إسلام ويب

الحساب [2]للشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أمر الحساب أمر عظيم وعصيب، وهو من الأحوال العظام التي تنتظر البشرية جمعاء، وإن أول أمة سيحاسبها الله هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول ما يحاسب عليه كل فرد من أفراد هذه الأمة يوم القيامة الصلاة، وأول من تسعر بهم النار هم أهل الرياء.

    1.   

    أول أمة سيحاسبها الله تعالى

    إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد فى الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً. وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة، سلسلة علمية كريمة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها تذكير الناس بحقيقة الآخرة، في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف فيه كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات؛ ليتداركوا ما قد فات بالتوبة إلى الله جل وعلا، قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون، ونحن اليوم على موعد بإذن الله مع اللقاء الرابع عشر من لقاءات هذه السلسلة العلمية الكريمة. وكنا قد توقفنا في اللقاء الماضي مع مشهد الحساب الرهيب المهيب! فلقد ذكرنا أن العباد في أرض المحشر يقفون صفوفاً صفوفاً، ينتظر كل واحد منهم أن ينادى عليه للعرض على الله جل وعلا ، ليحاسب الله تبارك وتعالى عباده وفق قواعد العدل التي ذكرت في اللقاء الماضي، وهي: 1- أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [النجم:38]. 2- العدل التام الذى لا يشوبه الظلم. 3- إعذار الله لخلقه. 4- إقامة الشهود. 5- مضاعفة الحسنات. 6- تبديل السيئات حسنات. وبعدها يبدأ الحساب، فيا ترى من هي أول أمة سيحاسبها الله؟! ومن هم أول من يقضي الله بينهم يوم القيامة؟.. وما هو أول ما يحاسب عليه العبد؟ والجواب على هذه الأسئلة هو موضوع لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أولاً: من هي أول أمة سيحاسبها الله جل علاه؟ أيها الأحبة الكرام! إن ذل القيام بين يدي الله في أرض المحشر لعظيم، فالشمس فوق الرءوس بمقدار ميل فقط! تكاد الرءوس أن تغلي من حرارتها، والبشرية كلها من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه القيامة في صعيد واحد! يكاد الزحام وحده أن يخنق الأنفاس، وجهنم قد أتي بها لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، إذا رأت جهنم الخلائق زفرت وزمجرت غضباً منها لغضب الله جل وعلا، فتجثو جميع الأمم على الركب قال تعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:28]. في هذه اللحظات من بين سبعين أمة تقف كلها في أرض المحشر؛ ينادي الله جل وعلا أمة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ليرحمها من ذل القيام بين يديه في أرض المحشر، بل وليكرمها على جميع الأمم، حينما ينادى عليها لتشهد على هذه الأمم كلها، ففي الحديث الذي رواه ابن ماجة بسند صحيح عن ابن عباس قال صلى الله عليه وسلم: (نحن آخِرُ الأمم وأول الأمم حساباً يوم القيامة، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون). فأمة النبي صلى الله عليه وسلم هي أول أمة سينادى عليها يوم القيامة للحساب؛ ليرحمها الله من ذل القيام في أرض المحشر في هذا الموقف العصيب. وفي الحديث الذى رواه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه وصححه الحاكم على شرط الشيخين وأقره الذهبي ورواه الإمام الترمذي وقال: حديث حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم موفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله جل وعلا). فأمة النبي هي أشرف وأطهر وأكرم أمة على الله سبحانه، ولم لا والرجل وحده في أمة النبي المصطفى قد يزن أمة بأسرها؟! ففي هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وجميع أصحاب الحبيب النبي، في هذه الأمة: مسلم والبخاري، في هذه الأمة: أبو حنيفة ومالك وأحمد والشافعي، والسائرون من بعدهم على هذا الدرب المنير الزكي، من أهل الحلم والعلم والفضل الندي. روى الإمام أحمد في مسنده والطبراني في الصغير والأوسط، وقال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجال أحمد رجال الصحيح من حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله لعيسى بن مريم: يا عيسى! إني سأبعث بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم، قال: يارب! كيف هذا، ولا حلم ولا علم؟! فقال الله جل وعلا: أعطيهم من حلمي وعلمي). فأمة النبي تتجلى كرامتها يوم القيامة بين يدي الرب العلي، حينما ينادى عليها من بين سبعين أمة أين أمة محمد فلتتقدم، لماذا؟! ولتشهد على جميع الأمم! لتشهد للأنبياء والمرسلين. ففي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: يا نوح! فيقول: لبيك وسعديك، فيقول الله: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه ويقال لهم: هل بلغكم نوح؟ فيقولون: لا، ما أتانا من نذير! وما أتانا من أحد! فيقول الله جل وعلا: من يشهد لك يا نوح، فيقول نوح: يشهد لي محمد وأمته، يقول المصطفى: فتدعون فتشهدون له بأنه بلغ قومه، وأشهد عليكم)، فذلك قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]. أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم أمة مكرمة، فمن أثنت الأمة عليه خيراً نجا ووجبت له الجنة، ومن أثنت أمة الحبيب عليه شراً هلك ووجبت له النار. ففي صحيح مسلم وسنن أبي داود من حديث أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ عليه بجنازة فَأُثني عليها خيراً فقال المصطفى: (وجبت وجبت وجبت)، ثم مُرّ عليه بجنازة أخرى، فأثني عليها شراً، فقال المصطفى: (وجبت وجبت وجبت)، فقال عمر : فداك أبي وأمي يا رسول الله! مر عليك بجنازة فأثني عليها خيراً فقلت: وجبت وجبت وجبت، ومر عليك بجنازة أخرى فأثني عليها شراً فقلت: وجبت وجبت وجبت، فما وجبت؟ فقال المصطفى: من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة , ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، فأنتم شهداء الله في الأرض). ولقد وعد الله نبيه أن يعطيه في أمته حتى يرضى، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ يوماً قول الله في إبراهيم رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36]، وتلا قول الله في عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، ثم رفع النبي يديه إلى السماء وبكى، فقال الله جل وعلا لجبريل عليه السلام: يا جبريل سل محمداً ما الذي يبكيه؟ وهو أعلم، فنزل جبريل للمصطفى فقال: ما الذي يبكيك يا رسول الله؟! قال: أمتي أمتي يا جبريل! فصعد إلى الله، وأخبر الحق تبارك وتعالى -وهو أعلم- فقال الله لجبريل: انزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك). فأمة النبي صلى الله عليه وسلم أمة ميمونة مباركة. ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثُّريَّا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبياً قال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، ولكن أرجو أن يعلم الإخوة جميعاً أن هذه الخيرية والمكانة لا تكون إلا للموحدين الصادقين من أبناء أمة سيد النبيين، وإلا فإن من أبناء هذه الأمة من ستسعر به النار، ومن يحال بينه وبين شفاعة النبي المختار، فاقدر لهذه النعمة قدرها، واعرف لهذا الشرف حقه، وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة أنه سأل المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) إخلاص التوحيد لله، تجريد التوحيد لله، فهل صرفت العبادة كاملة لمن يستحق العبادة وهو الله لا شريك له؟ ومن الأمة من يطرد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؛ لأنه انحرف عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، روى البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطكم على الحوض -أي: أنا سابقكم على الحوض- فمن مر علي شرب، ومن شرب لا يظمأ أبداً، وليردن علي الحوض أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم من أمتي! إنهم من أمتي! فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول: سحقاً سحقا لمن غير بعدي).

