وبعد:
فإن من مراتب الهداية: الرضا باختيار الله لك في صغير الأمر وكبيره، وكلنا يثق أن رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت شديدة في إيمان عمه أبي طالب، ولم يسلم من أعمامه العشرة إلا اثنان، واحد أسلم مبكراً، والآخر أسلم قبل الفتح بعام أو عام ونصف.
فعمه حمزة أسلم في بداية الدعوة، وهو أسد الله وأسد رسوله رضي الله عنه، وأخو الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وكان عمره يقارب عمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك كان عماً وأخاً وصديقاً، وقد تأثر النبي صلى الله عليه وسلم تأثراً شديداً عندما رأى بطنه قد بقرت، وكبده قد ليكت، وأنفه قد جدع، وجثته قد مثل بها.
العم الثاني: العباس، وكان كبير مكة وحكيمها بعد أخيه أبي طالب ، ولم يسلم إلا قبل فتح مكة.
وسوف نعمل مقارنة بسيطة ونتحدث عن مراتب الهداية، وأنه لا يختار مع اختيار الله.
فسنجري مقارنة بين عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب وسلمان الفارسي رضي الله عنه.
ومن أعمام النبي صلى الله عليه وسلم أبو لهب ، واتفقنا من قبل أن اسمه عبد العزى ، وكنيته أبو لهب، وكني بذلك لأن وجهه كان أبيض بحمرة شديدة، فكأن الشرر يتطاير منه.
وسنقارن بين أبي لهب وبلال الحبشي .
وسوف نقارن بين أبي جهل وسيدنا صهيب الرومي الله رضي الله عنه.
وإن سئل أبو طالب : ابن من؟ قال: ابن عبد مناف، وإذا قيل له: ماذا تملك؟ قال: أملك الإبل والضياع والأرض والعبيد، وإن قيل له: ما مكانتك؟ قال: زعيم قريش، فإن قيل: طريقك مع من؟ قال: مع قومي.
واسأل هذه الأسئلة لسيدنا سلمان: ابن من؟ فسيقول: ابن الإسلام.
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
فأنا لست من قيس ولا تميم، أنا ابن الإسلام، وما أحلاه من أب.
وكان هناك رجل شاعر تاريخي اسمه: مهيار الديلمي ، قال قصيدة جميلة جداً، قال فيها:
أعجبت بي بين نادي قومها أم سعد فمضت تسأل بي
يعني: تسأل عنه.
قال:
لا تخالي نسباً يخفضني أنا من يرضيك عند النسب
قوميَ استولوا على الدهر فتىً ومشوا فوق رءوس الحقب
وأبي كسرى على إيوانه أين في الناس أب مثل أبي
قد قبست النبض من خير أب وقبست الدين من خير نبي
وضممت الفخر من أطرافه سؤدد الفرس ودين العرب
يعني: هو موفق أنه أخذ السلالة من فارس، وأخذ الدين من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلو سئل سلمان لقال: أنا ابن الإسلام، وإن قيل له: ما مالك؟ لقال: مالي عند الله كثير، فإن قيل: وإلى أين الطريق يا سلمان؟ قال: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42].
وإن قيل: بم تفخر يا أبا طالب ؟ لقال: أنا من بني عبد المطلب، وإن قيل: وبم تفخر يا سلمان ؟! لقال: (
إذاً: فـ سلمان الذي أتى من آخر أطراف الأرض انضم للأسرة الشريفة، أسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: ( سلمان منا) وذلك عندما قال المهاجرون: سلمان منا، فقد جاء مهاجراً مثلنا، وقال الأنصار: بل سلمان منا، فهجرته جاءت من بلاد فارس إلينا، فتبسم الحبيب صلى الله عليه وسلم وقال: (
إن من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم أبو لهب ، وهو العم الوحيد الذي كانت عداوته شديدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت عداوة أبي جهل إلا من أجل العصبية القبلية، فقد كانت قبيلته تنازع بني عبد مناف في الرئاسة في قريش.
قال أبو جهل: تسابقنا نحن وبنو عبد مناف، فأطعموا وأطعمنا، وكسوا وكسونا، وقاتلوا وقاتلنا، حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي! ومن أين نصل إلى هذا السؤدد؟ والله لا نؤمن به أبداً!
فـأبو جهل كانت عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم عصبية، لكن أبا لهب كان عمه، وكان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم عليه.
فكان هناك سبعة يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم في الحرم، ومن ضمنهم: أبو لهب وأبو جهل وعقبة بن أبي معيط ، وكان عقبة هذا -والعياذ بالله- يقلد النبي صلى الله عليه وسلم ويسخر بتقليده منه، وكان يقول: إن محمداً يتكلم هكذا، ويصنع بعينه هكذا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا داهمه الهواء يغمض عينيه اتقاء التراب، فكان يقلده ويقول: هذه حركة عينه دائماً، فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم إليه وقال: (دائمة إن شاء الله)، فما زالت عينه تختلج إلى أن مات.
ولما أرادوا دفن أبي لهب رموا عليه الحجارة وما استطاعوا أن يقتربوا منه؛ لرائحته النتنة.
أما صهيب فقد أتى من بلاد الروم فقيراً لا أهل له إلى مكة، فأراد أن يلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم، فلما أراد الخروج إلى المدينة لقيه نفر من قريش فقالوا له: يا صهيب ! جئتنا فقيراً وعشت بيننا، أو تريد الآن أن تهاجر؟! قال: والله إنكم لتعلمون أني أجيد الرمي، ولن تقتربوا مني إلا وقد قتلت منكم ستة أو سبعة، فماذا تريدون؟ هذا بيتي خذوه بما فيه، فأخذوا بيته وتركوه يهاجر، فوصل إلى المدينة بعد أربعة أيام وقد أوشك أن يموت جوعاً، فدخل المسجد، فرأى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرات فأخذها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ربح البيع
وأما أبو جهل فقد كانت عداوته شديدة للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إنه لما قتل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قتل فرعون هذه الأمة).
ففي غزوة بدر قال أبو سفيان : إن القافلة نجت ولا حاجة لنا إلى قتال محمد وأصحابه، فقال أبو جهل : والله لنقيمن هناك عند ماء بدر، وننخر الجزر، وترقص القيان لنا، ونمكث لنشرب الخمر ثلاثة أيام، فتسمع العرب بنا، فما تزال تهابنا أبداً، فحاول الوليد بن المغيرة إقناعه بالرجوع -وكان رجلاً عاقلاً- فأبى، فقتل في هذه الغزوة.
ولننتقل إلى بلال ، وهل هناك أحد في العالم الإسلامي لا يعرف بلالاً ؟
هو ليس من مكة ولا من المدينة وليس له مركز اجتماعي، وإنما هو عبد حبشي أتى من الحبشة خادماً لرجل من قريش، فعذبوه فرق له أبو بكر وأعتقه؛ ولذلك يقول عمر بن الخطاب : أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا.
وسيدنا بلال بكعبه الأسود يقف فوق الكعبة ويؤذن، فانظر إلى إرادة العبد وإرادة الله سبحانه أيهما تغلب؟!
إذاً: فمن مراتب الهداية أن ترضى بإرادة الله سبحانه فيما أراد.
قال: جاءت العنكبوت فنسجت على منوال الستر، فأظلت المطلوب -أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأضلت الطالب- أي: من يبحث عنه صلى الله عليه وسلم.
ولما لحق سراقة بالركب الكريم أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سهماً من سهامه فغارت أقدام فرسه في الرمال، والقصة معروفة، وعندئذ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا سراقة ! ما بالك بسواري كسرى ، يبشره بسواري كسرى إن كتم عنه وهو مطارد من مكة إلى المدينة؛ لأن الله أراه ما لم يرنا نحن، وهذه إرادة الله سبحانه.
إذاً: من مراتب الهداية أن ترضى بإرادة الله لك، اللهم اجعلنا من الراضين بما أردت لنا يا رب العالمين!
فالرضا يكون عن الله وبالله وعما يريد الله سبحانه وتعالى، والعبد ليس له اختيار في أي أمر قضاه الله سبحانه، قال تعالى: مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص:68]، وإنما لك التفويض والتسليم؛ لأنك مفوض، ويجب أن تفوض الأمر لصاحب الأمر، ولو فوضت الأمر لصاحب الأمر لقلت الأسباب عندك، فلو كان لديك ولد صغير عمره سنة ويريد أن يصعد فوق الطاولة، فيرفع يديه للصعود فإذا بأبيه يأخذه ويضعه فوق الطاولة، لكن لو كان عمره أربع سنوات ويريد أن يصعد فوق الطاولة فإن الأب يقول له: اصعد أنت بنفسك فأنا متعب، فإذا بالابن يضع الكرسي ويصعد فوقه ويمسك الطاولة، وبذلك يكون قد عمل مجهوداً.
لكنه لما كان صغيراً اعتمد على أبيه أو على أمه أو على من هو أكبر منه فقلت الأسباب، فما بالك بمن يعتمد على رب الأسباب؟!
فقد تنصح أخاك للصلاة فيرفض، ويستمر على ترك الصلاة عشرين سنة، وفجأة مشى فلقي زحاماً، فأخذ يقول: ما لهؤلاء المجانين؟ فيقال له: إنهم يصلون، فقال: وهل المصلون يشكلون زحاماً! سأدخل وأقول كلاماً أؤدب به إمامهم، فدخل عليهم فوجد الكلام برداً وسلاماً في قلبه، فأصبح أول المؤمنين.
فالله عز وجل له في الكون يد تعمل، ولكن العبد يتعجل عمل يد الله، فإذا ظلمك ظالم فإنك تريد أن يعاقبه الله لتشفي غليلك، لكن لله عز وجل أمر آخر وإرادة أخرى.
فأنت تتمنى أن تنزل على الظالم كارثة، أو تأتي عليه مصيبة فتمحقه، لكن لله أمر آخر، فمن الممكن أن يهديه الله ويجعله من الناصرين لك، ومن الممكن أن يهديه الله على يديك، فلو سلمت أمرك لله لرضيت بقضائه، واعلم أن السخط دليل على عدم الرضا، والسخط يأتي بالهم والغم وضيق في الصدر، ويأتي بالاكتئاب؛ لأن الذي لا يرضى بقضاء الله يقول: انظروا أصحاب المناصب: هذا مدير مجلس إدارة، وهذا رئيس شركة، وهذا موظف في الوزارة، وهذا رئيس وزراء.
فاعلم أن المناصب لن تشفع لابن آدم؛ لأنه كشارب البحر لا يزيد بالشرب إلا عطشاً.
فنظر الرجل إليه وقال: أشهد أن هذا ابن رسول الله.
إذاً: فمسألة الرضا مسألة تعود على العبد بانشراح الصدر، وعدم الرضا يجعل العبد يتسخط؛ ولذلك تجده جالساً في مكتبه وهو يفكر في طعام أبنائه، أو كيف يحل مشاكله مع أقسام الشرطة وغير ذلك.
الأمر الثاني: الرزق، فالعبد قد تكفل الله برزقه، والإيمان رزق، والزوجة رزق، ونعمة السكن رزق، والهدوء رزق، والعلم هذا من أكبر أنواع الرزق، فيجب على الإنسان أن يحمد رب العباد عليه، لكن الشيطان يعظم في وجه الإنسان مسألة الفقر، ومسألة الصلاة، ويزين له النوم، والله سبحانه يقول: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168].
ومن رزق الله عليك أن يعطيك ولداً طائعاً يعرف ربه، وبنتاً مطيعةً تعرف ربها، وزوجة تصبر عليك وتعاملك بالتي هي أحسن، فكل هذه أنواع الرزق وهو مكتوب في الأزل، لكن هناك أناس يشترك أحدهم في عطاءات ومناقصة، ويجهد نفسه ويخسر، ويرجع متعباً وفي فمه سيجارة، ولا يريد امرأته أن تكلمه وهكذا، فهذا المسكين لو كان واعياً لعلم أن هذا الرزق ليس مكتوباً له، فيرضى بقضاء الله وإرادته، فأسباب الرزق بيد مسبب الرزق، والرزاق هو الله سبحانه وتعالى، فالعمر والرزق ليس فيهما نقاش.
يحكى أن الحسن البصري رأى رجلاً واضعاً كفه على خده وعليه علامات الهم، فسأله الحسن: مالك؟ فأشاح الرجل في وجه الحسن ، فقال له: يا بني! هل يجري شيء في هذا الكون على غير مراد الله؟ قال له: لا، قال له: يا بني! هل يأتيك ملك الموت لينقص من عمرك؟ قال له: لا، قال: أو ينقص درهماً من رزقك؟ قال له: أبداً، قال: فعلام الحزن إذاً؟
فاعمل واطرق الأسباب، واترك الأمور لمقدر الأقدار عز وجل.
الأمر الثالث: السعادة أو الشقاوة، فإن الملك يكتب للجنين وهو في بطن أمه رزقه وعمله وأجله وشقي أم سعيد.
فقد يرسل الله إلى من رضي الله عنه في أواخر أيامه ملكاً يقومه ويرشده ويهديه، فيموت على خير حال، فيقول الناس: رحم الله فلاناً لقد مات على خير حال.
اللهم اجعلنا من أهل الرضا، واجعلنا من الذين رضيت عنهم ورضوا عنك، اللهم اجعلنا من الذين يرضون بكل شيء قدرته لهم يا رب العالمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل بيننا شقياً ولا محروماً.
واجعل أول يومنا هذا صلاحاً، وأوسطه نجاحاً، وآخره فلاحاً.
ولا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا غانماً سالماً لأهله رددته.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر