أنت في الدنيا لست في دار تكريم، ولكن أنت في دار عناء وابتلاء واختبار، والبلاء كما قلنا من قبل: إما بلاء عام أو بلاء خاص، أو إن شئت فقل: بلاء مطلق أو بلاء مقيد، وهكذا أيضاً في النعم، فإما أن تكون النعمة مطلقة وإما أن تكون مقيدة ولنا مع كل حالة من هذه الحالات الأربع وقفة تختلف عن الأخرى.
أيها الأخ المسلم الكريم! بينك وبين الجنة قنطرة تستطيع أن تعبرها بخطوتين: خطوة عن نفسك، وخطوة عن الناس.
يعني: أن أهل الجنة في الدنيا أنواع ثلاثة:
إما عابد، وإما زاهد، وإما صديق.
فالعابد من يعبد الله مع العلائق، والزاهد من يعبد الله بدون علائق، والصديق من يعبد الله على الرضا، هذا كلام ربما يكون ثقيلاً على الأسماع وسوف أبينه إن شاء الله رب العالمين، فاللهم علمنا ما جهلنا، وذكرنا ما نسينا يا رب العالمين.
فالدنيا جعلت مزرعة للآخرة، وأهل الآخرة الذين قال الله فيهم: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا [القصص:83] جعلت لأصناف ثلاثة:
إما أن يكون عابداً.
وإما أن يكون صديقاً
وإما أن يكون زاهداً.
فالعابد هو إنسان لا يرتكب الكبائر من الآثام والفواحش، ولكنه يتعرض لما يتعرض له البشر من اللمم ومن صغائر الذنوب، ولكنه يتوب أولاً بأول، فما بين الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة، والحج إلى الحج، كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر؛ لأن أفضل ما يعبد الله به قلة الذنوب، وأفضل شيء يدخل السرور والانشراح على قلبك أن تكون قليل الذنوب كثير الحسنات.
اللهم اجعلنا قليلي الذنوب ومن التائبين عنها يا رب العالمين!
فالإنسان العابد في الدنيا يأتمر بما أمر الله وينتهي عما نهى الله سبحانه، ثم هو بعد ذلك وقاف عند حدود الله، فهو يرى الله في كل خطوة وفي كل نظرة وفي كل كلمة وفي كل حركة وسكنة، فشغله الشاغل رضوان مولاه عز وجل.
الصنف الأول قال: طالما أنني سوف آخذ أجراً فيجب أن أعمل بجد وإخلاص، سواء كان صاحب العمل يراني أو لا يراني، فهذا الصنف يعمل بجد من طلوع الشمس إلى مغيبها لا يكل ولا يستريح.
الصنف الثاني: يعمل ساعة ويستريح ساعة؛ لأن صاحب العمل غير موجود.
الصنف الثالث قال: إن صاحب العمل غير موجود ولا يراني فسوف أنام طوال النهار وأكسب صحتي وأوفر جهدي؛ لأن عندي عملاً بالليل سوف أقوم به في مكان آخر، وآخر اليوم سوف آخذ أجري، كالمدرس المهمل الذي يقول: لو نجح الفصل كله فمرتبي كما هو، ولو رسب الفصل كله فمرتبي كما هو، إذاً أنام فيرسب الفصل كله؛ لأنني لا أريد أن أتعب.
في آخر النهار اكتشف العمال جميعاً وهم الأصناف الثلاثة أن صاحب البيت ناظر إليهم يراهم من فوهة وهم لا يرونه، فهو يراهم ويرى أعمالهم منذ صبيحة اليوم إلى مغرب الشمس، فمن عمل بجد فله أجره؛ لأن صاحب العمل كان يراه بعينه، والذي قصر بعض الساعات ندم وعض أصبع الندم، والذي نام طوال اليوم كان له الخسران والخزي، فلم يعطه صاحب العمل أجراً.
ولله المثل الأعلى، فهو مالك الدنيا وخالقها، فالله سبحانه أوجدنا في الدنيا وقال: يا عبادي اتقون، يا عبادي انزلوا إلى الدنيا بعضكم لبعض عدو، أي: نحن والشيطان وسائر الشياطين أعداء بعضنا لبعض، سواء شياطين الإنس أو شياطين الجن.