    1.   

    أول من يقضى بينهم يوم القيامة

    فمن هذه الأمة من يدخل النار لأنه انحرف عن طريق النبي المختار، فاعرف لهذه النعمة قدرها، واعلم بأن الموحدين الصادقين المتبعين المتجردين هم أسعد الناس بشفاعة سيد المرسلين، وبرحمة رب العالمين جل وعلا. من هو أول من يقضي الله بينهم يوم القيامة من هذه الأمة؟ هذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء والجواب في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول من يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد) أي: سقط شهيداً في ميدان القتال، في ساحة البطولة والوغى، في ميدان تصمت فيه الألسنة الطويلة، وتخطب فيه الرماح والسيوف على منابر الرقاب! (رجل استشهد فأتي به فَعَرَّفَهُ نعمه فعرفها، قال جل وعلا: فماذا عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، فيقول الله سبحانه: كذبت -إنك كذاب! إنك ما أردت بذلك وجه الله، بل أردت التلميع السياسي والإعلامي- بل قاتلت ليقال: هو جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار! ورجلٌ تَعَلَّمَ العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال له: كذبت! بل تعلمت وعلمت ليقال: هو عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار) اللهم سلم سلم! اللهم سلم سلم! عالم يا عباد الله ملأ المساجد علماً، وسود صفحات الجرائد والمجلات، عالم تعلم العلم وعلم الناس، ولكنه أراد الشهرة والسمعة، وأراد المنزلة والكرسي الزائل، والمنصب الفاني، أراد الوجاهة عند أولي الحكم والسلطان، ما ابتغى بعلمه وجه الرحمن جل وعلا (فأتي به، فعرفه الله نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت وعلمت، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت! بل تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)، اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، اللهم لا تجعل حظنا من ديننا قولنا، وأحسن نياتنا وأعمالنا، وأحسن لنا الخاتمة يا أرحم الراحمين! عالم تسعر به النار! وقارئ للقرآن تسعر به النار! أما الثالث: (رجل آتاه الله من أصناف المال -منّ الله عليه بالأموال- فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت باباً من أبواب الخير تحب أن ينفق فيه لك إلا وأنفقت فيها لك، قيل له: كذبت! بل تصدقت ليقال: جواد -ليقال: المحسن الكبير، ليقال: المنفق السخي الكريم الباذل- فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار). إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومنِّ يظن الناس بي خيراًً وإني لشر الناس إن لم تعف عني

    الرياء وخطره على الفرد والمجتمع

    الرياء لغة: مشتق من الرؤية كما قال الفيروزأبادي : راءيته مراءاة ورئاءً -أي: أريته خلاف ما أظهر- والرياء اصطلاحاً مشتق من معناه اللغوي، فمعنى الرياء اصطلاحاً: أن يبطن العبد شيئاً ويظهر شيئاً آخر. وحد الرياء هو: إرادة العباد بطاعة رب العباد جل وعلا. فيا من تعملون ابتغاء مرضاة الله اسجدوا لله شكراً، وسلوا الله أن يثبتكم على ذلك، ويا من تعمل العمل ولا تبتغي به وجه الله، لا تريد إلا السمعة، ولا تريد إلا الشهرة، ولا تريد إلا أن ترتقي مكانتك بين الناس، فاعلم أن عملك حابط؛ لأن الله جل وعلا لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً، والخالص: هو ما ابتغيت به وجه الله، والصواب: هو ما كان موافقاً لهدي الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله جل وعلا: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، وقال الله جل وعلا: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]. وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن عَمِلَ عَمَلاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، وفي لفظ: (فهو للذي أشرك وأنا منه بريء). الرياء: هو الشرك الخفي، والشرك الأصغر، والرياء هو الذي يحبط الأعمال ويدمرها، روى الإمام أحمد في مسنده بسند حسنه شيخنا الألباني في صحيح الترغيب والترهيب من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بما هو أَخْوَف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فَيُزِيِّنُ صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه). يقوم الرجل فيصلي، فإذا انتبه أن أحداً من الناس ينظر إليه زين صلاته، وتظاهر بالخشوع، وادعى الخشوع والمسكنة والذلة بين يدي الله، هذا هو الشرك الخفي الذي خاف النبي صلى الله عليه وسلم منه على أمته أكثر مما خاف عليهم من فتنة المسيح الدجال، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وفي الحديث الذي رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، إذا جزى الناس بأعمالهم يوم القيامة يقول للمرائين: اذهبوا إلى من كنتم تراءون في الدنيا فهل تجدون عندهم جزاءً؟!). الرياء خطر عظيم! أسأل الله أن يستر علينا في الدنيا والآخرة، وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل والسر والعلن، وأن يجعل سرنا أحسن من علانيتنا، وأن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يصحح نياتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    1.   

    علاج الرياء

    الاستعانة بالله سبحانه وتعالى

    الرياء محبط للأعمال، وسبب لسخط الكبير المتعال، وأرجو أن أذكر نفسي وإخواني بأهم الأدوية لعلاج هذا الداء العضال، فإن الأمر خطر، وإن الأمر ليس هيناً. أعظم دواء لهذا الداء الذي يحبط العمل: أن تستعين بالله جل وعلا في أن يرزقك الإخلاص، تضرع إلى الله في الليل والنهار أن يرزقك الإخلاص في قولك وعملك، وسرك وعلنك، وهذا خليل الله إبراهيم، إمام الموحدين، وقدوة المحققين، يتضرع إلى رب العالمين أن يجنبه وبنيه الشرك، قال الله عنه: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]. فيجب أن نسأل الله سبحانه وتعالى الإخلاص، وأن نتضرع إليه في كل عمل، وأن نجدد النية في كل قول وعمل؛ ليرزقنا الله الإخلاص، فسل نفسك! إذا وجدت نفسك تحب أخاً من إخوانك، هل تحب أخاك لله؟! سل نفسك إن أبغضت أحداً، هل تبغضه لله؟! إن كنت تحب هذا الأخ؛ لأنه في جماعتك التي تنتمي إليها، فلست مخلصاً في حبك، سل نفسك الآن أخي في الله! وسلي نفسك أختي في الله! لماذا تحب، ولماذا تبغض؟ لماذا توالي، ولماذا تعادي؟ لماذا تصلي؟ ولماذا أتيت؟ ولماذا امتنعت؟ ولماذا أنفقت؟ ولماذا أمسكت؟ ولماذا خرجت؟ سل نفسك، هل تبتغي بعملك كله وجه الله أم أنك تبتغي إرضاء الناس؟! فأعظم دواء للرياء: أن تستعين الملك رب الأرض والسماء أن يرزقك الإخلاص في قولك وعملك، وسرك وعلنك، اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين!

    معرفة عاقبة الرياء في الدنيا والآخرة

    الجرعة الثانية من جرعات دواء الرياء: أن يعلم المرائي عاقبة الرياء في الدنيا والآخرة. عاقبة الرياء في الآخرة أنه لا عمل له عند الله جل وعلا! مهما صلى المرائي، ومهما أنفق المرائي، فسيأتي يوم القيامة لا يجد له ركعة، ولا يجد له جنيهاًً واحداً، ولا يجد له عملاً واحداً، لماذا؟ لأنه ما ابتغى بعمله وجه الله، الله جعل عمله كله هباءً منثوراً، اللهم سلم سلم يا أرحم الراحمين! فعاقبة الرياء في الآخرة الخسران. وفي الدنيا: المرائي يريد أن يرضي الناس بعمله، يريد أن ينال المكانة والمنزلة في قلوب الناس، فيظهر عملاً وقولاً وسمتاً وسلوكاً، والله جل وعلا يعلم من قلبه أنه يبطن خلاف ذلك، فإن كان الرياء في أصل الدين -أي: يبطن الكفر ويظهر الإيمان- فهذا أغلظ أبواب الرياء، وصاحبه مخلد في جهنم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206]، إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1]. فإذا كان الرياء في أصل الدين -أي: أن يظهر الإنسان الإسلام ويبطن الكفر- فهذا أغلظ أبواب الرياء وصاحبه مخلد في النار، أما إن استقر في قلبه أصل الدين والإيمان، وهو يرائي الناس بالأعمال فقط، فهذا هو الشرك الأصغر، ويخشى على هذا أن يختم له بسوء الخاتمة والعياذ بالله، فالمرائي لا جزاء له في الآخرة، وفي الدنيا هو يرائي الناس؛ لأنه يريد أن يرضي الناس، ومن ظن أنه سيرضي كل الناس فهو غبي جاهل، لو رضي كل الناس عن أحد، لرضوا عن الحبيب المصطفى. يأتي