إسلام ويب

منزلة العلم وكيفية الحصول عليهللشيخ : أبو إسحاق الحويني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • طلب العلم من أسمى الغايات، ومن أنبل الأهداف التي تصرف في سبيلها الأعمار، فالعلم هو ميراث النبوة، ولكن لا ينال العلم بطّال ولا كسول، إنما يناله رجال هممهم جاوزت قمم الرواسي ولامست السحاب، فألزموا أنفسهم الصبر الجميل في هذا المسلك الطويل، وحملوا عصا الترحال ليبلغوا العلم في مكامنه، وقصدوا من سبقهم في هذا المضمار فوقروه، وعرفوا له ولعلمه قدره فرفعوه.

    1.   

    العلم هو ميراث الأنبياء

    إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

    ليس هناك خلاف بين أحد في أن أشرف موروث هو العلم؛ ذلك لأنه ميراث الأنبياء، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، ذلك أن للعلم حُسناً ذاتياً، فهذا هو ميراثهم.

    كما روى الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بسند قال فيه الحافظ المنذري إنه حسن إن أبا هريرة رضي الله عنه ذهب إلى السوق فقال للتجار هناك: ما أعجزكم يا أهل السوق! أنتم هنا والناس يقتسمون ميراث النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فتركوا تجارتهم وهرعوا إلى المسجد، فدخلوا فوجدوا الناس بين مصل وبين ذاكر وبين متفقه، فوقف ينتظرهم، فلما رجعوا قالوا له: ما وجدنا شيئاً يقسم في المسجد. فقال لهم: وما وجدتم؟ قالوا: وجدنا الناس ما بين مصل وذاكر ومتفقه. قال: ذلك ميراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    فهذا هو الميراث الذي يجب أن يحرص عليه الناس ليورثوه أبناءهم؛ إن الشيء الوحيد الذي ينبغي أن يغبط المرء إذا حصّله هو العلم، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله علماً فهو يعلمه الناس، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق).

    1.   

    معنى حديث (لا حسد إلا في اثنتين)

    ليس هناك شيء يحسد المرء لأجله إلا هذين فقط: العلم والمال، لكن المال لا يحسد لأجل ذاته أبداً، ما حسد صاحب المال إلا لأنه سلطه على هلكته في الحق، وإلا فصاحب المال المتعالي عن العلم مذموم، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر:

    رجل آتاه الله علماً ومالاً، فهو يتقي الله فيه، يصل به رحمه، ويعرف لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل.

    ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته، فهما في الأجر سواء.

    ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله لا يتقي الله فيه، ولا يصل به رحمه، ولا يعرف لله فيه حقه، فهذا بأخبث المنازل.

    ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته، فهما في الوزر سواء) .

    فأنت ترى الرجل الأول آتاه الله علماً ومالاً، والرجل الثالث آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فقال عليه الصلاة والسلام في الرجل الأول: (فذلك بأفضل المنازل) ، وقال في الرجل الثالث: (فذلك بأخبث المنازل) ، فما الذي رفع الأول ووضع الثالث؟ لا شك أنه العلم؛ لأن الأول عنده علم ومال، والثالث عنده مال فقط، فعندما تأخذ القاسم المشترك بينهما تجد الأول متفرد بالعلم، فالذي رفع هذا إلى أفضل المنازل وحط ذاك إلى أخبث المنازل هو العلم.

    فلذلك صاحب المال الذي يُحسد ليس هو صاحب المال المحض فقط، ما حسد هذا الرجل إلا لأنه سلطه على هلكته في الحق، ولا يستطيع الرجل أن يسلطه على هلكته في الحق إلا إذا كان عالماً، أو طالب علم، أو يصاحب عالماً، هذا لابد منه، إما أن يكون عالماً كالرجل الأول، وإما أن يكون طالب علم، أقل شيء أن يعرف البيوع المنهي عنها والتي يجوز أن يتبايع بها.

    1.   

    متى يكون العلم واجباً عينياً؟

    معرفة فقه البيوع فرض عين على التجار، لا يعذرون بجهلهم في هذا الباب، طالما أنه دخل في التجارة لا بد أن يدرس فقه البيوع دراسة جيدة، وهو ليس فرضاً عينياً علي مثلاً، فإن فرائض الأعيان بعد المتفق عليه، بعد معرفة التوحيد ومعرفة تصحيح العبادات وهذه الأشياء، هناك أشياء تتفاوت، ممكن تكون فرضاً عينياً على إنسان، وفرضاً كفائياً على رجل آخر.

    فالرجل صاحب المال إما عالماً وإما طالب علم، وإما أن يكون ملاصقاً لعالم يستفتيه ويستشيره، فهذا الإمام البخاري كان والده تاجراً، وقد بارك الله تعالى له في تجارته، فقال لابنه -الإمام البخاري - أثناء الموت: يا بني! تركت لك ألف ألف درهم، ما أعلم درهماً فيه شبهة، لم يقل: ما أعلم درهماً حراماً، لا، الرجل بعيد، لأن المناطق ثلاث: منطقة الحلال المحض، ثم منطقة الشبهة، ثم منطقة الحرام، فما بين الحلال والحرام منطقة واسعة جداً، وهي منطقة الشبهة، إذا قفزت السور من باب الحلال ودخلت في الشبهة فأنت تقترب شيئاً فشيئاً من الحرام، لكن الرجل لو اتقى الشبهة يظل في منطقة الحلال المحض، بينه وبين الحرام مفاوز بعيدة.

    والد الإمام البخاري ليست له رواية، ولو كانت له رواية لكان ابنه الإمام البخاري روى عنه وأثبت له رواية، فما الذي أوصله لهذه المرتبة؟ ليس عنده درهم فيه شبهة فضلاً عن الحرام؛ لأنه كان ملاصقاً للعلماء، دائماً يمشي مع العلماء، ولقد كان يصاحب سفيان بن عيينة ،و سفيان الثوري ، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، وعبد الله بن المبارك ، والواحد من هؤلاء يزن بلداً، فهو حين يلتقي بهؤلاء جميعاً كلما عنَّ له شيء فيه شبهة يسأل العالم: أفعل أم لا أفعل؟ أو هل فيه شبهة أم لا؟ فيقول له، فانتفع بصحبة العلماء إذ لم يكن مؤهلاً لأن يكون عالماً.

    فلأن حسن العلم ذاتي، وأن العلم هو الحكمة، كما فسرته الرواية الأخرى: (ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها) وفي الرواية الأخرى: (رجل آتاه الله العلم) فالعلم هو الحكمة، والحكمة حسنها ذاتي، ولذلك عندما تقرأ قوله تبارك وتعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] ، انظر الترتيب الجميل، لم يقل: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة الحسنة)، لأن الحكمة حسنة في ذاتها فلا توصف بها أصلاً، لكن الموعظة يمكن أن تكون جافة، فمثلاً قد يخرج عليك رجل غليظ الرقبة يتهجم ويشتم وهو يعظ، وحين يخوّف بالنار ينسى أنه من البشر أيضاً، ويندد بالمعاصي التي قد يكون هو مقيماً على بعضها، فلذلك لما ذكر الله عز وجل الموعظة وصفها بالحسنى، ولأن الرجل قد يعظ بدون شد وجذب، فوصفها بالحسن، وفي أثناء الجدال أمرك بالأحسن، لا بالحسن فقط، لأن الجدال فيه أخذ ورد، وفيه حظوظ للنفس، فالإنسان حين يذهب ليناظر إنساناً، فإنه يكون حريصاً جداً أن يغلبه ويسحقه ويقيم عليه الحجة، وهذا مما هو مركوز عند الإنسان، أعني حب الظهور، ولذلك عندما تغالب نفسك تؤجر؛ لأنك تجاهد ما هو مغروز فيك، والنبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) دل هذا الحديث على أن المركوز هو ألا تحب لغيرك ما تحب لنفسك، لذلك كلما غالبت وتعبت ارتقيت، فالمركوز في النفس هو محبة العلو، لاسيما بسلطان العلم، فحروف العلم وسلطانه أشد من سلطان المال والجاه، العلم سلطانه شديد جداً، لذلك الذي يُحرم الأدب والإخلاص في العلم يكون وبالاً عليه.

    لقد أخبر الله تبارك وتعالى عن أقوام فقال: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية:23] فتستعجب من هذا الرجل! المفروض أن العلم يضيء لصاحبه، فكيف إذاً ضل؟! نقول: إن عماه حصل من داخله، وإلا فالمصباح موجود، فمثلاً: أنت لو رأيت رجلاً معه مصباح، وهو (يمشي) وكلما واجه حفرة وقع فيها، بل لو فاتته حفرة يرجع حتى يقع فيها مرة أخرى، إذاً فالرجل لا يمكن أن يكون مستفيداً بنور الكشاف الذي معه، لأن عماه داخلي.

    فسلطان غرور العلم شديد جداً، لذلك العلماء وضعوا آداباً لطالب العلم، فهو إذا لم يتق الله عز وجل، ولم يخلص النية لله كان وبالاً عليه، فـابن العميد كان صاحب الوزارتين، أي: كرئيس الوزراء في أيامنا، يقول: شهدت مرة مناظرة بين الطبراني وأبي بكر الجعابي ، فكان أبو بكر يغلبه بدهائه والطبراني يغلبه بحفظه، فهما طرفا رهان، فهم متساويان، لم يغلب أياً منهما الآخر في المناظرة، فـأبو بكر الجعابي قال له: عندي حديث ليس في الدنيا لأحد غيري. قال له: وما هو؟ قال: حدثني أبو خليفة ، قال: حدثني سليمان بن أحمد ،قال: حدثني فلان عن فلان... وساق حديثاً. فقال له الطبراني : أنا سليمان بن أحمد ، سمعه مني أبو خليفة فخذه مني عالياً. قال: فاستحى الجعابي وفرح الطبراني ، فتمنيت أن لم تكن الوزارة لي وفرحت كفرح الطبراني .

    لما قال له: أنا سليمان بن أحمد ، يعني الحديث عند الطبراني ، وهو أخذه بواسطة عن الطبراني أيضاً: أبو خليفة عن الطبراني ، قال له: لا، خذه مني مباشرةً عالياً، فالعلم حسنه ذاتي، كذلك يكون الغروبة شديد ولذلك قال علي بن أبي طالب (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس بأهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه).

    تجد بعض الناس يدعي من العلم ما ليس له، في أي منحى من مناحي الحياة، ولو عيرته بالجهل لغضب، لكن لو وصفته بأي نعت آخر لا يهتز، لو قلت له: يا فقير، يقول لك: الأنبياء أغلبهم فقراء، ولازال الفضل موجوداً في الفقراء، والفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة، ويظل يعدد فضائل الزهد والفقر فيغلبك.

    ولو قلت له مثلاً: أنت لست ملكاً. يقول لك: كم من أهل الأرض كان ملكاً، الأنبياء لم يكونوا ملوكاً، خُيِّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون ملكاً رسولاً أو عبداً رسولاً قال: لا عبداً رسولاً، فترك الملك، إذاً: وجود الملك ليس من العلم.

    فقد يستطيع الرجل أن ينصب أدلة على أن عدم وجود هذه الصفة فيه أفضل، إلا ما يختص بالاتصاف بالعلم.

    1.   

    الشروط اللازمة لطلب العلم

    إذاً: طالب العلم كيف يصل؟

    نحن الآن بعدما سمعنا هذه المقدمة تحمسنا ونريد أن نكون طلاب علم، هل هناك آداب وشروط لطالب العلم ينبغي أن يسلكها حتى يصل؟

    أقول: نعم، هذه الشروط نظمها إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في بيتين من الشعر، فقال:

    أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيـان

    ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ وطول زمـان

    هذه هي الصفات الست التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم ليصل.

    وبعض الطلاب يطلب العلم منذ سنوات، ومع ذلك لم يقتنع بالقدر الذي حصله!

    لأن الخلل في هذه الشروط يورث خللاً في التحصيل، لذلك إذا التزم الإنسان بهذه الشروط ونفذها تنفيذاً حسناً، فإن تحصيله يكون حسناً.

    أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان

    ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ وطول زمان

    الذكاء

    أما الذكاء فهو أول درجات السلم، إن العلم لا يسلم زمامه لغبي ولا بليد، لابد أن يكون طالب العلم ذكياً جداً، نحن ابتلينا بأناس تصدروا للفتيا ليس عندهم ذكاء، لأن الذكاء يورث ما يسمى عند الفقهاء: بفقه النفس، وفقه النفس: هو مراعاة مقتضى حال المخاطب.

    جاء رجل وطلب منك فتوى، فأنت لابد أن تتفرس في الرجل وتزنه، وهذه الفراسة كانت موجودة عند أسلافنا بكثرة، لكنها أصبحت الآن أندر من الكبريت الأحمر.

    وقد صح عن ابن عباس أنه كان يجلس مع بعض أصحابه كـسعيد بن جبير وعكرمة وطاوس ، فجاءه رجل فقال له: ( ألقاتل المؤمن توبة؟ قال له: لا. فلما مضى الرجل قال له أصحابه الجلوس: أولم تفتنا قبل ذلك أن لقاتل المؤمن توبة؟ قال: بلى، ولكني رأيت في عينيه الشر). فالسائل يريد أن يقتل، وجاء مسعوراً، ويريد أن يأخذ فتوى بأن قاتل المؤمن له توبة فيقول: إذاً سنقتل ونتوب إن شاء الله، أما إذا لم يكن له توبة فلا، فـابن عباس لاحظ هذه المسألة، فقال له: ليس لقاتل المؤمن توبة.

    وهنا مسألة يتكلم العلماء فيها، وهي: أنه يجوز للمفتي أن يفتي بأشد الوجهين، إذا كان له وجه في الدليل، مراعاة لحال المستفتي، إذا كان الدليل يحتمل وجهين، فمراعاة لحال المستفتي يفتيه بالأشد.

    والشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله استخدم هذا الأصل في فتوى تحريم نقاب البرقع، لأن بعض الناس طار بها طيراناً، على أساس أن الشيخ ابن عثيمين يقول: النقاب حرام وليس كذلك، فالشيخ محمد صالح رحمه الله ممن يوجب ستر المرأة وجهها، فكيف يقول: إن النقاب حرام؟ فالنقاب الذي فيه إدلاء، وهو أن تضرب المرأة بالثوب الواحد من شعر رأسها لأخمص قدميها قطعة واحدة، فهذا هو الذي يوجبه الشيخ ويقول به.

    ويبقى النقاب الآخر وهو نقاب البرقع الذي اشتهر في مصر والشام، وهو عبارة عن قطعتين: قطعة غطاء رأس، وقطعة تضرب على الوجه، فالزائر إلى مكة يلاحظ النساء اللواتي يرتدين لباس البرقع، بدأن يتوسعن فيه، ترفع الغطاء الأعلى قليلاً، وتنزل غطاء الوجه قليلاً، فإذا بنصف وجهها يظهر، أي من منتصف الجبهة إلى أول الأنف، فلما بدأن يتوسعن في ذلك قال: لا، لا يجوز، وإن كان نقاب البرقع موجوداً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا نراه الآن؛ لأن النساء توسعن في ذلك.

    والعلماء يقولون في هذه أيضاً: إن المفتي إذا أفتى في مسألة بشروط جواز فلم يلتزم الناس الشروط، فله ألا يذكر الشرط، أي: إذا قال مثلاً: يجوز أن تلبسي نقاب البرقع، لكن إياك أن تفعلي كذا وكذا، وهو يعرف أنها لن تلتزم بهذا الشرط؛ فحينئذ له أن يطلق المنع بغير ذكر الشرط؛ لأن الشرط لا قيمة له، بل هذا الشرط يمكن أن يستخدمه بعض الناس في الفوضى، فيقولون: من الأفضل أن نغلق هذا الباب، وهذا من ذكاء المفتي، لابد أن يراعي المفتي حال المستفتي.

    فطالب العلم في بداية الطلب لا بد أن يتمتع بهذا الذكاء، وإلا فسيخسر كثيراً، إما في التحصيل، أو إذا ابتلى الله العباد به مفتياً بعد ذلك.

    فأول درجات الذكاء: أن طالب العلم يبدأ بالأهم فالمهم.

    أول واجبات طالب العلم :

    والإنسان يعجب من الطلبة الذين يريدون دراسة علم مصطلح الحديث، ولم يجودوا القرآن بعد، هو لا يستطيع أن يقرأ القرآن ويريد أن يدرس المصطلح، فطالب العلم إذا كانت بدايته هكذا فلن يفلح، وقد تجد أيضاً طالب العلم أول ما يبدأ في الفقه يبدأ يقرأ في المحلى لـابن حزم ، وهذا من علامات الخسران: أن يكون أول ما يقرأ من الفنون وأول ما يبتدئ، وأول درجة في الفقه أن يقرأ المحلى لـابن حزم أو نيل الأوطار، أو الكتب التي تعنى بذكر الأدلة والمناقشة.

    لنفرض أنني رجل ليس عندي فهم، أي: ميزان أعرف به الحق من غيره، فإذا أنا دخلت في الكتب التي تعنى بذكر الخلاف، واحد في الشرق والثاني في الغرب، الثاني يحضر دليلاً وهذا يحضر مقابله دليلاً، فأنت في النهاية ماذا تصنع؟

    لا يمكن إلا واحدة من ثلاث:

    1- إما أن يختار بهواه القول المناسب له.

    2- وإما أن يسوء ظنه بالعلماء جملة، فيقول: لو كانوا على حق ما اختلفوا والدليل واحد، فواحد مشرق والآخر مغرب وما ذلك إلا لأن مدارك الفهم متسعة، فهذا أفتى بمنطوق الدليل، والثاني أفتى بمفهوم الدليل، والمفهوم غاب على هذا الرجل فلم يتفطن هذا كيف أخذ هذه الفتوى.

    وإما أن يعرض عن العلم جملة، طالما أنه لم يجتهد.

    فالصواب: أن نبدأ بصغار العلم قبل كباره، كما ذكره الإمام البخاري في تبويب له على تفسير معنى الرباني، في قوله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] ، قال: الذي يبدأ بصغار العلم قبل كباره، وكما قال القائل: غذاء الكبار سم الصغار. أي: لو أحضرت ولداً وهو لا يزال يرضع وأعطيته قطعة لحم فإنه يموت بها؛ لأن معدته لم تتعود على هذا الهضم، فلذلك الإنسان أول ما يبدأ لا بد أن يعمل ذكاءه، ما الذي ينبغي أن يبدأ به، لكن أول ما يدخل مباشرة يدخل في سلك الأئمة المجتهدين، هذا يضر الطالب أشد الضرر.

    هذا الذكاء ينفعه فيما بعد في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، وبعض الناس يظن أن الكتاب والسنة كافيان وافيان لكل ما يستجد للبشر، لدرجة أنهم قالوا: إن تسعة أعشار الأحكام الشرعية تؤخذ من القياس، وهذا من الخطأ، فالأحكام الشرعية بكاملها وكل الأدلة كافية، لكن المشكلة في الذي يستنبط الأحكام؟

    فهذا الإمام البخاري إمام أهل الحديث والفقه في زمانه كان من العلماء الذين يستنبطون الفقه من الأدلة، ففي كتاب المواقيت قال: (باب من أدرك ركعة من العصر) أي: قبل أن تغرب الشمس، ذكر في هذا الباب ثلاثة أحاديث، فالحديث الأول مناسب للتبويب، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا أدرك أحدكم سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك، وإذا أدرك أحدكم سجدة من الصبح قبل أن تشرق الشمس فقد أدرك).

    والتبويب كأنه مأخوذ من نص الحديث، ولكن المهم في الحديثين الباقيين، أما الحديث الثاني بعد حديث أبي هريرة فهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صليت العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: هؤلاء أقل منا عملاً وأكثر أجراً، قال الله: هل ظلمتكم من أجوركم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء).

    وأردف حديث أبي موسى الأشعري عقب حديث ابن عمر قال: (مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً إلى الليل، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك فاستأجر آخرين، فقال: أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر، قالوا لك: لا حاجة لنا إلى أجرك، فاستأجر قوماً فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين) .

    أولاً: ما علاقة هذين الحديثين بحديث: (من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس)

    هذا الجواب الإمام البخاري يريد أن يقول:

    إن العمل لا يقبل إلا إذا استوفى شرائطه، والله تبارك وتعالى قال: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] ، فإذا أدرك رجل سجدة أو ركعة واحدة قبل أن تغرب الشمس، بمعنى أنه أنهى الركعة ودخل وقت المغرب، فهل وقع أغلب صلاته في غير الوقت أم لا؟ ثلاث ركعات وقعت في غير وقت العصر، فالجزء القليل من الصلاة هو الذي وقع في الوقت، ومع ذلك عاملك الله تبارك وتعالى بالفضل، فوهب الأكثر للأقل، واعتبر أنك أدركت الصلاة.

    ولو أنه حاسبك بالعدل لقال: لك ركعة واحدة فقط، وثلاث ركعات لا قيمة لها؛ لكنه عاملك بالفضل، فوهب لك الأكثر الذي وقع على غير شرطه.

    كذلك عامل هذه الأمة بالفضل، فكانت أقل أعماراً وأكثر أجراً، ولو أنه عاملها بالعدل لعاملها أقل، فيعطيها من الأجر أقل ما يعطي للأطول عمراً، هذا هو وجه الربط، فالإمام البخاري يريد أن يقول: إن هذا تفضل من الله عز وجل أن يقبل منك صلاتك وقد وقع أغلبها في غير الوقت، مع قوله تبارك وتعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] ، أي: لها وقت أول ولها وقت آخر، فعاملك هنا بالفضل، كما عامل الأمة جملة بالفضل لما أعطاها الأجر الجزيل مع العمر القصير، وهذا واضح جداً في أشياء كثيرة، منها ومن أجلّها قوله تبارك وتعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3] ، فأطول عمر نحن نعلمه هو عمر نوح عليه السلام أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت:14] ، وتلفت نظرك هذه العبارة، لماذا لم يقل: (تسعمائة وخمسين)؟ إذا كان ألف سنة إلا خمسين عاماً هي تسعمائة وخمسين، فهل هناك فرق بينهما؟ هناك فرق كبير، فقد جرت عادة الناس أن تلغي الكسر في العد، مثاله: كم الساعة الآن؟ فتقول مثلاً: السادسة وثلاث عشرة دقيقة تقول له السادسة والربع أو السادسة وعشر دقائق، هكذا، فتلغي الكسر، فجرت عادتهم، إلغاء الكسر دائماً في العد. فلو قال: (تسعمائة وخمسين عاماً)، لقلنا: يحتمل أن تكون تسعمائة وثلاثة وخمسين، أو أربعة وخمسين، أو خمسة وخمسين، فلما قال: أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت:14] لا يحتمل أن يكون هناك كسر إطلاقاً.

    فأطول عمر نحن نعرفه عمر نوح عليه السلام: (تسعمائة وخمسين عاماً)، وقد ذكر ابن عباس -ويبدو أنه أخذه عن بعض الإسرائيليات-: أن الرجل كان يُختن وهو ابن ثمانين!

    فهؤلاء أعمارهم طويلة جداً، وأقصى عمر ممكن أن يصله رجل في هذه الأمة: مائة سنة أو مائة وخمسين سنة، مع أن متوسط أعمار الأمة كما قال عليه الصلاة والسلام: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقليل من يتجاوز ذلك) فبعمرك القصير هذا تسبق كثير من الذين عمروا قبل ذلك، مع أن عمرك أقل، قال الله: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3] ، أي: ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر الأيام، فأنت لو وفقت ووفقك الله عز وجل لقيام ليلة القدر كل عام، وكان عمرك ستين سنة غير أنك ابتدأت تصلي وأنت ابن خمسة عشر سنة ثم مت على رأس ستين سنة، فقد أدركت خمسة وأربعين رمضان، أي: خمسة وأربعين ليلة قدر، فإذا ضربت هذا في هذا تصير ثلاثة آلاف سنة وقليل، تحسب عليك أنك عابد.. قائم.. ذاكر، فتكتب في صحيفتك أنك ذاكر لله، فمن مِن السابقين يدركك؟ إن عاش ألف سنة، فكم قضى منها في النوم والأكل والشرب والتشاجر والصلاة والعمل.. ستجد أن الذي لله عز وجل في فترة ألف سنة قليلة جداً، فهذا مظهر واحد فقط من مظاهر تفضيل هذه الأمة.

    أراد الإمام البخاري أن يلفت النظر إلى هذه المسألة: وهي أن الله عاملك في قبول معظم صلاتك في غير الوقت بالفضل.

    حسناً.. في حديث ابن عمر قال: (عجزوا فأعطوا قيراطاً) وفي حديث أبي موسى الأشعري فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك) فلم يأخذوا.

    ما الفرق بين العجز في حديث ابن عمر وبين العجز في حديث أبي موسى ؟

    الجواب: الفرق دقيق جداً ومهم، وهو أنه ليس كل عجز يعذر المرء به، وقد روى أبو داود في سننه، قال: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر، فقل: حسبي الله ونعم الوكيل) .

    العجز هنا: هو الحمق وسوء التصرف، وسمي عجزاً لأنه عجز عن إدراك منيته بحمقه وسوء تصرفه، فحيث ترى إنساناً يريد أن يهدد شخصاً فيرمي نفسه تحت سيارة مثلاً، أو يريد أن يشم رائحة (البارود) فيشعل (كبريتاً) ويشعل في شيء يلتهم كل شيء لأجل أن يشم رائحة البارود..! فهذا من الحمق، فمثل هذا الرجل ضامن.

    رجل -مثلاً- ليس بطبيب، ورأى أنه ذكي، وأنه عالج شخصاً فشفي، وعالج آخر فشفي، قال: إذاً أعمل طبيباً، فلما عمل طبيباً أتلف النفوس، فليس له أن يقول: أنا لم أكن أقصد قتله.. لأن هذا من الحمق والعجز، ولذلك فهو ضامن، فلا بد أن يدفع الدية.

    فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله يلوم على العجز) ، أي: على الحمق وسوء التصرف، ولكن إذا سلكت الأسباب الشرعية كما أمرت فغلبك أمر، وجاءك القدر الأعلى فلا تستطيع له دفعاً؛ حينئذ قل: حسبي الله ونعم الوكيل؛ لأنه ليس بيدك شيء.

    فالعجز هذا هو عجز الحمق، ولذلك لم يعطهم شيئاً، بخلاف العجز الذي ورد في حديث ابن عمر ، أقبل وعمل بجهده، ولكن انقطع جهده في أثناء العمل، فهذا يعذر، كقوله صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب).

    فالعجز في حديث ابن عمر المقصود به رجل أدى ما عليه ثم عجز، أي: بغير تقصير وبغير حمق منه، لذلك أعطي قيراطاً، بخلاف العجز الآخر، فقد كان بسبب حمق وسوء تصرف، فهم الذين قالوا له: لا حاجة لنا في أجرك، فرفضوا الأجر، وهذا من حمقهم وسوء تصرفهم، لذلك لم يعطهم الله تبارك وتعالى شيئاً.

    فالإمام البخاري قصد التنبيه على هذه المعاني، فتصور لو أن طالب العلم كان بمنزلة الإمام البخاري ، فإنه سيستفيد جداً من تحصيل العلم، أولاً: ينتفع بترتيب العلوم في بدء الطلب، ثم بعد ذلك ينتفع جداً بذكائه في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، فالذكاء هو أول ما ينبغي أن يكون متوفراً عند طالب العلم.

    الحرص على الأوقات

    ثم قال: (وحرصٌ) وأعظم الحرص إنما يكون على رأس المال، ورأس مال الإنسان في الدنيا هو الوقت؛ لأن العمر هو الوقت، فإذا ضيع الإنسان رأس ماله، فسيغبن هناك، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).

    أصل (الغبن): شراء الشيء بسعر عالٍ، وبيعه بسعر أقل، فهذا خسر في كلا مرتين: خسر في المرة الأولى عندما اشترى بأكثر من الثمن، وخسر في المرة الثانية عندما باع بأقل من الثمن، فهذا هو أصل الغبن، (فنعمتان مغبون فيهما كثير من الناس) دل على أن المغتنمين لهما لهاتين قليل (الصحة والفراغ) والعلم لا يتأتى إلا بهما، فلا بد من فراغ ولا بد من صحة تعينك على الطلب.

    وإذا ضيع طالب العلم وقته -لاسيما في بدء الطلب- في الجدال وعمل الحلقات فلن يصل أبداً، وعليه أن يطالع سير العلماء السالفين ليعلم كيف كانوا يستثمرون أوقاتهم؛ لأن كثيراً من الناس يضيع وقت طالب العلم بدعاوى كثيرة: دعوى الشوق، ودعوى السؤال، ودعوى الرؤية... أي دعوى، فلا ينبغي لطالب العلم أن يوافق الناس على أهوائهم في بداية الطلب، وإلا سيخسر خسراناً كبيراً؛ لأنه سيضحي برأس ماله والعائد عليه قليل.

    ما الفائدة في جلوس جماعة من الغلمان -الذين هم حديثو عهد بطلب العلم- جلسة إلى الفجر يقررون فيها مسألة خلافية، وكل واحد إنما ينقل قول من قلده فقط؟ ليلة كاملة ذهبت على طالب العلم لم يستفد منها، بل قد توغر الصدور؛ لأنه دخل في الخلاف قبل أن يتأدب، لذلك من الممكن أن تتقطع الأواصر، وهذا هو الواقع الآن!

    طالب العلم المفلح هو الذي يضرب على نفسه حصاراً في أول الطلب، ولذلك كانوا يقولون: (أول العلم الصمت، ثم التعلم، ثم العمل، ثم الدعوة)، وأنت طالما أنك لم تتضلع ولم تصبح رجل دعوة فلا تنشغل بها، فالدعوة ليست فرضاً عينياً عليك، فأنت في سعة من الوقت، والعلماء المتقدمون كانوا يحرصون جداً على الوقت؛ لأنه رأس المال.

    ذكر الإمام النسائي في جزء له لطيف أملاه على بعض أصحابه أن إبراهيم النخعي ورجلاً آخر كانوا بعد صلاة العشاء يتذاكرون في العلم، فلا يفرق بينهم إلا مؤذن الفجر.

    وفي مقدمة الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم كان الإمام أحمد بن حنبل والإمام علي بن المديني والإمام يحيى بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وآخرون بعدما يصلون العشاء يتدارسون في علل الأحاديث، فلا يفرق بينهم إلا مؤذن الفجر.

    فطالب العلم لا بد أن يكون حريصاً على وقته في بداية الطلب، وإذا أهدر رأس ماله كيف يصل؟ وأنى له أن يصل؟! والليل والنهار يتجددان بصفة دائمة، لاسيما وأن معظمنا بدأ يطلب العلم بعد سن متأخرة، وعندما جاء يطلب العلم لم يجد من المشايخ من يجلس معهم ويطلب العلم على أيديهم، فهو يعاني من مصيبتين معاً: الأولى: طلاب العلم في سن متأخرة، والثانية: أنه لا يجد الشيوخ الذين يدرس عليهم هذا العلم، ومصيبة ثالثة وهي: عدم وجود المعين على الطلب، فقد يتوفر لك شيخ، وقد تتوفر لك همة؛ ولكن لا يتوفر لك ظروف مناسبة: إما أنك مسئول عن أسرة، وإما أن أباك يريدك مثلاً في جهة أخرى. وإما أن الجو العام سيعرقل في سبيل الطلب؛ لأن المتقدمين لم يكن يشغلهم شيء إطلاقاً، كان الآباء والأمهات عوامل مساعدة للطلبة، فأم سفيان الثوري كانت تقول: يا بني، اذهب فاطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي، انظر إلى أم يصل بها فقه النفس إلى هذا الحد، تغزل النسيج وتبيعه وتكفي ولدها.

    وكانت أم الإمام الشافعي تهيئه وهو ذاهب إلى مالك ، وكانت توصيه وتضع له أرغفة، فكان يحاول بقدر المستطاع ألا يكون أكولاً حتى لا تأخذه هذه الأرغفة أطول وقت.

    عبد الله بن أبي داود عندما ذهب يسمع من أبي سعيد الأشج -وهو أكبر شيخ له ومن أجل شيوخه رحمه الله- قال: دخلت إلى أبي سعيد الأشج لأسمع منه، فاشتريت ثلاثين مداً باقلاء، فكنت كل يوم آكل عدداً من حبات الفول، ونحن الواحد منا اليوم يضع نصف كيلو في (السندويتش) انظر الفرق..!- قال: فما نفد الفول إلا وكنت قد كتبت عن أبي سعيد ثلاثين ألف حديث.

    ثلاثون كيلو فول يعادل ثلاثين ألف حديث كتبها عن شيخ واحد فقط! وابن أبي داود له مشايخ كثيرون جداً، وعلماء المسلمين الأوائل لم يكونوا أيتاماً في الشيوخ، بل كان أقل واحد فيهم له مائتان وخمسون وثلاثمائة شيخ وهو يبكي على نفسه يقول: لم أقابل أحداً، وهذا الإمام الطبراني له ألف ومائة وتسعون شيخاً.

    وحتى لا يكون هناك يأس ننزل إلى المتأخرين قليلاً، فهذا الإمام الذهبي صاحب سير أعلام النبلاء، وتلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ، فقد بلغ معجم شيوخه حدود ألف ومائة ونيف، لما ذكر حرف (الزاي) وجدت سبعة عشر شيخة له اسمها (زينب) فقط، من النساء اللاتي تلقى عليهن العلم، وقد تجاوزن المائة والعشرين.

    فكيف كان العلم عندهم؟ كم من العلم كان عند هؤلاء؟! نحن كمتأخرين ينبغي للإنسان أن يخجل إذا ذكر عند المتقدمين، إذ لم يبق معنا من العلم إذا ذكر الأول إلا فضل بزاق، والإمام أحمد بن حنبل لو وزع علمه علينا لأصبح كل واحد منا يصبح عالماً فحلاً، فكيف إذا نشر علمه ووزعه؟!

    إذاً: الشخص حين يأتي يناقش علوم المتقدمين فلا يغتر بنفسه، لا يلبس ثياب غيره، حتى إنه إذا تعقب أحداً يقول: المتقدم أخطأ، ولابد أن تتعامل معه بلطف، ولابد أن تعرف قدره ومقداره، وتعرف قدرك ومقدارك، فالعلماء المتقدمون كانوا يسابقون الزمن، كان ابن أبي حاتم الرازي يقول: كنت أقرأ على أبي وهو يأكل، وهو يشرب، وهو يمشي، وهو في الخلاء. أي: يدخل الخلاء وهو جالس في الخارج يقرأ عليه!

    بل وصلت الهمة أن الإمام الدارقطني كان يُقرأ عليه وهو يصلي النافلة!

    والخطيب البغدادي -كما ذكر ذلك ابن الجوزي في المنتظم في ترجمته- قال: كان يمشي في الطريق وهو يطالع جزءاً. فهؤلاء العلماء كانوا حريصين جداً على الوقت.

    وما أجمل ما يحدثنا به أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي ، وهذا الرجل له مصنف اسمه (الفنون) في ثمانمائة مجلد، وهو خلاصة ما كان يخطر له، نشر منه مجلدان هي كالأحاجي والألغاز، حين تقرأ في المجلدين تشعر أنك لا تفهم كلمة، فحين يكون نائماً ويخطر على باله خاطرة يقوم يكتبها وينام مرة أخرى، وكتاب (الفنون) جاء بالتتابع هكذا، وابن عقيل ليس له كتاب واحد فقط، بل له كتب عدة، وقد كان رجلاً له أولاد وزوجة وله مشاكل، والعوام كانوا يأتون إليه، فكيف صنف مثل هذه الكتب؟

    يقول عن نفسه: إنني أقصر بجهدي أوقات أكلي، حتى إنني أختار دق الكعك وتحسيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من التفاوت في المضغ. فهو يقول: بدلاً من أن أمضغ خمس دقائق.. وأجعلها دقيقاً، وأبلها بالماء، وأسكت شدة الجوع وأنتهي؛ لأن المطلوب من الأكل: أنك لا تشعر بوقع الجوع.

    وكان يقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا كلَّ لساني عن مناظرة، وبصري عن مطالعة، فإذا استطرحت فأعمل فكري حال استطراحتي، فلا أقوم إلا وقد خطر لي ما أسطره.

    وابن الجوزي استفاد من صحبة ابن عقيل ، فقال: إن كثيراً من العوام يطالبك بالزيارة لأنه يدعي الشوق، وأنت لو رددتهم صارت بينك وبينهم نفرة، ولو وافقتهم ضاع عمرك.. فماذا أفعل؟ قال: فصرت أهيئ للقائهم حزم الدفاتر، وبري الأقلام، وقطع الورق، فإن هذا شيء لابد منه ولا يحتاج إلى فقه، فأنا لدي كتب مبعثرة، فأول ما يأتي أحد لزيارتي أبدأ بترتيبها وتحزيمها وتنظيف التراب وغير ذلك، ويمكن أن أقول له: شارك بيدك معي؛ لأن هذه أشياء ضرورية، فأنا لو تركت مثل هذه الأشياء واستجبت لهؤلاء العوام ضاع عمري..

    لذلك فهؤلاء العلماء صنفوا كتباً كثيرة جداً، وأنت تندهش أن ابن الجوزي له ستمائة مصنف، منها ماقد يصل إلى عشرين مجلداً، ومنها خمسة مجلدات وعشرة مجلدات، وهذا إنما حصلوه بالحرص على العمر..

    الافتقار والتواضع

    وقوله: (وافتقار) الافتقار في هذه الأيام، التواضع، بأن تكون في زي الفقير، لا تتعالى على غيرك، ليس عندك من العلم ما تتعالى به، فحين تشعر دائماً أنك فقير إلى هذا العلم تزداد منه، كالمؤمن الذي يخشى الله تبارك وتعالى ويعبده بالخوف والرجاء؛ فإنه دائماً في ازدياد؛ لأنه كلما عمل عملاً يقول: ربما لا يتقبله الله؟ إذاً: الحل أن أحسن العمل فإذا لم تستحضر النية، لم تركع وتسجد كما ينبغي، كنت مرائياً، إذاً: أنا سأحسن العمل أكثر، فترجع النفس اللوامة تقول له: ما صنعتَ شيئاً، فماذا أفعل؟ حسِّن العمل أكثر، فلا يزال يحسن عمله أكثر فيلقى الله تبارك وتعالى في ازدياد دائم، فطالب العلم ينبغي أن يكون هكذا فقيراً مفتقراً متواضعاً، لا يعلو على أقرانه.

    كان بعض العلماء يقول: ما رأيت أفضل من أحمد بن حنبل ، كان والله يجمع ألواناً من العلم وما افتخر علينا قط، والذي يقول هذه المقالة هو أحد أقرانه الكبار.

    يقول: أبو زرعة الرازي (ما افتخر أحمد علينا)، برغم ما كان عنده من العلم؛ بل كان الإمام أحمد متواضعاً دائماً، وكان معدوداً في أئمة الجرح والتعديل الكبار، ومع ذلك كان إذا ذُكر أحد الرواة يقول: ليس هنا أبو زكريا -أي: يحيى بن معين ، فقال له رجل: وما تصنع به؟ قال له: ويلك..! إنه يحسن هذا الشأن، مع أن الإمام أحمد قد تكلم في هذا الراوي الذي احتاج فيه لـيحيى بن معين ، لكنه يقول: ليس هنا فلان؛ لأنه يحسن هذا الأمر، لكن هذا هو التواضع والافتقار!.

    قال سفيان الثوري رحمه الله: (لا ينبل الرجل حتى يكتب عمن فوقه وعمن مثله وعمن دونه).

    لأن منا من يستنكف أن يكتب عن تلميذه، يقول: أنا شيخه، فلا أكتب عنه، فهذا من حظ النفس وليس من النبل.

    وهذا الإمام البخاري فقد روى عن الترمذي مع أن الترمذي تلميذ الإمام البخاري ، وكان الترمذي يرى أن رواية البخاري عنه مدعاة فخر، فكان إذا حدث بهذا الحديث يقول: ورواه عني محمد بن إسماعيل البخاري ، كلما يروي هذا الحديث يقول هذا التنبيه.

    وابن خزيمة أيضاً من طبقة تلاميذ البخاري ، ومع ذلك روى عنه البخاري .

    ومسلم بن الحجاج -رحمه الله- أيضاً روى عنه الإمام البخاري ، والإمام البخاري شيخ مسلم كما هو معروف.

    فعندما تنبل فإنك لا ترى استنكافاً، أن تأخذ من تلميذك، فالافتقار نحتاج إليه، وكذلك التواضع! مهما أخذت من العلم، فاعلم أن الذي لم تحصله أكثر وأكثر، فهذا يحملك على ألا تجعل لنفسك مقاماً أعلى من مقامها، لاسيما إذا كنت في بدء الطلب.

    الاغتراب والرحلة في طلب العلم

    الغربة نوعان:

    النوع الأول: الغربة عن الناس.

    النوع الثاني: الغربة عن الوطن.

    وكلاهما مقصود، أما الغربة عن الناس فهي تعني: أن طالب العلم ينبغي ألا يشغله شيء مما يشغل الناس؛ لأنه إذا لم ينصرف إلى العلم بكليته فلن يحصل ما أوهم نفسه أنه تفرغ له، وهي ما يسميها بعض العلماء: (العزلة الشعورية) بأن تكون في وسط الناس لكن تزايلهم بعملك، فطالب العلم ينبغي ألا ينخرط في سلك الناس؛ لأن اهتمامات الناس لا تعينه بشيء، إنما يقبل بكليته على العلم، فلا يرى من الدنيا إلا العلم.

    أما النوع الثاني، وهو النوع الأعظم والأكبر والأشهر: وهو ما يسمى بالرحلة في طلب العلم، فيغترب الإنسان عن الوطن لتحصيل العلم، وهذا هو أشهر المعنيين بالنسبة للغربة، لكن هذا النوع يحتاج إلى همة أكبر من النوع الأول، ولذلك تجد من جلد هؤلاء العلماء في الرحلة، والصبر على الجوع والبرد، والصبر على المهانة والذل ما تقف أمامه مستعجباً مستغرباً..!!

    فهذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لما نفدت نفقته باليمن حين ذهب هو ويحيى بن معين وأحمد بن منصور الرمادي وجماعة من المحدثين إلى عبد الرزاق بن همام ، وكان عبد الرزاق آنذاك هو عالم اليمن ومحدثها الكبير، فلما رحلوا إليه نفدت نفقة الإمام أحمد في اليمن، فقدَّم بعض أصحابه مواساة له، فأبى أن يأخذها -والمواساة أن يعطيه نفقة ونوعاً من المعونة- فقال له: خذها على سبيل العارية، وردها إذا رجعت إلى بغداد؛ فرفض أيضاً، فماذا فعل؟ أكرى نفسه عند بعض القوافل حتى لا يأخذ مواساة من أحد!

    وكان لا يأخذ الدقيق إلا من رجل واحد فقط، وكان إذا ذهب اقترض الدقيق يرده سريعاً، فذات مرة بعدما رجع من رحلة من هذه الرحلات، والإنسان حين يرجع من الرحلة يكون منهك القوى ومتعباً جداً، فذهب البيت فلم يجد دقيقاً، فذهب إلى صاحبه هذا فجاء بدقيق وأعطاه امرأته، فبعد وقت قريب جاءت بالخبز ساخناً، فاستغرب من ذلك وسألها؟! فقالت: وجدنا تنور صالح موقداً فخبزنا فيه، فأبى الإمام أحمد أن يأكل.

    صالح هذا ابنه، فلماذا يأبى أن يأكل؟! لأن صالحاً قبل جائزة الخليفة المتوكل ، عندما أرسل للإمام أحمد صرة فيها مال فردها، فلما أرسلها إلى ابنه صالح قبلها، فأغلق الإمام أحمد الباب بينه وبين ولده، وكان بينهما باب فأغلقه، مع أن قبول جوائز الأمراء لا شيء فيها، ومن الصحابة من كان يقبل ذلك، ومنهم الصحابي الورع العابد التقي عبد الله بن عمر ، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله !) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (عبد الله رجل صالح) ، وكان إذا أتاه المال من الحجاج أخذه، فسُئل عن ذلك، فقال: (لست أطلب منهم شيئاً، ولا أرد ما رزقني الله عز وجل) وهذا إنما أخذه من قول النبي عليه الصلاة والسلام لأبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما أتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف له فخذه) ، والمقصود أن لا تطمع، لكن لو جاءك المال من غير مسألة ولا استشراف فخذه.

    فالجوائز قبلها الأئمة الكبار، كـمالك ، والشافعي وعلي بن المديني وابن معين ، وقبلها أئمة كثيرون، ورفضها أئمة كثيرون أيضاً، فهذه مسألة فيها نزاع بين السلف: والحق في المسألة أن القبول والرد لا بد أن تحتف به قرائن للقبول أو الرد، بمعنى إذا علمت أنك إذا أخذت جائزة الأمير طمع فيك وكسر عينيك فلا تأخذها؛ لأنه إنما يعطيك ليأخذ، والإنسان في مقابل الإحسان يذل، كما قال الحكيم الترمذي : (ليس هناك حمل أثقل من البر، من برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك) فإذا أردت أن تسترق إنساناً فأحسن إليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى فطر الناس على محبة الإحسان، كما قال تبارك وتعالى: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، ومعنى الآية: لا ينبغي أن يكون جزاء الإحسان إلا من جنسه.

    فالإمام أحمد لما نهى ولده عن الأخذ؛ لأن الفتنة التي خرج منها الإمام أحمد كانت مدلهمة؛ فأبى أن يأخذ جائزة المتوكل ، فلما أخذها ابنه صالح أغلق الباب بينهما، وأبى أن يأكل الإمام أحمد الخبز، فمن يحمل نفسه على هذا الورع؟ ومن يتحمل مثل هذا؟!

    فينبغي للطالب أن يتجلد في الرحلة لطلب العلم ويصبر؛ لأن الرحلة فيها ذل كبير، وأعظمها ذل الحاجة، لاسيما إذا نفدت النفقة، لكن صاحب الهمة العالية تجبر همتُه هذا الذل والحاجة.

    ومن العلماء أصحاب الهمة العالية أحد النحويين وهو أبو نصر هارون بن موسى بن جندل النحوي ، يقول: كنت أختلف إلى مجالس أبي علي القالي ، وكان يملي في مسجد الزهراء بقرطبة -وكتابه اسمه النوادر- قال: فبينما أنا ذاهب إليه يوماً -وكنا في الربيع- أصابتني سحابة فأغرقت ملابسي وكتبي، فوافيت المجلس وحول الشيخ أعيان قرطبة فاستحييت، فلما رآني، قال: مهلاً يا أبا نصر ..ادنُ. قال: فدنوت. قال: لا عليك، خطبك سهل، إنما هي ثياب تبدلها بغيرها، أما أنا ففي جسمي ندوب تدخل معي القبر، وبعدها بدأ يقص عليه قصته حتى يهون عليه الذي حصل له، قال: كنت أختلف إلى مجلس ابن مجاهد رحمه الله الإمام المقرئ الشهير صاحب كتاب (السبع في القراءات)- قال: فبكرت إليه يوماً فإذا باب الدار مغلق، وصعب علي فتحه، فقلت: سبحان الله! أبكر هذا البكور وأُغلب على القرب منه!

    قال: فنظرت فإذا سرب بجانب الدار -أي: ممر صغير جداً، كان الممر كبيراً ثم ضاق من الوسط- قال: فمضيت فيه، فلما وصلت إلى منتصفه لم أستطع الخروج ولا النهوض، فجمعت قوتي ومضيت، فتمزقت ثيابي وتمزق لحمي وانكشف العظم، ثم لقيت الشيخ، وكان قادماً، فكنت أول الحاضرين، ثم أنشأت أقول:

    دببت للمجد والساعون قد بلغوا جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا

    وكابدوا المجد حتى مل أكثرهـم وعانق المجد من أوفى ومن صبرا

    لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

    والصبر: هو المر، قال: فكتبنا هذه الفائدة من النوادر قبل أوانها، ولازمته رحمه الله إلى أن مات.

    ما الذي يجعله يندفع حتى ينكشف عظمه، ويتمزق لحمه؟ لأنه رجل أراد أن يكون قريباً من الشيخ؛ لأن القرب من الشيخ فيه ميزة، وقديماً لم يكن هناك مكبرات صوت، فكان الرجل الذي يجلس بجوار الشيخ مباشرة يسمع لفظه بوضوح بخلاف البعيد، فقديماً كان هناك رجل اسمه (المستملي) يقوم مقام مكبرات الصوت، فالمستملي هذا يكون في منتصف الجمع فيسمع ويبلغ، ولعل المستملي لم يسمع جيداً فيبلغ خطأ، فيحصل الخطأ، فينقله الذين من بعده، فكان الطلبة يحرصون جداً على أن يكونوا قريبين من الشيخ تحاشياً من تصحيف الأحاديث.

    فالرحلة في طلب العلم تحتاج إلى همة عالية، ولا نعلم أحداً من العلماء الذين دارت عليهم الفتيا، وكان لهم منصب في العلم لم تكن لهم رحلة إلى الآفاق، والرحلة في طلب العلم سنة؛ لأن ضمام بن ثعلبة رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتثبت مما قاله له رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن رسولك يزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، فبالذي نصب الجبال ورفع السماء ودحا الأرض آلله أرسلك؟ قال: نعم..) إلى آخر الحديث.

    فـضمام بن ثعلبة أراد العلو؛ لأنه لو كان مكذباً لذلك الرسول -وهو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم- لكفر؛ لأن مكذب رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر، لو أن أهل اليمن كذبوا معاذ بن جبل -لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ليبلغ التوحيد- لكانوا في حكم الكافرين، ، فهو ما جاء لأن الرسول كاذب، كما قال العلماء؛ لكنه أراد أن يسمع مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضوان الله عليهم أيضاً كانوا كذلك، روى الإمام البخاري في صحيحه معلقاً، ووصله أحمد ، وهو أيضاً -كما أظن- في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري بسند حسن، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (بلغني أن رجلاًً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده حديث في القصاص -القصاص يوم القيامة- قال: فابتعت بعيراً وركبته شهراً، فلما ذهبت إليه فإذا هو عبد الله بن أنيس الصحابي، فقلت: حديثاً بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (يحشر الناس يوم القيامة -أو قال العباد- عراة غرلاً بهماً، قال: قلنا: وما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمه من قرب: أنا الملك أنا الديان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة قال: قلنا: كيف وإنا إنما نأتي الله عز وجل عراة غرلاً بهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات)

    وكذلك التابعون أخذوا نفس هذا المنهج، فهي سنة متوارثة، كسنة القراءة مثلاً، فالرحلة في طلب الحديث سنة متوارثة يحرص عليها كل فحل؛ لكن العلماء قالوا: ينبغي له أن يأخذ علم أهل بلده أولاً، ثم يرحل إلى العلماء الآخرين، ولا ينبغي له أن يرحل إلا بإذن الوالدين، ولابد؛ لأن الرحلة فرض كفاية، وطاعة الوالدين في المعروف فرض عين.

    وهناك قصة طريفة للإمام الذهبي رحمه الله، فإنه بدأ أول حياته بالقراءة، أعني بجمع قراءات المصحف، القراءات السبع أو العشر أو الأربع عشرة أو الواحدة والعشرين، وبرع فيها جداً، فأراد أن يذهب إلى أعلى أهل الأرض إسناداً في القراءة آنذاك، لكن الذهبي كان وحيد أبيه، وكان أبواه يحبانه ويخافان عليه، فأبى عليه أبوه أن يخرج، فهو كل يوم ينتظر لعل والده يحن عليه فيخرج؛ لأن حرصهم على علو الإسناد كان أقوى من حرص بعضنا الآن على الذهب والفضة؛ ولأن قرب الإسناد أحد أنواع العلو، فقربك من رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقليل عدد الوسائط بينك وبينه هو أجل أنواع العلو، فكانوا يحرصون عليه.

    لما دخلوا على ابن معين رحمه الله في مرض موته فقالوا له: ما تشتهي؟ قال: بيت خال، وإسناد عال. يريد علو الإسناد؛ لأن هذا كان مما يُشتهى.

    والطبراني رحمه الله عُمّر طويلاً، حتى جاوز المائة، لذلك تهافت عليه الطلبة من كل حدب وصوب؛ لأن معه الأسانيد العوالي، وهذا يعني أن أي رجل يموت بعد المائة فإنه يكون قد أدرك المشايخ الكبار، مما يعني أنه أدرك النسائي وأدرك أبا يعلى وابن خزيمة وغير هؤلاء، فإسناده عال بالنسبة لأهل عصره، فكان كل واحد يحرص على أن يحصّل الحديث من صاحب هذا الإسناد العالي، فبدلاً من أن يكون بينه وبين النسائي ثلاثة رجال، يكون بينه وبين النسائي رجل واحد فقط، ومعروف أنه كلما اقتربت من مصدر الضوء كلما بعدت عن الظلمة، فلذلك كانوا حريصين جداً على الاقتراب من مصدر الضوء وهو النبي عليه الصلاة والسلام.

    فـالذهبي لما منعه أبوه، قال: (فبلغني موت ذلك الشيخ -الذي كان حريصاً على أن يخرج إليه- قال: فلصقت نفسي بالأرض وصرخت وولولت، قالوا: ماذا جرى؟ قلت: مات فلان، وأنتم قد منعتموني، قال: فأُذن لي في الرحلة). بعدما فعلوا هذه المشكلة، وبعد أن ضاع عليه الإسناد العالي، أذن له في الرحلة.

    فلا ينبغي للطالب أن يخرج لطلب العلم في الأمصار أو في الأماكن البعيدة إلا بإذن الوالدين، وأنا سردت قبل ذلك في دروس صحيح مسلم بعض أنواع الرحلة في طلب الحديث، لاسيما قصة شعبة بن الحجاج التي ذكرناها مراراً وتكراراً، فلا نطيل في هذا المجال.

    ملازمة العلماء ومخالطة النجباء

    ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ...

    (تلقين الأستاذ): هو أخذ العلم مباشرة عن الشيوخ، وأنا أوصي هنا بقراءة فصل نافع جداً في كتاب الموافقات للشاطبي في الجزء الرابع، لما تكلم عن التلقي تكلم كلاماً نافعاً جداً في هذا الباب.

    وتلقين الأستاذ مهم جداً، وكما قال العلماء: يستفاد من ملازمة الأستاذ ثلاث فوائد، أعظم هذه الفوائد: الأدب، أن يتأدب المرء، وابحث عن أي رجل سيء الأدب في باب العلم فلن ترى له شيوخاً؛ لأنه أخذ العلم من الكتب، وظن أنه إذا حصَّل علم الكتاب صار كصاحب الكتاب، مثلاً لو افترضنا أنه حفظ كتاب الرسالة للشافعي عن ظهر قلب، فهو يتصور أنه صار كـالشافعي في هذا الباب.. وهيهات! ليس من قلد كمن ابتكر، من السهل عليك أن تأخذ هذا عن الشافعي وتحفظه، لكن هل تستطيع أن تصوغه كما صاغه الشافعي من بنات أفكاره؟ أبداً، لذلك رأينا العلماء يحضون على ترك الأخذ من الذين لا شيوخ لهم، فكانوا يقولون: (لا تأخذوا العلم من صحفي، ولا القرآن من مصحفي) لا تأخذوا العلم من صحفي -أي: رجل يأخذ من الصحف- ولا تأخذوا القرآن من مصحفي -أي: يقرأ من المصحف مباشرة- لماذا؟ لأن أقل شيء يقع فيه هذا الإنسان هو التصحيف.

    وقديماً كان الإملاء لا يكون فيه إعجاماً، فالإعجام هذا متأخر قليلاً؛ لأن أول من نقط المصاحف هو يحيى بن يعمر بأمر الحجاج بن يوسف الثقفي ، وكانت الحروف قبل ذلك مكتوبة ليس عليها نقط، فكيف تُقرأ؟ لأن الكلمة في هذه الحالة تحتمل أكثر من وجه، فصار وضع النقط يحدد معنى الكلمة، ولذلك كان المتقدمون يحرصون جداً على الضبط، وعلماء الحديث لهم كتب في ذكر تصحيفات المحدثين والفقهاء والأدباء وأصحاب القراءات، وضبطوها وحصروها، ووضعوا قيوداً وقوانين يضبطون بها العلم، ولولا ذلك لضاع العلم.

    مرة كان هناك حطاب -وهو: الذي يجمع الحطب- دخل المسجد فوجد شخصاً يتكلم ويقول: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يشققون الحطب) قال: يا قوم! ماذا نفعل والحاجة ماسة؟

    وهي على اللفظ الصحيح: (الذين يشققون الخطب) يشققون: أي يتكلمون بالألفاظ التي لها وقع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان، يجادل بالقرآن) ألفاظه رنانة، فالحديث وقع على أصحاب الخطب، فهذا قال: (الحطب)، فالمشكلة أن الرجل الحطاب كان موجوداً، فقال: يا قوم! ماذا نفعل والحاجة ماسة؟!

    وأرسل أحد الأمراء إلى خليفة المسلمين يقول له: إن المخنثين أفسدوا البلاد عندنا. فأرسل إليه بأن يعدهم حتى يوضعوا في مكان لوحدهم فقال له: (احص من عندك من المخنثين). فالقلم قطر نقطة فوق الحرف، فصارت (اخص من عندك من المخنثين) فدعاهم فخصاهم، انظر! خصى كل المخنثين بسبب نقطة واحدة وضعت على الحاء.

    فالتصحيف حين تقرأ ما جاء في أخباره -خاصة في كتاب التصحيف للعسكري ، والذي يقع في ثلاثة مجلدات- تعلم أن أخذ العلم من الكتب جناية كبيرة جداً على العلم، ولذلك تجد أن كثيراً منا الآن يغلط في ضبط أسماء الرواة؛ لأن أسماء الرواة لا يدخل فيها القياس، لكن تؤخذ بالسماع، فمثلاً عبد الله بن لهيعة ، أو لَهِيْعة؟ لا يوجد قانون يحدد (لُهَيْعة) أو (لَهِيْعة)، هذا لا يدخل فيه القياس، إنما يؤخذ بالسماع، فلذلك نحن نتلقى ضبط هذه الأسماء سماعاً؛ لأنها لا تدخل في القياس كما قلت، فكيف يقرؤها الإنسان، لاسيما إذا كان الكتاب الآن لا يشكل، وقد يكون الذي حقق الكتاب ليس لديه علم بكيفية الضبط لهذه الأسماء؟!

    فحين تأخذ العلم من الكتب فإن أقل جناية تقع فيها هي التصحيف، ومن أعظم الجنايات التي يقع فيها الإنسان: أنه يفتقد الأدب، لاسيما -كما قلت- إذا بدأ حياته بكتاب المحلى لـابن حزم ، وكتاب المحلى لـابن حزم مع قوة هذا الكتاب من جهة الفقه، وأن الرجل قرر مسائل فقهية لم يسبق إليها، وأقام عليها الدليل، وكان قوله فيها راجحاً، إلا أنه وهو يقرر مثل هذا اللون من الفقه لم يستوقفه حرمة عالم، وكلامه عن أبي حنيفة في غاية الشدة، بينما كلامه عن أحمد بن حنبل والشافعي أقل شدة.

    سيفالحجاج ولسان ابن حزم شقيقان، الحجاج كان سيفه طائشاً لا يميز، كذلك لسان ابن حزم ، ولذلك قلت في مطلع الكلام: تكون جناية على طالب العلم أن يبدأ بقراءة المحلى، بل ينبغي أن يبدأ بقراءة الكتب المختصرة.

    وتلقين الأستاذ له فوائد منها: أن يتعلم الطالب منه الأدب، وأن يفهم المسائل فهماً صحيحاً.

    الصبر على طول زمان الطلب

    إن العلم بحر واسع جداً، وإتقان الباب الواحد من العلم يحتاج إلى عمر، فلا يستوي في العلم من أمضى نصف قرن مع من أمضى خمس سنوات، لاسيما أن هناك شيئاً يذكره العلماء اسمه الذوق والملكة، والذوق هذا غير ذوق الصوفية، ولا تحصل من الكتب، وإنما تحصل من الدربة والممارسة، ولذلك الإنسان يتعجب حين يرى بعض الصغار يتكلمون في المسائل الكبيرة التي يتهيب الكبار عن الكلام فيها! يدخل على مسألة عويصة جداً تحتاج إلى عمر..!

    يا أخي! إذا شككت في مسألة فضع علامة استفهام وابحث، وعندك عمر طويل، لماذا تتعجل بوضع العنوان للكتاب قبل أن تكتب حرفاً فيه؟! لاسيما إذا كان هذا الإنسان لم يسبق إليه بل هو مجرد فهم فهمه، فهذا ينبغي أن يشفق على نفسه، وينبغي أن يعرف أنه لم يريّش بعد فكيف يطير؟!

    فالذي له باع في الاستقراء يكون أقرب إلى إصابة الحق من الأقل، فمثلاً الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله، وهو كان من أئمة الدنيا في علم الحديث، شهد له بذلك المخالف والموافق، منهم الغماريون الذين هم المغاربة، وهؤلاء معروف أنهم مبتدعة، وأهل طريقة صوفية، ولديهم خبط كثير في العقيدة وفي السلوك والمنهج.

    أحمد أبو الخير -الذي توفي، وكان من أقران الشيخ أحمد شاكر - لمّا ذكر الألباني -وكان الألباني آنذاك ابن أربعين سنة- ومعروف أن أحمد الغماري كان يرى أن الألباني مبتدع ووهابي، وكان يقول هذا في الخطاب الذي أرسله إلى صاحب له هنا في القاهرة، بشأن الألباني وما كان بينه وبين الحبشي هذا الضال المضل، الذي هو في لبنان الآن، ولعله قارب المائة، وكان هناك نقاش علمي بين الشيخ الألباني والحبشي في ذلك الوقت، فـأبو الخير أحمد الصديق الغماري يكتب رسالة لصاحبه في مصر عن هذين الرجلين: عن الحبشي وعن الألباني قال له: أما الحبشي فينقل كما ينقل الناس، وأما الألباني فمن الأفراد في معرفة الفن، لكنه وهابي خبيث.

    فبرغم أنه مخالف له ووصفه بأنه وهابي خبيث، إلا أنه لما جاء في ذكر علم الحديث قال: إنه من الأفراد، وكان ابن أربعين سنة أو يزيد قليلاً، فكيف بما حصله الشيخ من العلم في أربعين سنة أخرى.

    نحن نقول: إن الشيخ الألباني ليس بمعصوم، وله أخطاء هو يعرفها ويعرفها الناس، والله تبارك وتعالى لم يعط أحداً أماناً من الغلط فنستنكف له منه، بل وصف عباده بالعجز وقرنهم بالحاجة، فقال تعالى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76]. لكن نقول: إنه من جهة التفصيل فقد يكون الحق مع الصغير، لا ننكر هذا، فقد يكون الشيخ قد صحح حديثاً أو ضعّف حديثاً أو حسّن حديثاً، فيأتي من هو أقل منه -وقد يكون من تلاميذ تلاميذه- يتعقبه، ومن الممكن أن يصيب ويكون الحق معه؛ لكني الآن أريد أن أتكلم في الجواب المجمل، أما الجواب المفصل فأمره يطول، الجواب المجمل: إذا كان هناك مسائل مختلف فيها، كأن يتكلم في حديث مثلاً: هل هو حسن أو ضعيف؟ أنت تعرف أن الحديث الحسن -بالذات الحسن لغيره- هذا شأنه مثل اللبن مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ [النحل:66] ، على حسب عمر ومهارة وذكاء ودربة المحسّن، إذا كان ماهراً جداً سيستخلص هذا الحديث من هذه الطرق كما يستخلص اللبن من بين فرث ودم، لا فيه من لون الدم، ولا فيه من رائحة الفرث، فإذاً بقدر تمكن هذا العالم بقدر إصابته في هذا الباب.

    ولذلك الإمام الذهبي رحمه الله قال في كتاب "الموقظة في علم الحديث": أنا على إياس من وجود حدٍ للحديث الحسن، ليس له قاعدة حتى تستطيع أن تطبقها على كل حديث، أبداً.

    فإذا كان هناك رجل عالم متمرس متمكن، أمضى أكثر من ستين عاماً في هذا الفن، فخالفه رجل مثلي في حديث ما، وأنت تعرف قدر الشيخ ناصر الدين الألباني ، وقد تعرف قدري وقد لا تعرف، لكن إجمالاً أنت تعرف أن الشيخ أعلى كعباً، وأنت تريد أن تقلد واحداً منا، لا شك عند جميع العلماء أن الأولى والأصوب هو تقليد الأعلم والأكبر والأدين، وهذا ما يقولونه في باب الفقه، فيقولون: إن الإنسان يقلد في الحكم الشرعي الأعلم والأدين والأورع والأطول عمراً...إلخ.. لماذا؟ لأنه أولى بإصابة الحق.

    1.   

    أدب الخلاف بين الطالب والعالم

    عندما أختلف مع أي عالم كان، فلابد أن أراعي الفرق بيني وبينه، وقد أكون أنا لم أهتد إلى هذا العلم إلا على يد هذا الرجل، فكيف أعامل هذا الشيخ -أياً كان هذا الشيخ- مثل هذه المعاملة؟! إن هذا يعد من العقوق.

    ألا ترى موسى عليه السلام لما ذهب إلى الخضر عليه السلام، وطلب منه أن يعلمه، ماذا قال له؟ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66] ، انظر جمال السؤال! حاجته صاغها في سؤال حتى يتيح الفرصة للشيخ ليقول: نعم أو لا، فهو لم يفرض نفسه فرضاً، وكذلك انظر إلى كلامه (هل أتبعك) فجعل نفسه تابعاً، ولا شك أن التابع أقل من المتبوع، وموسى كليم الله، وهو عند جميع أهل السنة أفضل من الخضر، لا شك في ذلك، بل لعله عند جميع أهل الأرض أفضل من الخضر عليه السلام؛ لأنه من أولي العزم، والخضرفي نبوته خلاف، لكن موسى عليه السلام ليس في نبوته ولا رسالته خلاف، يقول: (هل أتبعك) -فخفض نفسه ورفع الخضر؛ لأنه أستاذه في هذه المسألة- (على أن تعلمن) -فنسب نفسه للجهل ونسب شيخه للعلم؛ لأن الرجل يريد أن يتعلم، (على أن تعلمن مما)، (من): تبعيضية، أي: بعضاً مما عندك، فأشار إلى كثرة علم شيخه، (من ما ) و(ما) هذه من صيغ العموم، فيدل على أن شيخه شمل جملة العلوم، وهذه تؤيد البعضية التي ذكرناها (من ما عُلمت) كلمة (علمت) مبنية للمجهول، يرقق قلب الشيخ عليه، كأنه قال له: كما علِّمت رُدَّ الإحسان وعلمني (مما علمت رشداً) ، واشترط عليه أن يأخذ منه الرشد دون الغي، وهذا هو الأصل في تلقي العلم، وأنت لو حاولت أن تتأمل في هذه الآية وتتبحر فيها ربما تجد أيضاً آداباً أخرى.

    فانظر إلى لطافة السؤال، وأنت حين تدخل على الشيخ بهذا الأسلوب فإنه يرق قلبه لك، وهذه من الآداب، قال ابن جريج : لقد استخرجت ما عند عطاء من العلم بالرفق. ابن جريج لازم عطاء بن أبي رباح عشرين سنة، واستخرج علم عطاء بالرفق، وقال الزهري : لقد خسر أبو سلمة بن عبد الرحمن علماً كثيراً بمماراته ابن عباس ؛ لأنه كان كلما جلس مع ابن عباس يماريه ويجادله، فأنا لو أعلم أن أحداً كلما جلست معه يماريني فلن أتكلم.. لماذا؟ أريد أن أريح دماغي. لكن أوليس المقصود من الجدل عموماً تقرير الحق؟ فإذا كان الطرف الآخر إنما يجادل لغرض الجدل، فالصواب ألا أتكلم، فـأبو سلمة بن عبد الرحمن من كثرة ما كان يماري ابن عباس خسر ما عنده من العلم.

    فالإنسان إذا تلطف حصّل مراده، ولذلك قال الشاطبي في الموافقات: ( ترك الاعتراض على الكبراء محمود )، وساق تحت هذا العنوان، أو تحت هذه الكلمة فصلاً نافعاً جداً في أدب الطلب، ترك الاعتراض على الكبراء محمود لاسيما إذا كانوا من أهل العلم النافع والعمل الصالح، وإذا كانوا مبرزين في العلم والتقوى؛ لأن الإنسان قد يعترض على ما لم يدركه علمه.

    وذكر الشاطبي رحمه الله اعتراض عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وقصة أبي جندل بن سهيل بن عمرو لما جاء يرسف في أغلاله وقد عذب في الله عذاباً أليماً، فكان سهيل بن عمرو مازال يتفق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنود الاتفاق، فكان منها أنه إذا أتاك رجل مسلم فاراً بدينه ترجعه إلينا، وإذا فر رجل من عندك كافراً لا نرجعه، فقال المسلمون: سبحان الله.. نرجعه وقد جاء مسلماً! وهم في حال تحدثهم جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في أغلاله، فرمى نفسه بين ظهراني المسلمين وقال: يا معشر المسلمين! ألا ترون ما أصابني؟! وأبو جندل هو ابن سهيل بن عمرو الذي يكتب الاتفاق مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! هذا أول ما أطالبك به.. أرجعِه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لم يقض الكتاب بعد، قال: أبداً. فقال: فأجزه لي. أي: سنكتب الكتاب كما تريد، ولكن هذا نستثنيه. قال له: لا. قال: بل أجزه لي. قال له: لا.

    فكان الموقف في نظر عمر بن الخطاب وسائر المسلمين موقفاً في منتهى الذل، فما الذي يجبرنا على هذا؟ نحن نستطيع أن ندخل عليهم فنأكلهم أكلاً، لماذا نعطي الدنية في ديننا؟ لذلك لم يتحمل عمر واعترض، وقام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ألستَ رسول الله حقاً؟ قال له: بلى. قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قال: أولم تقل لنا أنا نطوف بالبيت؟ قال: قلت لك نطوف به العام؟ فقال له: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به) ، لكن الكلام لم يقنع عمر، لأنه ثائر فلم يتحمل هذا الذل، فقام إلى أبي بكر الصديق ، فقال: أليس رسول الله حقاً؟ قال: بلى. قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: فلم نعط الدنية في ديننا؟ قال: هو رسول الله وليس يعصيه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه.

    العجيب في المسألة توافق الكلمات بين أبي بكر الصديق وبين النبي عليه الصلاة والسلام! نفس الكلام الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم بالحرف قاله أبو بكر الصديق ، لكنه زاد عليه (استمسك بغرزه)..!

    قال عمر بن الخطاب : فعملت لذلك أعمالاً.. أي: تصدق وصام وما إلى ذلك؛ ليكفر عن هذا الاعتراض.

    فـالشاطبي تحت هذا العنوان الجميل ذكر هذه القصة، قال: (ترك الاعتراض على الكبراء محمود) لاسيما -كما قلت- إذا كان هذا الكبير ضليعاً بعلم الكتاب والسنة؛ لأن عنده من المدارك ما ليس عندك فتسلم له، لاسيما إذا لم يكن في يدك دليل واضح على رد قول هذا العالم. فليس من الأدب ولا من الإنصاف أن لا يعترف الإنسان لهؤلاء بالفضل.

    ابن جرير الطبري رحمه الله -وهو أحد العلماء الكبار جداً- كان له مذهب اسمه (المذهب الجريري) لكن هذا المذهب اندثر في جملة ما اندثر من المذاهب، كمذهب سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد ؛ لأن تلاميذه لم يقوموا به، قال لأصحابه يوماً: تنشطون لكتابة التفسير -وكان يملي من حفظه- قالوا: في كم ورقة يكون؟ قال: في ثلاثين ألف ورقة. فقالوا: هذا مما تفنى دونه الأعمار. قال: إنا لله! ماتت الهمم، فأملاه في ثلاثة آلاف ورقة مختصراً، وهو الآن في ثلاثين مجلداً، مطبوعة بالأحرف الصغيرة، والشيخ أحمد شاكر رحمه الله وأخوه الشيخ محمود شاكر حفظه الله كانوا قد بدءوا يحققون تفسير الطبري، فوصلوا في ستة عشر مجلداً إلى سورة الرعد، ولو أكملوا لكانوا وصلوا إلى المجلد الثمانين.

    فقال لهم: تنشطون لكتابة التاريخ! قالوا: في كم ورقة يكون؟ قال: نحواً من التفسير، قالوا: هذا مما تفنى دونه الأعمار فقال: إنا لله! ماتت الهمم، فأملاه أيضاً في نحو مما أملي فيه التفسير.

    هذا الإمام الكبير لما دخل عليه بعض عواده وهو في مرض الموت تناقشوا في مسألة من مسائل المواريث، فدعا ابن جرير بقرطاس ودواة ليكتب له هذه المسألة لأنه أول مرة يسمعها، فقيل له: أفي هذه الحال -أي: وأنت تموت-؟! قال: أترك الدنيا وأنا بها عالم خير من أن أتركها وأنا بها جاهل. وإن كان لا يترتب عليها عمل عنده؛ لأن الاستكثار من العلم جيد، وليست فيه مضرة.

    إن العلم يحتاج إلى عمر، نحن نوصي أنفسنا وإخواننا في الله تبارك وتعالى ألا يستعجلوا، قال الإمام الشافعي : (فكلما ازددت علماً ازددت معرفة بجهلي)، ولا شك أن الذي نجهله أكثر من الذي علمناه.

    نسأل الله تبارك وتعالى أن يؤدبنا وإياكم بأدب النبوة..

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم

    1.   

    الأسئلة

    .

    مفهوم العزلة والحصار للتفرغ لطلب العلم

    السؤال: هل المقصود بالعزلة والحصار وعدم الاختلاط بالناس من أجل التفرغ لطلب العلم؟ وهل يلزم طالب العلم عدم الوعظ حتى يكون متمكناً في أبواب العلم؟

    الجواب: ليس معنى كلامي أن يعيش المرء أخرس، المتأمل في جملة الكلام يرى أن بعضه يكمل بعضاً، لما قلت: إن طالب العلم ينبغي أن يضرب على نفسه حصاراً ذكرت من الأمثلة أنه يضيع الليلة في الجدل، هذا هو الحصار الذي أقصده، لكن رجل يرى شيئاً من المنكرات وبإمكانه أن ينكر فلا يقال له: انتظر حتى تتضلع من العلوم.. ولا تنكر.. لا، لأن المسألة واضحة، رجل لسانه طلق وبإمكانه أن يقول كلمة يذكر بها غافلاً، فهذا يجب عليه أن لا يتأخر؛ لأن هذه ليست فتوى ولا يترتب عليها شيء.

    نحن في باب الفتوى نقول: لا؛ الإنسان لابد أن يتضلع من العلم، على الأقل في المسألة التي يفتي بها؛ لأن العلم يتجزأ، فإذا تصدى لموضوع ما يتقنه، فله أن يتكلم فيه، لكن ليس له أن يتكلم مطلق التكلم إلا إذا تضلع بالعلم جملة، فلا يفهم من كلامي أنني أقول: إنه لا يحل لأحد أن يتكلم ولا يعظ ولا ينكر ولا هذه الأشياء.. لا، أرجو أن يكون هذا واضحاً، أعني خذ كلامي جملة واحدة، فلربما صاحب السؤال كتبه قبل أن أتم كلامي.

    ضرورة حضور طالب العلم حلقات العلم وعدم الاكتفاء بالقراءة المنفردة لكتب العلم

    السؤال: كثير من الإخوة يريدون أن يطلبوا العلم، وفي سبيل ذلك فإنهم يعتزلون الناس ويتفرغون لقراءة الكتب، حتى إنهم يمتنعون عن نصح الجاهل وإرشاده إلى ما يجب عليه من أمور دينه بحجة أنهم لم يتعلموا بعد، ومن جانب آخر يسأل بعض الشباب عن كيفية البدء في طلب العلم، وكيف يبدأ في دروس الفقه والحديث والعقيدة، إلى غير ذلك، فالسائل يريد أن يضع قدمه على أول الطريق في طلب العلم.. أرشدنا جزاك الله خيراً؟

    الجواب: قلت سابقاً: إن هذه الحلقات لابد منها، ولكن لا تجد أحداً قط حصّل قدراً كبيراً من العلم اعتمد فقط على مثل هذه الحلقات، بل لا بد من البحث الشخصي، ولابد من التعب، فإن التدريس في الحلقات يفتح لك الباب، فتتوفر لك الفرصة لتصحح ما تقرأ، أما أن يأتي الرجل ليسمع فقط لا غير، لا يقرأ ولا يجهد نفسه ولا يلخص.. هذا لا يمكن أن يحصل على علم كثير، فهذه الحلقات هي المفتاح لاسيما في هذا العصر.

    سمعت شخصاً يقول: الشيخ بخمسة ريالات، فأقول له: ماذا تعني بقولك: الشيخ بخمسة ريالات؟ فيقول: أي شيخ ممكن يكون عندك في بيتك بخمسة ريالات -يعني الشريط- وترجعه كما تريد، وتأخذ آخر، وتسمع كما تريد، وقد لا تستطيع أن تستوضح مسألة من الشيخ في الجلسة لكن في الشريط ممكن تسمع الدرس أكثر من مرة، فالشريط هذا كأنه نصف شيخ.

    طبعاً في مسألة الملازمة والأدب الشريط لا يعلِّم؛ لأن الشريط شأنه شأن الكتاب، فلزوم حلقات أهل العلم يستفيد الإنسان بها الأدب الذي هو زين العلم، فهناك بعض المشايخ شرحوا كتباً كبيرة، بإمكان الإنسان أن يأتي بالكتاب ويسمع الشريط، هذا إذا تعذر عليه أن يوافق شيخاً على عقيدته، أو يجد شيخاً متضلعاً بالكتاب والسنة، فهذه الحلقات لابد منها.

    ولأن العزلة وهذا شيء أنا جربته وبلوته- غير محمودة، ومسألة الانكباب على الكتاب وعدم الذهاب حتى لإخوانك من طلاب العلم، فتكلمهم وتناظرهم، وتأخذ ما عندهم من الفوائد، فطالب العلم الذي يعمد إلى هذا السلوك يخسر كثيراً جداً.

    بعض إخواننا يقول: كثيراً ما قرأت ونسيت، فكيف أحفظ؟

    فلماذا نسي؟ لأنه وهو يقرأ ليس له هدف، فلو أن الكلام الذي سيقرؤه يريد أن ينفع به بعد ذلك لن ينساه، إنما إذا قرأ لمجرد القراءة قد يفهم، لكن إذا ترك القراءة ثلاثة أيام ينسى الذي قرأه، فمعظم الذين ينسون ما يقرءون ليس لهم هدف تعليمي، وما المانع يا أخي! أن تطمع في فضل الله عز وجل، وأن تدعو الله عز وجل أن يجعلك للمتقين إماماً؟! فما عرفنا أحداً من العلماء كان يظن أنه سيصل في نهاية حياته إلى مرتبة الإمامة، فلِمَ تحتقر نفسك؟ فالإمام أحمد أو الإمام يحيى بن معين أو الإمام البخاري لم يرد عن أحد منهم أنه كان يظن أنه سيصل إلى هذه المرتبة، ولذلك تجد في تراجم هؤلاء العلماء أن تاريخ ميلادهم قد يكون مجهولاً، لكن تاريخ وفاتهم معلوم عندنا بالساعة والثانية، ويرجع ذلك إلى أن الواحد منهم يوم ولد ولد كآلاف المواليد، لا أحد يعرف يومها هل سيكون نجيباً؟.. هل سيكون إماماً؟.. هل سيكون صالحاً؟.. هل سيكون فاسقاً؟.. لا أحد يعرف، لذلك لم يهتم أحد بتدوين تاريخ ميلاده، حتى صار إماماً فعرف تاريخ وفاته، فكل واحد لما وصل للإمامة في آخر حياته ما كان يظن قط أنه سيصل.

    لذلك لا تحتقر نفسك، وسل الله تبارك وتعالى أن يجعلك للمتقين إماماً، أول ما تجعل هذا الهدف أمامك كل علم ستستفيد منه، ولن تقرأ شيئاً في باب من أبواب العلم إلا وتستفيد منه، فكن غواصاً في المعاني، فالغوص في المعاني يحتاج إلى تهيئة سابقة.

    الإمام الشافعي رحمه الله قال: حديث ذي اليدين فيه سبعون باباً من العلم. وحديث ذي اليدين هو الذي جاء فيه قوله للرسول صلى الله عليه وسلم: (أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: لم تقصر ولم أنس. ثم التفت إلى الناس، قالوا: صدق ذو اليدين ؟ قالوا: نعم، فصلى ركعتين وسجد للسهو) فهذان السطران كتب فيهما الحافظ صلاح الدين العلائي مجلداً ضخماً، اسمه "نظم الفرائد لما في حديث ذي اليدين من الفوائد" استخرج منه جملة من العلوم والفوائد، فكيف يحصل الإنسان هذا؟ يمكنه ذلك بالغوص في المعاني، وحضور دروس المشايخ، الاختلاط بإخوانه من طلاب العلم.

    كان الزهري رحمه الله أول ما يسمع من سعيد بن المسيب أو من أبي سلمة بن عبد الرحمن أو غيره من المشايخ يأتي الدار في الليل فيوقظ جاريته، ويجلسها، ثم يقول: حدثني سعيد بن المسيب قال: حدثني أبو هريرة ... ويسوق الأحاديث، فتقول: يا سيدي! ما لي وما لـسعيد ؟! فيقول لها: آفة العلم النسيان وحياته المذاكرة، وأخشى أن أنسى.

    أيقظها من أجل أن يسمعها الأحاديث؛ لأنه يخشى أن ينسى إذا لم يجد من يذاكره، لذلك تجد المنغلق على نفسه أكثر الناس نسياناً.. لماذا؟ بسبب عدم وجود من يذاكرهم.

    خطأ طالب العلم في الاعتماد على كتب الفروع وإعراضه عن كتب الأصول

    السؤال: يعمد بعض طلاب العلم إلى دراسة كتب الفروع والإكثار منها، دون إرفاقه ذلك بدراسة الأصول، فهل ينتفع طالب العلم من هذا المنهج؟

    الجواب: (من حرم الأصول حرم الوصول) لماذا الإنسان يتأرجح ما بين الأقوال المختلفة؟ لأنه ليس عنده أصل ثابت يرجع إليه، والرجل إذا حفظ كل كتب الفروع، مثلاً: حفظ المغني لـابن قدامة ، حفظ المجموع للنووي ، حفظ المحلى لـابن حزم ... حفظ كل هذه الكتب، فلن يصير فقيهاً ولا يستطيع أن يثبت في تقرير الحق؛ لأنك لو كنت درست الأصول تستطيع أن تهدم له الحكم الذي وصل إليه من كتب الفروع، وسيكتشف أنه في النهاية ما هو إلا مقلد، رجل حفظ شيئاً فقاله ولم يتحققه، المشكلة أننا أهملنا الأصول.

    لابد في العلم من أصلين مهمين جداً: علم الحديث وعلم أصول الفقه، فعلم الحديث يثبت لك الدليل، وعلم أصول الفقه يثبت لك الحجة، الفهم عن الدليل؛ لأنك إذا تضلعت في علم واحد فقط كنت كالطائر بجناح واحد فقط، فلو كنت محدثاً صرفاً فلن تتمكن من الأصول.

    ومع ذلك فليس من العيب الاقتصار على باب من أبواب العلم، إنما العيب أن تتخطى إلى ما لا تتقن، لكن لو وقفت على ما تحسن فلن تعاب، كن محدثاً ولا تتكلم في الفقه، كان الدارقطني رحمه الله محدثاً صرفاً، وليس له كتاب فقهي، لكنه في الحديث إمام يوضع في جبين المحدثين، أملى كتاب العلل من حفظه، وكتاب علل الحديث للدارقطني يعد معجزة باهرة..! قال الذهبي : لو كان هذا الإمام أملى هذا الكتاب من حفظه فلا أعلم له في الدنيا نظيراً.

    وأنا قبل خمسة عشر عاماً لما ذهبت أنقل من كتاب العلل من دار الكتب المصرية كان أول حديث هو حديث (شيبتني هود وأخواتها) هذا الحديث أنا نسخت فيه حوالي خمس عشرة ورقة كلها في الاختلافات بين الرواة، والله! كان دماغي يلف وأنا أنقل الطرق التي يذكرها الإمام على البديهة، وأنا ناقل فقط، فهي ليست في ذهني، والذي طالع علل الدارقطني يعلم أن الإمام أعظم مما وصفت، ومع ذلك لم يُذكر في باب الفقهاء.. انتهى.

    (آفة المرء أن يتكلم فيما لا يحسن)، فمثلاً جاءت امرأة إلى محدث صرف فقالت له: كان عندي دجاجة وسقطت في بئر ماء فغرقت وماتت، فما حال الماء -يعني: أنتوضأ به-؟ قال: ويحك! لِمَ لم تغط البئر؟.. أهذا هو الموضوع؟! قضاء الله نفذ، أنا أريد حكماً على الحالة الواقعة، قال لها: لم لم تغط البئر؟ لأنه ليس عنده جواب على هذه المسألة الفقهية.

    لكن الإنسان إذا ضم لعلم الحديث علم أصول الفقه فقد جمع بين الخيرين.

    أحياناً يكون المرء فقيهاً، لكنه ضعيف في علم الحديث، وإنما عنده مشاركة، مثلاً يقول: صححه ابن حجر.. صححه الذهبي ، فهو رجل ينقل ومهتم بنقل تصحيح علماء الحديث للحديث، فحين يأتي مبتدع ماكر فيقول له: إن دليلك الذي تتكلم عنه ضعيف.. فسقط الحكم بسقوط الدليل فيقول له: كيف؟ هذا صححه ابن حجر ؟! يقول له: دعنا من باب التقليد، فأنت حينما تقرر الحق تصير مجتهداً، أثبت صحة الحديث، فأنا بإمكاني أن أقول لك: فلان ضعفه، ولن نصل، كما أنني أقرر الحق بدليله هنا وهناك، فقرر أو أثبت لي أنه صحيح.

    فيعجز، ولا يستطيع إلا أن ينقل أنه صحيح عن فلان أو علان، حينئذ لو كان ورعاً يتوقف، ويقول: طالما أن المسألة هكذا فدعني أبحث.

    فالمبتدع بإمكانه أن ينقض الحكم كله لأنه قد ضيع الدليل، فإذا ضاع دليل الحكم لا يثبت الحكم، إذ لا يتصور فناء الأصل مع وجود الفرع، لكن لو أنه متضلع يستطيع أن يفعل في المبتدعة ما لا تفعله الجيوش الجرارة، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية .

    فإن شيخ الإسلام ابن تيمية فعل في المبتدعة ما لم تفعله الجيوش الجرارة في الكفار، والإمام الذهبي كان محدثاً من شعر رأسه لأخمص قدمه، وبالرغم من ذلك فقد كان رحمه الله يقول: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث؛ من سعة حفظه، وكنت تتعجب من حفظه وسرده للأسانيد وتخريجه من الكتب، مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين نصنفه في كتب الطبقات نصنفه في طائفة الفقهاء، ليس في طائفة المحدثين، كان أن الخطيب البغدادي ترجم لـأحمد بن حنبل فصنفه في طائفة المحدثين، وقد ترجم للشافعي فجعله في طائفة الفقهاء، فغضب عليه الشافعية والحنابلة، لأنه لما قال في الشافعي تاج الفقهاء، قالوا: لم تذكره في الحديث فسلبته الحسن كله، ولما جاء يترجم لـأحمد قال: سيد المحدثين، قالوا: لم تذكره بالفقه، فأي معنى للحديث بغير فقه؟! لا، الإمام الشافعي كان محدثاً كبيراً، والإمام أحمد كان فقيهاً كبيراً، لكن غلب على هذا الفقه فاشتهر به، وغلب على هذا الحديث فاشتهر به.

    فالعالم كلما كان متضلعاً -بالذات بعلم الأصول- يستطيع أن يمضي في الأدلة مضي السهم، لذلك نحن نقول لإخواننا المتأرجحين بين التيارات الموجودة أو الفتاوى الموجودة: لن تعدوَ أن تكون رجلاً من اثنين:

    إما أن تكون طالب علم جيداً، فإذا عرفت الطريق فاسلك طريق الأصول والدراسة، وإما أن لا يكون لك وقت وليس عندك صبر ولا جلد، ولا تطمع حتى أن تدرس الأصول، فحينئذ انظر إلى العالم أو إلى طالب العلم الجيد الذي تعتقد أنه الأدين والأعلم والأورع فالزم فتواه، لكن إذا جعلت دينك عرضة للخصومات أكثرت التنقل، إذا كنت رجلاً من العوام ما الذي يحملك على أن تنتقل بين الأقوال؟ لماذا تعطي أذنك لكل ناعق؟ إذا عرفت أن هذا هو الحق فالزمه، واصحب من تعتقد أنه الأعلم والأدين والأورع، فليس هناك سبيل إلا هذا.

    عدم جواز القدح في الأئمة الأعلام في المسائل العلمية الخلافية

    السؤال: حين ذكرت ابن حزم فإنك لم تترحم عليه، فما السبب؟

    الجواب: يقول: إنني لم أترحم على ابن حزم .. فأقول: ابن حزم رحمه الله وابن الجوزي رحمه الله رغم أنف أصحاب التكفير؛ لأن هناك من يقول: لا يجوز الترحم على ابن حجر العسقلاني ، ولا يجوز الترحم على ابن حزم ، ولا يجوز الترحم على ابن الجوزي ، ولا يجوز الترحم على كل من له بدعة في العقيدة.

    أنا أحيل على الجزء رقم عشرين من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يقول: لا يجوز التبديع في المسائل العلمية إذا كان لها وجه.

    فيقول: لا يجوز تضليل الذي يقول: إن الله تبارك وتعالى لا يرى في الآخرة، لاسيما إذا كان متأولاً كـمجاهد بن جبر الذي يقول بأن الله لا يُرى في الآخرة، اعتماداً على قوله تبارك وتعالى: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143].

    فلو أن رجلاً أخطأ متأولاً، فإنه لا يخرج بذلك من جملة المسلمين، فإذا كان لم يخرج من جملة المسلمين فأي معنى لأن تقول: (لا يرحمه الله)، وكذا من قال: إن الاستواء معناه الاستيلاء (لا رحمه الله).!

    هلا تأدب هذا القائل مثلما تأدب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وهما يكسران أصنام الجهمية، وهما من أفضل وأقوى الذين ردوا على هؤلاء الجهمية، ما سمعنا (لا رحمه الله) أو (يذهب إلى سقر)، أو هذه الأشياء منهم، بل هذا مسلم أخطأ، لا نقره على خطئه ونرجو له المغفرة.

    فأنا إذا كنت لم أقل (ابن حزم رحمه الله) فلا أقصد ترك الترحم عليه، بل أقول: ابن حزم رحمه الله وابن الجوزي رحمه الله، ونسأل الله أن يغفر لنا ولهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756232030