إسلام ويب

شرح اعتقاد أهل السنة [17]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ختم المؤلف رحمه الله هذه الرسالة بأمور هي كالنصيحة لأهل السنة والجماعة، وهي نصيحة جامعة ووصية فذة مفيدة لمن عمل بها، أولها: أن العقيدة أساس الملة وأصل الدين، وثانيها: أن أهل الحديث كلهم متفقون على عقيدة واحدة، وهي التي تنبع من نصوص الكتاب والسنة، وثالثها: أن أهل السنة لا يسارعون إلى المعاصي، متمسكون بحبل الله المتين الموصل إلى مرضاة الله وجناته جنات النعيم، متبعون في التمسك به هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    العقيدة أصل الدين وأساس مبناه

    قال المصنف رحمه الله: [هذا أصل الدين والمذهب].

    جميع ما تقدم في هذه الرسالة جعله أصلاً، وأنت تعرف أن الأصل هو الأساس؛ لأنه الذي يُبنى عليه غيره كأساس الحائط والعمود، فإنه إذا تأصل وثبت تحمل ما يبنى عليه، وأما إذا كان على شفا جرف هار فإنه يسقط، كما قال تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ [التوبة:109]، والجرف: هو ما يحفر في السيل، فإذا كان الإنسان بنى جداره قريباً من مجرى السيل، وجاء له السيل فحفر تحته وحمل التراب الذي تحته يبقى الجدار متعلقاً فيسقط، فهذا معنى قوله تعالى: أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ [التوبة:109]، وهو مثال.

    فيقول: إن هذه القواعد وهذه العقائد هي أصل الدين -يعني: أساسه، ولاشك أن الأصل له فروع، فإذا ثبت الأصل واستقر فإن الأصول لها فروع تكون تابعة لها ومكملة، ولا شك أن من حافظ على الأصول حرص على الفروع، فمن عرف الله تعالى حق المعرفة، وآمن بقدرته وبعلمه وبسمعه وبصره وبعذابه وثوابه وبمنعه وعطائه، وتحقق بأنه قادر على أن يبطش بالعاصي وينزل به عقوبته، وبأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، وآمن بالبعث بعد الموت وما يكون فيه لا شك أنه تنبعث جوارحه إلى الطاعات، فهذا معنى كونه على أصل وأساس تنبعث جوارحه، فيبادر إلى الصلوات ويكثر من نوافل العبادات، ويكثر من ذكر الله تعالى في كل الحالات، ويؤدي الصدقات والزكوات وما أشبهها، ويكثر من صيام التطوعات وما أشبهها، ويحج ويعتمر ويجاهد ويذكر الله ويدعوه ويتصدق، ويدعو إلى الله تعالى ويتعلم ما ينفعه ويتدبر كتاب الله، لأن هذا الإيمان والأصل الأصيل الذي امتلأ به قلبه دفعه إلى هذه الأعمال كلها.

    وكذلك أيضاً لابد أنه يبتعد عن الآثام وأنواع الإجرام إذا علم وتحقق أن ربه شديد العقاب وأنه سريع الحساب وأنه عزيز ذو انتقام وأنه يغضب على من عصاه وينتقم منه حرص على أن يبتعد عن المعاصي.

    إذاً فالأصل الأصيل هو العقيدة، وإذا ثبتت هذه العقيدة فالفروع التي تتفرع عنها تابعة لها مستلزمة لها.

    وأما المراد بالمذهب فهو ما قال به إمام مجتهد ومات وهو عليه، فيسمى مذهباً له، ولكن معروف أن أئمة أهل السنة كلهم متفقون على العقيدة، وليس بينهم اختلاف في العقيدة، فمذهبهم في العقيدة واحد، وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم.

    أهل الحديث متفقون على عقيدة واحدة

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [واعتقاد أئمة أهل الحديث].

    أي أن هذا الأصل وهذا المذهب هو معتقد أئمة الحديث، وخاصة أهل الحديث؛ لأنهم أولى بالاتباع، واشتغالهم بالحديث وتكرارهم له وروايتهم له وحفظه وكتابته ونسخه وسفرهم في طلبه وحرصهم على جمعه وتبويبه وترتيبه وتنسيقه وشرح غريبه وصحيحه من سقيمه ونحو ذلك هذا الاجتهاد الذي بذلوه في الحديث مكنهم من أن يعتقدوا الاعتقاد الصحيح، فغيرهم ليس مثلهم، فإذا نظرنا إلى أولئك المبتدعة الذين خالفوا في هذه العقيدة وجدنا سبب ذلك عدم اشتغالهم بالحديث، وإذا اشتغلوا به فإنما هو اشتغال أولي ومُجرد نظر وسماع دون أن يكون ذلك شغلهم الشاغل.

    فأئمة الحديث كـالبخاري ومسلم والإمام أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي والإمام مالك، ومن قبلهم كـشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والليث بن سعد وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبد الرزاق بن همام ومحمد بن رافع وأشباههم هؤلاء جعلوا الحديث شغلهم الشاغل، صاروا يشتغلون به ليلهم ونهارهم لا يفترون ولا يملون، ويسافرون لأجل أن يتلقوا الأحاديث، ويحرصون على أن يأخذوها عن كبار السن، ويكتبونها ويجمعونها ويؤلفونها.

    فنقول: إنهم بذلك أهل لأن يكونوا أهل السنة والفرقة الناجية وعلى الطريقة المستقيمة، وعلى مثل ما عليه السلف والأئمة والصحابة والتابعون.

    قال المصنف رحمه الله: [لم تشنهم بدعة ولم تلبسهم فتنة].

    البدع غالباً في غير أهل الحديث؛ لأننا إذا نظرنا إلى أولئك المبتدعة وجدناهم بعيدين عن الحديث، فمثلاً: بدعة التكفير التي هي بدعة الخوارج الذين يكفرون لا يعترفون بالأحاديث إنما يعكفون على القرآن، ومعلوم أن القرآن فيه مجملات، وهذه المجملات تحتاج إلى البيان من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله كلفه بذلك بقوله: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فلما اقتصروا على القرآن، وأخذوا بمجمله وبظواهره كفّروا بالذنوب، واستباحوا الخروج على المسلمين، وقتلوا الأبرياء، ولو كانوا من أهل الحديث لسمعوا حرمة قتل المسلم والتبديع في ذلك: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث)، (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ، (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) .. (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) لم يسمعوا بهذه، وإذا سمعوا بهذا لا يقبلوه.

    كذلك أيضاً بدعة القدرية الذين أنكروا علم الله تعالى، لم يسمعوا بالأحاديث التي فيها علم الله السابق، مثل حديث: (أول ما خلق الله القلم)، وما أشبهه من الأحاديث، ولم يؤمنوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد علم مقعدها من الجنة والنار)، وكذلك الإيمان بقدرة الله تعالى، ما قبلوا ذلك ولم يشتغلوا به.

    وكذلك أيضاً بدعة المعتزلة الذين أنكروا صفات الله تعالى وسموا ذلك توحيداً، ولو أنهم تأملوا الأحاديث كأحاديث النزول والرؤية، وصفات الأفعال، وصفات العلو التي ذكر فيها أن الله تعالى في السماء وما أشبه ذلك، ولو كانوا يشتغلون بالأحاديث لتقبلوها.

    كذلك أيضاً يقال في الرافضة: إنهم لم يشتغلوا بالأحاديث، وتسلطوا على الآيات التي فيها فضل الصحابة وانشغلوا بها عن الأحاديث، وأعرضوا عن السنة، وإلا فلو تأملوا الأحاديث التي في فضل الشيخين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم لو تأملوا ما فيها لما صدوا عنها، ولعرفوا أنها حق ويقين، وأنها تدل على فضلهم ومزيتهم، ولكن لما لم يشتغلوا بها بقوا على جهلهم واعتقدوا ما اعتقدوه، ولو أن متأخريهم اشتغلوا بها، ولكن بعدما وقرت تلك البدعة في قلوبهم.

    ويقال كذلك في بقية البدع: إن من شانته البدعة ولبسته الفتنة فإنه ليس من أهل السنة، وليس من المتمسكين بما كانوا عليه، فالبدعة لا شك أنها تلبس أهلها والفتنة كذلك تلبسهم وتعمهم، ولا شك أنها أيضاً تحرفهم وتصرفهم وتصدهم عن الهدى.

    1.   

    أهل السنة لا يسارعون إلى مكروه

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولم يخفوا إلى مكروه في دين].

    يقال: خف فلان إلى الذنب. خف فلان إلى الغيبة. وخف فلان إلى النميمة. أي: أسرع إليها، كما يقال: خف إلى سماع الغناء واللهو والباطل وفعل الفواحش والنظر في المنكرات. فهؤلاء الذين وصفهم ما خفوا إلى المكروهات بل حجزوا أنفسهم، ولو كانت تلك المكروهات هي شيء من الدوافع النفسية، ولو كانت تشتهيها الأنفس وتتلذذ بها الأعين، ومعلوم أن الله تعالى حف النار بالشهوات، يقول في الحديث: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)، فالذي يندفع مع تلك الشهوات يكون من أهل النار، مثل الزنا المحرم، والغناء الذي يلتذ به، والنظر إلى الأفلام والصور الفاتنة، والنظر إلى النساء المتبرجات، والكبر، والإعجاب، والبطش، وأكل الأموال بغير حق، والسلب والنهب، والقتل، والاستطالة على الناس، وما أشبه ذلك، إذا عرف أن هذه الشهوات تدفعه إلى مكروه وإلى ما لا يحبه الله تعالى فإنه لا يخف إليها، بل يحجز نفسه ويملكها ويمسك بزمامها ويصرفها إلى الحق والخير، ولو كان الخير ثقيلاً على النفس، فمعلوم أن الطاعات تكون ثقيلة على كثير من النفوس وإن كانت خفيفة على أهل الخير، فقد ذكر الله تعالى أن الصلاة ثقيلة في قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].

    1.   

    وجوب الاعتصام بحبل الله

    قال المصنف رحمه الله تعالى: بعد ذلك يوصيكم فيقول: [فتمسكوا معتصمين بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا عنه].

    كأنه يأخذ ذلك من الآية الكريمة في سورة آل عمران: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] إلى قوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]. والتمسك: هو الإمساك بالشيء القوي الذي يكون سبباً في النجاة، والحبل في الأصل: هو الخيط الذي يُدلى به الدلو، ويفتل بليف أو نحوه، ثم يدلى به الدلو في الآبار ويُغترف به الماء ونحوه، وقد يكون هذا الحبل سبباً في الخروج من الأزمات والمهاوي والحفر والدركات النازلة ونحو ذلك.

    فشبه الله تعالى القرآن والسنة والدين بالحبل الذي دُلي من السماء، وروي في بعض الأحاديث أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إني رأيت حبلاً دُلي من السماء فصعدتَ فيه حتى علوت، ثم صعد به رجل بعدك حتى ارتفع عليه، ثم صعد به رجل ثالث فارتفع، ثم صعد به آخر فانقطع، ثم إنه عقد فصعد به حتى ارتفع)، فأَوّلَ ذلك بالخلفاء الثلاثة بعده، وأنه يأتي عثمان وقد قُطع عليه؛ حيث إنه عاقه هؤلاء الذين عابوه، فجعل هذا الحبل حبلاً واضحاً حسياً وهو في الحقيقة حبل معنوي، أي أنه وسيلة إلى الصعود، كأنه دلي حبل من السماء، وأن الذي يتمسك به يصعد إلى الدرجات العالية، فلذلك يقال: تمسكوا به: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فيأمرنا بالتمسك -أي: إمساكه باليدين بقوة-، والاجتماع على هذا الحبل وعدم التفرق.

    1.   

    وجوب محبة الرسول ومتابعته

    قال المصنف رحمه الله: [واعلموا أن الله تعالى أوجب محبته ومغفرته لمتبعي رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه].

    يعني: أوجب له محبته إذا اتبع رسوله كما ذُكر في الآية الآتية.

    [وجعلهم الفرقة الناجية والجماعة المتبعة].

    يعني: الذين اتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم هم الفرقة الناجية وهم الجماعة المتبعة، الفرقة الناجية من ثلاث وسبعين فرقة التي جاء في وصفها: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) يعني بأصحابه أتباعه وصحابته، فمن كان على مثل ما هو عليه فإنه من الفرقة الناجية، وكذلك الجماعة المتبعة، قد ثبت في بعض الروايات أنه قال: (كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة)، وفسروا الجماعة بأنهم المجتمعون على الحق والخير، هؤلاء حقاً هم جماعة الإسلام وجماعة المسلمين، وقد سبق أن أشرنا إلى الأدلة على ذلك.

    علامة محبة الرسول اتباعه

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [فقال عز وجل لمن ادعى أنه يُحب الله عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]].

    هذا خطاب لمن ادعى أنه يُحب الله وليس بصادق، ذكروا أن هذه الآية نزلت رداً على اليهود والنصارى الذين يدعون أنهم أحباب الله، حكى الله تعالى ذلك في سورة المائدة، قال تعالى: وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] أي: الذي نحبه ويحبنا نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ، فلما ادعوا هذه الدعوى كان لابد من تضليلهم أو امتحانهم، فامتحنوا بهذه الآية في سورة آل عمران، وهذه الآية تسمى آية المحنة، هذا هو الصحيح، وبعضهم يسميها آية المحبة، والصواب أنها آية المحنة، أي أن الله تعالى امتحن بها من يدعي أنه يحبه، فاختبره وجعل لمحبته علامة فقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، إذا كنتم صادقين في أنكم تحبون الله فإن لمحبة الله تعالى علامة، وهي اتباع رسله وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فحققوا الاتباع حتى تكونوا صادقين في هذا الادعاء.

    أما مجرد دعوى أنكم تحبون الله ومع ذلك لا تتبعون الرسل، ولا تطيعونهم فإن هذه دعوى.

    والدعاوي إن لم يقيموا عليها بينات أربابها أدعياء

    فلابد أن تقيموا عليها بينة، وهذه البينة جعلها الله تعالى اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، والاتباع ليس هو مجرد القول؛ فإن كثيراً من الناس يقولون: نحن نحب الله ونحن نحب الرسول. ثم نقول لهم: لماذا لا تتبعونه؟ فيقولون: نحن متبعون له ونحن مطيعون له. فيقال: قد نقصتم في الاتباع وقصرتم فيه، وقد فاتكم كذا وكذا، وقد ارتكبتم كذا وكذا، فليس هذا هو حقاً الاتباع الواجب، الاتباع الواجب هو أن تتمسكوا بسنته، وأن تطيعوه في كل دقيق وجليل حتى تكونوا صادقين في أنكم من أتباعه حقاً. وقد رتب الله تعالى على اتباعه الهدى، قال تعالى: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، فإذا رأيت الذي يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعفوا اللحى) ومع ذلك يحلقها فقل له: أين الاتباع؟ لم تكن من المتبعين حقاً. وإذا رأيت الذي يطيل اللباس ويجر لباسه خيلاء فقل له: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء)، فأين الاتباع؟ وأين الموافقة؟ وأين الطاعة؟ وهكذا إذا رأيت الذي يتكبر ويفتخر بأعماله أو بجاهه وبمنصبه فقل له: ألست تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، فأين الطاعة؟ وأين الاتباع؟ إذاً لست حقاً من المتبعين له. والأمثلة على ذلك كثيرة.

    ثم نقول كذلك في جميع الذين يعصون الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك في جميع الذين يتركون الطاعات وهم مع ذلك يقولون: نحن أتباع الرسول، ونحن من أمة محمد ومن أهل شريعته. فنقول: لم تحققوا هذا الانتساب والانتماء، ولم تحققوا ما ادعيتموه من أنكم تحبون الله ورسوله.

    علامات صحة دعوى المحبة لله وللرسول

    ذكر عن بعض السلف أنه قال: (من ادعى محبة الله ولم يوافقه فدعواه باطلة)، ومتى تكون دعواه صحيحة؟ إذا وافق أوامر الله وأوامر رسوله، وسأل بعضهم ذا النون المصري -وهو من التابعين-: متى أحب ربي؟ فقال: إذا كان ما يغضبه أمر عندك من الصَبِر. والصَبِر هو هذا النبات مر المذاق، يعني: إذا كانت المعاصي أمرّ عندك من الصَبِر، ولو كانت تشتهيها النفوس وتندفع إليها، ولكنك تكرهها لأن الله تعالى حرمها. ومعلوم أن الإنسان إذا كانت المعاصي عنده كريهة كانت الطاعات عنده لذيذة وسهلة ومحبوبة؛ لأن ربه تعالى أمر بها، ولأن الله تعالى حبب إلى عباده الطاعات وكره إليهم الكفر، كما في قول الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7] حببه إليهم فصار لذيذاً عندهم، ولو كانت تلك العبادات ثقيلة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لمحبة الله تعالى علامة، وهي مأخوذة من هذه الآية: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، ففي الحديث الصحيح يقول: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، فجعل هذه الثلاث علامة على صدق المحبة وعلى صدق الإيمان وحلاوته، ومعلوم أنه إذا أحب الله ورسوله فلابد أن يُطيعه، ولابد أن يمتثل أوامره، فإذا لم يمتثل فدعواه كاذبة، ولذلك يقول بعضهم:

    تعصي الإله وأنت تزعم حُبه هذا عجيب في الفعال بديع

    لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع

    فالمحبة الصادقة تستلزم طاعة المحبوب وموافقته واتباع ما أتى عنه، هذه حقاً هي علامة من يحب الله تعالى ورسوله.

    فائدة اتباع الرسول

    جعل الله تعالى لاتباع الرسول فائدتين في هذه الآية، فقال تعالى: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، ثم قال بعدها: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:32].

    فهاتان فائدتان عظيمتان لمحبة الله تعالى ولمحبة رسوله، وهاتان الفائدتان لا يقدر قدرهما إلا الله.

    الأولى: (يحببكم الله)، والثانية: (يغفر لكم ذنوبكم)، فما أعظمها من فائدة! كل منا يود أن الله تعالى يحبه، ويود أن الله يغفر له، فما أسهل ذلك السبب الذي تحصل به على محبة الله تعالى ومحبة رسوله! إنه يسير، وهو في هذه الآية: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، ولا شك أن من أحبه الله تعالى فإنه يوفقه لكل خير، ويسدد خطاه، ويرشده ويثبته، فلا يميل إلى معصية ولا يفعل ذنباً، ولا يخل بطاعة .. بل تكون أفعاله كلها من الطاعات، وقد استدل على ذلك بالحديث القدسي الذي في صحيح البخاري، وهو قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي بتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)، وفي بعض الروايات: (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه).

    فالشاهد أن الله في هذا الحديث جعل التقرب بالنوافل بعد الفرائض سبباً لمحبة الله تعالى للعبد، فما بينك وبين أن تكون من أحباب الله إلا أن تتقرب إليه بالنوافل بعد الفضائل، فالمحافظة أولاً على الفرائض، كالصلوات والصدقات والزكوات والصوم والحج وما أشبه ذلك، وكذلك التقرب إلى الله بترك المحرمات كلها والابتعاد عنها، هذا هو الأول.

    وبعد ذلك تتقرب إلى الله تعالى بالنوافل بترك المكروهات وبفعل المستحبات التي رغّب الله تعالى فيها وأحبها، مثل نوافل الصلوات، وهي كثيرة، كصلاة الليل والضحى والرواتب وما أشبهها، ونوافل الأذكار التي تُفعل في خارج الصلاة من الذكر والدعاء والتسبيح والتكبير والتحميد، وما أشبه ذلك بواسطة قراءة القرآن، والقراءة منها واجب كما في الصلاة، ومنها ما هو مسنون وهو ما يكون خارج الصلاة، وكذلك نوافل الصدقات، والصيام، والجهاد، والحج، والقربات وما أشبه ذلك، كل هذه تسمى تطوعات. (وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه)، وذكر أنه إذا تقرب إليه بهذه القربات فإن الله يحبه، ثم بعد أن يحبه تحصل له هذه الفائدة، وهو أن تكون حركاته كلها فيما يريده الله ويحبه، فلا يتكلم إلا بطاعة، ولا يستمع إلا إلى خير، ولا ينشط إلا إلى حسنات أو فعل طاعات، ولا يعمل بيديه إلا ما يرضي ربه سبحانه، ولا ينظر بعينه إلا إلى شيء يُفيده وينفعه، فيكون الله تعالى قد وفقه لما أحبه.

    مكملات محبة الله ورسوله

    معلوم أن محبة الله تعالى لها مكملات، فمحبة الله لا شك أنها واجبة، وكذلك محبة رسوله عليه الصلاة والسلام، وعلامتها أن يبغض كل ما يشغله عن طاعة الله، ذكروا ذلك في تفسير الآية في سورة التوبة عند قول الله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا [التوبة:24].

    يعني: إذا أحببتم شيئاً من هذه الأصناف الثمانية وقدمتموها على محبة الله ومحبة رسوله ومحبة الجهاد في سبيله فتربصوا وانتظروا ما يحل بكم؛ فقد قدمتم ما ليس بمقدم، وفضلتم ما ليس بفاضل، وأحببتم عرض الدنيا وقدمتموه على محبة الله تعالى ومحبة رسوله ومحبة ما يحبه الله تعالى.

    فعُرف بذلك أن هذه الخصلة التي هي قوله تعالى: إن كنتم تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] أن فيها أجراً كبيراً، وأن الذي تحصل له محبة الله يحصل له الخير الكثير.

    وقد ذكروا في الحديث الذي في قصة خيبر عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يده) فقالوا: فيه حث لكل منهم على أن يكون هو الذي يأخذ هذه الراية، وكلهم يقول: نحن نحب الله ورسوله، ولكن نريد الخصلة الثانية، وهي أن الله يُحبنا وأن رسوله يُحبنا، فمن حصلت له هذه فقد حصلت له الرتبة العالية، ولذلك بات الناس يخوضون أيهم يُعطاها، حتى قال عمر : (ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ)، أراد بذلك أن يكون من الذين يحبهم الله ورسوله، فعرفنا بذلك أن من أحبه الله تعالى ورسوله فقد أراد به خيراً.

    وأما الخصلة الثانية وهي المغفرة في قوله تعالى: يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31] فهي أيضاً خصلة عظيمة نافعة، فما ذاك إلا أن الذي يحصل على مغفرة الله تعالى لذنبه يفوز بالدرجات العلى وبالأجر العظيم.

    وإذا قال قائل: أنا لست مذنباً فكيف تُغفر ذنوبي؟ نقول: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، فليس أحد منا إلا وعليه ذنب أو ذنوب، وليس أحد يأتي يوم القيامة إلا وعليه ذنوب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعد من الذنوب الغفلة عن ذكر الله تعالى، فيبادر بعد ذلك بالاستغفار، يقول ابن عمر رضي الله عنه: (كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول: رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة) يقول: (رب اغفر لي)، والله تعالى قد غفر له، فقال تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2]، ولكن يعد الغفلة ذنباً، فيقول في بعض الأحاديث: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)، ومعنى قوله: (يغان على قلبي) يعني: يعتري قلبه شيء من الغفلة عن ذكر الله تعالى. فجعل هذه الغفلة ذنباً فبادر بعدها إلى الاستغفار، فنحن أولى بالاستغفار وأولى بطلب المغفرة وبالإتيان بأسبابها، فما أكثر غفلتنا! وما أكثر سهونا ولهونا! وما أكثر الخطايا التي نتحلمها! يتحمل الإنسان خطاياه بلسانه، وبعينه، وبسمعه وببصره وبيديه وبرجليه وبفرجه وبمأكله وبمشربه وبأعماله وغيرها، فهذه الخطايا وهذه الذنوب تحتاج منه إلى طلب المغفرة، إلى أن يطلب الله تعالى وهو صادق في أن يغفر له، وإلى أن يأتي بالأسباب التي تجعله من أهل المغفرة، ومن جملتها: الاتباع فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].

    والغفر أصله الستر والمحو، أي: ستر الذنوب وإزالة آثارها، ومنه سمي المغفر الذي يُلبس على الرأس في الحرب؛ لأنه يستر الرأس، ولأنه يكون سبباً في ستر الرأس من السلاح ونحوه، فالحاصل أنا إذا قرأنا هذه الآية عرفنا أهميتها، وعرفنا أن الإنسان عليه أن يحقق الاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم حتى يكون من أهلها.

    فهذا آخر ما يتعلق بهذه الرسالة، والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد.

    1.   

    الأسئلة

    حكم إجابة دعوة من في كسبه شبهة

    السؤال: ما حكم إجابة دعوة من دخله حرام خالص، أو مختلط بحرام، أو مشتبه فيه؟

    الجواب: يفضل للإنسان أن يُنزه نفسه عن الغذاء الذي فيه شبهة ولو كان من غيره، وأن لا يدخل بطنه إلا الشيء الذي يتحقق أنه حلال، فمثل هؤلاء الذين في أكلهم أو كسبهم حرام أو شبه حرام يُفضل عدم إجابة دعوتهم وأكل طعامهم وقبول هداياهم وعطاياهم، نقول: يُفضل، ولا نقول: حرام، بل لا يصل إلى درجة الحرام، والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب دعوة اليهود، وكان كثير من اليهود يدعونه ويهدون إليه فيأكل عندهم، مع أن الله ذكر أنهم يأكلون الربا ويأكلون أموال الناس، كما في قوله تعالى: وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:161]، فهذا مما يدل على أنه يجوز؛ فيكون الإثم على المكتسب، وكذلك كان يقبل الهدايا من رؤساء الكفر، فقد قبِلَ الهدايا من المقوقس وغيره من السلاطين، وجعل إثم كسبها عليهم.

    نصيحة في سبل طلب العلم ونشره

    السؤال: لا يوجد في بلدنا علماء ولا طلبة علم نتعلم على أيديهم، ونخشى على أنفسنا الضياع، فما هو الإرشاد في مثل هذه الحالة؟

    الجواب: في هذه الأزمنة -والحمد لله- تيسرت الوسائل التي يحصل بها العلم، فلم تعد مقتصرة على تلقيه عن طلبة العلم والعلماء، بل هناك وسائل كثيرة توصل إلى العلم، مع أننا نقول: لا يخلو -والحمد لله- بلد من علماء، والعلماء الذين في هذا الزمن قد يكونون أكبر رتبة ومنزلة من العلماء الكثيرين في عهد الرسول صلى الله عليهم وسلم الذين أسلموا وتعلموا شيئاً يسيراً من العلم وصاروا علماء.

    ثم نقول: أولاً: عليكم بإرشادات العلماء في كل زمان ومكان، وعليكم باقتناء كتب السلف والعلماء الربانيين الذين هم الأسوة والقدوة في سلف الأمة، وكتبهم متوفرة والحمد لله، وكذلك عليكم بالاتصال بالعلماء هاتفياً أو مكاتبة، وتسترشدون منهم فيرشدونكم إلى اقتناء ما يزيل عنكم الجهل، وما تتمكنون به من العلم بواسطة الكتب والرسائل أو الأشرطة والنشرات أو ما أشبهها، أو بعضكم من بعض، فأنا أعتقد أنكم إذا سمعتم ما يتعلق بالحديث وبالأصول وبالعقائد وبالتوحيد فهذا الذي استفدتموه تعدونه ذخيرة تتذاكرونها فيما بينكم وتنشرونها مع زملائكم وإخوانكم في بلادكم، ثم تستعينون بما تيسر من الكتب التي تزودتموها وتقرؤونها في مجالسكم وتفيدون بها إخوتكم، وبذلك تحصلون على فائدة كبيرة فتفيدون وتستفيدون.

    حكم الاستغفار لمن مات مشركاً

    السؤال: هل يجوز للمرء أن يدعو لقريب له مات وهو يدعو الأموات ويطوف بالقبور؟

    الجواب: يكل أمره إلى الله ما دام أنه مات على هذا الحال ولو كان جاهلاً، فالله تعالى نهى عن الاستغفار للمشركين، ولا شك أن مثل هؤلاء يعتبرون مشركين؛ لأنهم ماتوا وهم على الشرك، فلا يجوز أن يستغفر لهم؛ لقوله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113].