إليَّ كثير من إخواني وقد تشنج وانفعل، ويقول: سمعت فلاناً من الناس يتكلم فيك بسوء، إنه يبغضك، فأقول: هذه علامة خير، هذه علامة صحة، ثم أقول: يا أخي! أتريد أن يحب كل الناس أحداً بعينه؟! مستحيل! فلو كان الأمر كذلك لتعلقت كل القلوب بحبيب القلوب محمد بن عبد الله، كيف وقد عادوه؟! كيف وقد آذوه؟! كيف وقد طردوه؟! كيف وقد حاربوه؟! كيف وقد وضعوا النجاسة على ظهره؟! كيف وقد وضعوا التراب على رأسه؟! كيف وقد خنقوه حتى كادت أنفاسه أن تخرج بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم؟! فمن ظن أنه سيرضي كل الناس فهو غبي جاهل، بل والله لو رضي الناس عن أحد لرضي الناس عن خالقهم جل وعلا، كل الناس لم يرضوا عن الخالق، الله خلقهم ورزقهم، وأنعم عليهم، ومنهم من كفر بالله، ومن الناس من سب الله، ومن الناس من شتم الله، فقد نسبوا لله الولد والزوجة وهو الواحد الأحد، ومن الناس من اتهم الله بالفقر كما قال اليهود الأغبياء: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]، ومن الناس من اتهم الله بالبخل كما قالت اليهود الأنجاس: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64]. فيا من تعمل العمل وتظن أنك سترضي الناس! اعلم بأن الناس لم يرضوا عن أحد، لن يستطيع مخلوق أن يرضي كل الناس، بل قد لا يستطيع الوالد في بيته أن يرضي كل أولاده! وقد لا يستطيع الشيخ في مجلس علمه أن يرضي كل طلابه، هذه قاعدة من جهلها فهو جاهل، فمن عمل العمل يريد رضا الناس فهو غبي جاهل؛ لأن الناس لن يرضوا عن أحد على الإطلاق. إذاً: فعلق قلبك بالله، وابتغ بقولك وعملك وجه الله، فلو اجتمع أهل الأرض بالثناء عليك فلن يقربك ثناؤهم من الله إن كنت بعيداً عن الله، ولو اجتمع أهل الأرض بالذم فيك فلن يبعدك ذمهم عن الله إن كنت قريباً من الله، فما الذي يضرك؟! ماذا ينفعك مدح الناس وأنت مذموم عند الله؟! ماذا ينفعك مدح الناس وأنت مذموم عند الله؟! ماذا يضيرك ذم الناس وأنت محمود عند الله، وقريب من الله؟! فعلق قلبك بالله، واعلم يقيناً بأن من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس المؤمنين الصادقين، فإن المنافق لا يحب مؤمناً على ظهر الأرض، المنافق يبغض المؤمن كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96] (وداً) أي: محبة في قلوب عباده المؤمنين، فإذا رأيت رجلاً يبغض مؤمناً صالحاً فاعلم أن قلبه قلب خبيث مريض بالنفاق والعياذ بالله! فإنه لا يحب المؤمن إلا مؤمن، ولا يبغض المؤمن إلا منافق كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) وقال: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) قال الخطابي رحمه الله: فالخير يحن إلى الأخيار، والشرير يحن إلى الأشرار، فالمرائي خسران في الدنيا والآخرة؛ فلو علم الإنسان عاقبة الرياء في الدنيا، وعاقبة الرياء في الآخرة، لابتغى بقوله وعمله وجه الله، ولسأل الله في الليل والنهار أن يجعل عمله وقوله كله خالصاً لوجهه، وأن يرزقه الله تبارك وتعالى الإخلاص في السر والعلن.

    1.   

    معاقبة الله للمرائي في الدنيا بضد قصده ونيته

    أود أن أحذر من جزئية خطيرة جداً، ألا وهي: أن الله يعاقب المرائي في الدنيا بضد قصده ونيته، والمعاقبة بضد القصد والنية ثابت شرعاً وقدراً. ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمّع سمّع الله به، ومن راءى راءى الله به) نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري عن الخطابي قال: أي: من عمل عملاً من أعمال الخير والطاعة يبتغي أن يراه الناس، وأن يسمعوه، عاقبه الله بضد قصده ونيته، ففضحه الله جل وعلا، وأظهر للناس باطنه. اللهم استرنا ولا تفضحنا، اللهم استرنا ولا تفضحنا. اللهم استرنا ولا تفضحنا، فالمرائي يظهر الله سريرته ونيته، ويبين الله للناس قصده، ألم تسمع أيها الحبيب أناساً يشهدون لرجل بالصلاح، ويشهدون لرجل بالنفاق، كما قال المصطفى: (هذه الأمة هم شهداء الله في الأرض) لماذا؟ لأنه ظن المسكين أنه أغلق على نفسه الأبواب والنوافذ، وأرخى الستور، وتجرأ على معصية الله جل وعلا، فلم يره أحد، فليعلم بأن الله سيظهره ويفضحه على رءوس الأشهاد في الدنيا قبل الآخرة، هذا لمن جاهر بالمعصية، وتجرأ عليها من غير خوف من الله ولا وجل، أما أن يزل الرجل بمعصية، فإذا قارف المعصية بكى، وارتعد قلبه، وخاف من الله عز وجل؛ فهذا هو المؤمن التقي الذي أرجو الله أن يختم لي وله بخاتمة التوحيد والإيمان، فإن الله قد ذكر المتقين في قرآنه، وذكر من صفاتهم أنهم قد يقعون في الفاحشة، قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:133-135]. فشتان بين مصر وبين وجل من الله العلي الأعلى جل وعلا. أيها الأحبة الكرام! لا أريد أن أترك الحديث عن الرياء، فإن الأمر خطير، وكيف لا وهو أول شيء يقضي الله فيه يوم القيامة؟! أول من يقضى عليهم يوم القيامة هم أهل الرياء، فوالله إن الأمر يحتاج إلى تذكير في كل لقاء، بل في الليل والنهار؛ لتكون القلوب على وجل، وليكون المسلمون على حذر من الله، ليجدد الإنسان نيته مع كل شربة ماء، ومع كل عطاء، ومع كل عمل، ومع كل دعوة، ومع كل طاعة، أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.

    1.   

    عاجل بشرى المؤمن

    أود أن أبشر الإخوة ببشارة؛ لأنني سأسأل عن هذا حتماً: إن كثيراً من أحبابنا وإخواننا وأخواتنا قد يعمل العمل من أعمال البر والخير والطاعة، فيلقي الله له الثناء الحسن على ألسنة الناس، ويجعل الله له المكانة الطيبة في قلوب عباده الصالحين، فيفرح العبد بذلك، فيخشى أن يكون من المرائين بذلك، فهل هذا من الرياء؟ الجواب كفانا مشقته أبو ذر رضي الله عنه، فلقد سأل أبو ذر رسول الله! كما في صحيح مسلم وقال: (يا رسول الله: إن الرجل يعمل العمل لله تعالى من أعمال الخير، فيحمده الناس على ذلك، فقال المصطفى: تلك عاجل بشرى المؤمن). اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك، تلك عاجل بشرى المؤمن، فإن عملت العمل تبتغي به وجه الله، وتضرعت إلى الله أن يرزقك فيه الإخلاص، وأثنى الناس عليك خيراًً، وجعل الله لك الثناء الحسن على ألسنة الصادقين من عباده، وجعل الله لك المكانة الطيبة في قلوب المخلصين من أوليائه، فاستبشر خيراً، واعلم بأنها بشارة خير لك إن شاء الله تعالى في الدنيا والآخرة، واسمع لهذا الحديث الرقراق الرقيق الذي رواه البزار وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد إلا وله صيت في السماء) أي: شهرة ومكانة، (فإن كان صيته في السماء حسناً كان صيته في الأرض حسناً، وإن كان صيته في السماء سيئاً كان صيته في الأرض سيئاً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (إذا أحب الله العبد نادى جبريل فقال: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل وقال: يا جبريل! إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ويوضع له البغضاء في الأرض) أسأل الله أن يسترنا بستره الجميل، وأن يرحمنا برحمته إنه على كل شيء قدير. أيها الأحبة الكرام! هؤلاء هم أول من يقضى بينهم يوم القيامة. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

    1.   

    أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! هؤلاء هم أول من يقضي الله بينهم من أمة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فما هو أول ما يحاسب عليه العبد بين يدي الله جل وعلا؟ هذا هو عنصرنا الثالث من عناصر هذا اللقاء. والجواب في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وغيرهم، وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر). والله إن القلب ليبكي، وإن العين لتدمع، وإنا لما حل بأمة الصلاة لمحزونون! فوالله إن من هذه الأمة من لا يدخل بيوت الله جل وعلا إلا في كل جمعة فقط، ومن هذه الأمة من لا يدخل إلى المساجد إلا في العيدين! ومن هذه الأمة من لا يدخل المسجد في حياته إلا مرة واحدة! لا من أجل أن يصلي، وإنما من أجل أن يصلى عليه! وليته ما جيء به ليصلى عليه. الصلاة الصلاة! الصلاة الصلاة! فإن آخر وصية أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة. الصلاة ضيعتها الأمة إلا من رحم ربك جل وعلا، ومن صلى ضيع الصلاة بإخلالها، ما اطمأن في ركوعه، ما اطمأن في سجوده، ما اطمأن في قيامه، ولقد روى البخاري من حديث حذيفة بن اليمان أنه رأى رجلاً يصلي لا يتم الركوع، ولا يتم السجود، فلما أنهى الرجل صلاته قال له حذيفة : (والله ما صليت، ولو مت على هذا لمت على غير سنة محمد). أحذر من ينقرون الصلاة كنقر الغراب! إذا وقف بعضهم في الصلاة واستمع إلى الإمام غلت الدماء في عروقه! إن أطال الإمام يسيراً، يريد أن ينفلت من الصلاة! بينما يقف في إستاد رياضي الساعات الطوال، ويقف أمام راقصة داعرة فاجرة في عرس ساهر ماجن طوال الليل! وإن أطال الإمام يريد أن يتفلت! ثم يحتج على ذلك بأحاديث لا يفهم مرادها ولا مناطها، والله لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام ربنا، إلا أن القلوب خبيثة إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، فهذا صلى ولكنه لم يحسن الركوع ولا السجود، فقال له حذيفة بن اليمان : (والله ما صليت، ولو مت على هذا لمت على غير سنة محمد) فماظنكم بمن ضيع الصلاة؟! ما ظنكم بمن ترك الصلاة؟! قال جل في علاه: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]. ما هو الغي؟ قال ابن عباس وعائشة: الغي نهر في جهنم، بعيد قعره، خبيث طعمه. وقال جل وعلا: كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ * كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً * كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ * كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ [المدثر:32-55]. أيها المسلم! لماذا تعرض عن التذكرة لماذا أعرضت عن الله يا من ضيعت الصلاة؟! لماذا أعرضت عن رسول الله؟! كم من المسلمين من يجلس على المقاهي ويسمع الأذان: حي على الصلاة ولا يجيب وهو مسلم يدعي الإسلام، ويتغنى به، بل ولو ذهبت لتذكره لقال لك: إنني أحمل قلباً أبيض كاللبن، وقلبه أسود من ظلام الليل، لو كان قلبه يحمل ذرة إيمان لاتقى الرحمن، ولانقاد لسيد ولد عدنان، وسمع النداء: حي على الصلاة، وقام يسرع كما يسرع لشهوة حقيرة من شهواته، وكما يسرع للذة فانية من لذات الدنيا، لو جاءه عقد عمل في دولة من الدول، وقيل له: الطائرة ستقلع في السادسة صباحاً، أو في جوف الليل، لذهب إلى المطار قبل الموعد بساعات، لماذا؟ لأنه ينطلق إلى عمل من أعمال الدنيا، إلى لذة من لذائذه، أما أمر الله فيجلس على المقهى، ويجلس على المعصية، ويجلس أمام التلفاز في الليل والنهار، أمام المباريات والمسلسلات والأفلام، ويأتيه التلفاز الخبيث ليقول له: حان الآن موعد صلاة الظهر! حان الآن موعد صلاة العصر! هل يتحرك هذا المسلم؟! وهل هذا مسلم؟! كيف يسمع الأذان ولا يتحرك؟! أين إسلامك؟! أين إيمانك؟! كفى هذا الزعم الباهت الذي لا يغني ولن يغني عنك من الله شيئاً، أين صلاتك؟! أين إذعانك لله وانقيادك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ يسمع النداء ولكنه لا يحمل قلباً، فإن قلبه قد مات، ولا يحمل أذناًُ فإن أذنه قد صم إلا على الأغاني الماجنة، إلا على المسلسلات الخليعة الفاجرة، إلا على المباريات التافهة التي حولت الأمة من الجد إلى الهزل، يوم أن ضيعت الأمة الجد والرجولة، وعشقت الهزل واللعب.

    خطر ترك الصلاة

    روى مسلم من حديث جابر بن عبد الله أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) والحديث في صحيح مسلم، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي وصححه شيخنا الألباني من حديث بريدة أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، هل تصدقون رسول الله؟! اسمع هذه الكلمات يا من تدعي الإيمان برسول الله وقد ضيعت الصلاة، والله يكاد قلبي أن ينخلع! الرسول يقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) سيقول رجل: يا شيخ! لكنني أصلي في البيت، هل أنت امرأة؟! هل فيك الحيض؟! لا يصلي في البيوت إلا النساء، كفى تلفازاً! كفى مرارة! حتى الصلاة ضيعتها الأمة. كم من أناس بيوتهم إلى جوار المساجد، والله ما صلوا جماعة لله مرة. اللهم لا تخزنا في الدنيا ولا في الآخرة، إنه الخزي! إنه العار! إنه الشنار! بيوتهم إلى جوار بيت الله، ولم يذهبوا إلى بيت الله، لم يحرص على الجماعة، لم يصل مع المسلمين، لماذ بنيت المساجد؟! هل ليصلي المسلمون في البيوت؟! أحذر هؤلاء الذين تخلفوا عن الصلاة بالحديث الذي رواه ابن ماجة وصححه الألباني من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لينتهين رجال عن ترك الجماعة أو لأحرقن بيوتهم)، الرسول توعد من صلى في بيته وترك الجماعة أن يحرق عليه بيته. وصلاة الفجر! آه من صلاة الفجر! ذلكم المقياس الدقيق الذي يظهر النفاق وأهله من الإيمان وأهله، صلاة الفجر مقياس، إن كنت ممن يحافظ على الفجر فأبشر واستبشر خيراً، فأنت من أهل الإيمان، وإن كنت ممن ينام عن الفجر فاعلم أن قلبك قد ملئ بالنفاق وأنت لا تدري يا مسكين! يا من سهرت الليل كله أمام التلفاز وضيعت الفجر، يا من سهرت الليل كله أمام الأفلام الداعرة وضيعت الفجر اسمع لرسولك في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (أثقل صلاة على المنافقين صلاة الفجر وصلاة العشاء) هما أثقل صلاة على المنافقين بشهادة الصادق الأمين، يا من ضيعت الفجر محكوم عليك بالنفاق من كلام الصادق. نقب وفتش المساجد في صلاة الفجر تجدها تبكي! ويتشدق هؤلاء بالنصح والتمكين، ومقاتلة اليهود! كيف تقاتل اليهود وأنت لا تصلي الفجر؟! نحن نستحق آلافاً من أمثال النتنياهو، نحن نستحق أن نضرب بالنعال على أم الرءوس، فإننا قد ضيعنا الفجر، قد ضيعنا الصلاة، والله لا نصرة للأمة إلا إذا عادت إلى الله، إلا إذا امتلأت المساجد في صلاة الفجر كما تمتلئ في صلاة الظهر، الفجر ضاع وأنت نائم، كن نائماً إلى أن تستيقظ بين الأموات في القبور! يا من ضيعت الفجر احذر النفاق ونقب عن النفاق في قلبك الآن، لماذا تضبط المنبه على وقت العمل، ولا تضبط المنبه على وقت الصلاة؟! تخشى أن تسأل من مسئول عملك إن تأخرت عن وقت الدوام ساعة، تخاف وتخشى ذلك، ولا تضبط المنبه على وقت صلاة الفجر! أين الإيمان في قلبك؟! احذر ودعك من الدعاوى الفارغة الباطلة، سامحوني على هذه الشدة؛ لأن القلب يكاد يعتصر، لأنني أرى أناساً يدعون الإسلام، ويزعمون الإيمان، ويجلسون أمام التلفاز بالليل والنهار، والله ما حضروا لبيت الله جل وعلا في صلاة، ولو حضر صلاة ضيع صلوات. وصلاة العصر، عاد من عمله فنام، اعتاد أن ينام ولا يصلي العصر، إن كنت مريضاً فلا حرج! لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لكن أن تكون هذه هي عادتك فهذه مصيبة كبرى. في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صلاة العصر -أي: متعمداً- فقد حبط عمله) هذا كلام الصادق إن كانت الأمة تصدق الصادق! فكيف تضيع العصر عامداً، أمام التلفاز من أجل المباراة؟! يريد أن يرى كيف أدخل اللاعب الهدف في مرمى هذا الفريق أو ذاك! يريد أن يرى المسلسل، يريد أن يرى الفلم، يريد أن يرى المباراة، ويضيع العصر، ثم يقوم قبل المغرب بقليل لينقر العصر نقر الغراب، روى مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود قال: (من سره أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإنهن من سنن الهدى، ولو صليتم في بيوتكم كالمتخلف الذي يصلي في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عن صلاة الجماعة إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى به -يتمايل بين الرجلين من المرض حتى يقام في الصف). أكتفي بهذا وأسأل الله أن يستر علي وعليكم في الدنيا والآخرة، اللهم اهد ضال المسلمين، اللهم اهد ضال المسلمين. اللهم رد الأمة إلى الدين رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى الدين رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى الدين رداً جميلاً، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين. اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجميع بلاد المسلمين، اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. أسأل الله أن يجعلني وإياكم من الصادقين، وأذكركم بالحق الذي عليكم، فإن هذا الحق لا ندخله جيوبنا، وإنما هو للفقراء وللمساكين ولليتامى، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يدخرون لأنفسهم عند الله ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756518506