إسلام ويب

كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [1]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد فرض الله سبحانه وتعالى الزكاة، وأظهر الحكمة من ذلك لأجل أن يدفعها العباد طلباً لطاعة الله، وعن طيب نفس، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض على القبائل الإسلام مبتدئاً بالشهادتين، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم بقية التشريعات.

    1.   

    فضل الزكاة في الإسلام

    باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن -فذكر الحديث- وفيه: إن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم) متفق عليه واللفظ للبخاري ].

    الزكاة تطهير للمزكي والآخذ

    إن مبحث الزكاة ونظامه بكل جوانبه لهو من أهم مباحث الأموال في الإسلام، والمتأمل لنصوص الشرع في هذا العمل يجد الشمول والترتيب في أدق ما يكون، والزكاة ركن من أركان الإسلام، وكما قال الصديق رضي الله تعالى عنه: (الصلاة حق الله، وعبادة البدن، والزكاة حق المال، وعبادة الأموال) وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم الأموال الزكوية، وبيّن صلوات الله وسلامه عليه الأنصبة فيها.. وما يخرج منها.. وإلى من تؤدى.

    والبحث في الزكاة يكون في: مشروعيتها، وحكمتها، وأنواع الأموال التي تزكى، والمقادير التي تخرج منها، والجهات التي تعطاها، وحكم من امتنع عنها.

    والله سبحانه وتعالى فرض الزكاة، وأشار القرآن الكريم إلى نوع من الحكمة الجامعة في فرضيتها، فقال سبحانه مخاطباً لرسوله صلى الله عليه وسلم: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103] فجعل المولى سبحانه إخراج الزكاة مصلحة للطرفين: للدافع وللآخذ، وفيها الحكمة المزدوجة: تطهير وتزكية.

    أما (تطهرهم) فيقول العلماء: تطهر الفقراء من أمراض النفس الداخلية كالحقد والحسد؛ لأن المسكين إذا وجد المال في يد الغني يستكثر به عليه، ولا يصيب منه شيئاً، فإنه يشتد غيظه عليه، وحسده له على ما بين يديه، فإذا أعطي من هذا المال حصته التي أشار إليها قوله سبحانه: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25] ذهب عنه ذاك الحقد وذاك الحسد.

    وكذلك الغني عندما يخرج من ماله زكاته ينبغي أن يعلم بأن الزكاة لا تنقص المال ولكن تزكيه، والزكاة بمعنى: النماء والزيادة. (ما نقص مال من صدقة)، بل الصدقة تنمي المال وتزكيه: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39] أي: تتضاعف أموالهم وتتزايد بسبب الصدقة.

    وقد بيّن المولى سبحانه إلى أي حد تتضاعف الصدقات، وأجرها إلى سبعمائة ضعف وزيادة، قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة:261] ومعلوم: أن (7×100 = 700) وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261].

    وبين صلى الله عليه وسلم موجب تلك المضاعفة عندما قال صلوات الله وسلامه عليه: (سبق درهم مائة ألف درهم. قالوا: يا رسول الله! وكيف يكون هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: رجل عنده درهمان فتصدق بأحدهما، ورجل عنده مال كثير فأخذ من عرض ماله مائة ألف وتصدق بها)، وهذا في ميزان الحساب والعقل أن صاحب الدرهمين تصدق بنصف ما يملك، وصاحب المال الكثير تصدق بطرف مما يملك، ثم الذي تصدق بمائة ألف بقي في يده الشيء الكثير، والذي تصدق بدرهم لم يبق معه إلا درهم، وهذا فرق بعيد.

    ميزة الإسلام بالزكاة على نظام الضرائب

    وبينت السنة النبوية المطهرة الفرق بين التعامل في المال مع الله سبحانه وتعالى، والتعامل في المال مع الناس، وهذا نقوله للأمم التي تعيش حسب قوانين الضريبة التي يفرضها الإنسان على الإنسان؛ ليروا مدى صدق المسلم في تعامله مع الله في المال، وذلك عندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم عامل الصدقة إلى ضواحي المدينة، فمر بصاحب إبل فوجد عليه فيها بنت مخاض لأنها خمس وعشرون بدنة، فقال صاحبها: بنت مخاض! لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب، كيف أقدمها لله؟ ولكن هذه ناقة كوماء -عليها اللحم والشحم مثل الكوم- خذها في سبيل الله. فقال العامل: لا أستطيع؛ لأنها لم تجب عليك، والذي وجب عليك هو بنت المخاض، فأصر الرجل، فقال: إن كنت لا محالة فاعلاً فدونك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، اذهب بها إليه، فإن قبلها أخذتُها، فجاء مع العامل وعرض عليه ما كان بينه وبين صاحب الإبل، فقال صلى الله عليه وسلم: (أطيبة بها نفسك؟ قال: بلى يا رسول الله؛ لأن ابنة مخاض لا تجزئ شيئاً، لا هي ظهر يركب في الجهاد في سبيل الله، ولا عندها ضرع يحلب للفقراء والمساكين، أما الناقة فتنفع. فقال للعامل: خذها، وقال لصاحبها: بارك الله لك في إبلك)، فعاش الرجل إلى زمن معاوية رضي الله تعالى عنه، فكان يخرج العشرات من الإبل في زكاة ماله.

    فهذه صورة من صور تعامل العبد مع ربه؛ لأنه يعلم بأن الله هو الذي سيجزيه على ما قدم؛ ولهذا يقولون في نظام الضرائب: إن بعض التجار الكبار يصطنع دفترين: دفتراً يقيد فيه مبيعاته ويقدمه لمفتش الضرائب فيرى فيه أنه خاسر؛ ليخفض عليه الضريبة، ودفتراً خاصاً به يبين حقيقة الربح فيما بينه وبين نفسه.

    أما المسلم فليس عليه مفتش ضرائب، عليه معاملته مع الله؛ لأنه عندما يخرج شيئاً من ماله يخرجه إيماناً وتصديقاً بوعد الله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [البقرة:245] فالذي يتصدق صدقة تطوع، والذي يخرج زكاة ماله فهو متعامل مع الله.

    الصدقة برهان الإيمان

    وهناك قواعد عديدة في نظام المعاوضة؛ لأن الإنسان لا يخرج درهماً من جيبه إلا من عوض يأخذ به سلعة، أو يستأجر به عاملاً، يشتري منفعة أو طاقة، والمتصدق يخرج من ماله ولا ينتظر شيئاً، وليس ذلك ضياعاً للصدقة؛ لأنها بدون عوض، بل عوضها عظيم ومضمون، وهو ما للمتصدق عند الله من أجر؛ ولهذا تجد المؤمن الموقن بالوعد -أي: وعد الله- يتصدق ويزكي بطيب نفس؛ لأنه موقن بأنه سيجد عوض ذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون.

    وعلى هذا كانت الصدقة برهاناً على صدق الإيمان كما جاء في الحديث: (الطهور شطر الإيمان، وسبحان الله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء) والبرهان: الدليل، وهو في أصل اللغة: الدائرة البيضاء التي تكون حول قرص الشمس بعد المطر -وليس قوس قزح المعروف- تظهر بينة، والبرهان: الدليل والحجة الذي يقيمه الإنسان على دعواه التي يناكر فيها.

    فالصدقة برهان على صدق المتصدق؛ لأنه يوقن بأن عوضها عند الله؛ ولهذا كان المؤمنون يتصدقون بطيب أموالهم، أما المنافقون فكانوا يعمدون إلى ما لا يقبلونه ولا يرتضونه إلا أن يغمضوا فيه.

    إذاً: الزكاة عنصر حيوي في الإسلام، وتنظيمها وبيان مصرفها لله سبحانه، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن شاباً جلداً قوياً وقف على رسول الله وسأله الصدقة، فقال: يا ابن أخي! إن الله لم يدع قسم المال لأحد، لا لنبي مرسل ولا لملك مقرب، وتولى قسمتها بنفسه إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ [التوبة:60] إلى آخره، فإن كنت من أهلها أعطيتك. فذهب الرجل، ثم جاء آخر وقال: ليس عندي شيء. قال: ماذا عندك؟ قال: أنا وعجوز في البيت، عندنا حلس نفترش نصفه ونلتحف بنصفه، وقعب نشرب ونأكل فيه. قال: علي بهما. فباعهما صلى الله عليه وسلم بدرهمين، وقال: اذهب فاشتر بأحدهما طعاماً لأهلك، واشتر بالآخر فأساً وحبلاً وائتني بهما، ثم وضع عوداً في الفأس وقال: انطلق فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً. فذهب واحتطب وباع، ثم وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثياب نظيفة، وحرك ثوبه فإذا الدراهم في جيبه تتحدث، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لأن يأخذ أحدكم حبلاً وفأساً فيحتطب فيبيع، فيستغني؛ خير من أن يذهب يتكفف الناس أعطوه أو منعوه، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأجزل من الصبر).

    وهكذا -أيها الإخوة- المال في الإسلام له حيز كبير، سواء كان في الزكاة أو في صدقة التطوع، أو في الغنائم، أو في الأنفال، أو في الميراث أو غير ذلك، وهنا يعقد المؤلف رحمه الله كتاب الزكاة، أي: أحكامها وما جاء فيها من حكمها، وأموالها، ومن أنصبتها، والجهات التي تصرف فيها.

    1.   

    حكم الزكاة ومشروعيتها

    أما حكم الزكاة: فهو معروف من الدين بالضرورة لأنه ثابت بالكتاب وبالسنة وبالإجماع، ولا يعذر أحد بجهله أن الزكاة ركن في الإسلام.

    وأما مباحثها فسيأتي المؤلف رحمه الله على جميع هذه الجوانب بما يورده في هذا الباب من الأحاديث، وهي نحو العشرين حديثاً، وسنجد ما أورده رحمه الله.

    بدأ المؤلف رحمه الله تعالى كتاب الزكاة بحديث معاذ ، وحديث معاذ من أجمع الأحاديث -في الجملة- في مشروعية الزكاة وتوابعها، أما الأنصبة فلها نصوص أخرى.

    وقد فرضت الزكاة في السنة الثانية من الهجرة، وفيها أيضاً فرض الصوم، والخلاف في أيهما كان الأسبق: هل الزكاة فرضت قبل الصوم، أو الصوم قبل الزكاة؟

    المهم أنهما فرضا في السنة الثانية من الهجرة؛ لأن بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بدأ تشريع أركان الإسلام، ففي مدة وجوده في مكة لم يشرع ركن إلا الصلاة عندما فرضت ليلة الإسراء والمعراج، وكانت مدة مكة كلها إنما هي في إرساء العقيدة في توحيد الله سبحانه وحده، وفي الإيمان بيوم القيامة أي: بالبعث، فلما جاء إلى المدينة فرضت أركان الإسلام الأخرى من زكاة.. وصيام.. وحج، وغيرها من التشريعات وأحكام البيوع والجنايات وما يتعلق بذلك كله.

    وكان مبعث معاذ إلى اليمن سنة ثمان في فتح مكة، وقيل: سنة تسع بعد تبوك، وقيل: سنة عشر بعد الحج، والذي يترجح -والله تعالى أعلم- أنه بعد سنة ثمان؛ لأن معاذاً رضي الله تعالى عنه قد خصه الله بفضيلة وتخصص علمي كما قال صلى الله عليه وسلم: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل)، وكما خص أبا عبيدة بأنه أمين هذه الأمة، وكذلك بعض من خصهم رسول الله كقوله: (أفرضكم زيد)، فـزيد أعلمهم بالفرائض، ومعاذ أعلمهم بالحلال والحرام، وابن عباس أعلمهم بتأويل القرآن الكريم.. وهكذا.

    والذي جاء في ترجمة معاذ رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة خلفه في مكة يعلمهم أركان الإسلام، وأمور الدين، إذاً: القول أنه بعثه سنة ثمان في فتح مكة يعارضه تخلفه في مكة لتعليمهم، أما بعد ذلك فممكن.

    ومعاذ رضي الله تعالى عنه -في نظري- يعتبر بعثة تعليمية متنقلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره في مكة بعد فتحها يعلمهم، وأرسله كذلك إلى اليمن وحضرموت، وكما أرسل أبا موسى الأشعري مع ستة نفر إلى اليمن، وكان مردهم ومرجعهم في كل الأحكام معاذ ، وكان كل له بلد يفتي فيه ويعلم، ويجمع الزكاة ويوزعها، ومعاذاً يطوف عليهم جميعاً.

    وفي خلافة عمر أرسل عامل الشام لـعمر رسولاً: إن أهل الشام يحتاجون إلى من يعلمهم الدين، فبعث إليهم معاذاً ، ومكث هناك حتى توفي بالشام رضي الله تعالى عنه.

    1.   

    جوانب الحكمة في الدعوة والتعامل من حديث معاذ

    وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه، وجاء في سبب بعثه مع الجانب العلمي قضية عجيبة! وهي أن معاذاً كان شاباً كريماً جداً ، وقد لحقته الديون بسبب كرمه، وكان يستدين من اليهود حتى تراكم الدين عليه، وأصبحت أملاكه لا تفي بديونه، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: مر معاذاً فليوفنا بديوننا. فصار معاذ يتخفى منهم، فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! مالي في ديوني. فقال لهم: خذوا ماله في ديونكم من النخيل أو البساتين أو غير ذلك. قالوا: لا تفي بشيء. قال: ضعوا عنه. قالوا: لا نضع شيئاً، حتى قال الراوي: لو أن أحداً كان يضع لأحد لوضع دائنوا معاذ عنه من أجل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك.

    إجازة النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بأخذ الهدية

    ثم قال صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : أبعثك إلى اليمن لعلك تصيب شيئاً. أي: بصفته عاملاً يصيب شيئاً يرد عليه بدل أمواله التي خرجت من يده.

    والعجيب هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح له أخذ الهدية، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (هدايا العمال غلول)؛ لأنه لا يهدي للعامل إلا مخافةً منه أو طمعاً فيه، وكذلك العمال يهدون إليهم ليخففوا عنهم فيما يجب عليهم من عمال الزكاة، ولما فتح الله على المسلمين خيبر طلبوا من رسول الله أن يبقيهم فيها، قالوا: نحن أعلم بأمور النخيل، دعها في أيدينا نخدمك فيها. قال: ندعكم إلى ما شاء الله.

    وكان الاتفاق أن يعملوا فيها بالنصف: نصف الثمرة لليهود، والنصف الآخر للمسلمين، والعادة في مثل ذلك بالنسبة للزكاة أنه يخرج العامل ليخرص إذا بدأ نضج الثمرة وأمنت العاهة، أي: احمرت واصفرت الثمرة، فيأتي العامل فيطوف في النخيل فيقدر: هذه فيها وسق، وهذه فيها وسقين، وهذه فيها ثلاثة، وهذه فيها نصف. حتى يحصي ما في البستان من مظنة الثمرة التي تأتي من مجموع هذا النخل، فإذا وجد -مثلاً- أن مجموع ما في هذا البستان ألف وسق، فقد كان يوصيهم صلى الله عليه وسلم أن يسقطوا الثلث أو الربع، لما يرد من ضيف، ولما تأكل الطير، ولما تسقط الريح، وهذا كله لا يكلف صاحب المال بأن يخرج زكاته وهو قد أتلف بعضه.

    فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة ليخرص على أهل خيبر، ليلتزموا في النهاية بعد تجفيف التمر بما وجب عليهم، ويقدمونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءهم ماذا فعلوا؟ جمع اليهود من حلي نسائهم مجموعة، وقدموها لـعبد الله وقالوا: خفف عنا -يعني: إن كان عندنا خمسة آلاف اجعلها ثلاثة آلاف- فقال لهم كلمته المشهورة: (يا إخوة الخنازير! والله لقد جئتكم من عند أحب خلق الله إلي، ولأنتم أبغض الناس عندي، ووالله ما حبي لرسول الله ولا بغضي لكم بحاملي على أن أجحف عليكم، وهذا المال رشوة وسحت، وهو محرم). فقالوا: يا عبد الله ! بهذا قامت السماوات والأرض. أي: بالأمانة ورفض الرشوة، وأقسم ألا يحيف عليهم بسبب البغض، ولا أن يحابي رسول الله بسبب المحبة، وقال: إني خارص وأنتم بالخيام، إما أن تلتزموا ما وجب عليكم، وإما أن ترفعوا أيديكم وأنا ملتزم لكم بما هو لكم من هذا الخرص، فقبلوا وخرص والتزموا.

    الذي يهمنا: أن هدايا العمال رشوة وسحت، والرسول أباح لـمعاذ أن يقبل الهدية، وخص معاذاً لأنه صلى الله عليه وسلم علم من معاذ أن نفسه ودينه وأمانته فوق مستوى المحاباة والرشوة والسحت، فإذا ما جاءته هدية لم يقبلها في مقابل حق يتنازل عنه أو في مقابل محاباة في دين الله، فأباحها له وكان بينه وبين أبي بكر وعمر مقالات في هذا الموضوع.

    مخاطبة كل قوم حسب ثقافتهم العلمية

    وهنا التوجيه النبوي الكريم، الذي يمكن في العرف الحاضر أن نسميه (التوجيه الدبلوماسي) بمعنى سياسة الناس ومخاطبتهم بما في نفوسهم، وتنوع الأساليب مع أناس دون أناس، فقال له: (يا معاذ ! إنك ستأتي قوماً أهل كتاب) أهل الكتاب ليسوا هم وأهل البادية الأمية سواء.

    فالبادية الأمية لا تعرف شيئاً من أحكام السماء، وليس عندهم سوابق علم، أما أهل الكتاب فعندهم من العلم ما جاءهم في كتابهم، وعندهم من التوحيد.ومن أخبار البعث الشيء الكثير الذي أنزله الله في كتبه المتقدمة من التوراة والإنجيل، وكان في اليمن يهود ونصارى.

    إذاً: خذ أهبتك في مقابلة هؤلاء الناس لتتعامل معهم على مستوى علمي، والذي يتعامل مع أشخاص أهل علم يجب أن يكون على مستوى علمي أكثر ممن يتعامل مع بادية أمية لا تعرف شيئاً، فيقودها حيث شاء، أما أهل الكتاب فلن ينقادوا في كل شيء؛ لأن لديهم أصول يتمسكون بها، بصرف النظر عن كونها حرفت أو بدلت.

    التدرج في الدعوة إلى الله تعالى

    (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه -وفي رواية البخاري رحمه الله وغيره: أن يعبدوا الله وحده لا شريك له- عبادة الله وحده، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم بأن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم بأن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتعطى إلى فقرائهم) .

    إلى هنا يقف طالب العلم والداعية إلى الله ليرى الأسلوب في الدعوة إلى الله مع قوم أهل كتاب، وذوي عقل وفكر، فتكون الدعوة معهم بالتدرج، فأول شيء يدعوهم إليه هو ما لا نزاع فيه؛ وهو عبادة الله وحده.

    فالوثنيون قد يعارضون في ذلك أشد من أهل الكتاب؛ لأن أهل الكتاب عندهم مبدأ في التوحيد، والشرك طارئ عليهم، فيدخل في التدرج بعبادة الله وحده، ثم ينتقل إلى العبادة البدنية التي ليس فيها درهم ولا دينار، وهي: الصلوات الخمس في اليوم والليلة، فإن هم استجابوا لذلك فمعناه أنهم على طريق السمع والطاعة، فينتقل بهم إلى عنصر المادة: (أعلمهم بأن الله قد افترض عليهم صدقة -وسمى الزكاة المفروضة صدقة- تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم).

    وهنا أيضاً من حسن التنبيه، ومن إعجاز التشريع، أنه افترض عليهم صدقة لا يدفعونها لغيرهم من المسلمين، وإنما تخرج منهم وتوزع فيهم، فتؤخذ من أغنيائهم وترد عليهم، أي: تؤخذ باليمين وتعطى بالشمال ولكن مع اختلاف الجهة، فتؤخذ من أغنيائهم الذين أفاض الله عليهم من ماله، والمال مال الله: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33] وترد على فقرائهم، وأيتامهم، ومساكينهم، من آبائهم، وإخوانهم، وجيرانهم، فهي لن تخرج من أيديهم.

    فعندما يعلم أغنياء اليمن أن الزكاة التي فرضها الإسلام ليست ضريبة تجبى منهم إلى غيرهم، بل تؤخذ منهم وترد عليهم؛ حينئذ يسهل أمر دفع المال؛ لأن المال صنو النفس، والنفس شحيحة عليه، وحريصة على تحصيله، وشحيحة في إنفاقه.

    وهكذا كان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، فقالوا: إنه كان جابياً للزكاة والجزية، وكان أميراً، ومعلماً ومفتياً وقاضياً، فكان يؤدي كل هذه المهام، وليس مجرد جامع للزكاة.

    النبي صلى الله عليه وسلم يغرس الوازع الديني في قلب معاذ

    والحديث قد قطعه البخاري فيما لا يقل عن خمسة أو ستة أبواب.

    فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) أي: في الجملة، وقال له: (وإياك وكرائم أموالهم!) أي: إذا أعطوا الزكاة فلا تعمد إلى أكرمها وتأخذها؛ لأن صاحبها متعلق بها، وهذا ظلم، كما أنك لا تأخذ العجفاء ولا المريضة؛ لأن هذا ظلم للمساكين، وإنما يكون الوسط: (وإياك -تحذير- وكرائم أموالهم!) أي: احذر أن تعمد إلى أكرمها فتأخذه.

    وقد مرت غنم الصدقة على عمر رضي الله تعالى عنه فوجد فيها شاة حافلة -ضرعها كبير- فقال: (ما أظن أن أهل هذه دفعوها عن طيب نفس!) تأسفاً لأخذها، ولا يستطيع أن يردها؛ لأنها جاءت من بعيد.

    وهنا تنبيه من النبي صلى الله عليه وسلم على ما يجب على العمال من الرفق بالناس، وعدم الإضرار بصاحب المال ولا بمستحقيه؛ ولهذا يقول العلماء: الزكاة فرضت على الرفق بالطرفين: رفقاً بالأغنياء بأن أخذ منهم (2.5%)، ولم يقاسم المالك في ماله على الثلث أو الثلثين، فأربعون شاة من الغنم يأخذ منها شاة إلى مائة وعشرين، فهذه ليس فيها غرامة عليه، ولا فيها ثقل عليه، بل فيها رفق به، وكذلك إرفاق بالمساكين أن ينتفعوا بما يأتيهم من أموال الأغنياء.

    وهنا ينبه صلى الله عليه وسلم جميع عمال الزكاة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أن يكونوا رحماء، وألا يجحفوا بصاحب المال فيأخذوا كرائم الأموال، وألا يجحفوا بالمساكين فيأخذوا لهم العجاف والمرضى.

    وعمر يقول لعامله: (اعتد عليهم بالسخلة يأتي بها الراعي بين ذراعيه -يعني: يحملها على صدره- ولا تأخذها منهم) أي: عند عد الرءوس عدها، ولكن في الأخذ في زكاة الغنم لا تأخذها؛ لأنه ليس منها فائدة، وإنما يأخذ الوسط.

    (وإياك وكرائم أموالهم).

    بدلاً من إرسال المفتشين على مدراء الضرائب، وبدلاً من المحاسبة والنظر في الدفاتر، يقيم صلى الله عليه وسلم الوازع الذي ينتزع قلب كل إنسان إذا خالف: (واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) نعم ذهب يدعو إلى الله، لكنه سيأخذ الزكاة، والزكاة مال، وحذره من كرائم الأموال، فإذا أخذ كريمة مال إنسان يكون قد ظلمه، والمظلوم لن يبيت غافلاً، وسيدعو على الظالم، فيجب أن تتقي دعوة المظلوم؛ لأنه ليس بينها وبين الله حجاب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يقول: إني لأنصر المظلوم ولو كان كافراً) يقول العلماء: لأن هذا الكافر عندما أحس بالظلم لم يجد من ينصفه، ولا بينة عنده، أو أنه مضطهد لا يستطيع أن يأخذ حقه، ولن يجد من ينصره وينصفه ممن ظلمه إلا الله، فتوجه إلى الله، فهو في تلك اللحظة مؤمن بالله، وإن لم يقر له بالتوحيد، لكنه مقر بوجود الله وبقدرته على نصرته، وهنا لا يخيبه الله.

    ويقولون في خبر موسى مع قارون : لما أدرك قارون الخسف أخذ ينادي: يا موسى! يا موسى! وموسى لم يلتفت إليه، ثم بعد أن انتهى عاتب الله موسى : يا موسى! يناديك قارون عدة مرات فلم تلتفت إليه، لو ناداني مرة واحدة لأجبته.

    إذاً (اتق) أي: احذر، واجعل لك وقاية بينك وبين دعوة المظلوم، ألا وهي عدم ظلمه، (فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، فلا تحجبها السماوات السبع، ولا الملأ الأعلى، وتصعد إلى الله سبحانه، فيتلقاها وينصف المظلوم ولو كان كافراً.

    ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن الملك ليدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم. (والظلم ظلمات يوم القيامة).

    وهكذا نجد في بعث معاذ رضي الله تعالى عنه إلى اليمن، فإن هذه التعليمات أسس قويمة فيما يكون عليه العمال، وفيما ينبغي أن يلاحظوه في حق الرعية.

    وبالله تعالى التوفيق.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756501329