    معنى الاستثناء في قوله: (إلا ما شاء ربك)

    السؤال: يقول الله تبارك وتعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107] ما المقصود بالاستثناء هنا؟

    الجواب: هذا مما استأثر الله بعلمه، وقد تكلم العلماء فيه، وليس لنا أن نخوض في هذا الشيء بغير بينة، وقد تكلم عليه ابن القيم في (حادي الأرواح) وأطال الكلام عليه، وكذلك غيره من العلماء، وجمهور الأمة على أن الجنة والنار أبديتان لا تنقطعان ولا تفنيان، وهذا هو الذي عليه أهل السنة.

    الاستدلال بجواز التوسل بحديث الأعمى

    السؤال: ما قول السادة العلماء في حديث الأعمى الذي رواه الترمذي في التوسل، وما ردهم على من يقول: إن توجيهه بأن النبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى التوسل بدعائه توجيه لا يستقيم؛ لأنه ورد في روايات هذا الحديث المذكور لفظ: (اللهم! إني أتوسل إليك بنبيك...) الحديث؟

    الجواب: هذا تأويل بعيد، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لابد أنه دعا له بأن يشفى وأن يرد الله تعالى عليه بصره، ثم أمره بأن يدعو أن يتقبل الله تعالى دعوة نبيه، فكونه قال: (اللهم! إني أدعوك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة. يا محمد! إني أتوسل بك إلى ربي بحاجتي تقضى) فالمراد: أتوسل بدعائك الذي دعوته، وأرجو الله تعالى أن يقبله حتى تقضى حاجتي. فهذا هو حقاً المعنى الصحيح، ولهذا كان ذلك يوم الخصائص، ولو كان كما يقول هؤلاء القبوريون: إنه يباح دعوة الأموات ودعوة الرسول لاستعمل هذا الدعاء كل من فقد البصر فعاد إليه بصره كما عاد إلى ذلك الأعمى، فلما وجد من استعمله فلم يبصر دلّ على أن استعماله بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز، وأنه خاص بحال حياته.

    الرد على منكر علم الله المسبق

    السؤال: يستدل من ينكر علم الله بقوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [محمد:31] الآية، فكيف نرد عليهم؟

    الجواب: تفسر هذه الآية بأن المراد ظهور معلومات الله، قال الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [البقرة:143]، فالله تعالى عالم قبل أن يصرف الكعبة من يتبع الرسول ومن لا يتبعه، وكذلك هذه الآية، ولكن المراد: حتى يظهر من علم الله أنه يتبعه أو لا يتبعه. فالله تعالى بكل شيء عليم، ولأجل ذلك يذكر في كثير من الآيات سعة علمه، كما في قوله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]. يعني: إن علم ذلك على الله يسير، وقال تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس:61]، والآيات كثيرة.

    شكر النعم لله تعالى

    السؤال: هل يشرع لنا أن نصلي صلاة الشكر في جماعة شكراً لله على أن منّ علينا بنعمة طلب العلم؟ وما هي حقيقتها؟

    الجواب: ما أذكر صلاة الشكر، وإنما وردت سجدة الشكر عند تجدد النعم واندفاع النقم، ولكن إذا أراد الإنسان أن يتعبد ويحمد الله تعالى ويصلي له سواء منفرداً أو مع جماعة شكراً لله على أن وفقه وأعانه وسدده ورزقه علماً وعملاً، فالعمل الصالح ليس له حد محدود.

    الفرق بين ذبائح الصدقة واللحم

    السؤال: درج أهل بلدتنا في شهر رمضان على ذبح الذبائح، كل منهم يذبح ذبيحة أو ذبيحتين صدقة عن والديه، ويدعو جيرانه وأقاربه عليها، ويستمرون على هذا طوال شهر رمضان، كل ليلة عند واحد منهم، فما حكم هذا العمل؟

    الجواب: نرى أن هذه شاة لحم وليست صدقة ما دام أنه يدعو إليها جيرانه وأقاربه ونحو ذلك، وإنما الصدقة إذا أعطيت للفقراء والمستحقين والمساكين ونحوهم، فإذا ذبح شاة ودعا إليها إخوته وأقاربه وأحبابه وزملاءه وجيرانه -وهؤلاء غالباً ليسوا فقراء- فهو ما أراد بذلك إلا أن يتوسع في الأكل معهم، وأن يجتمعوا على المآكل كل ليلة عند أحدهم أو نحو ذلك، فمثل هذا يعتبر كرامة، ولا يعتبر في الظاهر صدقة.

    حكم طبع الكتب بغير إذن المؤلف

    السؤال: ما الحكم في رجل طبع كتيباً ونشره بغير إذن المؤلف، علماً أن هذا الرجل ما دفعه لطبع الكتيب ونشره إلا لما أثقلت كاهله الديون؟

    الجواب: في كل حال ينبغي أنه لا يتجرأ على شيء من كتب الغير إلا بإذنه، فإذا رأى -مثلاً- أن صاحب الكتاب الذي طبعه لا يعتب عليه، وأنه سوف يوافق على طبعه له ونشره له وبيعه وأخذ شيء من قيمته ليوافي بها ديونه فلعله جائز، وعلى كل حال هذه أيضاً تختلف، فإذا كان الكتاب الذي طبعه منع صاحبه طبعه إلا وقفاً لله تعالى فلا يجوز طبعه وبيعه وجعله تجارة، وإذا كان صاحب الكتاب الذي ألفه منع أن يطبع إلا بحقوق الطبع كما يكتب على كثير منها فلا يجوز لأحد طبعه إلا أن يعطيه حق الطبع، وأما إذا رأى أن هذا الكتاب وهذا الكتيب مفيد، وأن الناس بحاجة إليه، وأنه قليل الوجود، وأن صاحبه لم يحتفظ بحق الطبع، وكان له أيضاً قصد أن يحصل على فائدة من طبعه يرد به دينه فلعل ذلك مما يباح.

    مسئولية إبلاغ العلم لمن تحمله

    السؤال: هل من كلمة لأولئك الذين يحضرون حلقات العلم، ثم ينطلقون بعدها إلى مجالسهم ومنتدياتهم مفتين معلمين؟

    الجواب: ننصحهم ونقول لهم: إنكم قد حملتم علماً جماً، وقد حصلتم على خير كثير من العلوم التي تلقيتموها، فهذه العلوم التي تحملتموها، وكذلك أيضاً تحملتم غيرها في سابق أعماركم وأيامكم قد أصبحت أمانة في أعناقكم، حملتم هذا العلم فعليكم أن تبلغوه إذا رجعتم إلى البلاد التي تقيمون بها، سواءٌ أكانت تلك البلاد بحاجة إلى تلك العلوم حاجة ماسة أو ليست بحاجة، ولكن قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم حث على البلاغ بقوله: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب)، وحث على أن يُبلغ ما تحمله الإنسان، وقال: (نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فوعاه وبلغه كما وعاه)، أو كما في الحديث، فنوصيكم بأن تكونوا معلمين ومرشدين لكل من اتصلتم به واجتمعتم به وعرفتم أنه بحاجة إلى شيء من الفائدة أو شيء من العلوم، وليس ذلك خاصاً بحالة دون حالة، فإذا ركبت -مثلاً- في سيارة وتكلمت بفائدة مما استفدته أو عرفته وأفدت الحاضرين معك كان ذلك من جملة البيان والتبليغ، وإذا جلست في مجلس خاص أو عام فيه كبار السن أو صغارهم أو متوسطوهم فبدأت تحدثهم وتشرح لهم حديثاً أو تفسر لهم آية مما قد تحققت معناه وعرفته معرفة جيدة وعرفت مدلوله كان في ذلك بيان وتبليغ لما تحملته وتعلمته، وإذا رأيت أحداً من السفهاء أو الجهال يفعل منكراً عن جهل وأرشدته وبينت له ونصحته وأقمت عليه الحجة وذكرت له الدليل فرجع إلى نصيحتك كنت على خير، وكان لك أجر في ذلك، وهكذا.

    فمذاكرة هذه العلوم وتكرارها وتردادها سبب في بقائها وسبب أيضاً في الانتفاع بها، أما الذي يتعلم هذه المعلومات ثم بعد ذلك ينطلق إلى بلاده ويسكت عما تعلمه ولا يذاكر شيئاً، ولا يذكر شيئاً من العلوم، ولا يدع إليها ولا يكررها فإنها سرعان ما تذهب من ذاكرته ويذهب جهده بغير فائدة، فجهدك الذي بذلته وأقمت به في مدة لتتعلم سرعان ما يذهب وتنسى ما تعلمته إذا لم تُردده ولم تتذكره.

    وعلى كل حال فإن العلوم التي يتعلمها الإنسان أمانة في عنقه عليه أن يعمل بها، وعليه أن يدعو إليها، وعليه أن يزيد في تعلمها وتذكرها؛ فإن ذلك سبب في التوسع، فالعمل بالعلم وتعليمه سبب في توسعه، كما ورد في بعض الآثار أن (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم)، ويقول الشاعر في وصف العلم:

    يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا

    فاجتهد في البيان والتعليم للعلم الذي حققته، أما الشيء الذي أنت فيه على شك فلا تنشره إلا بعدما تتثبت أنه صحيح، وأنه كما تعلمت؛ فإن الإنسان قد يتوهم شيئاً فيذكره وينقله ويظهر أنه خطأ، أو فيه شيء من الخلل، فقد يكون قد تكلم بغير علم.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756637198