إذاً: العابدون يعبدون الله عز وجل على أن الله يراهم، وهم يعبدونه على درجة الإحسان، والإحسان هو: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
فأنا في الدنيا يجب أن أعلم أن الله ناظر إلي من صبيحة اليوم إلى مغربها، وبالليل أيضاً يراني، لا يعزب عن الله مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا يغفل رب العباد سبحانه فلا تأخذه سنة ولا نوم، قيوم السماوات والأرض، ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم.
فالله عز وجل ناظر إلى عباده في الدنيا منذ أن أوجدوا فيها إلى أن يموتوا، وهذا العمر كنهار العامل تماماً، يعني: منذ أن بلغت الحلم وكلفت أيها الإنسان -رجلاً كنت أو امرأة- فالله عز وجل ناظر إليك يرى ماذا تصنع.
فانقسمنا في أعمالنا لله ثلاثة أقسام كما انقسم العمال:
قسم يعلم أن الله لا يغفل عنه؛ ولذلك هو يحب ربه، ويدعوه ليل نهار، ويعبده ليل نهار، ولا يغفل عن ذكره لحظة.
هذه الطائفة الأولى عندما يأتي يوم القيامة سوف يكونون من الفائزين الناجحين، اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين!
القسم الثاني: من تأتيهم غفلة على مر الأيام والزمن ينامون عن العبادة، تجد الواحد منهم يقصر في صلاته وعبادته، ويغتاب هذا، ويتكلم في حق هذا، وينم في حق هذا، ويسيئ إلى هذا، ولكنه رغم ذلك يعمل بعض الحسنات، هذا ندمه يوم القيامة كثير.
القسم الثالث: من ينكر الآخرة أو يمني نفسه بالأماني، قال بعض السلف: إن قوماً قد غرتهم الأماني يقولون: نحسن بالله الظن، فوالله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
وجاء في الحديث القدسي: (لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين، من أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة، ومن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة).
يعني: أن المسألة أكبر من هذا، فليست القضية قضية كلام، وإنما القضية قضية عمل، فأنا أطلب لهم عقب كل صلاة أن يرزقهم الله الجنة ويرضى عنهم، فكيف لا أعطيهم من حطام الدنيا؟!
إذاً: عابد يعبد الله على العلائق، أي: على أمور متعلقة بالدنيا والغفلة التي تأتي.
الدرجة الأعلى: الزاهد الذي يعبد الله على غير العلائق، أي: من استولى الله عز وجل على قلبه فلا يذكر إلا الله، ولا يكون مقصده إلا الله عز وجل، قال تعالى: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42] هذه هي الدرجة العليا.
أما الدرجة الأعلى من الجميع، فهي درجة الصديقية، والصديق هو الذي يعبد الله على الرضا، كما كان أبو بكر رضي الله عنه، اللهم لا تحرمنا مجاورة الصالحين في الجنة يا أرحم الراحمين.
أعود إلى ما ابتدأت فيه من حديث: يا أخا الإسلام بينك وبين الجنة قنطرة وحاجز، وتستطيع أن تعبر هذه القنطرة بخطوتين: خطوة عن نفسك، وخطوة عن الناس.
وأبوهما رضي الله عنه لما أراد أن يجهز على عدوه ورفع السيف بصق الرجل في وجه علي فأغمد علي سيفه، فقيل له: لمَ لم تجهز عليه وأنت في معركة يا أمير المؤمنين؟ قال: رفعت السيف في أول مرة كي أضربه ابتغاء مرضات الله، فلما بصق على وجهي خشيت أن يكون قتلي له انتقاماً لنفسي، فأغمدت سيفي لكي لا أكون خاسراً يوم القيامة.
كذلك من سلك خطوة عن نفسك، كما قال عمر رضي الله عنه وهو يسير مرة مع الصحابة وابنه عبد الله بجواره فقال: رأيتني مرات وأنا أرعى الإبل للخطاب في هذا المكان، وكان رجلاً فظاً غليظ القلب، وصرت اليوم وليس فوقي أحد إلا الله رب العالمين، قال ابنه: يا أبت ماذا قلت؟ لم تعجب الكلمة عبد الله بن عمر كأنما لمح لمحة كبر في أبيه رضي الله عنه وحاشا لأمير المؤمنين عمر أن يكون متكبراً، فقال: يا بني! استشرفت نفسي-أي: أرادت أن تتكبر- فأردت أن أضعها أمام أصحابي، أي: أذكرهم بماضيَّ الذي كنت فيه فقيراً أرعى الإبل لأبي وكان فظاً غليظ القلب، فصرت اليوم أميراً للمؤمنين.
ولذلك لما عين سلمان الفارسي رضي الله عنه في زمن عمر حاكماً على بلاد فارس التي جاء منها ودخل إلى المدائن عاصمة كسرى سابقاً، دخل وعليه ثوب قصير، فقال له رجل من بلاد فارس: يا حمال! قال: نعم، قال: احمل حزمة الحطب هذه، فحمل سلمان رضي الله عنه حزمة الحطب، فلما رأى الصحابة وهم يستقبلون سلمان ويقولون: مرحباً بالأمير، مرحباً بالأمير، أسقط في يد الرجل، قال سلمان : لا عليك أخا الإسلام، أنت قلت: احمل يا حمال، فأنا حملت فصرت حمالاً، قال الرجل: ضعها لكي أحملها وتعفو عني، قال: والله لن أضعها إلا في المكان الذي تريد أن أوصلها إليك فيه، سبحان الله! هذه خطوة عن نفسك، فأنت إن أردت أن تصل إلى الجنة وتقطع القنطرة التي بينك وبين الجنة فعليك أن تخطو خطوة عن نفسك.
أي: الناس يخافون من الناس، والناس يضعون اعتبارات للناس أكبر من وضعهم الاعتبار والخوف والخشية لرب الناس سبحانه.
ومن أسباب وموجبات عذاب القبر أن يخاف الإنسان من المخلوق ولا يخاف من الخالق، تجد مثلاً: بدعة ذكرى الأربعين والذكرى السنوية، يقول: أنا لو لم أصنع لأبي ذكرى الأربعين أو ذكرى السنوية فإن الناس سيعيبون علي، ويقولون: لقد بخل الرجل بعد موت أبيه، لقد خلف أبوه له تركة ضخمة وتكاسل عن صنع كذا أو كذا.
فأنت تخاف من الناس، ولا تدري أن هذه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فليكن رائدك أخا الإسلام أن ترضي الله رب العالمين لا أن ترضي الناس، فمن أرضى الله بسخط الناس رضي عنه الله وأرضى له الناس، ومن أسخط الله برضا الناس سخط عليه الله وأسخط عليه الناس.
نرى هذا الأمر جلياً في مسألة الأفراح: أنت تريد أن ترضي غرورك وترضي غرائزك، بل وترضي أحياناً أهلك وأقاربك، وتريد أن تصنع لابنتك عرساً وفرحاً لم يحدث من قبل في القاعة الفلانية بعدة آلاف من الجنيهات؛ لأن الناس سيقولون: إن ابنة عمتها وابن عمها وبنت خالتها فعلن أعراسهن في نفس هذا المكان، وبنفس التكاليف، فلا بد أن يصنع هذا الأمر لابنتي كما فعل لهؤلاء، وهو يعلم أنه كله حرام من ألفه إلى يائه؛ لأن من فعل ذلك فهو سفيه، والله عز وجل جعل السفيه مع أهل النار يوم القيامة والعياذ بالله، فلا تكن سفيهاً أخا الإسلام، وليكن رائدك أن ترضي الله رب العالمين، فإن أرضيت الله فقد قطعت خطوة بعيداً عن الناس، فصار منتهاك إلى رضوان الله سبحانه وتعالى.
النعمة إما مطلقة وإما مقيدة.
نعمة مطلقة قد لا نشعر بها، كنعمة الشمس التي نحن فيها أو الضوء، فهذه نعمة عامة لا يشعر بها غير المؤمن؛ لأن المؤمن يشعر بكل نعمة، ويستشعر فضل الله عز وجل.
لو حجبت الشمس عاماً عن الأرض لمات أهل الأرض جميعاً من شدة البرد، سبحان الله! حتى في حرارة الصيف كم تقتل حرارة الشمس من ميكروبات وجراثيم؟ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
ينبغي أن نشكر الله على نعمة الشمس، لكن كونها نعمة يشاركه فيها غيره فتجد العبد لا يرى النعمة إلا إذا كان متملكاً لها للأسف الشديد، لكن المؤمن يرى النعمة المطلقة ويرى النعمة المقيدة، النعم المطلقة مثل: نعمة الهواء، فهي نعمة لا تساويها نعمة، هذه نعم مطلقة يشاركنا فيها الناس يجب أن نشكر الله عليها ونحمد الله رب العالمين.
