[قوله: (ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم الله موسى تكليماً، إيماناً وتصديقاً وتسليماً).
قال الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125] ، وقال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164]. الخلة: كمال المحبة، وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الجانبين؛ زعماً منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة! وكذلك أنكروا حقيقة التكليم كما تقدم، وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية، فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط، خطب الناس يوم الأضحى فقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً. ثم نزل فذبحه. وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء التابعين رضي الله عنهم، فجزاه الله عن الدين وأهله خيراً.
وأخذ هذا المذهب عن الجعد الجهم بن صفوان ، فأظهره وناظر عليه، وإليه أضيف قول (الجهمية)، فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها، ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد ، وظهر قولهم في أثناء خلافة المأمون ، حتى امتحن أئمة الإسلام، ودعوهم إلى الموافقة لهم على ذلك.
وأصل هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة، وهم ينكرون أن يكون إبراهيم خليلاً وموسى كليماً؛ لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب، كما قيل:
قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً
ولكن محبته وخلته كما يليق به تعالى كسائر صفاته، ويشهد لما دلت عليه الآية الكريمة ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت
فالخلة تخلل المحبة شغاف القلب، قال الشاعر:
قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً
قوله: (مسلك الروح) يعني: دخلت فيما يدخل فيه الروح، الروح يسري في الجسد وفي العروق وفي الدماء وفي العظم وفي البشر وفي كل شيء ما عدا الشعر، فالروح يسري في كل الإنسان، يقول: إني أخاطب محبوبة كأنها تخللت ما تخلله الروح حتى وصلت إلى شغاف القلب، وبذا سمي الخليل خليلاً.
ويقول الشاعر أيضاً:
لكل اجتماع من خليلين فرقة وكل الذي دون الممات قليل
فالخليل: هو المحبوب.
وقال الله تعالى حكاية عن بعض الكفار في النار: يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا [الفرقان:28] يعني: محبوباً.
الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، يعني: محبوباً، والنبي صلى الله عليه وسلم له أخلاء محبوبون، ولكن المحبة القوية الخالصة كانت بينه وبين ربه، فربه تعالى قد اتخذه خليلاً، وهو قد أحب ربه تلك المحبة التي هذه نهايتها، وهذه غايتها، فبقي قلبه ممتلئاً بتلك المحبة التي هي الخلة، ليس فيه موضع لغيره، وهكذا يجب على كل مؤمن أن يكون قلبه ممتلئاً بمحبة ربه، المحبة التي لا ينازعها غير محبة المحبوب.
الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، وأحبه هذا النوع من المحبة، وإبراهيم كذلك أحب ربه المحبة التامة التي هي أعلى أنواع المحبة، ولما وهبه الله ولده إسماعيل أحبه كما هو معلوم أن الولد محبوب في النفس، وأن النفس تميل إليه وتحبه محبة طبعية، محبة شفقة وحنان، فلما تعلق قلب إبراهيم بولده وأحبه غار الرب تعالى على خليله أن يكون في قلبه موضع لغير ربه، وأن يكون قلبه منشغلاً بربه، فهو يريد ألا يكون فيه أية محبة صادقة لغير الله تعالى، فعند ذلك امتحنه بذبح ولده، فلما استسلم لذلك، والتزم بأن يطيع ربه في هذه المحنة، وأن يذبح ولده؛ خرج ذلك الجزء الذي في قلب إبراهيم من المحبة لولده، وذلك الاشتراك الذي كان فيه من محبة الولد، وصفا قلب إبراهيم لربه، وعرف ربه من قلبه أنه ممتلئ بمحبة ربه، وأنه لا يقدم على محبته محبة مال ولا ولد ولا أخ ولا خليل ولا غير ذلك، فعند ذلك نسخ الله هذا الأمر كما سمعنا،وفداه الله بذبح عظيم.
فالمحبة عامة للمؤمنين، والخلة خاصة بالخليلين، وهي من الله تعالى.
صفة الخلة وصفة المحبة عموماً، أنكرتها الجهمية من الجانبين، فقالوا: الله لا يُحِب ولا يُحَب، أنكروا أن المؤمنين يحبون ربهم، وأنكروا أن الله يحبهم، لماذا؟
يقولون: إن المحبة لا تكون إلا بين اثنين بينهما تجانس، فالإنسان يحب إنساناً لأنه إنسان؛ ولأن بينهما تجانساً، وليس بين الرب وبين الخلق تجانس، يقولون: الرب قديم، والإنسان حادث، فما دام أن بينهما هذا التفاوت فلا يمكن أن يكون بينهما هذه المحبة التي هي خاصة بالمتجانسين.
هذه شبهة، ولا شك أنها شبهة باطلة، فالمؤمنون يجدون في قلوبهم المحبة، ويجدون من ربهم آثار هذه المحبة، فالله تعالى يحب عباده، ومن آثار هذه المحبة: أنه ينصرهم، ويكرمهم، ويؤيدهم، ويقويهم، ويعلي شأنهم، ويعلي كلمتهم، ويوفقهم، ويسدد خطاهم، أليس ذلك دليل من آثار المحبة؟
إذا رأيت إنساناً يكرم رجلاً، ويقدسه، ويقدمه، ويدخله بيته دائماً، ويزوره، ويستزيره، ويهدي له، ويقبل هديته، ويمدحه في المجالس، ألست تستدل على أنه يحبه؟ نعم، وتقول: هذا يحب فلاناً، وبينهما محبة.
نحن نشهد آثار رحمة الله تعالى، نشهد أنه يوفق بعض عباده، وأنه ينصرهم ويؤيدهم، ويقويهم ويقوي عزائمهم، ويقوي قلوبهم، أليس ذلك من آثار المحبة؟
بلى؛ هذا دليل على أنه أحبهم حيث أظهرهم وقواهم ونصرهم وأيدهم، كما حصل لأولياء الله تعالى في كل مكان وزمان.
إذاً: نستدل بآثار المحبة على وجودها، هذا لو لم ترد في الأدلة، فكيف والأدلة الشرعية كثيرة كقول الله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] ، اجتمعت المحبتان: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، وهذا رد على المعتزلة في الجهتين، هم يقولون: لا يحُب ولا يحِب، والآية أثبتت أنه يحبهم وأنهم يحبونه، ومن آثار محبته لهم: أنه ينصرهم ويؤيدهم ويقوي كلمتهم، وآثار محبتهم لربهم: أنهم يعبدونه، ويخلصون العبادة له، ويوحدونه ويطيعونه، ويطيعون أمره، ويعظمون شرعه، ويستعدون للقائه، ويعملون بشرائعه كلها، ويحذرون من أسباب غضبه، ويفعلون أسباب ثوابه، وهذا دليل على أنهم يحبونه.
كذلك أيضاً محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم واجبة عليهم، وهي تابعة لمحبة الله تعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) .
نحن نحب هذا النبي صلى الله عليه وسلم، والكثير يقولون: نحن نحبه، ونشهد أنه رسول الله، لكن لهذه المحبة علامات، فلابد أن تظهر في الذي يحبه علامات المحبة، ومن أبرزها طاعته واتباعه، قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].
والله تعالى خص من عباده من كلمهم، ومنهم: موسى، قال الله تعالى يخاطب موسى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] (اصطفيتك) يعني: اخترتك وفضلتك وميزتك بهذه الأشياء التي منها: أن الله كلمه، ومنها: أنه أرسله وجعله من المرسلين، وغير ذلك مما ميزه الله به.
هذه الآية لا يستطيع المعتزلة أن يؤولوها: (اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي).
أما الآية التي استشهد بها الشارح، وهي قوله الله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] ، ومثلها قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253]، فهذا صريح أيضاً في أن الله كلم موسى، ومعروف أن الكلام هو المسموع؛ لقوله تعالى: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] فهو كلام سمعه، ولكن المعتزلة لما أنكروا هذه الصفة تأولوها تأويلاً بعيداً، فيقولون: إن التكليم هنا: التجريح، (كلمه) أي: جرحه بأظافير الحكمة. وما أبعد هذا التأويل!! ونسوا أن الله تعالى أخبر بأنه اصطفاه بكلامه، وتكرر الآيات يمنع من صرفها إلى هذا التأويل البعيد، ونسوا أن التأويل لا يمكن إلا ببينة وبقرينة ترجح ما تأولوه، وحيث إنه ليس هناك قرينة فلا نقبل منهم هذا التأويل البعيد، وهذا تحريف.
وقد ذكر أن رجلاً جاء إلى أبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة من قراء البصرة، وقال: أريد أن تقرأ هذه الآية هكذا: (وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا) يعني: أن موسى هو الذي كلم الله، وأن الله لم يكلم موسى، فجعل اسم (الله) مفعول به منصوب على أنه هو المكلم.
ماذا قال أبو عمرو رحمه الله؟
قال: هب أني أو غيري قرأها هكذا، فكيف تفعل بقول الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]؟! فبهت ذلك المعتزلي، حيث إن تلك الآية لا تستطيع المعتزلة تأويلها ولا تحريفها، ويسمى هذا: تحريفاً لفظياً.
والحاصل أن المعتزلة أنكروا هاتين الصفتين: صفة الخلة التي هي أعلى أنواع المحبة، وصفة الكلام من الله تعالى الذي هو صفة كمال، أنكروا هاتين الصفتين.
وهذه المقالة -التي هي إنكار هذه الصفات- اشتهرت عن الجعد بن درهم كما ذكر الشارح، وهو الذي ضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط -قرية من قرى العراق- فقتله في يوم العيد وجعله أضحيته يوم العيد، بعد أن أفتى علماء زمانه بكفره، وأنه أصر على قوله وعناده ولم يرجع، ولم يقبل، فبعدما خطب رحمه الله نزل وذبحه.
يقول ابن القيم رحمه الله في النونية:
ولأجل ذا ضحى بجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
ما هي مقالته؟
إذ قال إبراهيمُ ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الدان
المقالة التي أنكروها عليه أنه أنكر أن الله كلم موسى تكليماً، وأنكر اتخاذ الله إبراهيم خليلاً.
هذه المقالة حفظت عن الجعد ، وذكر ابن تيمية رحمه الله أن الجعد أخذها عن طالوت ، وطالوت أخذها عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر المشهور، فصارت مأخوذة عن سحرة اليهود.
والجهم أخذها عن الجعد ونشرها فنسبت إليه، أصبح يقال: جهمية. الجهم كلمة مستبشعة، قالوا: إنها مشتقة من جهنم، مما يدل على أن اسمه قريب من هذه الكلمة.
وذكر الإمام أحمد رحمه الله أنه أخذ مقالته عن طائفة يقال لهم: السمنية.
وعلى كل حال فأسانيد الجهمية تعود إلى السمنية وإلى سحرة اليهود وإلى أشبهاهم، فكيف يترك لها كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعقائد سلف المسلمين؟!
وهنا سؤال مشهور؛ وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فكيف طلب له من الصلاة مثل ما لإبراهيم، مع أن المشبه به أصله أن يكون فوق المشبه؟ وكيف الجمع بين هذين الأمرين المتنافيين؟
وقد أجاب عنه العلماء بأجوبة عديدة، يضيق هذا المكان عن بسطها. وأحسنها: أن آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم، فإذا طلب للنبي صلى الله عليه وسلم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله وفيهم الأنبياء، حصل لآل محمد ما يليق بهم؛ لأنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء، وفيهم إبراهيم لمحمد صلى الله عليهما وسلم، فيحصل له من المزية ما لم يحصل لغيره.
وأحسن من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، بل هو أفضل آل إبراهيم، فيكون قولنا: كما صليت على آل إبراهيم. متناولاً للصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم، بل هو متناول لإبراهيم أيضاً، كما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33] ، فإبراهيم وعمران دخلا في آل إبراهيم وآل عمران، وكما في قوله تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ [القمر:34] فإن لوطاً داخل في آل لوط، وكما في قوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة:49] ، وقوله: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] فإن فرعون داخل في آل فرعون، ولهذا -والله أعلم- أكثر روايات حديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إنما فيها: (كما صليت على آل إبراهيم). وفي كثير منها: (كما صليت على إبراهيم)، ولم يرد: (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) إلا في قليل من الروايات، وما ذلك إلا لأن في قوله: (كما صليت على إبراهيم) يدخل آله تبعاً. وفي قوله: (كما صليت على آل إبراهيم) هو داخل في آل إبراهيم].
سمعنا أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أعطي مثل ما أعطي الأنبياء قبله، فلما اتخذ الله إبراهيم خليلاً اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خليلاً كما تقدم في قوله: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) ، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ من أمته خليلاً، مع أنه قد أحب كثيراً منهم، كقوله لـمعاذ : (إني أحبك) ، وكتسمية زيد : حب النبي صلى الله عليه وسلم، وأسامة حب النبي صلى الله عليه وسلم وابن حبه، ولكن لم يقل: إن هذا خليلي، بل قال: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت
وقد كلم الله موسى تكليماً، وحصل ذلك -أيضاً- لنبينا صلى الله عليه وسلم، كلمه الله لما أسري به، وأسمعه كلامه لما أمره بخمسين صلاة فرجع وقال: (يا رب! خفف عن أمتي. فقال: خففت عنك عشراً، وهكذا تردد إليه حتى صارت خمس صلوات، فقال الله: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي).
ففي هذا أنه كلمه تكليماً، فعلى هذا يكون قد حصل للنبي صلى الله عليه وسلم الخلة التي لإبراهيم، وحصل له الكلام الذي لموسى، وكذلك بقية الفضائل التي لبقية الأنبياء.
الجواب الصحيح أن يقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، بل هو أفضل آل إبراهيم، ولأجل ذلك يذكره الله بقوله: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78] ، ولما كان في الإسراء ولقيه في السماء السابعة قال: (مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح) لأنه من ذريته، فهو من آل إبراهيم، فإذا قلنا: (كما صليت على آل إبراهيم). دخل في ذلك محمد صلى الله عليه وسلم، وطلبنا لآل محمد كما حصل لآل إبراهيم، فلا يحصل هناك إشكال إن شاء الله.
ويتوقف الإيمان بالله تعالى على معرفة الأدلة، قال في الأصول الثلاثة التي كان الأولون يقرئونها أبناءهم: إذا قيل لك: من ربك؟ فقل: ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمته، وإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: عرفته بآياته ومخلوقاته.
هذه أكبر العلامات وأكبر الأدلة: الآيات والمخلوقات، فمن عرف الله تعالى بآياته وعرفه بمخلوقاته آمن به، ومن آمن به آمن بخبره، وآمن بأمره ونهيه، وآمن بوعده ووعيده، وآمن بشرعه وبحكمه، وآمن بقضائه وبقدره، وآمن بكل ما أخبر به، ومتى آمن بذلك وصدق به تصديقاً جازماً ظهرت آثار ذلك على أعماله، فرأيته مسارعاً للأعمال، ورأيته مستكثراً من الصالحات، ورأيته مستعداً للقاء الله، ورأيته عاملاً بما أمر الله، ورأيته مبتعداً عما حرم الله، وإذا رأيته ليس كذلك فاعلم أن تصديقه ضعيف، واعلم أن إيمانه ضعيف، من رأيته يتجشم الكبائر، من رأيته يتساهل بالصغائر ويصر عليها، من رأيته يترك الأوامر ويتساهل بفعل الشرائع، فاعلم أن تصديقه ضعيف، واعلم أن إيمانه مشكوك فيه، فإن الإيمان الضعيف يظهر أثره بقلة الأعمال الصالحة، وباقتراف السيئات وترك المأمورات، والإيمان القوي يظهر أثره على الأعمال، فتجد المؤمن القوي مسارعاً إلى الخيرات مستكثراً منها، يعلم آثارها، ويعلم صلاحها، ويعلم النتيجة التي يجنيها من ورائها، ويعلم أن ثوابها عظيم، وأن أجرها لا يضيع عند الله، ويعلم أن في تركها الحسرة والندامة.
فهذه العلامات التي تعرف بها المصدق من المكذب، تعرف بها الصادق من الكاذب، تعرف بها الإيمان من النفاق.
ومر بنا أن من أركان الإيمان الإيمان بالملائكة، ويدخل في ذلك ما أخبر الله تعالى عنهم، مع أنا لم نرهم، ولكن نؤمن بهم كما أخبر الله، وذلك من الإيمان بالغيب.
فعلى رواية من روى: (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) لا يدخل فيهم لإفراده بالذكر، ولما كان بيت إبراهيم عليه السلام أشرف بيوت العالم على الإطلاق، خصهم الله بخصائص:
منها: أنه جعل فيه النبوة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم نبي إلا من أهل بيته.
ومنها: أنه سبحانه جعلهم أئمة يهدون بأمره إلى يوم القيامة، فكل من دخل الجنة من أولياء الله بعدهم فإنما دخل من طريقهم وبدعوتهم.
ومنها: أنه سبحانه اتخذ منهم الخليلين، كما تقدم ذكره.
ومنها: أنه جعل صاحب هذا البيت إماماً للناس، قال تعالى: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] .
ومنها: أنه أجرى على يديه بناء بيته الذي جعله قياماً للناس ومثابة للناس وأمناً، وجعله قبلة لهم وحجاً، فكان ظهور هذا البيت من أهل هذا البيت الأكرمين.
ومنها: أنه أمر عباده أن يصلوا على أهل البيت، إلى غير ذلك من الخصائص].
قد ذكرنا أن من أركان الإيمان: الإيمان بالأنبياء والرسل، وأن الأنبياء هم الذين أوحى الله إليهم، وأنزل عليهم شيئاً من شرعه، وأن منهم من كلفه الله بالتبليغ، وأمره بالدعوة، وجعل رسالته مؤكدة في أن يدعو إليها ويبلغها، وحذر من أرسل إليهم إذا لم يصدقوه أن يعذبهم، وأنزل عليه شريعة مستقلة، فهؤلاء هم رسل الله، نؤمن بهم، ومنهم أنبياء يوحي الله إليهم، ولكن لم يفردهم بشرائع خاصة، بل يحكمون بشرائع من قبلهم، ولكن ينزل عليهم الوحي، ويأمرهم الله فيه بأوامر تكون موافقة للأوامر التي أوحى بها إلى الأنبياء قبلهم، فهؤلاء أنبياء، وليسوا مكلفين بالدعوة العامة، ولم يعذب من كذبهم تعذيباً عاماً كالذين كذبوا المرسلين.
ورد في الحديث: (أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، وأن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر)، الله تعالى ذكر في القرآن نحو خمسة وعشرين نبياً أو رسولاً، والبقية لم يقصصهم علينا، قال تعالى: وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164]، أفضل هؤلاء الأنبياء المرسلون منهم، وأفضل المرسلين خمسة وهم أولو العزم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وعليهم وسلم، وأفضل هؤلاء الخمسة الخليلان: إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما، وأفضلهما محمد، وهو خاتم الرسل، وأفضل الأنبياء، وسيد ولد آدم.
وكذلك أيضاً وقعت له المعجزة الكبيرة، وهو أن الله تعالى جعل النار عليه برداً وسلاماً.
كذلك وهب الله له على الكبر إسماعيل وإسحاق، ولما دعا بقوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ [الصافات:100] أجاب الله تعالى دعوته ووهب له الصالحين.
كذلك أيضاً جعل الأنبياء بعده كلهم من ذريته، فأولاده أنبياء إسماعيل وإسحاق، وكذلك ابن ابنه يعقوب، وكذلك يوسف بن يعقوب، وهكذا ذرية يعقوب الذي هو إسرائيل عليه السلام، وكذا أيضاً من كان بعدهم من ذريتهم إلى أن كان نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو من ذرية إسماعيل بن إبراهيم، فالكل من ذرية إبراهيم، فهم من آل إبراهيم.
ومن فضائله: أن الله تعالى جعل على يديه بناء البيت، أمره الله تعالى أن يبنيه بعدما اندرس واندثر، قال الله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [الحج:26] مكانه يعني: موضعه، وقال تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127]فجعله الله تعالى على يديه، وأمره بأن يطهره بقوله: وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ [الحج:26].. أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ [البقرة:125]فهذه كلها من الخصائص والميزات، ولما كان بهذا الشرف لم يكن هناك استنكار في أن يصلى على محمد كما صلي على آل إبراهيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر