إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [2]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أول واجب على الإنسان الإقرار به وعلمه هو شهادة التوحيد، ويجب على المسلم أن يعرف معناها ومؤداها ولوازمها؛ إذ لا تصح منه إلا أن يأتي بها سليمة مما يشوبها من صور الشرك، ولا فلاح له بدونها، وعليها يترتب سائر العمل.

    1.   

    الدليل العقلي على وجود الخالق سبحانه

    قال الشارح رحمه الله: [والمشهور عند أهل النظر إثباته بدليل التمانع، وهو أنه لو كان للعالم صانعان فعند اختلافهما -مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر تسكينه، أو يريد أحدهما إحياءه والآخر إماتته- فإما أن يحصل مرادهما، أو مراد أحدهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما، والأول ممتنع؛ لأنه يستلزم الجمع بين الضدين، والثالث ممتنع؛ لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون وهو ممتنع، ويستلزم أيضاً عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلهاً، وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر كان هذا هو الإله القادر والآخر عاجزاً لا يصلح للإلهية، وتمام الكلام على هذا الأصل معروف في موضعه].

    أتى الشارح بهذا ليبين أن هذا هو الدليل عند أهل الكلام على أن الخالق واحد، ويسمى دليلاً عقلياً، وتسمى دلالة التمانع، فيقولون: لو كان للعالم صانعان متكافئان كلاهما خالق مستقل مكافئ للآخر فأراد أحدهما تسكين شيء وأراد الآخر تحريكه، أو أراد أحدهما إحياء شخص وأراد الآخر إماتته لاختلفا، فإذا كان العالم له خالقان فقد يختلفان، يقول هذا: سنحيي هذا. ويقول الآخر: سنميته. تعالى الله! فإذا أراد هذا إحياءه وأراد هذا إماتته واختلفا، فماذا يحصل؟

    هل يمكن أن يكون هذا الشخص حياً ميتاً؟! لا يمكن.

    هل يمكن أن يكون متحركاً ساكناً في آن واحد؟! لا يمكن، فما يمكن أن يحصل مرادهما معاً؛ لأنه جمع بين الضدين، إذاً لا بد أن يحصل مراد واحد منهما، أو لا يحصل مراد أحد منهما، وكونه لا يحصل مراد كل منهما ممتنع أيضاً، فالجسم لا بد أن يكون إما متحركاً وإما ساكناً، إما حياً وإما ميتاً، فلا يمكن أن يكون خالياً من الحركة وخالياً من السكون، ولا يمكن أن يكون غير حي ولا ميت، إذاً لا بد أن يحصل مراد واحد منهما دون الآخر، فالذي يحصل مراده هو الإله، والذي لا يحصل مراده هو عاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، وهذا يسمى عندهم دليل التمانع، وقد دل على ذلك القرآن في قول الله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] يعني: لو كان مع الله آلهة مساوية له لفسدت المخلوقات، وذلك لما يلزم من اختلاف الأهواء واختلاف الإرادات، فهذا ونحوه مما يدل عقلاً على أن العالم خالقه واحد وهو الله تعالى، وهو المتصرف في هذا الكون كما يشاء.

    1.   

    توحيد الألوهية هو الذي دعت إليه الرسل

    قال رحمه الله: [وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22] لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن ودعت إليه الرسل عليهم السلام، وليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له؛ فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد كما أخبر تعالى عنهم بقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون:84-85]].

    كثير من المتكلمين يدعّون أن التوحيد الذي دلت عليه هذه الآية والذي دل عليه دلالة التمانع هو الذي دعت إليه الرسل، وهذا خطأ، بل الرسل إنما دعوا إلى توحيد العبادة، وذلك لأن توحيد الربوبية فطري لم ينكره المشركون الأولون، بل جميع الأمم معترفون بتوحيد الربوبية، كما ذكرنا في الآيات السابقة، ومنها قول الله تعالى: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون:84-85]، وقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت:61]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت:63] ، فإذا كانوا معترفين بهذا النوع الذي هو توحيد الربوبية وأن الرب هو الخالق وحده فهذا يدل على أن الرسل إنما دعت إلى التوحيد القصدي الإرادي الذي هو توحيد الإلهية أو توحيد العبودية.

    المشركون يقرون بتوحيد الربوبية وينكرون توحيد الألوهية

    قال رحمه الله: [ومثل هذا كثير في القرآن، ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم، تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين ويتخذونهم شفعاء ويتوسلون بهم إلى الله، وهذا كان أصل شرك العرب، قال تعالى حكاية عن قوم نوح: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23] ، وقد ثبت في صحيح البخاري وكتب التفسير وقصص الأنبياء وغيرها عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح ، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، وأن هذه الأصنام بعينها صارت إلى قبائل العرب ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما قبيلة قبيلة].

    معروف أن الرسل دعوا إلى توحيد العبادة الذي هو توحيد الطلب والقصد، وهو التوحيد الإرادي العملي الذي طلبه الله من عباده وأمرهم به، وضده الشرك الذي هو دعوة غير الله تعالى معه، والأمم السابقة متفقون -كما سمعنا- على أن الخالق لهذا العالم واحد هو الله، ومع ذلك يدعون آلهة غيره ويسمونها آلهة، كما حكى الله عن قوم إبراهيم أنهم قالوا: نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ [الشعراء:71] ، وأنهم قالوا لما كسرها: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:59]، وقولهم: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:62]، وقولهم: حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الأنبياء:68] فسموها آلهة، ومعلوم أنهم يألهونها، أي: يحبونها ويعظمونها ويصرفون لها أنواع التأله، وهكذا فعل المشركون في العهد النبوي، فإن قصدهم إنما هو التقرب إليها.

    وأما غرضهم منها فقد ذكره الله تعالى في قوله عنهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] هذه مقالة المشركين، وكذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا: هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18] ، ورد عليهم كما حكى عن الرجل المؤمن بقوله: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ [يس:23]، فأخبر بأنهم إنما يريدون شفاعتهم، وأنهم لا يشفعون ولا تغني شفاعتهم شيئاً، وهذا هو قصد المشركين الأولين والمعاصرين سواء، وهو أنهم يريدون شفاعتهم، ويريدون التوسل بهم، ويزعمون أنهم لهم وجاهة ولهم صلاح، فلكونهم ذوي صلاح يشفعون لهم شفاعة تفيدهم إما في العاجل وإما في الآجل.

    وأول ما حدث هذا الشرك في قوم نوح، كما حكى الله عنهم بقوله: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا [نوح:23] .. الخ، فروى البخاري عن ابن عباس قال: هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح. كانوا رجالاً من أهل العلم ومن أهل العبادة ومن أهل الفضل، فلما ماتوا أسف تلامذتهم عليهم، فجاءهم الشيطان وقال: صوروهم وانسبوا صورهم حتى تتذكروا عبادتهم أو تتذكروا علومهم فتعملوا بها، فصوروا تماثيل وسموها بأسمائهم، هذا ود، وهذا سواع، وهذا يغوث، وهذا يعوق، وهذا نسر، ولما ذهب أولئك الذين صوروهم ونشأ أولاد لهم جهال وصاروا يرون هذه الصور جاءهم الشيطان وقال: آباؤكم ما صوروهم إلا ليعظموهم؛ فإنهم من أهل الصلاح. فعند ذلك عظموهم، وزادوا من تعظيمهم شيئاً فشيئاً إلى أن صاروا يصرفون لهم حق الله، ثم جاء الطوفان وأغرق من على الأرض، ولكن بقيت صور أولئك مدفونة حتى العصر الجاهلي، وأول من أثارها عمرو بن لحي بن خندف الخزاعي، وهو الذي يقول عنه صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار؛ لأنه أول من سيب السوائب وغير دين إبراهيم)، فذكروا أن الشيطان تمثل له في صورة كاهن، وكلام الكهنة يكون مسجوعاً، فقال له: ائت جدة، تجد بها أصناماً معدة، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب. ففعل فأخبره بأسمائها، فتفرقت هذه الأصنام الخمسة في العرب، وصارت معبودة إلى العهد النبوي، وهي صور قديمة من عهد نوح احتفظ بها وبأمثالها وصارت تعبد إلى العهد النبوي، فهذا أول شرك وآخره، وهو الشرك بعبادة الصالحين، وبتسميتهم أولياء أو سادة أو أفاضل أو أشرافاً، وهذه التسمية أوجبت للناس أن يغلوا فيهم حتى صرفوا لهم خالص العبادة.

    1.   

    أصل الشرك تعظيم القبور

    قال رحمه الله: [وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: (قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أمرني ألا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته)، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرض موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر مما فعلوا قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً. وفي الصحيحين أنه ذكر لرسول الله عليه الصلاة والسلام في مرض موته كنيسة بأرض الحبشة، وذكر من حسنها وتصاوير فيها فقال: (إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)، وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)].

    هذه أحاديث تدل على أن أصل الشرك هو تعظيم القبور، سيما قبور الأولياء والسادة والصالحين، وبالطريق الأولى قبور الأنبياء والرسل، فالنبي عليه الصلاة والسلام عرف هذا، وعرف أنه أكبر سبب في حدوث الشرك في العالم، وأن قوم نوح لما مات أولئك الصالحون فعلوا ما يلي:

    أولاً: عكفوا على قبورهم.

    ثانياً: صوروا تماثيلهم.

    ثالثاً: طال عليهم الأمد فعبدوهم.

    وكذلك وقع هذا في النصارى، وكذلك في اليهود، وكذلك في الأمم الأخرى، فسبب الشرك فيهم هو عبادة الأولياء والصالحين والأنبياء ونحوهم.

    و في هذه الأحاديث يقول صلى الله عليه وسلم: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)، وكذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) تقول عائشة: يحذر مما صنعوا. أي: يحذر فعلهم. تقول: ولولا ذلك لأبرز قبره، أي: لجعل بارزاً، ولكن خشي أن يتخذ مسجداً.

    وكذلك في مرض موته ذكرت له أم سلمة وأم حبيبة كنيسة رأتاها في أرض الحبشة يقال لها: (مارية)، وفيها صور، فقال عليه الصلاة والسلام: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله) يخاطب أم سلمة أو أم حبيبة ، فإنهم جمعوا بين الفتنتين: فتنة التماثيل، وفتنة القبور، فإذا مات فيهم الرجل الصالح صوروا صورته وهو (التمثال)، ثم بعد ذلك بنوا على قبره، وقد يكون البناء على قبره يتقدم الصورة، فهم يبنون على قبره ويصورون صورته، فجمعوا بين فتنتين: فتنة الصور وفتنة القبور، وكلاهما من الأسباب الداعية إلى الشرك، وهذا هو الذي حصل في هذه الأمة، والنبي عليه الصلاة والسلام في آخر حياته قبل أن يموت بخمس حذر من ذلك على المنبر فقال: (ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)

    ثم لما كان في سياق الموت اهتم بهذا الأمر، وكانت عليه قطيفة كلما تسجى بها واغتم كشفها، فأخذ يقول وهو في تلك الحال: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) كأنه يشير إلى أنكم لا تتخذوا قبري مسجداً كما فعل أولئك.

    وقد بين العلماء أن معنى اتخاذها مساجد هو تحري تلك الأماكن للصلاة عندها، فمجرد قصدها لأجل الصلاة عندها اتخاذ لها ولو لم يكن هناك بناء، ولو لم يبنوا عليها بنياناً مثل هذا المسجد، بل ما دام أنه يقصد هذه البقعة التي يزعم أن فيها قبر ولي أو قبر نبي أو قبر سيد أو قبر رجل صالح، ويفضل الصلاة عندها ويجلس عندها، ويطيل الجلوس، ويتبرك بتربتها فقد اتخذها مسجداً شاء أم أبى ما دام أنه يتحراها للصلاة ويفضل الصلاة عندها على الصلاة في بيوت الله تعالى، فهو ممن اتخذها مسجدا، سواء أقيم عليها بناء أو لم يقم عليها.

    ولما كانت القبور مظنة الفتنة حرص عليه الصلاة والسلام على أن لا يكون هناك ما يدعو إلى ذلك، فثبت أنه نهى أن ترفع القبور، وأن يبنى عليها، وأن تجصص، وأن يكتب عليها، وأن تسرج -يعني: تنور-؛ لأن هذه الأشياء تدفع الجهال إلى الاعتقاد فيها، فإذا رأوا هذا القبر على هذه الحال قالوا: هذا قبر ولي. هذا قبر سيد. هذا ممن يتبرك به. هذا ممن يرجى تأثيره ونفعه. فيقصدونه ويغلون فيه فيحصل الشرك، فنبينا عليه الصلاة والسلام حسم مادة الشرك، ومنع من الوسائل التي توقع فيه، وقد بعث علياً رضي الله عنه بقوله: (لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) يعني: سويته بالقبور الأخرى. وأمره بطمس الصور؛ لأن الصور أصل في عبادة غير الله، وأمره بتسوية القبور، أي: بتخفيض القبر المشرف الذي قد رفع على ما سواه من القبور حتى يسوى بغيره من القبور مخافة أن يعتقد فيه، فهذا دليل على أنه عليه الصلاة والسلام قد حرص كل الحرص على أن تكون أمته متمسكة بتوحيد الله تعالى.

    1.   

    من الشرك عبادة الكواكب

    قال رحمه الله: [ومن أسباب الشرك عبادة الكواكب، واتخاذ الأصنام بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها، وشرك قوم إبراهيم عليه السلام كان -فيما يقال- من هذا الباب، وكذلك الشرك بالملائكة والجن واتخاذ الأصنام لهم].

    عبادة الكواكب أو الأفلاك كالشمس والقمر من جملة ما وقع فيه بعض الأمم، ولأجل ذلك نهى الله تعالى عن ذلك، وأخبر بضلال من يفعله، وحكى الله تعالى عن ملكة سبأ وقومها بقوله عن الهدهد: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل:24]، أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ [النمل:25] يعني: صدهم الشيطان عن سجودهم لله الذي خلقهم الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النمل:25]، فهذا دليل على أن هناك أمماً عبدوا الشمس، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن المشركين يسجدون لها، ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها فقال: (إن الشمس تطلع بين قرني شيطان وحينئذٍ يسجد لها المشركون)

    وهناك من شركهم بعبادة الكواكب. وقيل: إن قوم إبراهيم شركهم بعبادة الكواكب، كانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل، وقد حكى الله عنهم أنهم يعبدون أصناماً، كقولهم: نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ [الشعراء:71]، وكانت أصنامهم من حجارة أو من خشب، ولأجل ذلك قال لهم إبراهيم: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشعراء:75-77] وقال: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ [الأنبياء:57] فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ [الأنبياء:58] وقال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] يعني: خلقكم وخلق ما عملتم بأيديكم. فهذا دليل على أنهم كانوا يعبدون أصناماً منحوتة، ولكن مع ذلك كانوا يعبدون الكواكب، وقد قيل: إن من أدلة ذلك قوله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:76] على وجه المناظرة، وكذلك قال للقمر: هذا ربي. وقال للشمس (هذا ربي هذا أكبر) قيل: إن من أدلة ذلك أيضاً قوله تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89]، مما يدل على أنهم كانوا ينظرون أيضاً في النجوم.

    فعبادة الكواكب لا شك أنها شرك، وذلك لأن هذه الكواكب مخلوقة مسيرة، والله هو الذي يسيرها، وهو الذي سخرها، كما في قوله تعالى: وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف:54].

    والحاصل أن من جملة المعبودات عبادة الكواكب وبناء الهياكل لها، وكل ذلك مما نفاه الإسلام وحث المسلمين على أن تكون عبادتهم لله وحده.

    1.   

    شبهة المشركين في عبادتهم لغير الله

    قال رحمه الله: [وهؤلاء كانوا مقرين بالصانع وأنه ليس للعالم صانعان، ولكن اتخذوا هؤلاء شفعاء كما أخبر عنهم تعالى بقوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18]].

    قد تقدم أن المشركين الأولين يعترفون بأن الخالق واحد وهو الله تعالى، حكى الله ذلك عن مشركي العرب في عدة آيات، ومنها قوله تعالى: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون:84-89] أي: هذا لله وحده، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون:89]، وهذا يبين أنهم يعترفون بهذا، وأنه صار حجة عليهم، فاعترافهم بتوحيد الربوبية حجة عليهم في التوحيد الذي جحدوه وهو توحيد الإلهية فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون:89] أي: كيف تصرفون عن عبادته وأنتم تعرفون أنه الذي يجير ولا يجار عليه، وأنه الذي بيده ملكوت كل شيء؟ وهو رب السماوات السبع، وهو رب العرش العظيم، وهو الذي له الأرض وله السماوات وله المخلوقات، ومع ذلك تعبدون غيره! أين عقولكم؟

    فسئلوا لماذا تعبدون هذه المعبودات؟ فأخبر الله تعالى عنهم بأنهم يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] أي: نريد أن يقربونا إليه. وكذلك في قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18] أي: ما نريد إلا شفاعتهم. هذه مقالتهم، وهي بعينها مقالة عباد القبور وعباد الأولياء ونحوهم الذين يقولون: إنهم أناس ذوو فضل ومنزلة، والله يقبل منهم ولا يقبل منا، فإذا تقربنا إليهم أدخلونا على الله، وقبلت أعمالنا بسببهم. ويضربون لذلك مثلاً بملوك الدنيا، فيقولون: إن ملوك الدنيا لا يوصل إليهم إلا بالشفعاء، فإذا أردت حاجة عندهم فإنك تتوسل بأحد الوزراء أو أحد الكتاب أو أحد الخدم حتى يدخلك عليهم ويشفع لك عندهم. وهذا قياس فاسد؛ فإن الملوك بشر لا يعرفون ما في الضمير، ولا يعرفون الصادق من الكاذب، فيحتاجون إلى أن يقبلوا شفاعة من يعرفونه، والرب سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى من يعرفه، فإنه يعلم ما في الضمائر، ويعلم ما توسوس به النفوس، وهو عليم بذات الصدور، فلا حاجة إلى أن يشفع عنده أحد، وإن كان في الآخرة يأذن في الشفاعة لبعض عباده ويقبل شفاعتهم تكريماً لهم، ولكن بإذنه، كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756897975