قائل القول أكون قد نسيت الأول، ثم تجده ينصرف إلى أصول الفقه، فيجد أن هذا العلم هو عبارة عن طلاسم وكلام غير مفهوم، وهو أشبه بالسحر، هكذا يعبر عن علم أصول الفقه، ثم يتركه وينصرف إلى علم الاعتقاد، فيجد الشيخ الذي يدرس المادة يدخل في تفصيلات وفرعيات الفلاسفة، فيقول: لا يمكن أن يكون هذا ديناً، ثم ينتقل إلى العلم الرابع والخامس، ثم ينتقل من المسجد إلى الشارع، ومن الشاعر إلى المقاهي، ومن المقاهي إلى النساء، ومن النساء إلى الخمور.. وهكذا، لابد أن ينتهي به الأمر إلى الانحراف؛ لأنه لم يصبر ولم يحتسب في أمر الله، بل لابد أن يأخذ العلم قليلاً.. قليلاً.

    ولذلك يقول الإمام الزهري : العلم نتف -يعني: قليلاً قليلاً- فمن رامه جملة -أي: فمن طلبه دفعة واحدة- فاته جملة.

    فالذي يحفظ عشر آيات في اليوم أو خمس آيات يستطيع أن يحفظ في الغد مثلها، ويستطيع أن يحفظ بعد الغد مثلها، ويتقن الآيات في كل يوم ولا ينساها، أما من يحفظ ربع جزء أو ربعين أو ثلاثة أرباع أو نصف جزء أو جزءاً فإنه سرعان ما ينساه في الغد وفي الباكر مباشرة، فإذا أراد أن يحفظ شيئاً آخر وضم محفوظ اليوم إلى محفوظ الأمس وكان قدراً كبيراً لا يستطيع أن يحفظ بعد الغد جملة مستكثرة كما كان يحفظ في الأمس أو قبل الأمس.

    فالعلم لابد أن يؤخذ قليلاً قليلاً، وقد ثبت عن كثير من السلف أنه حفظ القرآن في ثلاثة أشهر، بل قد جاء عن بعض السلف أنهم حفظوا القرآن من قراءتين -أي: من مراجعتين- أو ثلاث مراجعات عن ظهر قلب، لكن هدي السلف ليس كذلك، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحفظون العشر الآيات، ثم لا يتجاوزونها حتى يعلموا ما فيها من أحكام وآداب وأخلاق ويعملون بكل هذا، ثم ينتقلون إلى عشر آيات أخريات، هذا منهج السلف في طلب العلم، أما من جلس مجلساً وقد شعر بنشاط وحيوية فيريد أن يحفظ ثلاثة أرباع أو أربعة أرباع من سورة البقرة في يوم واحد، فإنك فقط لو سألته عن معنى آية لا يعرفها، ولا يحل له أن يتكلم في معناها بغير علم مما ورد من كلام المفسرين، ثم هو في اليوم الثاني يكسل أن يراجع هذه الآيات، لماذا يكسل؟ لأنه قد أنهك نفسك بالأمس، فلم تبق عنده قدرة ولا طاقة ولا قوة كما كانت عنده بالأمس، فالعلم يا إخواني! نتف يؤخذ شيئاً يسيراً فشيئاً يسيراً؛ حتى يتمكن المرء من علمه.

    ولذلك يذكر عن الشعبي والأوزاعي وغيرهما أنهم كانت تعقد لهم مجالس الحديث بالآلاف المؤلفة، حتى إنه كان يحضر للواحد منهم ثلاثون ألفاً، فيحدث بالحديث والحديثين والثلاثة، فإذا قيل له: حدثنا بالرابع أو الخامس، يقول: لا والله. لقد أكثرت عليكم، تصور أن ثلاثين ألفاً أو أربعين ألفاً يحضرون مجلس العلم، ثم لا يقومون منه إلا بثلاثة أحاديث، هل هذا قليل؟! الجواب: ليس قليلاً، فقد كان الواحد من الصحابة يرحل للحديث الواحد من المدينة إلى مصر، ومن المدينة إلى الشام.

    قال: [ أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره، واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون بعده فيما قد جرت به سنته، وكفوا مئونته، واعلم أنه لم يبتدع إنسان بدعة إلا قدم قبلها ما هو دليل عليها وعبرة فيها ]، إلا قدم عليها دليلاً أنها بدعة وأنها ليست من دين الله، [ فعليك بلزوم السنة، فإنها لك بإذن الله عصمة، واعلم أن من سن السنن قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والتعمق والحمق ]، أي: إن الذي قد سن السنن هو الله عز وجل ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، والله تعالى أعلم بما في شرعه من حكمة ومصلحة للخلق، وهو الذي خلقهم: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] سبحانه وتعالى، فإذا كان الله تعالى هو الذي خلق الخلق وحده وشرع لهم شرائع وحده، وبين أن هذا الشرع كامل وقد رضيه لنا وأتمه؛ فجرى على ذلك وحيه وسنته وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، فإن الذي فعل ذلك يعلم ما في خلاف السنة من زلل وخطر وانحراف وتعنت، بل وحماقة من ارتكب الابتعاد عن سنته وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

    قال: [ واعلم أن من سن السنن قد علم ما في خلافها ]، أي: ما في الانحراف عنها، [ من الخطر والزلل والتعمق والحمق، فإن السابقين عن علم وقفوا ]. هذا كلام جميل جداً يرد به على قاعدة يرددها العقلانيون السابقون من المعتزلة، ويرددها أبناؤهم من أبناء المدارس العقلية اليوم، ماذا يقولون؟ يقولون: منهج السلف أحسن وأسلم، ومنهج الخلف أعلم، هذا الكلام تجدهم يقولونه فيما يتعلق بصفات الباري تبارك وتعالى، يقولون: السلف لما وقفوا عند آيات الصفات هذا أسلم وأحسن، لكن الخلف أعلم، هو على أية حال عند الجهال مقبول أن منهج السلف أسلم وأحسن، فإن ظاهره مدح، وأنا أقول: هذا أسلوب مدح أريد به ذم! بل منهج السلف أسلم وأحسن وأعلم.

    انظر ماذا يقول عمر بن عبد العزيز : فإن السلف عن علم وقفوا، ليس عن جهل، يعني: عندما تعرض على الصحابة رضي الله عنهم آيات الصفات يؤمنون بها كما جاءت، ويمرونها دون أن يخوضوا فيها بتأويل، لكنهم قد آمنوا بها وهم يعملون معناها بالتأكيد، وأنتم تعلمون أن التأويل أو التفويض داخل في ثلاث: داخل في العلم، وداخل في المعنى، وداخل في الكيف، أليس هذا هو الخلاف بين السلف والخلف فيما يتعلق بالصفات؟

    فموضوع التفويض هذا فيه البلاء الذي خرج به الخلف علينا، فمنهم من فوض العلم: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] يقول: الله أعلم، هل لله تعالى يد أم لا؟ ونحن نقول له: أليس الله تعالى أثبت أن له يدين؟ الجواب: أثبت، إذاً: العلم باليدين قائم، فهل يصح التفويض في العلم؟ مالك رضي الله عنه ورحمه لما سئل عن معنى قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، قال: الاستواء معلوم، يعني: لا يمكن أن يكون هناك تفويض في العلم، ومن خالف في صفة من صفات الله وقال: الله أعلم هل هي له أو ليست له، فإنه قد انحرف عن سبيل السلف، إذاً: هناك شيء يقال له: تفويض في العلم عند الخلف، ولكن التفويض في العلم عند السلف مذموم.

    ننتقل إلى التفويض في المعاني، التفويض في المعنى غير جائز عند السلف، إنما قال به الخلف، قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، هل أنتم تتصورون أن الله تعالى يخاطبنا ويكلمنا بكلام لا نفهم له معنى؟

    إذاً: لو قلت: نعم. فإنه يلزمك أن تقول: إن الله تعالى كلفنا بالمحال، وهذه مسألة محل نزاع بين العلماء، ولكن الراجح ولا راجح غيره بل هو الصحيح: أن الله تعالى لم يكلف عباده بالمحال، ومحال أن يكلفنا الله تعالى أو أن يخبرنا الله تعالى عن نفسه وذاته وصفاته بألفاظ وكلمات ومصطلحات لا نفهم معانيها؛ ولذلك لما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، فلابد من توجيه سؤال: ما معنى استوى؟ استوى في لغة العرب بمعنى: علا وارتفع، إذاً: فمعنى الاستواء العلو: علو الذات، وعلو القدر، وعلو العظمة والجلال.. وغير ذلك كله ثابت لله عز وجل.

    إذاً: إذا خاطبنا الله تعالى وأخبرنا عن نفسه وعن صفاته أنه على العرش استوى، فليس معنى استوى: استولى، وإنما استوى بمعنى: علا وارتفع، والذين قالوا: استولى فليس في لغة العرب ما يدل عليه ابتداءً.

    ثانياً: الاستيلاء على الشيء يلزم منه المدافعة، فعندما أقول: أنا استوليت على الكتاب، فمعناه: أنه كان هناك خصم ينازعني فغلبته، وهل هناك من نازع الله عز وجل في العرش؟ لا أحد، فيكون معنى استوى: علا وارتفع.

    فإن قال شخص: معنى استوى: علا وارتفع، هل هناك تفويض في المعنى أم لا يوجد؟ الجواب: لا يوجد تفويض في المعنى، إذاً: السلف لا تفويض عندهم لا في العلم ولا في المعنى، إنما التفويض عند السلف في الكيف.

    فقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، إن قيل: كيف استوى؟ كيف يده؟ كيف ساقه؟ كيف عينه؟ الجواب: لا يعلم كيفيته أحد من الخلق، إنما الذي يعرف ذلك هو الله عز وجل، لا يعرفه ملك مقرب ولا نبي مرسل.

    إذاً: التفويض في الكيف هذه عقيدة السلف، أما التفويض في المعنى والعلم فهذا من عقيدة الخلف.

    قال: (واعلم أن من سن السنن قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والتعمق والحمق؛ فإن السابقين عن علم وقفوا). إذاً: السلف رضي الله عنهم لما وقفوا عن الخوض في أسمائه وصفاته كان ذلك عن علم.

    قال: [ وببصر نافذ كفوا ]، أي: بعلم أكيد حقيقي كفوا ووقفوا، [ وكانوا هم أقوى على البحث ولم يبحثوا ]، فإن كان هناك مسألة تستحق البحث فهم أولى الناس؛ لأن القرآن نزل بلغتهم، وهم أفهم لكلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام.

    أنت لو تقرأ القرآن فإنه ما من آية تقرؤها إلا وتسأل عن معناها، بل لا يمكن لك أن تعرف معناها إلا بالرجوع إما لكتب المفسرين أو لأهل العلم في التفسير، ففي كل آية سيلزمك الرجوع، وإذا لم ترجع ففي الغالب ستضيع في تأويل وتفسير هذه الآية، وعندما نبحث عن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم فإننا سنجد شيئاً يسيراً جداً؛ لأن النبي لم يفسر لهم آية إلا إذا طلبوا ذلك منه عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لأن القرآن نزل بلغتهم وكلامهم فلم يسألوا عنه، فالقرآن في فكر الصحابة بين وواضح، ولذلك قل أن ينزل وحي من السماء ويسأل عنه صحابي؛ لأنه يفهمه ويعلمه.

    إذاً: السلف كانوا يعلمون القرآن والسنة، فعملوا بها وآمنوا بها وأمروا آيات الصفات كما جاءت دون الخوض فيها؛ لا عن جهل، وإنما عن علم وعن بصر نافذ.

    وفي رواية بزيادة عن عمر بن عبد العزيز قال: [ فارض لنفسك بما رضي به القوم ]، أي: بما رضي به السلف لأنفسهم، [ فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضل ما فيه لو كان أحرى، فإنهم السابقون، ولئن كان الهدى ما أنتم عليه ]. فـعمر بن عبد العزيز يقرع أهل زمانه.

    إن ابن مسعود رضي الله عنه لما دخل على من يسبح الله تعالى على غير هدى قال: إما أنكم على ملة هي أهدى من ملة محمد عليه الصلاة والسلام، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة. أي فهو أحد شيئين: إما أن يكون الله تعالى قد خزن العلم والخير عن نبيه وأظهره لكم؛ فتكونوا أنتم على ملة هي أهدى من ملة النبي عليه الصلاة والسلام، أو أنكم على ضلالة، فاختاروا، مع أنهم كانوا يسبحون ويذكرون، لكن على غير الهيئة التي وردت بها السنة.

    قال: [ ولئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلت: حدث بعدهم حدث ]، يعني: الأمور تدنت بعدهم، [ فما أحدثه إلا من خالف سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، ولقد تكلموا ما يكفي، فما دونهم مقصر، ولا فوقهم محسن، لقد قصر عنهم أقوام فجفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم.. ] وذكر الكلام إلى آخره.

    تفسير سعيد بن جبير لقوله تعالى: (وعمل صالحاً ثم اهتدى)

    [ وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، قال: لزم السنة والجماعة ].

    عَمِلَ صَالِحًا أي: لزم السنة، ثُمَّ اهْتَدَى أي: إلى التمسك بالجماعة وعدم الخروج عليها.

    [ وعن الضحاك في قوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، قال: استقام ] أي: على الإيمان والعمل الصالح بعد التوبة.

    أثر عطاء الخراساني: ( ثلاث لا تنفع اثنتان دون الثالثة...)

    [ وعن حسان بن عطية أنه سمع عطاء الخراساني يقول: ثلاث لا تنفع اثنتان دون الثالثة ]، يعني: أن الأمر يلزم فيه ثلاث أشياء ولا يكفي شيئان، بل لابد من اجتماع الثلاث، إذا اختلت واحدة فإن الاثنتين لا تنفعان صاحبهما، قال: [ الإيمان والصلاة والجماعة ]، ونحن قد ذكرنا معظم الكلام الذي ورد عن السلف رضي الله عنهم: أن الصلاة من الإيمان، وأن تارك الصلاة مارق عن الإسلام، أما من يترك الصلاة بالكلية فإنه مارق عن الإيمان والإسلام.

    أثر ابن مسعود: (عليكم بالعلم قبل أن يقبض ...)

    [ وقال ابن مسعود : عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وإياكم والتنطع والتبدع والتعمق، وعليكم بالعتيق ]. وهذه وصية جامعة.

    قال: (عليكم بالعلم قبل أن يقبض)، أي: قبل أن يموت العلماء، و(إياكم) أسلوب تحذير، و(عليكم) أسلوب حث.

    قال: (وإياكم والتنطع) وأنتم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على المتنطعين فقال: (هلك المتنطعون ثلاثاً)، والتنطع: هو التعمق والتكلف فوق الحد، ودائماً أنا أقول لكم: إن العزيمة والشدة يحسنهما كل أحد، أما الرخصة فلا يحسنها إلا فقيه، (والنبي عليه الصلاة والسلام ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)، فهذا هو استخدام الرخصة في محلها، فالنبي عليه الصلاة والسلام يستخدم العزيمة في موطن يحتاج إلى عزيمة، ويستخدم الرخصة في موطن يحتاج إلى الرخصة، أما أن تستخدم العزيمة دائماً في كل وقت وحين فإن هذا أمر ينخرط عقده ولا يصل. أي: لا يصل بصاحبه إلى الله عز وجل.

    وانظر إلى أي إنسان مستقيم دائماً تأخذه العزيمة بالعزيمة، وفجأة تراه نازلاً إلى الهاوية، اصعد يا فلان! يقول لك: لا أستطيع، لقد تعبت؛ لكن من أخذ في أمره بالرفق، وكلف نفسه من العمل ما يطيق لابد أنه سيستمر؛ لأن هذه سنة الله في الكون وفي الخلق، فمن سعادة المرء أن يوفق لشيخ أو عالم يأخذ بيديه ويعلمه منهجية السلف في العلم والعمل؛ لأن العمل يحتاج إلى جهد، فإذا بذل العبد مجهوداً فوق طاقته انقطع به الطريق.

    قال: (وإياكم والتنطع والتبدع) أي: والابتداع، (والتعمق)، وهو بمعنى: التنطع، (وعليكم بالعتيق..) والعتيق: القديم، يعني: إذا حزبك أمر فليس لك من عاصم إلا الوحي، ولا يوصف الوحي بأنه قديم، وإنما يقصد به الأمر الأول، أي: عليك بالأمر العاصم من كل قاصمة وزلة وانحراف، فإذا نزل بك أمر فلا تطلب رأي فلان ولا علان، بل اطلب حكم الله تعالى وحكم الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا هو الأمر الأول العاصم من كل فتنة.

    [ وقال محمد: كانوا لا يختلفون عن ابن مسعود في خمس ]، أي: خمس أمور كانوا يروونها عن ابن مسعود، وكأن هذه وصية ابن مسعود دائماً لأصحابه؛ حتى وردت عنه بالتواتر أنه كان يقول: [ إن أحسن الحديث كتاب الله ]، وهذه المسألة من جهة العقل ليست محسومة، فعندنا في هذا الزمان من يعترض على الله بعقله، وكأنه يقول بلسان حاله: كلامي أحسن من كلام الله، أليس هذا حاصلاً؟

    حال العلمانيين والمنافقين الموجودين الآن على صفحات الجرائد والمجلات والصحف أنهم يعترضون على كلام الله عز وجل، وعلى كلام رسوله عليه الصلاة والسلام، فإذا كان الاعتراض على آية من كتاب الله يقولون: أنتم لا تفهمونها فهماً صحيحاً، ومن هو ابن كثير هذا؟ ومن هو الطبري ؟ ومن القرطبي؟ ثم بعد ذلك يطعنون في كتب المفسرين، وكلامهم هم فقط هو الصحيح، ومنظورهم للآية هو المنضبط، هكذا يزعمون ويدعون، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم بأنهم منافقون: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]، وهم يعلمون أن الأمة لا يمكن أن تجتمع على ضلالة، فلا يعقل أن معنى الآية يخفى على الأمة ألفاً وأربعمائة وخمسين سنة ويظهر لواحد من هؤلاء الكلاب الموجودين في هذا الزمان، وإلا فالأمة في ضلال منذ ألف وأربعمائة سنة، والعلماء فيها لم يكن لهم قيمة ولا مذهب، ولم يفهموا هذه الآيات، بل خبطوا فيها خبط عشواء، وهذا كلام لا يقوله إلا إنسان قد فقد عقله أو فقد قلبه، أو فقد قلبه وعقله على السواء مع الله عز وجل، فخرج من الإيمان بالكلية خاصة إذا كان يقصد ذلك، أما إذا كان يردد كلام هؤلاء عن جهل فهو على خطر عظيم، فهو إذاً على خطر في الحالين.

    قال: [ إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير السنة سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف على ذلك، وشر الأمور محدثاتها ]، أي: محدثات الأمور وبدع الأمور في دين الله عز وجل. وهذا بلاء.

    قال: [ وإن أكيس الكيس التقى ]. أفضل الأعمال أن يأتي العبد تقياً لله عز وجل. قال: [ وإن أحمق الحمق الفجور ]، سواء في القول أو العمل أو الاعتقاد. هكذا حفظ أصحاب ابن مسعود عنه هذا الحديث.

    خطبة ابن مسعود: (إن أصدق الحديث كلام الله ...)

    [ وعن إياس ]، وهو ابن معاوية بن قرة المزني القاضي المشهور، وهو من سادات التابعين، يروي [ عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول دائماً في خطبته: إن أصدق الحديث كلام الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وأحسن القصص هذا القرآن ]. وهذا نهج المذكرين والوعاظ لو يعلمون صدق هذا الكلام وروعته، وهو كلام ابن مسعود سادس ستة في الإسلام، فهو من المسلمين الأوائل.

    والمعروف أن في القرآن عشرات القصص والأمثال، وكذلك السنة قد امتلأت بالقصص والأمثال، والقصص تجد طريقها لقلوب الناس، خاصة قلوب العامة، بل تجد طريقها في قلوب العامة والخاصة، والقصص مسلية، لكنها ذكرت في القرآن والسنة للعبرة والعظة وتقريب المقال.. وغير ذلك، فيا ليت الوعاظ يلتزمون قصص القرآن الكريم وقصص سنة النبي الأمين عليه الصلاة والسلام.

    والناظر في قصص القرآن وقصص السنة يجد أنها قد تصل إلى أكثر من (300) قصة، فلو أن كل واعظ انشغل بقصة من القصص فعلمها للناس، واستخرج منها العظات والفوائد والنكات، وأنزلها على واقع المسلمين اليوم، وطاف بها البلدان؛ لكان في هذه القصص الخير الكثير، لا كما يطوف بالقصص الصوفية والأولياء ويطوفون بالكلام الذي قد ورد في كتب الموضوعات والخرافيات وغيرها، وللأسف الشديد أن وعاظنا يرددون هذا الكلام على مسامع العامة؛ حتى صرنا أشبه بسلفية صوفية كما هو مصطلح أحد الزعماء الكبار. يقول: دعوتنا سلفية صوفية. كيف تكون سلفية صوفية؟! إن النار والجنة لا يمكن اجتماعهما قط؛ لأنه إما أن تؤثر السلفية في الصوفية فتستقيم، وإما أن تؤثر الصوفية في السلفية فتنحرف، أما اجتماعهما فمحال؛ فكيف تكون الدعوة موصوفة بأنها سلفية تارة وصوفية تارة أخرى؟! إلا أن يكون المراد بالصوفية الزهد، ولذلك حملناها على أصل معناها الذي وضعت له في مصطلح الصوفية.

    فقوله: [ إن أصدق الحديث كلام الله وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وأحسن القصص هذا القرآن، وأحسن السنن سنة محمد عليه الصلاة والسلام، وأصدق الحديث ذكر الله، وخير الأمور عزائمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف القتل موت الشهداء ]، يعني: أحسن القتل هو أن تموت شهيداً في ساحة القتال، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الشهادة في سبيله. قال: [ وأغر الضلالة الضلالة بعد الهدى ]، يعني: أسوأ الضلالة الضلالة بعد الهدى، فالإنسان الذي نشأ في ضلالة هو أقل قبحاً ممن عرف الهدى ثم انحرف عنه، وفي الغالب أن من خالط الإيمان بشاشة قلبه لا يترك الإيمان رغبة عنه.

    قال: [ وأغر الضلالة الضلالة بعد الهدى، وخير العلم ما نفع ]. يعني: أنفع العلم وأحسن العلم ما ينفعك في دنياك وآخرتك.

    قال: [ وخير الهدى ما اتبع ]، أي: خير الهدى اتباع النبي عليه الصلاة والسلام، [ وشر العمى عمى القلب ]. كما قال تعالى: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، فشر العمى عمى القلب، ويتبعه عمى العقل، أما عمى البصر فربما يمدح المرء لأنه أعمى البصر، ولو لم يكن تمني البلاء مذموماً في الشرع لتمنى المخلصون الذين يتأذون بالمعاصي العمى؛ لأن المرء الآن لا يكاد ينظر في شرق ولا غرب ولا فوق ولا تحت إلا وتقع عيناه على ما يغضب الله عز وجل، فهذا أمر يحمل على طلب العمى في هذا الزمان، لولا أنا قد نهينا عن تمني البلاء، والعمى بلاء، فالمرء ربما يغبط على بلاء قد نزل به وإن كان عمى في بصره.

    ثبت في الأثر أن صحابياً أصيب بالعمى، فلما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام يطلب منه أن يدعو له بذهاب البلاء عنه قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت لك. قال: يا رسول الله! بل أصبر)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أصيب في حبيبتيه فصبر فليس له جزاء إلا الجنة)، والحبيبتان: هما العينان، أي: من أصابه العمى في عينيه فصبر على هذا واحتسب الأجر عند الله عز وجل فله الجنة.

    قال: (وشر العمى عمى القلب). فعمى القلب وعمى العقل التابع لعمى القلب من أعظم الأمراض الفتاكة بالشخص التي تودي به إلى جهنم والعياذ بالله، لكن إذا كان أعمى البصر، وقلبه قد عمر بالإيمان والتوحيد فهذا شيء عظيم جداً، أما أن يعمى القلب عن معرفة الحق فلا يكاد يميز بين الحق والباطل، بل ربما زعم أن الحق باطل وأن الباطل حق، بل ذهب يدعو إلى الباطل وينحرف عن الحق؛ فهذا منتهى العمى ومنتهى الضلالة.

    وأنتم تعلمون أن ابن مسعود في مسجد الكوفة الكبير كان يذكر الناس عشية كل خميس، ثبت في صحيح البخاري في كتاب العلم: (أن أصحاب ابن مسعود قالوا له: يا أبا عبد الرحمن ! إنا نحب كلامك فهلا ذكرتنا في كل يوم؟ فقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا) يعني: كان يعظنا يوماً بعد يوم أو يومين، أو في كل أسبوع؛ يعني: كان يضع بين الموعظة والموعظة فترة طويلة حتى لا يصاب الناس بالملل، وأنا أعرف أنني وغيري نخالف في هذا، لكن هذه المخالفة ربما يكون من ورائها ثمرة، وقد التقيت بالشيخ سيد العربي هنا فقلت له: خطر في قلبي أمر عظيم جداً، وهو أنك تحاضر من بعد العصر إلى المغرب، وأنا أحاضر من بعد المغرب إلى ما بعد العشاء، وحلقة القرآن تعقد بعد العشاء إلى ما شاء الله عز وجل.

    أنت عندك الآن فراغ من العصر إلى الساعة الثانية عشرة أو الواحدة بالليل، فمن المفروض أن تذلل هذه الصعاب وتخطو إلى الأمام، فإنك في الغد ربما تحرم من هذا كله، ولا تعرف ما الذي سيحصل لك، فما عليك أيها المؤمن إلا أن تحضر في هذا المسجد وفي غيره من مساجد الدعوة المنضبطة بالسلفية التي لها أصول علمية محترمة زكاها أهل العلم، المهم ألا يفوتك يوم إلا وعندك فيه زيادة في إيمانك، وزيادة في علمك، وزيادة في عملك، فإن الله تبارك وتعالى وعد بالنصر والتمكين والسؤدد لأهل الإيمان، ووعد بأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، فلابد من ميراث النبوة، ولابد أن الأرض يرثها عباده الصالحون، لكن في وقت الضعف وبعدهم عن الكتاب والسنة، وبعدهم عن منهج الصلاح والتقوى؛ لابد أن يكونوا في مؤخرة الركب جزاءً نكالاً لهم على تركهم لكتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام.

    أثر ابن مسعود: (أنه كان يذكر كل عشية خميس ...)

    قال: [ إن ابن مسعود: كان يذكر كل عشية خميس، فيحمد الله ويثني عليه ويقول: إن أحسن الحديث كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وشر الرواية رواية الكذب ]، يعني: شر الحديث الكذب فيه، [ وسمعته يقول: يا أيها الناس! عليكم بالطاعة ]، والطاعة هنا لأولياء الأمور وللعلماء. قال: [ عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ]. فانظر إلى الكلام الجميل: (إن ما تكرهون في الجماعة) أي: في جماعة الإمام والخليفة خير لكم مما تحبونه حين تفرقكم. قال: [ وإن الله عز وجل لم يخلق في هذه الدنيا شيئاً إلا وقد جعل له نهاية ينتهي إليه ]. لابد.

    أخرج البخاري في كتاب الأدب في باب إثبات تواضع النبي عليه الصلاة والسلام حديث أنس : (أن دابة النبي عليه الصلاة والسلام القصواء لم تسبقها دابة قط، فجاء رجل من الأعراب بدابته، وقال له: يا رسول الله! تسابقني؟ قال: أسابقك)، انظر النكتة التي استفادها البخاري من هذا الحديث، فبوب هذا الحديث: باب إثبات تواضع النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه وهو نبي ورسول رضي أن يسابق أعرابياً أتى من البادية، مع أن هذه القصواء لم تسبقها ناقة ولا جمل ولا حمار (قال له: يا رسول الله! تسابقني؟ قال: أسابقك، فسبقه الأعرابي. فقال الصحابة: خلأت -عضبت- القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هذا، ما بلغ شيء تمامه إلا نقص)، أي: ما من شيء يرتفع إلا ومصيره النزول.

    انظر في نفسك حيث كنت جنيناً، ثم وليداً رضيعاً، ثم طفلاً، ثم صبياً، ثم شاباً، ثم رجلاً فتياً قوياً، وبعدما تصبح فتياً قوياً يبدأ العد التنازلي مرة أخرى، كان هناك عد تصاعدي، واختلف أهل العلم في هذا، فمنهم من قال: يبدأ النزول بعد سن الأربعين، ومنهم من قال: يبدأ بعد سن الخمسين، ومنهم من قال: بعد سن الستين، فأياً كان اعتبر أن صفوة قوتك وشبابك من أربعين إلى الستين، وبعد الستين يبدأ العد التنازلي السريع لا محالة، ففي قوتك تفعل ما تشاء من خير أو شر، لكن الإنسان الذي بلغ تمام قوته، ثم بدأ ينزل بعد ذلك على حتفه، لابد أن يعمل ألف حساب لهذا اليوم الذي ينزل فيه، ولابد أنه نازل مهما طال به الزمان وعاش، وقد أعجبني جداً كتاب رجل سماه: انتبه فقد بلغت الأربعين، (ولقد أعذر الله عز وجل إلى امرئ بلغه الستين)، يعني: تكون فاجراً، تكون زانياً، تكون سارقاً، تكون قاتلاً، ليس لك في ذلك عذر واحد، فالله تبارك وتعالى مد في عمرك وأقام عليك الحجة منذ ستين عاماً، ولا زلت مصراً على المعصية؟ إنك على خطر عظيم جداً بين يدي الله عز وجل.

    فقال ابن مسعود: [ وإن الله عز وجل لم يخلق في هذه الدنيا شيئاً إلا وقد جعل له نهاية ينتهي إليها، ثم يزيد وينقص إلى يوم القيامة، وإن هذا الإسلام اليوم مقبل ]. والإسلام قادم لا محالة، والإسلام باق إلى قيام الساعة، لكنه يخبو أحياناً ويظهر أحياناً، حسب تمسك أهله به، والعاقبة للتقوى.

    قال: [ وإن هذا الإسلام اليوم مقبل، ويوشك أن يبلغ نهايته، ثم يدبر وينقص إلى يوم القيامة، وآية ذلك أن تفشو الفاقة ]، يعني: علامات ذلك أن يكثر الفقر بين الناس؛ لبخل الأغنياء، وتركهم لأداء زكاة أموالهم وعموم الصدقات.

    قال: [ وتقطع الأرحام ]. فمن منا أيها الإخوة يعرف رحمه ويعرف نسبه؟ الجواب: قليل جداً، حتى واصل الرحم فينا يصل من وصله ويقطع من قطعه، وليس هذا هو الوصل، بل إن الواصل من يصل من قطعه، أما ذاك الذي يقال له: صل أخاك فيقول: الذي يأتي إلي أذهب إليه، والذي لا يأتي إلي لا آتي إليه، فلا أحد أحسن من أحد، وهذا من مصطلحات الجاهلية التي كانت قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام نقولها نحن اليوم، فنحن في جاهلية عظيمة جداً، وأمثلنا وأحسنا من يصل أباه، أمه، أخاه، عمته، خالته، فإنه يصل المحارم دائماً، وهل هؤلاء فقط هم المحارم؟ الجواب: لا، بل هم أعظم من هؤلاء بكثير، فهناك صلة رحم عامة وهناك صلة رحم خاصة، وليس هذا وقت تفصيل ذلك.

    قال: [ وآية ذلك أن تفشو الفاقة، وتقطع الأرحام حتى لا يخشى الغني إلا الفقر ]. الغني يخشى أن يخرج الزكاة ويفتقر، مع أنه يعطي الفقراء مقابل حق الله وحق الفقراء والمساكين في ذلك الذي فرضه الله عليه.

    قال: [ حتى لا يخشى الغني إلا الفقر، ولا يجد الفقير من يعطف عليه، وحتى إن الرجل ليشكو إلى أخيه وابن عمه، وجاره غنيُّ لا يعود عليه بشيء ]، يعني: الواحد يكون له ابن عم وابن خال في بلد أخرى، فيقول له: يا ابن عمي! أنقذني ويا ابن أخي! أرسل لي خبزاً آكله، وجاره الذي ساكن بجواره المأمور بألا ينام وجاره جائع، والمأمور بأنه إذا طبخ لحماً أن يكثر المرق ويتعاهد الجيران، لا يعطيه شيئاً، فالواحد منا محتاج إلى صدقة تأتيه من بلدان بعيدة أو أماكن بعيدة، وجاره الذي فرض الشارع عليه حق الجوار، وأمره ألا ينام إلا بعد أن يطمئن على جاره يقصر في ذلك.

    قال: [ وحتى إن الرجل ليشكو إلى أخيه وابن عمه، وجاره غني لا يعود عليه بشيء، وحتى إن السائل ليطوف بين الجمعتين لا يوضع في يده شيء ]. يعني: السائل يظل يطوف بين الناس من الجمعة إلى الجمعة، وفي نهاية الأمر لا يوضع في يده فلس ولا دينار ولا درهم.

    ولست بذلك أقول بلزوم إعطاء هؤلاء السائلين أموالكم، فإنه أحق بها الذين تعففوا عن المسألة، أما هؤلاء فإنهم مهرة في حلب أموال الناس، وليسوا من المحتاجين في شيء، فإياكم وإياهم، فإنهم قد تمرسوا واحترفوا السؤال والشحاتة، أما أصحاب الحاجة الحقيقيون فإنهم قد كفوا ألسنتهم وعفوا نفوسهم عن المسألة، ولكن يلزم كل واحد معرفة هؤلاء في الحي والشارع والقرية، فيذهب بنفسه إلى بيوتهم ويتصدق عليهم من مال الله عز وجل الذي أفاء به عليه.

    أسأل الله تعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    وصلى الله على نبينا محمد.

    سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756516926