أما النعم المقيدة فمثل: نعمة الإيمان في الدنيا، هذه نعمة مقيدة لك، والنعمة المطلقة في الآخرة هي الخلود في جنة الرضوان، اللهم اجعلنا من الخالدين في جنات النعيم يا رب العالمين.
هناك من النعم المقيدة في الدنيا من تكون نعمة من وجه وبلية من وجه آخر، فالمال نعمة، لكن عندما يميل بك هذا المال عن الحق يصير بلية، عندما تنفق هذا المال في غير مرضاة الله يصير بلية، وعندما تستخدم مالك في إغضابك لرب العباد وفي الابتعاد عن خطه وصراطه المستقيم يصير بلية، لكن المال إذا استخدمته في مرضاة الله وأنفقته فيما يرضي الله عز وجل يصير نعمة، فالمال نعمة من وجه وبلية من وجه.
كذلك الولد نعمة وبلية، إن كان الولد طائعاً وربيته على طاعة الله عز وجل، وربيته على الكتاب والسنة، وربيته على حب المسلمين وحب الضعفاء والمساكين، وحب رسول الله وآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صار الولد عندئذ نعمة، أما إذا كان الولد مخنثاً أو البنت تخرج عارية إلى الطريق، ومعنى عارية أن ممن يحمل شهادة الدكتوراه تكون له بنت في الجامعة أو في الثانوية، وتكون قد بلغت أكثر من خمس عشرة سنة، وبلغت سن من تستطيع إذا تزوجت أن تلد، فإذا بهذه البنت تخرج ببنطلون مما يسمونه البنطلون الضيق الذي يفسر ساقها ورجلها، نقول: هذه عارية تماماً لم يبق إلا أن يرى الرائي منظر اللحم إن كانت البشرة سوداء أو بيضاء البشرة، لكن هو رأى جسدها واضحاً، وهذه بلية؛ لأن الله عز وجل سلب من والد هذه البنت إيمانه وسلب منه الغيرة والرجولة، وسلب منه دماء العروبة، وصار خنزيراً لا يتحرك إذا انتهكت حرمة من حرمات الله، بل إنه يشارك والعياذ بالله في أن يغري عيون الشباب الجائع إلى النظر إلى ما حرم الله.
أخا الإسلام! اتق الله رب العالمين؛ لكي يكون أبناؤك نعمة عليك لا بلية، اللهم اجعل أبناءنا نعمة لنا لا بلية علينا يا رب العالمين!
إذاً: فالبلية إما مطلقة أو مقيدة، والبلية المطلقة مثل: الكفر في الدنيا، فهذه بلية مطلقة، والخلود في النار في الآخرة بلية مطلقة.
أما الابتلاءات المقيدة فمثل: الجوع والخوف والمرض والفقر، ولكن الله عز وجل يريد بعبده دائماً خيراً.
لكن لو كانت لك زوجة تطيعك بحيث إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك وعرضك، ثم إذا بها صارت لا تصلي والعياذ بالله، وخلعت حجابها، وصارت إنسانة بذيئة اللسان، صارت ناشزة فهذه بلية في الدين والعياذ بالله رب العالمين، فاحمد الله رب العالمين في البلية التي تحصل أنها لم تكن في الدين، هذا هو الأمر الأول.
فنحمد الله أن جميع ابتلاءاتنا ليست في الدين.
كذلك إذا رأيت إنساناً له ابن عاق، فاعلم أن هذا ابتلاء في الدين، وإذا رأيت إنساناً كان يصلي وأصبح لا يصلي هذا ابتلاء في الدين، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء، اللهم أجرنا من غضبك يا رب العالمين.
ربما تصاب بمرض في بدنك، فصارت يدك لا تتحرك، أو أن قدمك لا تخطو، أو أن عينك بدأت تفقد القدرة على الإبصار، فاعلم أن الله ابتلاك في الوقت الذي يريده هو لمصلحتك أنت؛ لأنه ربما يفقد الواحد منا نعمة المشي؛ لأن الله يعلم في سابق علمه أن لو ظلت هذه النعمة معك لاستخدمت قدميك في غضبه عز وجل؛ لأنك سوف تذهب بهما إلى مكان لا يحبه الله رب العالمين، فيمقتك الله مع من يمقت، فاحمد الله رب العالمين أن رزقك نعمة فقد القدرة على المشي.
كذلك نعمة العقل، قد يذهب الله نعمة العقل، تعال إلى العلمانيين في مصر الذين يقولون مثلاً: إن الحجاب حرية شخصية، هذا إنسان علماني يريد أن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، فهو يؤمن أن الصلاة مفروضة، والزكاة مفروضة، والمساجد يجب أن تعمر بالمصلين، لكن أن يحكم المسلمون بشرع الله، لا، أن تحجب المسلمات، لا، فهذا المرء يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض.
فهؤلاء العلمانيون في مصر أكثرهم من المثقفين وأكثرهم ممن يقرءون ويكتبون كثيراً؛ لكنهم يستخدمون عقولهم فيما يغضب الله سبحانه، فهؤلاء عندما يأتون يوم القيامة يتمنى الواحد منهم أن لو كان مجنوناً في الدنيا لا عقل له؛ لكي لا يحاسب على نعمة العقل يوم القيامة؛ لأنه استخدم عقله في إغضاب الله رب العالمين.
إذاً: الله عز وجل عندما يبتلي عبداً ببلية معينة فإنما يختار له خيراً، فاحمد الله رب العالمين في البلية أنها ليست في الدين، واحمد الله رب العالمين أنها ليست أكبر من ذلك، فإذا فقدت حركة اليد فاحمد الله رب العالمين أن لك يداً أخرى تتحرك، وإذا فقدت حركة اليدين فاحمد الله على حركة الرجلين، إذا فقدت حركة الجسد كله وأصبحت لا تستطيع الحراك فاحمد الله أن لك قلباً شاكراً ولساناً يذكر الله رب العالمين ويوحده.
قالت أم سلمة: عندما مات أبو سلمة أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول هذا الدعاء، فقلت: وهل هناك خير من أبي سلمة يا رسول الله؟! فقال: اسمعي لله ولرسوله يا أم سلمة ، قولي: سمعنا وأطعنا، فدعت أم سلمة هذا الدعاء: اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيراً منها، فلما انقضت عدتها تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألم يخلفها رب العباد خيراً؟
فأنت في كل مصيبة تدعو الله هذا الدعاء: اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيراً منها، فما من عبد دعا بهذا الدعاء إلا وأعطاه الله الاثنين: أخلفه خيراً، وآجره في مصيبته.
يخرج قوم من قبورهم يوم القيامة إلى أبواب الجنات يوقفهم رضوان: إلى أين تذهبون؟ كيف تدخلون الجنة وأنتم لم ينشر لكم ديوان ولم ينصب لكم ميزان؟ قالوا: يا رضوان نحن لا نقف لنصب ميزان ولا لنشر ديوان، يا رضوان أوما قرأت القرآن؟ يقول: وما في القرآن؟ يقولون: نحن أهل الصبر: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، قال: كيف كان صبركم؟ قالوا: نحن كنا إذا أسيء إلينا غفرنا، وإذا جهل علينا حلمنا، وإذا ابتلينا صبرنا، وإذا أعطينا شكرنا، قال: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
فهؤلاء يوفون أجرهم بغير حساب؛ ولذلك رأينا كثيراً من الصالحين عندما يبتلى بالبلية كان يقول: مرحباً بشعار الصالحين.
وهذه قضية عجيبة وهي: أن امرأة تزوجت رجلاً صالحاً فيما حسبته، وعاشت معه ستة أشهر، فقالت له: أتحبني؟ قال لها: بلى أحبك، قالت له: وإن طلبت منك شيئاً نفذته؟ قال لها: نعم، قالت له: أريد أن تطلقني، فعجب الرجل، لم؟ أأسأت عشرتك؟ قالت: كلا، قال: أبخلت عليك؟ قالت: كلا، فأخذها وذهب بها إلى بيت أبيها وفي الطريق عثرت رجل الرجل في حجر فانكسرت ساقه، فحمل إلى البيت، فعادت معه، فبعد أن وضعت رجله في الجبيرة، قال لها: عندما أشفى بإذن الله وأستطيع الحراك والتحرك على قدمي سوف أذهب بك إلى أبيك لأقضي لك ما تريدينه من طلاق، قالت: كلا، أنا لا أطلب الطلاق، وإنما عشت معك ستة أشهر فما رأيتك قد ابتليت ابتلاء من الله فخشيت أن تكون بعيداً عن الله عز وجل، فلما جاء الابتلاء علمت أنك قريب من الله رب العالمين، فسوف أعيش معك ولا أطلب الطلاق مرة أخرى.
هذا مقياس الصالحات والصالحين، إن مر عليك شهر أو أربعون يوماً - كما قال لنا الصالحون - ولم تأتك مصيبة فأعد حسابك مع الله رب العالمين.
اللهم اجعلنا من الشاكرين عند النعمة، ومن الصابرين عند البلية، إنك يا ربنا على ما تشاء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وبعد:
أخا الإسلام، الله عز وجل يريد بنا ومنا قضاء وقدراً، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا!
معنى هذا الكلام: أن الله عز وجل أراد منا عملاً وأراد بنا قضاء وقدراً، فما أراده بنا وهو القضاء والقدر طواه عنا فلم يظهره لأحد، عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً، إلا من ارتضى من رسول.
ثم أراد منا عملاً، أراد منا تكليفات شرعية، فلماذا نشتغل نحن بما أراده بنا من قضاء وقدر عما أراده منا من عمل؟! يجب أن نشتغل بما أراده منا وما طلبه منا من تكليفات وأوامر.
القضاء من الله عز وجل قضاء مبرم، وقضاء معلق، القضاء المبرم كالموت، فلان سيموت في الساعة الفلانية في الدقيقة الفلانية في الثانية الفلانية، في المكان الفلاني، بالطريقة الفلانية، لا يتقدم الإنسان خطوة إلى الأمام ولا يتأخر خطوة إلى الخلف، لا يتأخر ثانية ولا يتقدم ثانية، لا يبعد عن المكان الذي قدر له أن يموت فيه.
إذاً: يجب أن يعترف الإنسان ويوقن ويؤمن بقضية القضاء والقدر، هذا هو القضاء المبرم.
وإني لأعجب من كثير من المسلمين عندما يدعون لبعض المسلمين بطول العمر، دعت السيدة رملة أم حبيبة زوج رسول صلى الله عليه وسلم: فقالت: (اللهم زد في عمر زوجي رسول الله، وعمر أبي
هذه مسألة لا نقاش فيها، لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد العمر إلا بر الوالدين، اللهم اجعلنا بررة بآبائنا أحياءً وأمواتاً يا رب العالمين.
الأمر الثاني في القضاء: هو القضاء المعلق، كأن يقضي الله عز وجل بمرض إنسان أو بفقره، ولكن العبد يدعو كما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه) .
قد ييئس مريض من مرضه، فمثلاً: نرى في أوروبا كيف ينتحر المرضى، يقيمون هناك مؤتمرات يقولون فيها: هل يصح أن نقتل المريض الميئوس من شفائه أم لا نقتله.
لم يصلوا إلى حل إلى الآن، لكننا نقول: طالما العبد مؤمناً وموقناً بقضاء الله عز وجل وأنه كلما ازداد مرضه ازداد قربه إلى الله رب العالمين، وكلما عجز الطب والأطباء اقترب قلب العبد المؤمن من الطبيب الشافي المعافي سبحانه وتعالى.
يا رب أليس الشفاء من عندك؟ قال: نعم يا موسى، قال: فماذا يصنع الأطباء؟ قال: يأخذون أرزاقهم ويطيبون نفوس عبادي حتى يأتي شفائي أو قضائي.
إنما الشافي هو الله رب العالمين، لا شافي للأمراض إلا الله، ولا مفرج للكرب إلا الله، ولا كاشف للغم إلا الله، ولا شارح للصدر إلا الله، ولا موفق للخيرات إلا الله، فوحدوا رب العباد توحيداً صادقاً، واذكروه ليل نهار، وتوكلوا عليه حق التوكل، يرزقنا رب العباد عقيدة صافية صادقة، ونية صادقة نقية.
فاللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا، سامحنا وتقبل منا.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت يا رب أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.
اللهم اشف كل مريض، واهد كل ضال، وتب على كل عاص، ووفق كل مسلم لما تحب وترضى.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم يا رب تسليماً كثيراً.
بسم الله الرحمن الرحيم.
وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر