أما بعد:
فلابد أن نعرف أن للاستقامة شروطاً محددة، وعلامات نفسية تستطيع أن تعرف بها هل أنت من أهل الاستقامة أم أنك مازلت على بداية الطريق، يا ترى! هل خطوت خطوتين داخل الطريق، أم قطعت شوطاً طويلاً أو قصيراً؟!
فالاستقامة لها شروط: فأول شرط من شروط الاستقامة: صدق الإيمان بالله عز وجل:
مشى الأصمعي مرة في السوق، فوجد ابنته الصغيرة تحمل إناءً وقد وضعت فيه رماناً، فمشى شخص وسرق رمانة من الرمان، فلقيه شخص يطلب صدقة فقال له: خذ هذه الرمانة، فقال له الأصمعي: لماذا صنعت هذا؟ فقال: لقد أخذتها بسيئة، وأعطيتها بعشر حسنات! فهذا سارق يسرق لله، وفي داخله نفحة من الإيمان.
يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) يعني: لحظة ارتكابه للذنب يرتفع عنه الإيمان، لأنه لو وجد الإيمان لوجدت الاستقامة.
كذلك كان إذا دخل الخلاء يقدم رجله اليسرى ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) والخبث: ذكور الشياطين، والخبائث: إناث الشياطين.
وإذا خرج قال: (غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني، وأبقى علي ما ينفعني).
ولذلك دخل رجل على هارون الرشيد وقال له: يا هارون! لو منع منك كوب الماء بكم تشتريه؟ قال: أشتريه بنصف ملكي، قال له: وإذا دخل كوب الماء بطنك ولم يخرج فكم تدفع ونخرج لك البول؟ قال: نصف ملكي الآخر، قال: تباً لملك لا يساوي شربة ماء لم تدخل، وشربة ماء لم تخرج.
وقال هارون الرشيد لـأبي حازم : يا أبا حازم! ما أزهدك! قال: أنت يا أمير المؤمنين أزهد مني، قال له: أنا! قال له: نعم، أنا زهدت في الفاني، وأنت زهدت في الباقي!
أي: أنا زاهد في الدنيا، لكن أنت زاهد في الآخرة!
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول إذا لبس ثيابه: (الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به أمام الناس) وإذا خرج إلى المسجد قال: (باسم الله، التكلان على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي، أو أكسب سوءاً أو أجره إلى أحد من المسلمين) فيخرج وهو في حماية الله.
ويقف على بابك ملك وشيطان، فإن خرجت في سبيل الله يظل الملك معك حتى ترجع، وإن خرجت إلى معصية الله يخرج الشيطان معك حتى ترجع، وإن للملك لمة، وإن للشيطان لمة، أما لمة الملك فإيعاد بالخير، وأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر. والعياذ بالله رب العالمين!
ولذلك يقال: إن شيطان المؤمن وشيطان الفاجر والفاسق والكافر التقيا، فشيطان المؤمن كان نحيفاً وهزيلاً، وشيطان الكافر كان سميناً، فقال له: ما لك نحيف؟ فقال له: وما لك أنت سمين؟ فقال: أنا جالس مع شخص عندما يأكل لا يسمي ربنا، ولا يستعيذ بالله مني؛ فآكل معه، وعندما يشرب أشرب معه، وعندما ينام أنام معه، فأنام وصحتي جيدة.
لكن أنت ما لك هكذا نحيف؟ قال له: أنا أعيش مع شخص إذا أكل سمى الله فلا آكل، وإذا شرب سمى الله، فلا أشرب وإذا دخل البيت سمى الله، فأطرد خارج البيت، وأنام في البرد؛ ولذا بقيت هكذا نحيفاً.
فيا ترى، هل تريد أن تجعل الشيطان نحيفاً أم غير ذلك؟!
سيدنا علي رضي الله عنه دعا له الرسول دعوة فقال: (اللهم قه شر الحر والقر)، والقر: هو البرد، فكان سيدنا علي في عز الصيف لا يحس بالحر، وفي عز الشتاء لا يحس بالبرد!
وسيدنا الحبيب كان يحب علياً ، وكان سيدنا علي أشجع العرب، كان يشبه سيدنا الحبيب في الطول والعرض، فلم يكن طويلاً ولا قصيراً، ولا نحيفاً ولا سميناً، وكان ربعة بين الرجال، ولكن كان الحبيب أبيض مشوباً بحمرة، وكان سيدنا علي يميل إلى السمرة هو وسيدنا عثمان ، وكان سيدنا عمر أبيض، وكذا سيدنا أبو بكر ، لكن سيدنا أبو بكر كان قصيراً غزير الشعر، إذا تركه ينزل على أذنيه من كثرته وغزارته، وسيدنا عمر كان أصلع، وسيدنا عثمان كان متوسط الشعر، وسيدنا علي كان أصلع ليس له إلا شعيرات في مؤخرة رأسه رضي الله عنهم جميعاً.
وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائماً يداعب علياً كرم الله وجهه.
ونحن نقول: كرم الله وجهه؛ لأنه لم يسجد لصنم قط، وقد أسلم علي ولم يكن قد بلغ الحلم، فلما رآه أبوه أبو طالب يصلي قال له: ماذا تصنع يا علي ؟ قال له: اتبعت دين محمد، فقال له أبو طالب : والله! لا يأمرك إلا بخير، فكن معه يا علي .
ومن أجل هذا يخفف ربنا عن أبي طالب العذاب بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: إن أخف الناس عذاباً في جهنم أبو طالب وقال: (يلبس نعلين من نار يغلي منهما دماغه).
صلى رجل وراء أبي حنيفة ، وأبو حنيفة كان يخفف بالمسلمين في صلاة الصبح، فيقرأ بالثمانين آية من سورة البقرة، هذا وهو يخفف، فالرجل أول مرة يصلي، فبعدما أكمل الصلاة -وكان معه عمل- وجد الشروق قد قرب فقال: ما هذه السورة التي قرأها الشيخ؟ قالوا له: سورة البقرة.
ففي اليوم الثاني قال: أنا سأصلي وأمشي على طول، وأبو حنيفة في اليوم الثاني كان مريضاً فقرأ بسورة الفيل، فلما بدأ يقرأ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1] أخذ الرجل الحذاء ومشى وقال: قرأ أمس سورة البقرة ومكثنا إلى غاية الشروق، فكيف وهي سورة الفيل؟!
قد تقول: هذا مكروه يعني: ليس حراماً، لكن انظر إلى من يكره هذا الفعل، أنا لو أعرف أن أبي أو مديري في العمل يكره شيئاً فأنا لا أعمله؛ لأنه يضيق ذرعاً مني، فما بالك بالذي يكرهه رب العباد سبحانه؟! فمن دلائل الاستقامة لدى العبد أن تصير الصغيرة لديه كبيرة، قال تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15].
ولذلك نحن نغبط أبناءنا الشباب الذين في سن الخامسة عشرة والسادسة عشرة والعشرين عندما يسمع القرآن ويبكي، كلنا نكون فرحين به؛ لأنه شاب يباهي رب العباد به الملائكة، وهذا الشاب هو الذي ينزل الله الخير على مصر أو على بلاد الإسلام بسببه.
اللهم اجعلنا من أهل الاستقامة يا رب العالمين، اللهم اجعل أول يومنا هذا صلاحاً، وأوسطه نجاحاً، وآخره فلاحاً، لا تدع لنا فيه ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا طالباً ألا نجحته، ولا مجاهداً في سبيلك إلا نصرته، ولا شهيداً إلا رحمته وأدخلته جنتك يا رب العالمين!
كما نسألك يا مولانا أن تنصر الإسلام وأن تعز المسلمين، ولا تجعل لكافر على مؤمن سبيلاً، لا تدع لنا حاجة من حوائج الدنيا لك فيها رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا أكرم الأكرمين!
اللهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم أزل عن أبنائنا وبناتنا شياطين الإنس والجن، واجعلنا لك من الذاكرين والذاكرات، والقانتين والقانتات، والعابدين والعابدات، يا رب العالمين!
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر