[ق:17].
هذا توضيح وبيان لكون المراد من قوله تعالى: ((ونحن أقرب إليه)) أي: أقرب بملائكتنا، وذلك؛ لأنه قال بعده مباشرة ((إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ)) أي: ونحن أقرب إلى الإنسان من وريد حلقه حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يلفظ به.
فقوله تعالى: ((إذ يتلقى)) ظرف لقوله: ((ونحن أقرب إليه)).
وفيه إيذان بأنه سبحانه وتعالى غني عن استحفاظ الملكين، فإنه أعلم منهما، ومطلع على ما يخفى عليهما، لكن الله سبحانه وتعالى -لحكمة- جعل الملكين يكتبان ويدونان على الإنسان أعماله، والحكمة هي إلزام الحجة، ففي الآخرة سوف تكون هذه وثيقة مسجلاً عليها أعمال الإنسان التي كتبها الملكان.
ثم فيها ما يرغبه ويرهبه في الدنيا؛ لأن الإنسان إذا استحضر أن لديه ملكين عن اليمين وعن الشمال يكتبان أعماله؛ فإن ذلك يكون أدعى إلى أن يرغب في فعل الخير، وأن يرهب من فعل الشر.
هذه الآية والتي بعدها تثبت وجود هذين الملكين اللذين يسجلان أعمال الإنسان، إلا أنه من المؤسف جداً كثرة النقول في تفسير
القاسمي عن
القاشاني فيما يسمى بالتفسير الإشاري الذي هو مليء بالتأويلات البعيدة المخالفة لمنهج السلف، والإنسان من شدة تعجبه يشك ويقول: هل دس أحد في تفسير
القاسمي هذه الأشياء التي يكثر فيها النقل المخالف للمنهج السلفي؟
ففي الأجزاء الأخيرة من تفسير
القاسمي نلاحظ كثرة النقل عن
القاشاني أمثال هذه التأويلات التي تستفز كل معتز بمنهج السلف في التعامل مع النصوص الشرعية.
فقد نقل عن
القاشاني كلاماً غريباً وهو قوله: والمتلقي القاعد عن اليمين هو القوة العاقلة العملية المتمثلة بصور الأعمال الخيرية، والمتلقي عن الشمال القوة المتخيلة التي تتمثل بصور الأعمال البشرية والبهيمية والسبعية ... إلى آخر هذا الكلام العجيب!
ففيه تأويل الملك بأنه القوة الحاثة على الخير، والشيطان بالقوة الحاثة على الشر، ثم بين
القاسمي أن
الغزالي سبقه إلى هذا المعنى، وعبر عنه بالسبب، وقال: إنه يسمى ملكاً، فيقول
الغزالي في الإحياء في شرح عجائب القلوب: وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان، فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكاً، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً، ... إلى آخره.
وهذا كالمستجير من الرمضاء بالنار! حيث استدل بكلام
الغزالي، ونحن نعلم كيف كثر اضطرابه، و
الغزالي مصدر غير مأمون في تلقي أمور العقيدة على الإطلاق، وهو رحمه الله وإن كان قد وفق في الإخلاص والصدق؛ لكن لم يكن له حظ وافر من الصفة الأخرى المهمة وهي الصواب، فالإخلاص لا شأن لنا به، وعلامات الإخلاص والصدق لا شك أنها بادية في سيرة
الغزالي رحمه الله تعالى، لكن هل أصاب؟
قال الله:
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2] أي: أخلصه وأصوبه، فالإخلاص شرط، لكن بقي شرط آخر وهو المتابعة وموافقة المنهج الصحيح، فـ
الغزالي أضاع معظم عمره في التجول باحثاً عن الحق بين الإسماعيلية والباطنية والفلاسفة والصوفية وكذا وكذا، وقد كان الحق أقرب إليه من حبل الوريد، عند أهل الحديث، فـ
الغزالي مصدر غير مأمون للتعلم والتلقي؛ لأن
الغزالي صاحب مدرسة منحرفة مخالفة تماماً لمنهج السلف.
وهذا كلام قد يصدم بعض الناس، لكن هي نصيحة لا بد منها، فحينما نأخذ كتب
الغزالي نشعر أننا نمشي على أرض مزروعة بالأشواك، فلا بد من الحذر الشديد، كيف وقد شحن كتابه المسمى بالإحياء بالكذب على رسول الله عليه السلام، ونقول كما قال
ابن الجوزي : لا نقول إنه افتراها لكنه ارتضاها! يعني: هو ما وضع هذه الأحاديث الموضوعة، لكنه قرأها وأثبتها في كتابه دون تمحيص، ودون تحر وتحقيق، فالكتاب من أكثر الكتب المشحونة بالأحاديث الموضوعة والمكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فما قيمة الاستدلال بكلام
الغزالي ، وأنه يقول: إن الخاطرة والفكرة التي تدعونا إلى الخير تسمى ملكاً، والفكرة التي تدعونا إلى الشر تسمى شيطاناً؟! هذا مصادم تماماً لنصوص الوحيين في حقيقة الملكين اللذين يكتبان أعمال الإنسان، وحقيقة الشيطان.
العجيب أنه في نهاية كلام
القاشاني وكلام
الغزالي رحمه الله تعالى نجد
القاسمي يعلق قائلاً: والبحث كله غرر تنبغي مراجعته! فهذا نفس غريب جداً بالنسبة لتفسير
القاسمي ، و
القاسمي إمام سلفي محقق، فلا ندري ما مصدر أو ما سبب الميل في هذه الأجزاء الأخيرة لحكاية هذه التأويلات بدون إبطالها، فالاعتقاد الصحيح أن المتلقيين عن اليمين وعن الشمال ملكان حقيقيان، وليسا عبارة عن القوة الخيرية التي تحثنا على الخير أو تؤزنا إلى الشر.
يقول العلامة
الشنقيطي رحمه الله تعالى:
قوله تعالى: ((إذ يلتقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد))، قوله: (إذ) منصوب بقوله: (أقرب) أي: نحن أقرب إليه من حبل الوريد في الوقت الذي يتلقى فيه الملكان جميع ما يصدر منه، والمراد أن الله الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، هو أقرب إليه من حبل الوريد في وقت كتابة الحفظة أعماله، فهو غني عن كتب الأعمال؛ لأنه أقرب إليه من حبل الوريد، والله غني عن أن يدون الملكان هذه الأشياء؛ لأن الله سبحانه وتعالى عالم بما كان، وبما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، لا يغيب عنه شيء.
أي: فالمعنى أن الله لا حاجة له لكتب الأعمال؛ لأنه عالم بها لا يخفى عليه منها شيء، وإنما أمر بكتابة الحفظة للأعمال لحكم أخرى، فالحكمة من كتابة الأعمال مع أن الله عز وجل غني عن أن تكتب الملائكة هذه الأعمال: هي إقامة الحجة على العبد يوم القيامة كما أوضحه الله بقوله:
وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا *
اقْرَأْ كِتَابَكَ [الإسراء:13-14] اقرأ بنفسك كتابك حتى تقوم عليه الحجة،
كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14].
ومفعول التلقي في الفعل (يتلقى) والوصف (المتلقيان) محذوف، والتقدير: يتلقيان جميع ما يصدر عن الإنسان، فيكتبانه عليه.
قال
الزمخشري : والتلقي: التلقن بالحفظ والكتبة؛ لأن الملك يتلقى عمل الإنسان عند صدوره منه فيكتبه عليه، والمتلقيان هما الملكان اللذان يكتبان أعمال الإنسان، وقد دلت الآية الكريمة على أن مقعد أحدهما عن يمينه ومقعد الآخر عن شماله.
(والقعيد) قال بعضهم: معناه القاعد.
والأظهر أن معناه المقاعد -يعني المجالس- وقد يكثر في العربية إطلاق الفعيل وإرادة المفاعل كالجليس بمعنى المجالس، والأكيل بمعنى المؤاكل، والنديم بمعنى المنادم.
وقال بعضهم: القعيد هنا هو الملازم، وكل ملازم دائماً أو غالباً يقال له قعيد، ومنه قول
متمم بن نويرة التميمي : (قعيدك ألا تسمعيني ملامة)، قعيدك. يعني: الذي يلازمك.
والمعنى في قوله: ((إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد)) عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فهما ملكان، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه.
وهذا واضح، فهو ليس قعيداً واحداً عن اليمين وعن الشمال، وإنما هذا أسلوب من أساليب اللغة العربية: ((عن اليمين وعن الشمال قعيد)) فهما ملكان، لكن حذف الأول لدلالة الثاني عليه، فلم يقل: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، وإنما قال: ((عن اليمين وعن الشمال قعيد)) فحذف الأول لأن الثاني يدل على وجوده، وهو أسلوب عربي معروف.
قال: وأنشد له
سيبويه في كتابه قول
الأزرق بن طرفة الباهلي :
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومـن أجـل الطوي رمـانـي
يعني: كنت منه بريئاً ووالدي بريئاً، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه.
ومنه قول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بـما عنـ دك راض والرأي مختلف
يعني: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راض والرأي مختلف، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه.
ومنه قول
ضابي بن الحارث البرجمي
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
هو يمتدح نفسه بالشرف، فيقول: فمن يك أمسى بالمدينة رحله يعني: إذا الضيف حل بمدينتنا فإني وقيار -قيار اسم جمله- نكون غريبين، ويصير الضيف هو صاحب الدار كما يقول الشاعر:
يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل
يصح أن نقول: فإني غريب وقيار غريب، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه.
وادعى البعض أن قوله في الآيات: (قعيد) هي التي أخرت.
أي: بعض الناس قالوا: إن قوله تعالى ((إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد))[ق:17] أصلها: عن اليمين قعيد وعن الشمال، فقالوا: إن (قعيد) راجعة إلى الأولى، أي: عن اليمين قعيد، فأما عن الشمال فهي محذوفة يدل عليها ما قبلها، وهذا القول لا دليل عليه ولا حاجة إليه؛ لأن المحذوف إذا صحت الدلالة عليه بالأخير فلا حاجة إلى أن هذا الأخير أصله هو الأول.
والشيء بالشيء يذكر: في سورة المائدة قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى [المائدة:69] (الصابئون) في سورة المائدة معطوفة على منصوب قبلها، والعجيب أن بعض القساوسة ألف كتاباً يطعن فيه في القرآن الكريم، وكعادتهم يؤتون بالمضحكات المبكيات في نفس الوقت، فيزعمون أن القرآن فيه لحن لغوي، وفيه أخطاء نحوية، وذكر هذه الآية.
وآخر يفسر قوله تعالى:
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر:75] فيقول: يعني: حفاة لا يلبسون نعالاً في أقدامهم، يظن أن كلمة: (حافين) بمعنى: حفاة، فهذا لجهلهم.
أبو جهل أو
أبو لهب وغيرهما من الكفار لو وجد أحدهم في القرآن لحناً لغوياً أكانوا يسكتون عليه والقرآن يتحداهم صباح مساء؟! فهؤلاء المساكين الجهلة يظنون أن قواعد اللغة العربية التي وضعت مؤخراً حاكمةً على القرآن الكريم، فنقول: لم يكن علم القواعد موجوداً من قبل، ولا نحو، ولا صرف، ولا غيرها، وكانت اللغة العربية هي الأصل، ثم بعد ذلك وضعت القواعد متأخرة عنها، فكيف تحكم المتأخر على المتقدم؟! وكيف تأتي أنت يا أجنبي عن العروبة وعن الإسلام ثم تحاول أن تطعن في القرآن بوجود اللحن فيه؟!
فمن ضمن المواضع التي أشكلت عليهم هذه اللفظة في سورة المائدة: (والصابئون).
ومما يرد عليهم: أن هذا من أساليب اللغة العربية، إما على الاستئناف كقولك: وكذلك الصابئون، مثل العطف في البيت السابق: فإني وقيار بها لغريب.
فهذا الشعر من كلام العرب فيه هذا الأسلوب من أساليب العرب، لأن الأصل: فإني وقياراً بالنصب.