إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [15]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أعد الله عز وجل للموحدين ثواباً جزيلاً عظيماً بالإضافة إلى تكفير ذنوبهم، وعلاوة على هذه الفضيلة التي ينالها الموحدون فإن هناك فضائل أخر أوردها المصنف في مسائل هذا الباب.

    1.   

    مسائل في باب فضل التوحيد

    سعة فضل الله تعالى

    قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: سعة فضل الله].

    هذا واضح في سائر النصوص التي ذكرها، ففيها أن من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل، فإذا جاء بهذا وإن كانت ذنوبه كثيرة فإن الله يدخله الجنة، وهذا فيه سعة فضل الله وكرمه وسعة مغفرته، وكذلك في غيره من النصوص التي ذكرها الشارح.

    كثرة ثواب التوحيد وتكفيره للذنوب

    [المسألة الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله.]

    وهذا أيضاً واضح ظاهر، وهو كون ثواب التوحيد فضله وثوابه كثير جداً، وأن الله يغفر لمن لقيه موحداً وإن كانت ذنوبه ملء الأرض، فأي شيء أفضل من هذا؟ فما هناك شيء أفضل من التوحيد، والتوحيد معناه أن يكون عمله خالصاً لله ليس فيه شيء لغيره، فالتوحيد عبادة الله وترك الشرك، وأن تكون العبادة مقصوداً بها وجه الله وحده جل وعلا رجاء ثوابه وخوفاً من عقابه.

    [المسألة الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب].

    يعني أنه إذا جاء بالتوحيد فله الفضل العظيم ويكفر الذنوب، ومعنى تكفيرها: إزالة أثرها.

    تفسير الظلم في آية سورة الأنعام

    [المسألة الرابعة: تفسير الآية الثانية والثمانين التي في سورة الأنعام].

    يعني بذلك قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فعرفنا أن المقصود بالآية أن الذي وحد الله جل وعلا وعبده ولم يخلط عبادته بشيء من الشرك فإنه يحصل له الأمن والاهتداء في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فباتباع الرسل والطمأنينة بالله جل وعلا، وبكونه يأمن من العذاب الذي يحصل للكفار المخالفين للرسل، وأما في الآخرة ففي القبر أول منازل الآخرة يحصل له النعيم، ثم ما بعد القبر خير له منه، فهو آمن من عذاب الله ومهتد إلى الطمأنينة والحياة السعيدة.

    خمس حديث عبادة وثمرتهن

    [المسألة الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة رضي الله عنه].

    الخمس هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له) فهذه واحدة، (وأن محمداً رسول الله) هي الثانية، وإن كانتا في الواقع كلتاهما واحدة؛ لأن شهادة أن (لا إله إلا الله) لا تفرق عن شهادة أن (محمداً رسول الله)، ولكنها شرط في الإتيان بها، فلا بد منها، ومن شهد أنه (لا إله إلا الله) ولم يشهد لمحمد صلوات الله وسلامه عليه بالرسالة وأنه رسول إلى الثقلين الجن والإنس جميعاً، وأنه خاتم الرسل، وأنه ليس بعده رسول فإن شهادته مردودة، وهو ليس بمسلم، بل هو من أهل النار إذا مات على ذلك، فلا بد مع شهادة ألا إله إلا الله أن يشهد أن محمداً عبده ورسوله، وهكذا جاء (عبده ورسوله)، أي أنه عبد تعبده الله جل وعلا بعبوديته، وليس له من الإلهية شيء، وليس له من الربوبية كذلك شيء.

    الثالثة قوله: (وأن عيسى عبد الله ورسوله)، وهذا يقتضي أنه لا بد من أن يشهد للرسل كلهم؛ لأن عيسى عليه السلام واحدٌ منهم، فكذلك بقيتهم، وإنما زاد عيسى على الرسل بأنه كلمة الله ألقاها إلى مريم، وأنه روح منه، يعني أنه ليس إلهاً، وليس شريكاً لله جل وعلا، ولا ثالث ثلاثة، وليس ابناً لله، تعالى الله وتقدس عما يقول الضالون، فلا بد أن يتبرأ من قول أهل الضلال في ذلك، وإذا كان الإنسان الذي يشهد بهذا نصرانياً فلا بد من ذلك، وإلا فتكون شهادته باطلة؛ لأنه يعتقد شيئاً من هذا النوع، وهو باطل مناف للتوحيد.

    الرابعة قوله: (وأن الجنة حق والنار حق) الجنة والنار اثنتان، ومعنى أن الجنة حق أنها موجودة مستقرة، وأن الله خلقها وأعدها لأوليائه، والنار كذلك موجودة مستقرة حيث شاء الله جل وعلا، وأنه أعدها لأعدائه، وسوف يسكنونها ولا يخرجون منها، فهؤلاء هن الخمس اللاتي يجب الإيمان بهن، وإذا تأمل الإنسان ذلك وجد أن الإسلام يدل على ذلك كله.

    شرط النجاة بكلمة التوحيد

    [المسألة السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده تبين لك معنى قول (لا إله إلا الله)، وتبين لك خطأ المغرورين].

    حديث عتبان قوله: (من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)، فقيد قول (لا إله إلا الله) بابتغاء الوجه، أما حديث عبادة الذي فيه: (من شهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله..) إلى آخره فلم يقيد ذلك، بل جاء مطلقاً، فاغتر كثير من الناس بأن كل قائل لهذا الكلام إذا قاله صدق عليه الوعد الذي وعد بآخره: (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)، ولو كان لا يصلي، ولو كان لا يزكي، ولو كان يعمل الفجور، بل ولو كان يطوف بالقبور، هكذا يقولون، وهؤلاء هم المغرورون الذين قصدهم بقوله: (وليتبين لك خطأ المغرورين)، وهذا القول يقصد به البراءة من الشرك والبعد عن المشركين ومعاداتهم، وأنه ليس منهم لا في المكان ولا في القصد والعمل، ولا في المحبة والإرادة، بل هو مفارقٌ لهم مكاناً، مبغضٌ لهم عقيدة، منافح ومكافح لشركهم، وداعٍ إلى الله جل وعلا، ولا بد أن يكون على هذا؛ لأن قوله في حديث عتبان :( يبتغي بذلك وجه الله) قيد هذا كله؛ لأنه لا بد من الإخلاص في ذلك، فلا بد أن يكون مخلصاً، والذي يعمل شيئاً من المعاصي إما أن يكون عمله ناتجاً عن قلة إيمانه وبعده الذي يقتضي أنه لم يحقق التوحيد، أو يكون مبطلاً لقوله بالكلية، بمعنى أنه لا بد أن يكون قد نقص قوله أو أبطله، فإذا كان مجرد معصية فهو منقص لقوله: (لا إله إلا الله)، أما إذا كان شركاً فإنه يكون مبطلاً لقوله؛ لأن التوحيد لا يجامع الشرك، فلا يجتمع توحيد وشرك في إنسان؛ لأن الشرك مبطل لجميع الأعمال، قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، والخطاب لسيد الخلق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليتبين للإنسان عظم هذا الأمر، ولما ذكر أصفياءه وأنبياءه قال: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وهم الرسل، فإذاً معنى هذا أنه لا بد للإنسان أن يكون مخلصاً عمله لله جل وعلا، متبرئاً من الشرك تاركاً له قصداً، وليس بدون قصد، بل بالقصد والفعل، فيتركه ويتبرأ منه ويبتعد عنه.

    [المسألة السابعة: التنبه للشرط الذي في حديث عتبان ].

    الشرط هو قوله: (يبتغي بذلك وجه الله)، وكرر ذلك للاهتمام به؛ لأنه مهم جداً، وهو الذي يقول: إنه يبين خطأ المغرورين.

    الأنبياء وحاجتهم إلى الله تعالى

    [المسألة الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله.]

    هذا واضح من الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه وغيره، وهو (أن موسى عليه السلام قال: يا رب! علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به. فقال: يا موسى! قل: (لا إله إلا الله) قال: يا رب! كل عبادك يقولون هذا. وإنما أريد شيئاً تخصني به! فقال: يا موسى! لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع وضعت في كفة و(لا إله إلا الله) في كفة مالت بهن (لا إله إلا الله)) ، فهذا واضح؛ لأن فيه التنبيه على فضل هذه الكلمة لكليم الله جل وعلا الذي كلمه واصطفاه بكلامه، فهو على هذا، فإذاً الأنبياء لا يعلمون، إنما علمهم الله جل وعلا العلم الذي لم يوحه الله جل وعلا إليهم، فهم بحاجة إلى تعليم الله جل وعلا لهم، ولم يستغنوا عن الله جل وعلا طرفة عين، ولم يستغن أحد من خلق الله عنه، بل إذا حصل خير فمن الله، وقد قال الله جل وعلا لنبيه: إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ:50]؛ لأن الضلال من عند النفس والفعل، وأما الاهتداء فبالوحي الذي اهتدى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك غيره، وهذا لا يقتضي عدم التعظيم للرسل، بل يجب معرفة حقوق الرسل ومعرفة قدرهم، ولكن لا يجوز أن يعطوا شيئاً مما هو لله جل وعلا، فيجب على الإنسان أن يكون متبعاً لربه جل وعلا، ويكون عبداً له، ولا يكون عبداً لمخلوق مهما كان رسولاً أو ملكاً أو غير ذلك، وهذا في الواقع يبين أن كثيراً من الناس اغتر وغلا حتى خلط بين حق الله وحق الرسول، بل جعل بعض خصائص الله أو كثيراً منها أو كلها لغير الله جل وعلا، ولا سيما الشعراء الذين صار حظهم من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم المدح والإطراء الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يقول صاحب البردة:

    يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم

    يقول: إذا حدث أمر يعم الخلق بالكرب والعذاب فليس لي ملجأ إلا أنت ألجأ إليك من هذا الكرب فإلى أين يذهب عن الله جل وعلا؟

    يقول:

    يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم

    إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم

    يعني: إن لم يأخذ بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمه تزل لأنه هالك ومذنب. ويقول:

    فإن من جودك الدنيا وضرتها.

    وضرة الدنيا هي الآخرة، و(من) هذه تبعيضية، يعني: من بعض جود الرسول صلى الله عليه وسلم الدنيا والآخرة. فماذا بقي لله؟!

    فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم

    ويا للعجب! القلم الذي كتب الله به كل شيء، واللوح المحفوظ الذي فيه كل شيء من جملة علوم النبي صلى الله عليه وسلم.

    وهذا ما وصل إليه شرك المشركين الذين عبدوا اللات والعزى وغيرهم، وكثير من هذا القبيل، ثم إن كثيراً من الناس يجعل هذه القصيدة شبه الورد، ويحفظها مثلما يحفظ الفاتحة لأجل هذا الإطراء وهذا الغرور، ولن ينفعه ذلك، وإنما ينفعه الاتكال على الله جل وعلا وإخلاص الدعوة له، وإلا فهو صلوات الله وسلامه عليه يقول لأقرب الناس إليه -وهي ابنته فاطمة رضي الله عنها- : (لا أغني عنك من الله شيئاً، سلني من مالي ما شئت)، ويقول لأصحابه: (لا ألفين أحدكم يوم القيامة يأتي وعلى رأسه بعير له رغاء فيقول: يا رسول الله! أغثني. فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً، قد أبلغتك)، فهو صلوات الله وسلامه عليه أفضل الخلق، ولكنه ليس له مع الله شيء، والشفاعة التي يزعم البوصيري أنه يملكها كذب على الله جل وعلا، فما يملك من الشفاعة إلا إذا أذن الله له، والله جل وعلا يقول: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وهم يطلبون الشفاعة منه، والشفاعة لا تطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما تطلب من الله، يقول جل وعلا: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ [الزمر:43]، ويقول: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الزمر:44]، فليس لأحد شيء من الشفاعة، فالشفاعة لله، ولكنه إذا أراد رحمة أحد من أهل التوحيد أذن لمن يريد أن يكرمه بأن يشفع، والأمر له، ولهذا بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً واضحاً كما سيأتي، فليس لهؤلاء الذين غلوا وضلوا وجانبوا الحق متعلق بالشفاعة؛ فإن الله جل وعلا وضح ذلك وبينه.

    شرط رجحان كلمة التوحيد بجميع المخلوقات

    [المسألة التاسعة: التنبه برجحانها لجميع المخلوقات مع أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه].

    يعني أنها ترجح بجميع المخلوقات على الإطلاق، كما في هذا الحديث الذي ذكرناه: (لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع وضعت في كفة و(لا إله إلا الله) في كفة مالت بهن (لا إله إلا الله))، وهل هذا يكون لكل أحد؟ أبداً. بل يكون للخواص من خلق الله الذين اصطفاهم الله جل وعلا، والذين أتوا الله بقلب سليم، أما أكثر الخلق فهم يقولون: (لا إله إلا الله) ويدخلون النار، ويخف ميزانهم؛ لأنهم لم يحققونها ولم يعرفوا معناها ولم يعملوا بمقتضاها، فهذا بين واضح، وقد جاءت الأحاديث متواترة أن كثيراً ممن يصلي ويصوم ويزكي يدخل النار ثم يخرج منها، وهؤلاء ليسوا مشركين؛ لأن المشرك محرمة عليه الجنة، وإنما توحيدهم ناقص، وذنوبهم رجحت بحسناتهم، ومن أعظم حسناتهم قول (لا إله إلا الله)، فلم تكن عندهم ترجح بالسيئات، بل السيئات رجحت بها، فهذا كله يدلنا على أن رجحان (لا إله إلا الله) ليس لكل أحد، بل للخواص، بل لمن يقولها مخلصاً وصادقاً وموقناً ومستسلماً لله وقابلاً للحق ومعرضاً عن كل ما سواه، ثم لا يلتفت عن هذا، فيبقى متمسكاً بهذا المنهج إلى أن يموت، فهذا هو الذي إذا قالها بهذه الصفة تكون راجحة على جميع المخلوقات، فلو أتى بملء الأرض خطايا رجحت بهن (لا إله إلا الله) إذا كان قالها على هذه الصفة.

    وقد يقال: كيف يأتي بملء الأرض خطايا وهذه الكلمة إذا قالها لا يصمد لها شيء؟

    والجواب أنه إذا قدر أنه عمل الخطايا ثم أقبل على الله صادقاً وتائباً وقال هذه الكلمة فإنه يكون بهذا المنزلة.

    تسبيح الأرض ومعناه

    [المسألة العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات].

    يقول الله جل وعلا: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق:12]، والمثلية في العدد، أي: كونها سبعاً. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) يعني: جعل طوقاً لعنقه يحمله يوم القيامة.

    وهل كل أرض مثل هذه الأرض التي نحن فوقها، أو أنها طبقات سبع كل طبقة تحت الأخرى مثل السماوات، كما قال الله جل وعلا: (وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)؟ والصواب الرأي الثاني، ولا يلزم أن يكون فيها سكان, ولا يلزم أن تكون هناك فتوق، أي: أن يكون هناك فضاء بين أرض وأخرى. ليس لازماً، وإنما خلقها الله جل وعلا كذلك لحكمة، أما ما يذكر عند تفسير هذه الآية أن كل أرض فيها مثل هؤلاء الخلق بأسمائهم وأوصافهم وألوانهم وأجناسهم فهذا مروي عن بني إسرائيل الذين يريدون أن يفسدوا عقائد المسلمين بخرافاتهم وكذبهم الذي يضعونه على الله جل وعلا، وليس عليه من دليل، نعم صح هذا القول عن ابن عباس ، ولكن الظاهر أنه أخذه عن بني إسرائيل.

    عمار السموات والأرض

    [المسألة الحادية عشرة: أن لهن عماراً].

    أي: لهن عمار حيث يشاء الله ويعلمه، وعمار السماوات واضح أنهم الملائكة، وأما الأرضين -ما عدا الأرض العليا- فالله أعلم بعمارهن، والله جل وعلا يسبح له كل شيء حتى الجمادات، فكل شيء يسبح بحمده، فإذا كان كل شيء يسبح بحمده حتى الجبال والجماد والشجر والدواب والماء والحصى وكل شيء فمعنى ذلك أن هؤلاء هم عمارها، فهذه الأمور هي عمارها.

    إثبات صفات الله تعالى

    [المسألة الثانية عشرة: إثبات الصفات خلافاً للمعطلة].

    قصده في إثبات الصفات هنا أنه يجب أن يوصف الله جل وعلا بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، لا يحرف الكلام عن وضعه الذي وضع له ولا يعطل عن معانيه التي دلت عليها اللغة العربية، ولا يكيف فيقول: هذه الصفة على كذا وكذا ومثل كذا وكذا. وكذلك لا يمثل فيقول: مثل كذا وكذا. فإن هذا بالنسبة لله ممنوع؛ لأن الله جل وعلا غيب لم يشاهده أحد، ولم ينظر إليه أحد، وهو جل وعلا لا سمي له ولا كفء له ولا ند له فيقاس عليه -تعالى وتقدس-، فلم يبق طريق إلى معرفة الله جل وعلا إلا ما أخبر به عن نفسه فقط، فنحن نتعرف على الله جل وعلا بالخبر الذي جاءنا عنه بالأوصاف التي وصف بها نفسه، فهذا الذي يجب على المسلم أن يفعله، وهذا في الواقع ضل أكثر الناس فيه، فأكثر الخلق اليوم لا يصفون الله جل وعلا بما وصف به نفسه، بل يحرفون، بالتحريف الذي يسمونه تأويلاً، وكثير منهم يعتقد أن ظاهر النصوص كفر، وأن القرآن لو أخذنا بظاهره لقادنا إلى الكفر، كثير منهم يقول هذا ويصرح به، والذي لا يصرح به يكون ذلك مستكناً في نفسه، ولهذا إذا قرأت كتب هؤلاء القديمة والحديثة وجدت أنه إذا تمكن من التصريح صرح، وإذا لم يتمكن قال: هذه متشابهات. يعني قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وقوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:4]، وما أشبه ذلك، فهذه عنده يسميها متشابهات، والمتشابه يجب أن يرد إلى المحكم، والمحكم عنده أن الله لا يوصف بهذه الصفة؛ لأنه ليس كمثله شيء، ولا سمي له ولا ند له، فيأخذ العمومات ويجعلها هي المحكمات، ويرد النصوص الجلية التي نص عليها عكس فعل أهل السنة؛ لأن أهل السنة قاعدتهم أن العموم والشمول جاء في النفي، أما النصوص التي تخص كل صفة بنص من النصوص فهذه تكون في الإثبات، وهي طريقة القرآن وطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما عرف به ربه إلى عباد الله، فهو يحدث في كل مقام يناسب ذلك، ويخبر بأن الله يعجب، وبأن الله يضحك, وبأن الله ينزل إلى سماء الدنيا، وبأن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وأن الله يأخذ الصدقة بيمينه فيربيها للمتصدق إذا كان مخلصاً كما يربي أحدكم فلوه -يعني: ولد فرسه الذي يعتني به كما يعتني بولده في ذلك الوقت-، إلى غير ذلك من الأوصاف التي يصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه، ويعلم أمته ذلك، ثم يأتينا بعد القوم الذين زعموا أنهم أعلم وأحكم من الصحابة، وأن الصحابة لم يحكموا هذا الباب ولم يعلموه حق العلم، وإنما علمه الذين تلقوه من الفلاسفة ومن اليونان وحكماء الهند وغيرهم من الأعاجم، وهم الذين أحكموا ذلك، وإذا كان الأمر هكذا فإننا نقول: إن من عقيدة المسلم التي لا بد أن يعتقدها كل مسلم، وإلا فلا تكون عقيدته صحيحة -بل لا يكون مسلماً- من عقيدة المسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ عن الله جل وعلا، ولا بد للمسلم أن يعتقد هذا، فيعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ عن الله، فأين تبليغه بأن الله ليس مستوياً على عرشه، وأنه لا يجوز أن يوصف بأن له يدين، وأن ليديه أصابع، وأنه جل وعلا لا يبسط يده، وأنه جل وعلا ليس فوق عباده، وأنه جل وعلا لا يحب أحداً، ولا يحبه أحد، إلى غير ذلك من أقوال هؤلاء الضلال، أين تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم؟

    كذلك من عقيدة المسلمين التي لا بد لكل مسلم أن يعتقدها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعلم الخلق بالله، وهو أعرف الخلق بالله، وهو أتقى الخلق لله، وأنه صلوات الله وسلامه عليه أقدر على البيان من كل أحد، وأنه صلوات الله وسلامه عليه أفصح الخلق وأنصحهم للخلق، فإذا وجد هذا اقتضى ذلك أنه لا يترك شيئاً نحتاج إليه في ديننا -لا سيما في عقائدنا- إلا ويبينه لنا ويوضحه نصحاً وإبلاغاً وامتثالاً لقول ربه جل وعلا يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67] يعني: إن لم تبلغ فأنت متوعد من الله جل وعلا بأنك لم تبلغ الرسالة.

    ولهذا جعل العلماء هذه الآية دليلاً على إبطال كل بدعة يأتي بها المبتدع؛ لأن هذه البدعة ما بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كانت ديناً لبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه العقيدة تكفي في إبطال قول هؤلاء النفاة الضلال، وهي عقيدة لازمة، والذي لا يعتقدها معناه أنه ما شهد الشهادة بالرسول صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي ينجيه من عذاب الله جل وعلا ويخلصه من التبعة.

    ثم إن الذي ذكر في هذه النصوص أن الله جل وعلا يتكلم جاء في عدد منه أنه يتكلم ويخاطب ويجزي، وأنه يحب من يشاء من خلقه، وأنه يبغض من يشاء من خلقه، وأنه كذلك يرحم من يشاء، وأنه يثيب، وأنه يعاقب، وكل هذا من صفات الله جل وعلا التي يوصف بها، وهي كلها مرت معنا في هذه النصوص، وكذلك منها أنه في السماء؛ لأنه قال: (لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري) فاستثنى نفسه، فدل على أنه في السماء، والسماء يقصد بها العلو، وكذلك غير هذا من الصفات، وستأتي الإشارة إلى شيء منها فيما بعد.

    [المسألة الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس رضي الله عنه عرفت أن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عتبان : (فإن الله حرم على النار من قال (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله) أنه تَرْكُ الشرك ليس قولها باللسان].

    يقصد بهذا أن يبين أن النصوص لا تتعارض، وأنها كلها خرجت من مشكاة النبوة، وكلها بعضها يتفق مع بعض، فإخباره أن من قال (لا إله إلا الله) يحرم على النار، وقوله: إنه يدخل الجنة، وإخباره أن كثيراً ممن يقول (لا إله إلا الله) يدخل النار ثم يخرج منها، وكذلك كون كثير من المصلين يدخل النار ويبقى يصلاها وقتاً حتى يمن الله جل وعلا عليه بإخراجه منها كل هذه لا تتعارض؛ لأنها كلها صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتحمل كل طائفة منها على طائفة من الناس في الحالة التي تكون فيهم، ويستمرون عليها من إخلاص وعدمه، ومن صدق وعدمه، ومن يقين وعدمه، ومن محبة وعدمها، وما أشبه ذلك، ومعلوم أن التفاوت بين الناس في هذا لا يعلمه إلا الله جل وعلا، فهو تفاوت عظيم، فتجد واحداً يكون مؤمناً صادقاً موقناً لا يتزعزع الإيمان من قلبه، وإيمانه يمنعه من اقتراف المعاصي، ويمنعه من ترك شيء من الواجبات، وتجد آخر يسارع إلى المعاصي وهو يقول: (لا إله إلا الله)، وتجد آخر يحجم عن فعل بعض الواجبات، وهكذا، وهذا شيء مشاهد في الناس كلهم، ومن هنا تفاوتت هذه الجزاءات وهذه الإخبارات عنه حسب تفاوتهم في الإيمان والصدق مع الله جل وعلا.

    حقيقة محمد وعيسى صلى الله عليهما وسلم ومنزلتهما عند الله

    [المسألة الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم عبدي الله ورسوليه].

    يقصد بهذا أنه حصل الغلو في كل منهما -أي: عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم-، أما الغلو في عيسى فقد ذكره الله جل وعلا في القرآن، وهو معلوم إلى اليوم، فالذين يزعمون أنهم نصارى يجعلونه الله، أو يجعلونه ابن الله، أو يجعلونه شريكاً لله جل وعلا وتعالى وتقدس عن قولهم، وهذا الذي عليه النصارى اليوم في جميع الأرض إلا من شاء الله، ومعلوم أن كل من زعم أنه متبع لنبي من الأنبياء يجب عليه -لو كان صادقاً- أن يتبع محمداً صلوات الله وسلامه عليه، وإن لم يفعل ذلك فهو في النار في جهنم، حتى وإن اتبع عيسى كما جاء فلم يقل: إنه ابن الله، ولا ثالث ثلاثة. ولا هو الله، وإن قال: إنه عبد الله ورسوله واتبعه وآمن به واتبع كتابه الذي جاء به، فإذا لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ويتبعه فهو في جهنم خالداً مخلداً فيها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) يعني: ما تسعه شريعته أن يقول: أنا جئت بشريعة وأبقى عليها. فلا بد أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أرسل إلى الناس كافة.

    وبهذا المعنى استدل العلماء على ابطال قول الصوفية -أو كثير منهم-: إن الخضر موجود، وإنه يأتي ويحضر بعض المجالس؛ لأن الخضر لو كان موجوداً وجب أن يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويجاهد معه ويتعلم ما جاء به؛ لأنه لا يسعه إلا ذلك، وليس الأمر كما كان للرسل الذين قبل رسولنا صلى الله عليه وسلم، وقد كان كل رسول يرسل إلى قومه خاصة، ولهذا يوجد في آن واحد عدد من الرسل كل رسول في بلد، وكل رسول يأتي بشرع، فيكون له دعوة مستقلة، أما رسولنا صلوات الله وسلامه عليه فإنه من خصائصه أنه أرسل إلى الجن والإنس كافة، ولم يشذ شيء عن ذلك، وهذا الذي يجب أن يعتقد.

    وكيف وهؤلاء النصارى دينهم الذي يدينون به كفر وضلال وشرك مخالف لما جاء به عيسى عليه السلام مخالفة ظاهرة جلية، وإن زعموا أنهم أتباعه، فهم أتباع الشيطان في الواقع، وهو الذي زين لهم هذا الدين.

    فمعنى كلامه أن عيسى ادعيت فيه الربوبية والإلوهية والشركة والبنوة -تعالى الله عن ذلك-، وهذا ينافي كونه عبداً، وإذا كان عبداً لا يكون له شيء من ذلك، ومحمد صلوات الله وسلامه عليه ادعيت فيه مشاركة الله في المعنى، فما أحد قال: إنه ابن الله. أو: إنه شريك لله جل وعلا في الملك، مثلما تقوله النصارى في عيسى: إنه ثالث ثلاثة.

    وقد يقول ذلك بعض الجهال هذا، فيقول: أنا أعبد الله وأعبد محمداً. ويقول: أنا أتوكل على الله وعلى رسول الله. كثير من الجهال يقول هذا، وهذا شرك ظاهر جلي واضح.

    ولكن المقصود أن كثيراً من العلماء الذين يؤلفون ويكتبون شروحاً للحديث وشروحاً للتفسير وقعوا في المعنى الذي وقعت فيه النصارى؛ حيث غلوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلوه يعلم الغيب، وجعلوه يملك لداعيه النفع ويصرف عنه الضر، وجعلوا الدعوة له، فيدعونه وهم علماء يكتبون للناس ويوجهونهم، ولكنهم دعاة للوثنية في الواقع، ودعاة للشرك، وقد تبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون شريكاً لله في شيء، ولذلك قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، وإنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا: عبد الله ورسوله)، وقال: (لا يستجرينكم الشيطان) يعني: لا يتخذكم مطايا يجريكم في الباطل فتدخلوا في الشرك من هذا الطريق. فهذا مقصود المؤلف في قوله: [تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما عبدي الله ورسوله]، وهذا من ناحية العبودية، أما من ناحية الرسالة فإن اليهود -عليهم لعائن الله- أنكروا رسالة عيسى، بل رموه بالبهت هو وأمه مقابلة لقول النصارى: إنه ابن الله أو إنه ثالث ثلاثة. فقالوا: هو ابن زانية وابن بغي؛ لأنها جاءت به بغير أب. ولم يصدقوا أنه رسول الله، وهذا يقابل قول النصارى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليه أهل الجفاء والفجور أبوا أن يقروا له بالرسالة، فلا بد من الجمع بين هذين الوصفين لهذين الرسولين، وهما من أولي العزم من الرسل، وهذا أمر معلوم تظافرت عليه النصوص.

    ما اختص به عيسى عليه السلام ومالم يختص به مما جاء في حديث عبادة

    [المسألة الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى عليه السلام بكونه كلمة الله].

    اختص عيسى عليه السلام بذلك لأنه تكون بالكلمة التي قال الله جل وعلا له: (كن) فكان، فيكون بدون أب، بخلاف غيره من الخلق، فكل مخلوق يقول الله جل وعلا له: (كن)، ولكنه يتكون بسبب وبواسطة جعلها الله سبباً في إيجاده، وهو ماء الرجل والمرأة، أما عيسى فاختص من بين هؤلاء الناس كلهم في كونه وجد بالكلمة تكون بها بغير أب.

    [المسألة السادسة عشرة: معرفة كونه روحاً منه].

    معرفة كونه روحاً منه هذا لا يخصه، ولكن المعنى أنه روح من الأرواح التي خلقها، ثم أودعها في مريم، ولهذا أخبر أنه نفخ فيها من روحه، فقال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [التحريم:12]، يعني: في فرجها جاءت النفخة ودخلت فيه فتكون عيسى.

    يقول أهل التفسير: إن الله أرسل إليها جبريل -كما أخبر في سورة مريم أنه تمثل لها بشراً سوياً -فتعوذت بالله منه، فقال: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:19]، فتعجبت وقالت: كيف يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً؟ أي: ما كنت زانية حتى يكون لي ولد! فأخبرها أن الله جل وعلا على كل شيء قدير، يقول أهل التفسير: نفخ في جيب درعها فذهبت النفخة إلى فرجها ودخلت فيه.

    ولهذا احتج النصارى بهذا على بعض العلماء وقالوا: هذا كتابكم يدل على ما نقوله، وهو أن عيسى روح منه! فقال هذا العالم: إن الله جل وعلا يقول: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13]، فليس هذا من الله إلا من باب التسخير والخلق والإيجاد والتكوين، وليس هذا خاصاً بعيسى.

    الإيمان بالجنة والنار

    [المسألة السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار].

    يعني أنه نص على وجوب الإيمان بالجنة والنار، فقال: (والجنة حق والنار حق)، فدل على الاهتمام بذلك، وأنه يجب أن يؤمن بالجنة والنار، وأن الإنسان لا يكون مؤمناً إلا إذا آمن بهما، والجنة والنار في الواقع يدخل في الإيمان بهما الإيمان بكل ما يكون بعد الموت وأخبر به الوحي من فتنة القبر، ومن عذابه، ومن البعث، ومن الجزاء، والجمع بين يدي الله، وتطاير الصحف، والمحاسبة، والوزن، والحوض الذي يكون في الموقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والصراط، وغير ذلك من كل ما جاءت به النصوص يدخل في الإيمان بالجنة والنار.

    التوحيد ودخول الجنة على ما كان من العمل

    [المسألة الثامنة عشرة: معرفة قوله صلى الله عليه وسلم: (على ما كان من العمل).]

    عرفنا أن معنى قوله: (على ما كان من العمل) أنه إذا جاء بما شرط وإن كانت له ذنوب فإنه يدخل الجنة على ما كان من العمل، فإن جاء بالذنوب مع وجود هذا الشرط يدخل الجنة، ولكن دخوله الجنة هنا لا يدل على أنه لا يجازى بذنوبه، بل يدل على أنه لا بد من دخوله الجنة وإن ناله ما ناله في الموقف أو بعد الموقف أو في القبر قبل الموقف، بخلاف ما في حديث عتبان ؛ فإنه يقول: (من قال (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله حرمه الله على النار)، فإن الله حرم على النار من قال: (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله، فإن هذا إذا جاء بهذا الشرط فقالها مبتغياً بها وجه الله فإنه لا تناله النار بأذى، لكن معنى ( يبتغي ) أنه لا بد من الإخلاص.

    الإيمان بالميزان وكفتيه

    [المسألة التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان].

    كون الميزان له كفتان هذا بالنص؛ لأنه قال: (لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع وضعت في كفة و(لا إله إلا الله) في كفة)، والله جل وعلا خاطبنا بلغة العرب، ولغة العرب الميزان فيها يطلق على ما يكون له الكفتان اللتان يوزن بها، فيوضع في جانب منه شيء وفي الجانب الآخر شيء آخر، ثم هل نَصِفُ الميزان بأن له لساناً؟ والجواب: لا يلزم؛ لأنه إذا جاء النص بذلك لزم، وإذا لم يأت فأمور الآخرة لا تقاس على أمور الدنيا، وأحوال الآخرة وما يقيمه الله جل وعلا لعباده لا يقاس بما نتعارف عليه في الدنيا حتى يأتي النص.

    إثبات الوجه لله جل جلاله

    [المسألة العشرون: معرفة ذكر الوجه].

    قوله: [يبتغي بذلك وجه الله] يدل على أن المقصود بابتغاء الوجه أنه يكون مخلصاً لا يصدر منه العمل إلا لله خالصاً ليس فيه شيء لغيره.

    كما يدل على أن لله وجهاً جل وتقدس، وهو وجهه الكريم الذي النظر إليه أعلى نعيم في الآخرة، وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك جلياً، كما جاء في صحيح مسلم من حديث صهيب : (أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] فقال: الحسنى الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله جل وعلا)، وجاءت الأحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث جرير بن عبد الله البجلي ، وحديث أبي هريرة ، وحديث أنس ، وحديث أبي سعيد الخدري ، وأحاديث كثيرة جداً، وهي ثابتة في الصحيحين وغيرهما أن الصحابة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: (هل تضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا. قال: إنكم ترونه كما ترون القمر ليلة البدر)، وجاء هذا في روايات كثيرة متعددة وألفاظ مختلفة، فهذا مما يجب الإيمان به.

    والنظر إليه إلى وجهه جل وعلا، وإلا فهو أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وقد جاء الدعاء المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم)، وهذا دعاء ينبغي للمسلم أن يدعو به، فالنظر إلى وجهه جل وعلا له لذة أعظم من لذة الجنة، وأخبر جل وعلا عن أعدائه أنهم يعذبون بالحجاب عنه، قال تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، فالحجاب: ضد الرؤية، فيحجب أعداءه وينظر إلى أوليائه وينظرون إليه، أما نظره هو جل وعلا فهو لا يحول دونه حائل، ولا يمكن أن يستر نظره شيء جل وتقدس، ولكن العباد ينظرون إليه في الجنة فقط، وأما في الدنيا فلا أحد ينظر إليه، كما قال صلوات الله وسلامه عليه في حديث الدجال الذي أخبرنا أنه يأتي ويزعم أنه الله رب العالمين، وهو من أكذب الكاذبين، يقول لنا الرسول صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت) يعني: إلى أن يأتي يوم القيامة. فإن كان من أهل الجنة رأى ربه، أما قبل ذلك فلا يمكن.

    وقد يلتبس على بعض الناس أنه جاء في المسند وفي غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأيت ربي في أحسن صورة)، فهذه الرؤية المقصود بها رؤية النوم، رآه في المنام، ورؤية النوم ليست هي الرؤية الحقيقية، وإنما هي مثل يضربه الملك الموكل بالرؤيا، فالرائي يرى شيئاً يليق بإيمانه واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم وحبه لله وطاعته له، فإن كان إيمانه كاملاً وصحيحاً وحسناً رأى صورة تناسب هذا، وإن كان ناقصاً رأى كذلك؛ لأنها ليست رؤية حقيقية، فعلى هذا يجوز للمؤمن أن يرى ربه في النوم، ولكن يراه على حسب إيمانه، وتكون الرؤية مثلاً يضربه الملك الموكل بالرؤيا، والرؤيا قسمها العلماء إلى أقسام ثلاثة:

    قسم ليس برؤيا، وإنما هي أضغاث أحلام، بل هي حديث النفس وما تشتغل به، فإذا كان الإنسان منهمكاً في عمل من الأعمال، أو في فعل من الأفعال، سواءٌ أكان خيراً أم شراً فغالباً إذا نام يجد أنه يزاول ذلك العمل، ولو كان حديثاً بينه وبين أصحابه يجد أنه يزاول ذلك العمل ويراه؛ لأن نفسه منهمكة فيه، وأصبحت كأنها لا تتجزأ ولا تنفصل عنه، فهذه ليست رؤيا، ولكن هذا يخاف منه في الواقع، لأن النوم شبيه بحضور الموت، فيخاف أن الإنسان إذا حضره الموت يكون مشغولاً بهذه الأمور، ويموت على ذلك، والمفروض أنه يموت على (لا إله إلا الله) والإيمان بالله واليقين به والإقبال على الله والإقلاع عن كل ذنب.

    القسم الثاني: تخويفات تأتي من الشيطان يخوف بها الإنسان، ويمثل له تمثيلاً يخيفه، وهذا الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم ما يكره فلينفث عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان، ثم ليتحول إلى الجنب الآخر، ولا يحدث بما رأى أحداً، فإن ذلك لا يضره)؛ لأن هذا من تخويف الشيطان، والشيطان يطرده الذكر والاستعاذة بالله جل وعلا، وعمله يبطل بذلك.

    القسم الثالث: الرؤيا التي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيها: (الرؤيا جزء من بضع وأربعين جزءاً من النبوة)، وذلك لأنه يأتي بها الملك الموكل بالرؤيا، والوحي يأتي به الملك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا شيء جزئي، فهي أمثال يضربها الملك لما سيفعل الإنسان وما سيستقبله، فيمثله له ويقربه له، وقد يكون التقريب والتمثيل ظاهراً جلياً يفهمه الإنسان، وقد يكون فيه خفاء لا يعرفه إلا أهل العلم بذلك، ولهذا لا يجوز أن تقص الرؤيا إلا على عالم ومحب، فلا تقص على جاهل ولا على عدو أو على كاره؛ لأنها قد تأول فتقع على التأويل الذي أولت عليه وهو الشيء المكروه، وقد جاء أن الرؤيا على جناح طائر ما لم تأول، فإذا أولت وقعت، وجاء في التفسير أن الفتيين اللذين أخبرا يوسف في السجن أن أحدهما رأى أنه يعصر خمراً والآخر يحمل خبزاً في النهاية قالا: لم نر شيئاً، وإنما نحن كاذبين فقال: قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ [يوسف:41]، يعني: وقع كما أخبرتكما. فإذا أولت الرؤيا وقعت.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756467698