إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [125]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • سوء الظن بالله عز وجل من أكبر الكبائر، بل هو من سمات المنافقين والكفار، فإنهم يظنون بالله أنه لن ينصر دينه، ولن يعلي كلمته، وأن أهل الباطل ستكون لهم الدائرة على أهل الحق، ولكن الله يخيب ظنهم، ويجعل دائرة السوء عليهم في الدنيا قبل الآخرة.

    1.   

    معنى ظن الجاهلية

    قال رحمه الله تعالى: [قال المصنف رحمه الله تعالى: قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على ما تضمنته وقعة أحد: وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله سبحانه بأنه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأنه يسلمه للقتل، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضاء الله وقدره، ولا حكمة له فيه، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، حيث يقول: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح:6]، وإنما كان هذا هو ظن السوء وظن الجاهلية -وهو المنسوب إلى أهل الجهل- وظن غير الحق؛ لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، وخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون.

    فمن ظن به سبحانه أنه لا ينصر رسله ولا يتم أمره ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم ويظهرهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً فقد ظن بالله ظن السوء ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله وكماله وصفاته ونعوته؛ فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله، وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته].

    ظن السوء وظن الجاهلية هو الظن بأن الله لا ينصر رسوله ولا ينصر حزبه، والمقصود بالنصر هو إظهار ما جاء به، ولا يلزم من ذلك أنه لا يحصل فيهم قتل ولا يحصل فيهم مصائب، هذا ليس لازماً، بل أخبر جل وعلا أن من الفتن التي يديل الكفار بها على المؤمنين أنه ليتخذ من المؤمنين شهداء، أي: يوجد منهم شهداء يقتلون. والشهادة هي أعلى المراتب التي يمكن أن يصل إليها المؤمن، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل).

    وذكر أنه لا يوجد مؤمن يموت فيرى ما أعد الله له فيود أنه يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد، فإنه يود أن يحيا مرة أخرى فيقتل؛ لما يرى من الكرامة التي أكرمه الله جل وعلا بها، فكون الكفار -مثلاً- قد يكون لهم نصر على المؤمنين وقد يقع قتل في المؤمنين فإن هذا من الحِكَم، وكذلك يكون تمحيصاً عاماً للمؤمنين، ولكن لا يمكن أن يُدال الكفار إدالة كاملة بحيث يقضون على المؤمنين نهائياً ويقضون على الإسلام.

    وظن السوء الذي ظنه المنافقون هو أما كونه يحصل في المؤمنين قتل، أو يحصل عليهم بسبب ذنوبهم ومخالفاتهم شيء من المصائب، أو شيء من تسلط العدو عليهم، وهذا ثابت في تاريخ الإسلام، بل في تاريخ الرسل كلهم، ولما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام كان لا يقرأ العربية، والرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليه الكتاب باللغة العربية، فلما ترجم له الكتاب اهتم به كثيراً، ثم أمر أن يُبحث في الشام عن أحد من قومه، فوجد جماعة من المشركين منهم أبو سفيان قبل أن يسلم، فجيء بهم إليه فسألهم: من رئيسكم؟ فأخبروه أنه أبو سفيان ، فقدمه أمامهم وأجلسهم خلفه وقال: إني سائله فإذا صدق فصدقوه يعني: قولوا: صدق. وإن كذب فقولوا: كذب. فصار يسأله عن مسائل، منها أنه قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقال: الحرب بيننا وبينه سجال، مرة يُدال علينا ومرة نُدال عليه يعني: مرة يكون النصر له ومرة يكون النصر لنا ثم بعد نهاية الأسئلة قال هرقل لـأبي سفيان : كذلك الرسل يبتلون، ولكن العاقبة لهم. وهكذا يكون القتال بين الرسل وبين الكافرين، مرة ينصرون ومرة ينتصرون عليهم، ولكن العاقبة تكون للأنبياء، وهذه هي سنة الله جل وعلا.

    فمعنى الظن السيء بالله جل وعلا هو ما ظنه هؤلاء المشركون والمنافقون أن الإسلام ينتهي ويكون الكفر هو المسيطر فيُقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه ويمحى دينهم، وهذا خلاف حكمة الله وخلاف أمره ووعده فهو من ظن السوء وظن الجاهلية.

    أما القول بأنه إنكار الحكمة فمعنى ذلك أن كل فعل يفعله الله جل وعلا أو أمر يأمر به فله فيه حكمة عظيمة، والحكمة: هي وقوع الشيء على وفق ما يكون عدلاً وحقاً تقر به العقول السليمة وتستحسنه وترى أن هذا هو أحسن ما يكون، وليس خلافه أحسن بل هو الأحسن، وكل شيء يفعله الله جل وعلا فهو بهذه المثابة، فله الحكم في أمره وفي تقديره وفي شرعه، وحكمه عدل وحق، ولا تخالف الحكمة العقل النظر، ولكن قد تدرك العقول ذلك وقد تقصر عنه، فإذا قصرت عنه فيجب أن تسلم لله جل وعلا أنه حكيم يضع الأشياء في مواضعها التي يحسن وضعها فيه.

    ومن ذلك إيمان المؤمن وكفر الكافر، فهو جل وعلا يعلم من يستحق الفضل والإحسان فيتفضل عليه ويهديه للإيمان، ويعلم من لا يستحق ذلك فيحجب عنه فضله.

    وكذلك مِنْ الظن السوء إنكار أنه قدر هذه الأشياء التي تقع، فهذه ثلاثة أقوال:

    الأول: إنكار نصر الله جل وعلا لرسوله وإظهار دينه.

    الثاني: إنكار الحكمة في الأوامر التي يأمر بها والمقادير التي يقدرها.

    الثالث: إنكار القدر، وأن ذلك لم يقع بقدر وإنما هو على وفق الأسباب التي تجب، ومن كان أقوى فهو ينتصر، فكل ظن من هذه الظنون فهو خلاف الحكمة، ويكون من ظن السوء بالله جل وعلا.

    الاعتراض على الله في جعله الخلق متفاوتين من ظن السوء به سبحانه

    وكذلك من أنكر شيئاً يتعلق بالإنسان نفسه، فقد يقع أيضاً في ظن السوء بالله جل وعلا، كأن يرى أنه لابد أن يكون غنياً ولكنه افتقر، واللائق به أن يكون صحيحاً وألا يناله مرض لأنه لا يستوجب ذلك، فإذا ناله شيء من الفقر أو من المصائب أو من الهموم أو من الأمراض فإنه يقول: هذه أمور وقعت خلاف ما ينبغي أن تقع وهذا أيضاً قد يؤول إلى الكفر بالله جل وعلا.

    وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله أشياء عن بعض الناس تدل على أن كثيراً من النفوس عندها الاعتراض على الله، وإنما يكون هذا الاعتراض كامن فيها، فيعترض على الله في خلقه، ويقولون مثلاً: لماذا وجود الخلاف؟ يكون بعض الناس مريضاً وأجرب وما أشبه ذلك فيقولون: ما الحكمة من هذا؟ وهذا لا يفعله حكيم! تعالى الله وتقدس عما يقولون.

    وينكرون أن يكون فلان فقيراً وفلان غنيا،ً حتى إن بعضهم قال: كان أحد الفقهاء الذين يعرفون بمعرفة الأحكام يتردد علي كثيراً. يقول: فمرض فعدته، فسمعته يقول: ما هذا التعذيب؟ إن كان يريد أن يميتني فليس لهذا التعذيب معنى! ثم يقول: والله لو أنزلني الفردوس ما كان ذلك مشكوراً بعد هذا الذي حصل. أعوذ بالله من سوء الخاتمة، فهذا كان فقيهاً ثم يصدر منه مثل هذا الكلام الجريء على الله، ويقول: لو أنزله الله الفردوس ما كان مشكوراً؛ لما حصل له من المرض.

    وهذا خلاف المؤمن الذي إذا أصابه المرض فرح، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الحمى؛ فإنها حظ المؤمن من النار)، أي: لأنها تمحص الذنوب.

    وفي الصحيح عن ابن مسعود قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك وعكاً شديداً، فقلت: يا رسول الله! إنك لتوعك وعكاً شديداً. قال: نعم. كما يوعك رجلان منكم فقلت: ذلك لأن لك أجرين؟ قال: نعم)، فمن فضل الله على الإنسان أن يعترف بأن كل ما وقع عليه هو بقدر الله جل وعلا، فيجب أن يحسن الظن بربه، وإن أدرك الإنسان الحكمة من ذلك فليطمئن، وإلا فعليه أن يسلم لربه جل وعلا حتى يكون عبداً لله، ولا يجوز أن يجعل مشاركاً لله في ذلك، ولا أن ينزل نفسه منزلة فوق منزلة الله -تعالى الله وتقدس- حتى يصبح يعترض على الله، فالشيطان لما أمره الله جل وعلا بالسجود لآدم اعترض على ربه وقال: كيف أؤمر بالسجود وأنا خير منه؟ لأن أصلي النار وهو أصله الطين فينبغي للقضية أن تعكس، وأن يؤمر هو بأن يسجد لي. فقال -كما حكى الله عنه-: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76]، فهذا أصل الاعتراض على الله جل وعلا على أمره وتقديره، فالذي يسلك هذا المسلك فإنه يسير خلف الشيطان، نسأل الله العافية.

    1.   

    إنكار القدر من ظن السوء بالله جل وعلا

    [ وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمته وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فواتها، وأن تلك الأسباب المكروهة له المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يجب وإن كانت مكروهة له].

    يريد أنه يرد على بعض أهل الكلام، مثل الأشاعرة الذين يقولون: إن الله يفعل بمقتضى مشيئته فقط، وليس هناك حكمة. وينكرون الحكمة على ضوء مذهبهم الفاسد، ويقولون على مقتضى ذلك: يجوز أن يعذب الله المؤمن الذي أفنى حياته بطاعة الله ويجوز أن يجعله في النار، ويجوز أن يجعل الكافر الذي أفنى حياته في معاصي الله وفي محاربة الله أن يجعله في الجنة، مع أن الله جل وعلا ذكر ذلك في كتابه صريحاً فقال: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36]، فالله جل وعلا ينكر هذا، ويبين أن هذا لا تقتضيه حكمته، بل حكمته على خلاف ذلك.

    ثم يفسرون الظلم الذي نفاه الله جل وعلا عن نفسه كما قال: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] بأنه هو التصرف في ملك الغير بغير إذنه وبغير حق، وكل شيء ملك لله، فإذا صرفه بمقتضى مشيئته فلا يكون ظلماً، وهذا التفسير خطأ، والتفسير الصحيح للظلم هو أنه وضع الشيء في غير موضعه فالله جل وعلا يضع الأشياء في موضعها، كما قال جل وعلا: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، وقال: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68]، فهو جل وعلا اختار على مقتضى حكمته أن يضع الأشياء في مواضعها تعالى الله وتقدس.

    فما قدرها سدى ولا شاءها عبثاً ولا خلقها باطلاً: ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27]، وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسمائه وصفاته وعرف موجب حكمته وحمده، فمن قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء، ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوى بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء ].

    القنوط هو شدة اليأس، فإذا كان الإنسان -مثلاً- يعمل ذنوباً كثيرة وكبيرة ثم يقول: لا مخرج لي من ذلك ولا يغفر لي فهذا هو القنوط.

    ولماذا يكون مثل هذا ظن سوء بالله؟

    الجواب: لأن الله جل وعلا غفور رحيم، وعفو كريم، وليس هناك ذنب لا يغفره الله إذا تاب الإنسان منه، كما قال جل وعلا: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، فلم يستثن شيئاً.

    أما الآية الأخرى التي فيها استثناء الشرك فهذا في الذي يموت ولم يتب، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:48] يخبر الله جل وعلا أنه لا يغفر له إذا مات مشركاً، أما ما عدا الشرك فهو تحت مشيئة الله جل وعلا وإن مات عليه مصراً، فإن شاء الله أن يعفو عنه عفا، وإن شاء أن يعذبه عذبه.

    [ ومن ظن أن يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي لا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه بل يتركهم هملاً كالأنعام فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازى المحسن فيها بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين فقد ظن به ظن السوء ].

    لأن هذا أيضاً على خلاف مقتضى حكمته وعدله، أما الحكمة فإن الله رتب الإنسان ترتيباً حسناً، ثم بعد ذلك يهدم هذا الترتيب وينتهي، وذلك ليعاد إعادة أكمل من هذه وأتم، هذا من ناحية الخلق، أما من ناحية العدل فإن الناس -كما هو واقع- يشاهدون الظالم يظلم ظلماً ظاهراً ثم لا يؤخذ الحق منه، ويموت هذا ويموت هذا، وهذا يقع كثيراً، ولا يمكن أن يترك هذا، بل بل لابد من موقف بين يدي الله يؤدى فيه الحق إلى صاحبه، ولابد من البعث حتى يقتص للمظلوم من الظالم، ولهذا جاءت الأحاديث تبين أن البهائم يقتص منها فكيف العقلاء؟! فالبهائم تتناطح بقرونها بعضها يكون له قرون وبعضها أجم ليس له قرن، فتبعث يوم القيامة ليُقتص لبعضها من بعض، ثم إذا أعطي صاحب الحق من البهائم حقه يقول الله جل وعلا لها: كوني تراباً. لأنها ليس لها ثواب ولا جزاء، ولكن العدل اقتضى أنه يقتص من الظالم للمظلوم وإن كان بهيمة.

    وأما العقلاء المكلفون الذين خلقوا لعبادة الله فلا بد من القصاص، ثم كذلك الأعمال، تجد هذا يعمل جاهداً في طاعة الله مجتهداً وهذا يعمل جاهداً في معاصي الله، ثم يموتان وما لقي هذا الجزاء ولا لقي هذا الجزاء وهو الجزاء الأوفى، وإلا فنعمة الطاعة والأنس بالله من أكبر النعم، فلابد من بعث، ولابد من دار يتم فيها الجزاء كما أخبر الله جل وعلا.

    1.   

    من ظن السوء بالله جل وعلا الظن بأن الله لا يجازي بالأعمال، ومنه كذلك تأويل الصفات

    [ ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد، وأنه يعاقب بما لا صنع له فيه ولا اختيار له ولا قدرة ولا إرادة له في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله ويجريها على أيديهم ليضلوا بها عباده، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته فيخلده في الجحيم في أسفل السافلين، وينعِّم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين في الحسن عنده سواء، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر فقد ظن به ظن السوء.

    ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به وإنما رمز إليه رموزاً بعيدة وأشار إليه إشارة ملغزة، ولم يصرح به، وصرح دائماً بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يُتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه وتأويله على غير تأويله، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل أراد منهم ألا يحملوا كلامه على ما يعرفونه من خطابهم ولغتهم مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان فقد ظن به ظن السوء ].

    يشير بهذا إلى ما يقوله الأشاعرة والمعتزلة من أن ظاهر صفات الله جل وعلا التشبيه، مثل اليد والرحمة والرضى والغضب، ولهذا يؤولونها ويقولون: لا يجوز أن تؤخذ على ظاهرها؛ لأن ظاهرها يدل على التشبيه. والإنسان أمامه في هذه شيئان -كما يزعمون-: إما وجوب التأويل، وإما السكوت والتسليم وعدم الاشتغال بذلك مع اعتقاد أن الظاهر غير مراد. أي: أن يعمي الإنسان قلبه ويمسكه عن التفكر في ذلك، فلا يفكر ولا ينظر، بل ويصبح كأن أمامه شيء مجهول تماماً، بل يعودون مرة ثانية ويقولون: لابد أن يعتقد أن ظاهرها غير مراد. وهذا معناه -على قولهم- أن ظاهر القرآن كفر، وظاهر الأحاديث شرك، وأن الناس لو تركوا بلا وحي لكان أحسن لهم؛ لأن ظاهر هذا ما أريد وإنما أريد عكسه.

    فالذي أريد باليد القدرة، والذي أريد بالرحمة الإحسان للمخلوق وليست رحمة تكون صفة لله، والمراد بالغضب العقاب، والمراد بالرضى الثواب، فمرة يفسرونه بمخلوق ومرة يفسرونه بصفة أخرى، ثم لا يثبتون هذه الصفة، بل يفسرونها مرة أخرى وهكذا.

    فالمقصود أن هذا خلاف ما أخبر الله جل وعلا به من البيان والهدى، فقد جعل القرآن هدى وشفاءً، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بين غاية البيان، ما ترك شيئاً حتى الطيور التي تطير إلا ذكر لنا منها علماً، ولم يأت مرة أنه قال: إن قوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] المراد به أن الله فوق ما قال هذا، بل تركهم يفهمون من هذا الخطاب ظاهره.

    فقوله: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا آخر الليل) يحمل على ظاهره، وإلا كيف يخبر بهذا ثم يقول له: لا تعتقده على ظاهره؟ هذا تناقض، وهذا التأويل في صفاته جل وعلا أو تعطيلها وردها من أعظم الظن السيء بالله جل وعلا.

    1.   

    من أسوأ الظن بالله جل وعلا القول بأن الله كان معطلاً عن الفعل

    [ فإنه إن قال: إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه فقد ظن بقدرته العجز، وإن قال: إنه قادر ولم يبين وعدل عن البيان وعن التصريح بالحق إلى ما يوهم بل يوقع في الباطل المحال والاعتقاد الفاسد فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء.

    ومن ظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم، وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المتهوكين والحيارى هو الهدى والحق فهذا من أسوأ الظن بالله.

    فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين بالله غير الحق ظن الجاهلية.

    ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه فقد ظن بالله ظن السوء.

    ومن ظن أنه كان معطلاً من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل، ثم صار قادراً عليه بعد أن لم يكن قادراً فقد ظن به ظن السوء ].

    مسألة تسلسل الحوادث والأقوال فيها

    هذه المسألة التي أشار إليها مسألة كبيرة جداً، ووقع فيها ضلال كبير وكثير، وهي معروفة في كتب المتكلمين بمسألة تسلسل الحوادث، والتسلسل مأخوذ من السلسلة، والسلسلة تكون متداخلة كل حلقة داخلة في الأخرى حتى يتصل آخرها بأولها، فلا يكون فيها نقص، والتسلسل مأخوذ من أن كل حادث قبله حادث، وهكذا إلى مالا نهاية.

    والتسلسل يكون من الجانبين: من جانب المستقبل وجانب الماضي، فالماضي كل حادث قدر فقبله حادث، وكل مخلوق قدر فقبله مخلوق وهكذا، وأما المستقبل فكل شيء يوجد فسيوجد شيء آخر، وهكذا.

    والمتكلمون اختلفوا في هذا على مذاهب:

    فمنهم من منع التسلسل في الماضي والمستقبل، بل قالوا: إن أهل الجنة وأفعالهم تنتهي، إما أن تكون الحركة تنتهي وإما أن يكون أهل الجنة أنفسهم يفنون، وإن الجنة والنار تفنيان. وهذا قول بعض المعتزلة قالوه بناءً على هذه القاعدة.

    وأما في الماضي فمثل ما ذكر هنا، يقول: كان الله جل وعلا معطلاً في الأزل، فلم يكن يفعل شيئاً، ثم لما أراد أن يخلق السموات والأرض والجبال والمخلوقات صار قادراً على الفعل، أما قبل ذلك فلم يكن قادراً.

    والشيخ يقول: هذا من أسوء الظن بالله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا لم يزل كاملاً، ولا يلزم أن نعلم بعقولنا وإدراكاتنا أفعال الله الأزلية القديمة؛ لأن الله لا مبدأ له جل وعلا، وهو بصفاته كامل، وقد أخبر أنه فعال لما يريد، ولم يكن في وقت من الأوقات فعالاً لما يريد وفي بعض الأوقات لا يفعل -تعالى الله وتقدس-؛ لأن هذا نقص، فالله له الكمال المطلق، ولا يلزم أن يكون ذكر مبدأ هذا الكون أنه ليس قبله مخلوقات، فالله على كل شيء قدير، وهو جل وعلا له الكمال المطلق.

    وأما ما جاء في حديث عمران بن حصين حينما سأل أهل اليمن وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: ما مبدأ هذا الأمر؟ فقال: (كان الله ولم يكن شيئاً قبله، ثم كتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض ...) إلى آخره فمعنى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر على حسب السؤال؛ لأنهم قالوا: ما مبدأ هذا الأمر؟ وهذا لإشارة، والإشارة تكون إلى شيء موجود مثل الأرض والجبال والشجر ومن على الأرض، وكذلك السماء، فأخبر عن أول مبدئه أن الله خلقه في ستة أيام، ولا يلزم أن قبل ذلك لم يكن هناك شيء مخلوق، بل إخباره جل وعلا أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام دليل على أن هناك أشياء قبل وجودها يعرف تقدير الأيام بها؛ لأن الأيام التي تعرف الآن هي بوجود الشمس، فالشمس هي التي يعرف بها الليل والنهار، أما قبل ذلك فلا ندري ما هي الأيام؟ فلابد أن تكون الأيام تلك في تدبير أجرام أخرى الله أعلم بها.

    والمقصود: أنه يجب اعتقاد الكمال المطلق لله، وأنه لا يجوز أن يكون ناقصاً في وقت من الأوقات أو معطلاً عن كونه إذا أراد أن يفعل شيئاً فلا يفعله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

    وتمام الكلام على هذا أن منهم من نفى التسلسل في الماضي والمستقبل، ومنهم من أثبته في المستقبل فقط ونفاه في الماضي، وزعم أن هذا مذهب أهل السنة وليس كذلك، وهذا بناء على دوام الجنة والنار، فأخبر في المستقبل أن الحوادث ستستمر إلى ما لا نهاية، وأما في الماضي فهم يمنعونه، والمذهب الثالث الذي هو مذهب أهل السنة هو أن الحوادث في الماضي لا مبدأ لها، والمراد بذلك جنس الحوادث لا حادثاً معيناً، فإن الله لم يزل يفعل ما يشاء في الماضي وكذلك في المستقبل.

    1.   

    ظن السوء يدور على صاحبه

    [ ومن ظن أنه سبحانه لا يسمع ولا يبصر، ولا يعلم الموجودات، ولا عدد السموات ولا النجوم، ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم، ولا يعلم شيئاً من الموجودات في الأعيان، فقد ظن به ظن السوء.

    ومن ظن به أنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة ولا كلام يقوم به، وأنه لا يكلم أحداً من الخلق ولا يتكلم أبداً، ولا قال ولا يقول، ولا له أمر ولا نهي يقوم به فقد ظن به ظن السوء.

    ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه بائناً من خلقه، وأن نسبة ذاته إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها، وأنه أسفل كما أنه أعلى، وأن من قال: (سبحان ربي الأسفل) كمن قال: (سبحان ربي الأعلى) فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه.

    ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ويحب الفساد كما يحب الإيمان والبر والطاعة والإصلاح فقد ظن به ظن السوء.

    ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى، ولا يغضب ولا يسخط، ولا يوالي ولا يعادي، ولا يقرب من أحد من خلقه ولا يقرب منه أحد، وأن ذوات الشياطين في القرب من ذاته كذوات الملائكة المقربين وأوليائه المفلحين فقد ظن به ظن السوء.

    ومن ظن به أنه يسوي بين المتضادين، أو يفرق بين المتساويين من كل وجه، أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها، فيخلد فاعل تلك الطاعات في الجحيم أبد الآبدين بتلك الكبيرة، ويحبط بها جميع طاعاته، ويخلده في العذاب كما يخلد من لم يؤمن به طرفة عين واستنفذ ساعات عمره في مساخطه ومعاداة رسله ودينه فقد ظن به ظن السوء.

    ومن ظن به سبحانه أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته كما يناله بطاعته والتقرب إليه فقد ظن به سبحانه خلاف حكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته، وهو من ظن السوء.

    ومن ظن به أنه إذا ترك شيئاً من أجله لم يعوضه خيراً منه، أو من فعل شيئاً لأجله لم يعطه أفضل منه فقد ظن به ظن السوء.

    ومن ظن به أنه يغضب على عبده ويعاقبه ويحرمه بغير جرم ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة ومحض الإرادة فقد ظن به ظن السوء.

    ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله فقد ظن به ظن السوء، وظن به سبحانه خلاف ما هو أهله.

    ومن ظن أنه يثيبه إذا عصاه كما يثيبه إذا أطاعه، وسأله ذلك في دعائه فقد ظن به خلاف ما تقتضيه حكمته وحمده، وخلاف ما هو أهله وما لا يفعله.

    ومن ظن به أنه إذا أغضبه وأسخطه وأوضع في معاصيه ثم اتخذ من دونه أولياء، ودعا من دونه ملكاً أو بشراً حياً أو ميتاً يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ويخلصه من عذابه فقد ظن به ظن السوء.

    فأكثر الخلق -بل كلهم إلا من شاء الله- يظنون بالله غير الحق وظن السوء؛ فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما شاءه الله وأعطاه، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه. ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة طواياها رأى ذلك فيها كامناً كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شَراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً وتعتباً على القدر وملامة له واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك؟!

    فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخـالك ناجياً

    فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغني التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه سبحانه كلها حسنى:

    فـلا تظنن بربك ظن سـوء فـإن الله أولى بالجميـل

    ولا تظنن بنفسك قـط خيراً فكيف بظالم جانٍ جهول

    وقل يا نفس مأوى كل سوء أترجو الخير من ميْت بخيلِ

    وظنّ بنفسك السوءى تجدهـا كذاك وخيرها كالمستحيل

    ومـا بك من تقى فيها وخير فتلك مواهب الرب الجليل

    وليس لهـا ولا منها ولكـن من الرحمان فاشكر للدليل

    قوله سبحانه: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ [الفتح:6]، قال ابن جرير في تفسيره: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ [الفتح:6] الظانين بالله أنه لن ينصرك وأهل الإيمان بك على أعدائك، ولن يظهر كلمته فيجعلها العليا على كلمة الكافرين به، وذلك كان السوء من ظنونهم التي ذكرها الله في هذا الموضع.

    يقول تعالى ذكره: على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين ظنوا هذا الظن دائرة السوء. يعني: دائرة العذاب تدور عليهم به. واختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الكوفة: (دائرة السَوء) بفتح السين، وقرأ بعض قراء البصرة: (دائرة السُوء) بالضم، وكان الفراء يقول: الفتح أفشى في السين، وقلما تقول العرب: (دائرة السُوء) بضم السين.

    وقوله: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [الفتح:6] يعني: ونالهم الله بغضب منه (ولعنهم). يقول: وأبعدهم فأقصاهم من رحمته. وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ [الفتح:6] يقول: وأعد لهم جهنم يصلونها يوم القيامة وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح:6] يقول: وساءت جهنم منزلاً يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات.

    وقال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ [الفتح:6] أي: يتهمون الله في حكمه، ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يُقتلوا ويذهبوا بالكلية، ولهذا قال تعالى: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [الفتح:6]. وذكر في معنى الآية الأخرى نحواً مما ذكره ابن جرير رحمهما الله تعالى ].

    قول الله جل وعلا: ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات يعني: أنزل الكتاب على رسوله صلى الله عليه وسلم مخبراً بالحق الذي يثيب به المؤمنين، ويعذب به الذين يصدون وينحرفون عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويعتقدون خلاف ذلك ويتوقعونه.

    فالظن الذي يظنونه هو شيء يتوقعونه في أنظارهم وأفكارهم، وهذا الذي ينظرون إليه هو من صنع الكفار، فهم يقولون: المسلمون ضعفاء وقلة والكفار أقوياء وكثيرون، فسوف يقضون عليهم فلا تبقي لهم باقية بعد ذلك. وذلك لأنهم لا يصدقون وعد الله ولا يؤمنون بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله وعد رسوله النصر والظفر، ووعده أن يظهر دينه على الدين كله.

    فالمؤمنون يثقون بوعد الله ويؤمنون به، يثقون به يقيناً، ويظنون بالله خيراً، وأنه سينصر من يؤمن به ويتبع رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء المشركون والمنافقون يظنون خلاف ذلك، والظن هو ما يقوده نظرهم إليه من حمل الأمور التي يقيسونها على ما يشاهدونه، وهم لا يؤمنون بوعد الله وبخبره الذي أخبر، فصار من جراء ذلك أن ظنوا بالله ظن السوء.

    وقوله: عليهم دائرة السوء معنى الدائرة أن السوء سيدور عليهم ويتعاقب عليهم حتى يوردهم جهنم.

    وقوله: وغضب الله عليهم ولعنهم غضب الله جل وعلا صفة من صفاته، فهو يغضب على من يشاء كما أنه يرضى عمن يشاء من عباده، فمن غضب عليه فهو هالك وله العذاب؛ لأن من لازم الغضب العذاب، وليس العذاب هو الغضب، فالغضب صفة من صفاته جل وعلا، فإذا غضب الله جل وعلا عذب، وكذلك يلعن من يشاء من خلقه، كما أنه يصلي على من يشاء من عباده، فقد أخبر الله جل وعلا أنه يصلي على المؤمنين هو وملائكته.

    ومعنى اللعن: الطرد والإبعاد عن الرحمة.

    وقوله: وأعد لهم جهنم يعني أنها مهيأة ومرصدة تنتظرهم في هذا الوقت، أي: الوقت الذي كان يخاطب الله جل وعلا به رسوله. فهي موجودة متهيئة معدة تنتظرهم، وسوف يصلونها قريباً، وليس بينهم وبين ذلك إلا الموت، فإذا ماتوا وصلهم من جهنم وهم في قبورهم ما يصل إليهم من العذاب الذي يكون في البرزخ، وقد جاء ذلك صريحاً في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر أن الرجل إذا كان من أهل السوء ووضع في قبره فتح له باب إلى النار، فيأتيه من ريحها وحرها وسمومها ونتنها ما يعذبه الله به إلى يوم القيامة.

    وإذا كان الإنسان صالحاً تقياً فُتح له في قبره باب إلى الجنة يأتيه من روحها وريحانها ما يتنعم به في قبره إلى يوم القيامة.

    1.   

    مسائل مستفادة في الباب

    [قال المصنف رحمه الله تعالى: فيه مسائل: الأولى: تفسير آية آل عمران ].

    آية آل عمران قد تقدم تفسيرها.

    [ الثانية: تفسير آية الفتح.

    الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر ].

    يعني أن ظن السوء بالله أنواع كثيرة جداً، كما قال ابن القيم رحمه الله: أكثر الناس يظنون بالله ظن السوء، وهذا يكون كامناً في النفس كمون النار في الزناد، فإذا جاءت مناسبة ظهر ذلك على اللسان، وظهر من الفعل ما يكون شاهداً لمن له سمع وبصر يسمع ويرى.

    فإنما يخاف ربه جل وعلا من علم مقتضى حكمته ومقتضى أسمائه، فإذا سلم الإنسان من أن يظن بربه جل وعلا خلاف حكمته وخلاف مقتضى أسمائه وخلاف الحق فإنه يكون سالماً ناجياً بإذن الله تعالى، وإن لم يسلم فهو هالك، وقد أخبر الله جل وعلا أن من كان كذلك فعليه دائرة السوء.

    [ الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه ].

    معنى (عرف الأسماء والصفات) أن يعرف معانيها وهذه الأسماء قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة) قال العلماء: (أحصاها): أطاق العمل بها بعد معرفة معانيها، كما قال الله جل وعلا: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ [المزمل:20] يعني: لن تطيقوا الأوامر كلها، ولكن عليكم من العمل ما تستطيعون فلابد من المعرفة والإيمان بذلك ثم العمل.

    والحقيقة أن معرفة أسماء الله جل وعلا هو الفقه الأكبر الأعظم الذي يجعل الإنسان عالماً بالله جل وعلا.

    والعلماء ثلاثة أقسام: عالم بالله عالم بأحكامه، وهذا هو الصنف الكامل، وهو الذي يكون منه من يخشى الله جل وعلا، كما قال جل وعلا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

    والثاني: عالم بالله غير عالم بالأحكام، وهذا منطبق على أهل التقى وأهل التعبد الذين قصروا أنفسهم على ذلك ولم يتعرفوا على الأحكام التي على المكلفين وتنزيلها من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما يهتمون بأنفسهم فقط.

    الثالث: عالم بالأحكام غير عالم بالله، وهذا يكون من الهالكين، ولهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن القضاة ثلاثة، اثنان في النار، وواحد في الجنة، فاللذان في النار أحدهما لم يعرف الأحكام فقضى بين الناس بالجهل فهو مخطئ وإن أصاب ما دام أنه غير عالم؛ لأنه سيتخبط، وتخبطه يدعوه إلى النار، والثاني عرف حكم الله ولكنه قضى بخلافه فهو في النار، والثالث عرف الحق وقضى به فهو في الجنة، فالعلماء أقسام مثل هذا التقسيم، ومثل ذلك الفتوى والتعليم، وكل ما يتصل بالناس ويتعلق بأحكام الله جل وعلا فهو على هذا المنوال، فالذي يكون عالماً بالله هو الذي يعلم معاني أسمائه جل وعلا وصفاته.

    وذلك أن الله جل وعلا يخبر عن نفسه بأخبار يريد من العباد أن يفهموها ويفقهوها، ويخبر عن نفسه بالصفات وبالأسماء وبالأفعال التي يفعلها حتى يتعرفوا على ربهم جل وعلا، فالمؤمنون عرفوا الله جل وعلا بأسمائه وصفاته وأفعاله كما أنه في فطرهم إيمان يدعوهم إلى أن يعبدوا الله جل وعلا، فهؤلاء هم العلماء الذين يكونون علماء بالله جل وعلا.

    فالله ليس كمثله شيء، فلا يقاس عليه تعالى وتقدس أحد، فليس هناك طريق إلى معرفة الله جل وعلا إلا عن خبره الذي أخبر به عن نفسه وجاء به رسوله صلى الله عليه وسلم.

    ومن هنا يتبين خطأ الذين يقولون: إن النظر في أسماء الله وصفاته والتعمق في ذلك لا داعي له؛ لأنه ليس عملياً. وهذا يدل على الجهل العظيم؛ لأن هذا هو أصل العلم الذي تكون به السعادة، والواجب على العبد أن يتعرف على ربه جل وعلا بأسمائه التي عرف بها عباده، كما قال جل وعلا: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، ففي هذه الآية وغيرها يخبر جل وعلا أن له الأسماء الحسنى، ويأمر بدعائه بها، أي: أن يُعبد بها، ومن عبادته تعلمها واعتقاد معناها ثم العمل على ما اعتقده.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756681663