إسلام ويب

تفسير سورة الفتح [10]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    فوائد وعبر من حديث صلح الحديبية

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فلما كان صلح الحديبية فتح الفتوح، وكان خطاً فاصلاً بين مرحلتين مصيريتين من مراحل الدعوة الإسلامية، كان لا بد لنا من هذه الوقفة مع قصة صلح الحديبية؛ لشدة ارتباطها بتفسير سورة الفتح. قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الشروط: [ باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط: حدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر قال: أخبرني الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين؛ فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده! لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه) ].

    أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالشورى

    نشرح هذا الحديث في قصة الحديبية. قوله: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية). إما أن نقول: الحديبيَّة أو الحديْبِية: وهي بئر سمي المكان بها، وقيل: شجرة حدباء صغرت، وسمي المكان بها، وقال المحب الطبري : الحديبية قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم. وعند ابن سعد : أنه صلى الله عليه وسلم خرج يوم الإثنين لهلال ذي القعدة، وفي بعض الروايات: (في بضع عشرة مائة، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره، وأحرم منها بعمرة، وبعث عيناً له من خزاعة). يقول: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين). هذا الموضع اختصره الإمام البخاري وفي كتاب المغازي ذكره بشيء من التفصيل عن الزهري قال: (وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط -جمع شط- وهو جانب الوادي- أتاه عينه - يعني: الجاسوس الذي يتحسس الأخبار- فقال: إن قريشاً جمعوا جموعاً، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك! فقال: أشيروا عليّ أيها الناس! أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟! فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين، وإلا تركناهم محروبين، قال أبو بكر : يا رسول الله! خرجت عامداً لهذا البيت، لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: امضوا على اسم الله). وقال الزهري : وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: (ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وذلك كان امتثالاً منه لأمر الله عز وجل: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159]، وامتدح المؤمنين فقال: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]، فمع أنه كان مؤيداً بالوحي، ومع أنه هو المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم، لكن مع ذلك أراد أن يسن فيهم سنة الشورى. إن الشورى لها كثير جداً من الفوائد حيث فيها ضم عقل إلى عقل، وتجربة إلى تجربة، فتكون المحصلة غالباً خيراً للمسلمين، أما إذا استبد أحد بالأمر، خاصة في الأمور الجامعة العظيمة، وأمضى رأيه دون مشاورة الباقين، وحصلت أي مصيبة أو أية أضرار فإنه هو الملوم وحده، أما إذا شاور فإنه لا يتعرض لنفس القدر من اللوم، بل يكون هذا من تقدير الله عز وجل والمشاورة سنة من سنن النبي عليه الصلاة والسلام، وينبغي مشاورة العقلاء والحكماء والعلماء. وقوله عليه الصلاة والسلام: (أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟!) هؤلاء الذين تحالفوا مع قريش وعاونوهم وأتوا ليصدوا المسلمين عن البيت، فشاورهم فقال: (هل نميل إلى هؤلاء ونقتل ذراريهم ونصيبهم في أهليهم؛ لأنهم غدروا وأعانوا قريشاً، فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين، وإن يجيئوا تكن عنقاً قطعها الله سبحانه وتعالى؟!) المراد: أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه هل يخالف الذين نصروا قريشاً إلى مواضعهم، ويتجه إلى بيوتهم وخيامهم، فيسبي أهلهم، فإن جاءوا إلى نصرهم اشتغلوا بهم، وانفرد هو وأصحابه بقريش، هذا هو المراد بقوله: (تكن عنقاً قطعها الله) فأشار عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بترك القتال والاستمرار على ما خرج له من العمرة، حتى يكون بدء القتال منهم، فرجع إلى رأي أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وفي رواية أحمد : (فقال أبو بكر : الله ورسوله أعلم يا نبي الله! إنما جئنا معتمرين..) إلى آخر ما ذكرناه.

    جواز الاستتار عن المشركين ومفاجأتهم غرة

    قال الزهري : (وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه فقال: إن قريشاً جمعوا جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش) واحدها أحبوش، وهم بنو الهول بن خزيمة بن مدركة، وبنو الحارث بن عبد مناف بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، كانوا قد تحالفوا مع قريش، وكان التحالف بين هذه القبائل وبين قريش تحت جبل يقال له: الحبشي أسفل مكة؛ فسموا الأحباش؛ نسبة إلى هذا المكان الذي تحالفوا عنده. وقيل: سموا بذلك لأنهم تجمعوا؛ فمعنى التحبش: التجمع، فسموا بذلك لتحبشهم أي: تجمعهم، والتحبش: التجمع، والحباشة: الجماعة. وعن عبد العزيز بن أبي ثابت : أن ابتداء حلفهم مع قريش كان على يد قصي بن كلاب. ووقع عند ابن سعد : وبلغ المشركين خروجهم -يعني: إلى العمرة- فأجمع رأيهم على صده عن مكة، وعسكروا ببلدح، وبلدح: موضع خارج مكة. قوله: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة)، وفي رواية: (فقال له عينه هذا خالد بن الوليد بالغميم)، ويقال: الغُميم، يقول المحب الطبري : يظهر أن المراد كراع الغميم، وهو موضع بين مكة والمدينة، وقال ابن حبيب : الغميم قريب من مكة بين غابر والجحفة. وبين ابن سعد أن خالداً كان في مائتي فارس فيهم عكرمة بن أبي جهل ، والطليعة: مقدمة الجيش. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فخذوا ذات اليمين) أي: خذوا الطريق التي فيها خالد وأصحابه. قوله: (حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيراً). قترة: المقصود بها الغبار الأسود. يقول: (إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين، فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش)، لما رآهم خالد انطلق يركض مسرعاً ينذر قريشاً بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (وسار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته). الثنية: هي طريق في الجبل تشرف على الحديبية. قوله: (حتى إذا كان بالثنية التي كان يهبط عليهم منها بركت به راحلته: فقال الناس: حل حل) وهي كلمة تقال للناقة إذا توقفت عن السير، فإنهم ينادونها بهذه العبارة: حل حل، حثاً لها لمواصلة السير والحركة، فقال الصحابة رضي الله تعالى عنهم لناقة النبي صلى الله عليه وسلم لما بركت: (حل حل). قال الخطابي : إن قلت: (حلْ) واحدة بالسكون، وإن أعدتها (حلٍ حلْ) تنون في الأولى وتسكن في الثانية كـ( بخٍ بخ)، وحكى غيره السكون فيهما، يقال: حلحلت فلاناً إذا أزعجته عن موضعه، حتى تحركه من موضعه. (فقال الناس: حل حل، فألحت) يعني: تمادت وأصرت على عدم القيام، وهو من الإلحاح، رغم قولهم لها: (حل حل) (فقالوا: خلأت القصواء). الخلأ للإبل كالحران للخيل، ولا يكون الخلاء إلا للنوق خاصة. والقصواء: اسم ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان طرف أذنها مقطوعاً، والقصو: قطع طرف الأذن، يقال: بعير أقصى وناقة قصواء، وزعم الداودي أن هذه الناقة كانت لا تسبق، فقيل لها: القصواء؛ لأنها بلغت من السبق أقصاه. قوله: (فلما قال الناس: خلأت القصواء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل). (وما ذاك لها بخلق) يعني: ليس هذا من عادتها أن تتمرد وتمتنع عن المشي؛ ولكن حبسها حابس الفيل، فهذا أمر من الله سبحانه وتعالى. نلاحظ هنا: كيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -تجاوزاً- رد غيبة هذه الناقة، استصحاباً للأصل، فإذا كان الشخص معروفاً بالخير والاستقامة ثم بدر منه شيء، فالأصل أن تذب عنه، وتحسن الظن به، وتحمل أحواله على أحسن ما يكون، ففي حق دابة قال: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق)، فهذه إشارة إلى أهمية استصحاب الخلق الأصلي، والطباع الأصلية للشخص، وينظر إلى ما بدر على أنه زلة ليست صفة راسخة فيه، ومن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)، فالأناس ذوي الهيئة والاستقامة، والمعروفون بالعلم والورع والتقوى، إذا وقع أحدهم في عثرة أو خطأ فلا ينبغي أن تشهر وتضخم، وإنما يعفى عنه فيها إلا إذا أصاب حداً من حدود الله تبارك وتعالى. قال ابن بطال وغيره: في هذا الفصل جواز الاستتار عن أعين المشركين، ومفاجأتهم بالجيش طلباً لغرتهم -يعني: إشارة إلى المفاجأة في القتال-، وجواز السفر وحده للحاجة، وجواز التنكب عن الطريق السهلة إلى الوعرة للمصلحة. لأن الدين يسر، ونحن لا ينبغي أن نتعذب بتكلف المشقة إذا كان هناك طريقان -مثلاً- إلى المسجد: طريق ممهد وسهل، وطريق آخر وعر فيه الهوام وأشياء ضارة مما يؤذي ويشق على الناس، فلا تسلك الطريق الوعرة طلباً للمشقة، والإسلام لا يرضى أن الإنسان يتكلف المشقة، بل متى ما خير بين أمرين يختار أيسرهما، فنحن لا نتعبد بتحري المشقة، وإنما نختار الأيسر والأسهل، إلا إذا كان لمصلحة كما في هذا الحديث، حيث اختار الطريق الوعرة لأجل المصلحة الراجحة التي استدعت ذلك. وفي هذا الفصل أيضاً جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ويعذر من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله، يعني: إذا نسبه إليها من لم يعرف الأصل في هذا الشخص، فإنه يعذر؛ لأنه لا يعرفه بالحقيقة، أما الذي يعرفه ويعرف أن الأصل أن يستصحب استقامته وأحواله؛ ففي هذه الحالة يحكم عليه بما عرف من عادته؛ لأن خلاء القصواء لولا خارق العادة -وهو أنه حبسها حابس الفيل- لكان ما ظنه الصحابة بها صحيحاً من كونها خلأت، ولم يعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لعذرهم في ظنهم. وفيه جواز التصرف في ملك الغير للمصلحة بغير إذنه الصريح، إذا كان سبق منه ما يدل على الرضا بذلك؛ لأنهم قالوا: (حل حل)، فزجروها بغير إذنه، ولم يعاتبهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) وزاد ابن إسحاق (عن مكة) فقال: (حبسها حابس الفيل عن مكة) إشارة إلى ما وقع في قصة الفيل حينما أتى أبرهة بجيشه يقصد هدم الكعبة، فلما أراد أن يقترب من مكة حبس الفيل دون ذلك، وأرسلت عليه الطير الأبابيل، فمعنى (حبسها حابس الفيل) أي: حبسها الله عز وجل عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها، ومناسبة ذكرها: أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة وصدتهم قريش عن ذلك؛ لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء، ونهب الأموال، كما لو قدر دخول الفيل وأصحابه مكة، لكن سبق في علم الله تعالى في الموضعين -في حادثة الفيل، وفي الحديبية- أنه سيدخل في الإسلام خلق منهم، ويستخرج من أصلابهم أناس يسلمون ويجاهدون، وكان بمكة في زمن الحديبية جمع كثير مؤمنون من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، يعني: كانوا يستترون بإيمانهم، أو يظهرون إيمانهم ويعذبون ويستضعفون، فلو ترك الصحابة ليدخلوا مكة لما أمن أن يصاب أناس منهم بغير عمد، يعني: إذا دخلوا مكة وحصل قتال وهم لا يعرفون إخوانهم الذين يستترون بإيمانهم ولا يجهرون به، فربما قتلوا إخوانهم دون أن يشعروا، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذا في سورة الفتح بقوله: وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:25] لو تميزوا لنزل العذاب على الكفار، لكن منعهم الله عن دخولها، وحبسها حابس الفيل حتى لا يحصل قتال، فتقتلوا إخوانكم المؤمنين في مكة الذين هم مستضعفون وأنتم لا تشعرون؛ فتصيبكم منهم معرة بغير علم، لكن لو كانوا متميزين عنهم: (( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ))، لكن بوجود هؤلاء المستضعفين حبس الله الناقة عن الاستمرار في السير والدخول إلى مكة؛ حتى لا يقع هذا القتال. ووقع للمهلب تحرج في جواز إطلاق (حابس الفيل) على الله سبحانه وتعالى، فقال: المراد حبسها أمر الله عز وجل، فهو استبعد جواز هذه الكلمة، والراجح جواز إطلاق ذلك في حق الله، فيقال: (حبسها الله حابس الفيل)، وإنما يمنع تسميته سبحانه وتعالى (حابس الفيل) ونحوه، وكذا أجاب ابن المنير ، وهو مبني على الصحيح من أن الأسماء الحسنى توقيفية، بمعنى: أن أمر الإخبار عن الله سبحانه وتعالى وعن أفعاله أوسع من إطلاق الأسماء الحسنى على الله، فالأسماء الحسنى توقيفية، لكن عند الإخبار عن أفعال الله فيمكن أن يحصل توسع بأن يقال: حابس الفيل وغير ذلك من الأفعال أو الصفات، فمثلاً قوله تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ [الذاريات:47] ليس من أسماء الله الحسنى الباني، فعند الإخبار عن أفعال الله الأمر فيه سعة، كما في هذه الآية (( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ ))، ومن أجاز الاشتقاق في الأسماء الحسنى اشترط فيه ألا يشعر بالنقص كالوافي مثلاً.

    تعظيم حرمات الله سبحانه وتعالى

    في هذه القصة جواز التشبيه من الجهة العامة وإن اختلفت الجهة الخاصة، لأن أصحاب الفيل كانوا على باطل محض، وأصحاب هذه الناقة كانوا على حق محض، لكن جاز التشبيه من جهة إرادة الله تعالى منع الحرم مطلقاً، أما من أهل الباطل فواضح، وأما من أهل الحق فللمعنى الذي تقدم ذكره، وهو كيلا يحصل قتال يؤدي إلى قتل المؤمنين المستخفين بإيمانهم. وفيه ضرب المثل، واعتبار من بقي بمن مضى، قال الخطابي : معنى تعظيم حرمات الله في هذه القصة ترك القتال في الحرم؛ لأن الرسول عليه السلام أقسم وقال: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) فتعظيم حرمات الله يعني: ترك القتال في الحرم، والجنوح إلى المسالمة، والكف عن إراقة الدماء. واستدل بعضهم بهذه القصة لمن قال من الصوفية: علامة الإذن التيسير وعكسه، وفيه نظر، يعني: علامة إذن الله في الشيء أن ييسره لك، وعلامة عدم إذن الله فيه ألا ييسره لك، يقول الحافظ : وفيه نظر؛ لأن الإنسان يأخذ بأقصى طاقته عند الشروع في الأعمال، فإذا سد باب حول إلى باب آخر، ولا يستسلم ويقول: علامة الإذن التيسير وعكسه.

    استعمال النبي صلى الله عليه وسلم الحلف لتأكيد القول

    قوله: (والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت). قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده) فيه استعمال اليمين لتأكيد القول، فيكون أدعى إلى القبول، وقد حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثمانين موضعاً، بعدة صيغ منها هذه الصيغة: (والذي نفسي بيده)، والحلف يكون بالله سبحانه وتعالى، أو بأفعال الله عز وجل، أو أسمائه وصفاته، فالحلف عبادة من العبادات القولية، فلا ينبغي أن يحلف إلا بالله؛ لأن الحلف عبادة، والحلف بالله عز وجل يتضمن إخباراً لأمور عدة، يتضمن إخباراً بأن الله سبحانه وتعالى الذي تحلف باسمه هو المطلع على ما في قلبك، والعالم بصدقك، وهو الذي يثيبك إن كنت صادقاً، ويعاقبك إن كنت كاذباً في هذا اليمين، فهذه الصفات كلها ليست من شأن البشر، وإنما هي لله سبحانه وتعالى، فلذلك لا يجوز الحلف إلا بالله عز وجل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )، وقال عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وقال: (من قال: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله)، فكفارة اليمين بغير الله أن يقول الإنسان مباشرة بعدها: لا إله إلا الله، فلا يجوز الحلف بغير الله حتى ولو كان من الملائكة أو من الرسل أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمين المصريين المشهورة: (والنبي)، وهذا لا يجوز ولا يرضاه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحلف بغير الله شرك، فضلاً عمن يحلف بتربة أمه وتربة أبيه، وشرفه وأولاده وحياته.. إلى آخر هذه الأيمان، كل هذا مما لا يجوز. قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة) فالحلف لا ينبغي أن يكون إلا في الأمور العظيمة التي تليق باسم الله عز وجل، وليس في كل شيء يحلف فيه الإنسان، فإنما الحلف في الأمور العظيمة الجليلة؛ لأن بعض الناس يتمادون في الحلف بطريقة شديدة جداً، وبعض الناس كما هو حال النصارى بالعكس تماماً يتحرجون جداً من الحلف، ويقول لك: صدقني! صدقني! لأنهم ينظرون إلى أن الحلف شيء غير رجولي! لا، الحلف عبادة، ففيها تعظيم لله عز وجل مادامت في موضعها، ومادامت في الأمور الجليلة والعظيمة، فلا حرج على الإطلاق من الحلف إذا كان في موضعه، وفيه تعظيم لله، ولا تحلف في الأمور التافهة أو الحقيرة، فهذا من تعظيم اسم الله عز وجل ألا يحلف به إلا في الأمور الجليلة. ويعفى عما كان لغواً وهو الذي لا يقصده ولم يعقد عليه القلب، كقولك للرجل: لا والله، تعال والله، نعم والله.. إلى آخره. (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة) أي: خصلة (يعظمون بها حرمات الله) أي: من ترك القتال في الحرم، وفي رواية ابن إسحاق : (لا يسألونني بها صلة الرحم) ولا شك أن الرحم من جملة حرمات الله، وقيل: المراد بالحرمات حرمة الحرم؛ لأنهم كانوا داخل حدود الحرم، وفي حرمة الشهر الحرام؛ فهم خرجوا في ذي القعدة، وكانوا في حالة إحرام، وفي الشهر الحرام، وفي البلد الحرام. وهذا القول الأخير فيه نظر، وهو: أن المقصود بالحرمات حرمة الحرم، وحرمة الشهر، وحرمة الإحرام؛ لأن المشركين لو عظموا الإحرام لما صدوه عن دخول البيت، فهو قال (لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله) فالضمير يعود على المشركين، فالرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن أي خطة يعرضوها عليه فيها تعظيم لحرمات الله أجابهم إليها، فلو كان هذا القول راجحاً، فما الذي يعظمه المشركون؟! فدل هذا على أنه ليس هذا هو المقصود.

    من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية

    قوله: (إلا أعطيتهم إياها) يعني: إلا أجبتهم إليها. (ثم زجرها فوثبت) يعني: زجر الرسول عليه الصلاة والسلام الناقة (فوثبت) يعني: قامت، (فعدل عنهم) وفي رواية ابن سعد (فولى راجعاً) وفي رواية ابن إسحاق (فقال للناس: انزلوا، قالوا: يا رسول الله! ما بالوادي من ماء ننزل عليه)؛ لأن المشركين كانوا قد سبقوا إلى المياه دون المسلمين. قوله: (فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل من الماء يتبرضه الناس تبرضاً) (على ثمد) أي: حفيرة فيها ماء مثمود أي: ماء قليل، وقد قيل: إن الثمد في لغة بعض العرب: الماء الكثير، فأضاف قوله: على (ثمد قليل الماء) ليدفع توهم لغة من يقول: إن الثمد هو الماء الكثير. (يتبرضه الناس تبرضاً) التبرض: الأخذ قليلاً قليلاً، والبرض اليسير من العطاء، وقيل: هو جمع الماء بالكفين، يعني: من قلة الماء يجمعونه بالكفين. وذكر أبو الأسود عن عروة قال: (وسبقت قريش إلى الماء، فنزلوا عليه، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم الحديبية في حر كبير وليس بها إلا بئر واحدة). يقول: (فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل من الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه) يعني: لم يتركوه يلبث أي: يقيم، فانتهى هذا الماء بسرعة؛ لأن العدد كبير والماء قليل فنزحوه. (وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش؛ فانتزع سهماً من كنانته) يعني: أخرج سهماً من جعبته. (ثم أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يجعلوه فيه) أي: يضعوه في هذه البئر. (فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه) فسال الماء في هذا البئر، وعظم جداً، وظل يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه. يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: في قصة الحديبية في حديث البراء بن عازب في البخاري أيضاً: (أنه عليه السلام جلس على البئر ثم دعا بإناء فمضمض، ودعا الله، ثم صبه فيها، ثم قال: دعوها ساعة، ثم إنهم ارتووا بعد ذلك)، فيمكن أن يكون الأمران وقعا معاً، وروى الواقدي من طريق أوس : (أنه صلى الله عليه وسلم توضأ في الدلو، ثم أفرغه فيها، وانتزع السهم ووضعه فيها)، وفي رواية أخرى: (أنه تمضمض في دلو وصبه في البئر، ونزع سهماً من كنانته فألقاه فيها ودعا الله)، وفي حديث جابر : (عطش الناس بالحديبية وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ركوة، فتوضأ منها فوضع يده فيها، فجعل الماء يفور من بين أصابعه)، وكأن ذلك كان قبل قصة البئر. والله تعالى أعلم. وفي هذا اللفظ معجزات ظاهرة، وهذه بلا شك من آيات النبوة، وقد تواتر فوران الماء من أصابع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أكثر من مناسبة. أيضاً في هذا الحديث بركة سلاحه وما ينسب إليه صلى الله عليه وسلم. قوله (يجيش) أي: يفور، (بالرِي أو بالرَي حتى صدروا عنه) أي: رجعوا رواء بعد وردهم يعنى: لما وردوا الماء رجعوا عنه بعدما ارتووا وذهب عطشهم، وزاد ابن كعب : (حتى غرفوا بآنيتهم جلوساً على شفير البئر) أي: كانوا يجلسون على شفير البئر، واغترفوا بالآنية من شدة ارتفاع الماء، ولم يكن الماء في قاع البئر كما كان في الأول، وإنما ارتفع الماء جداً، فجلسوا على شفير البئر بالآنية يأخذون المياه من سطحها.

    جواز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة

    قوله: (فبينما هم كذلك) هذا فصل آخر من قصه الحديبية. (فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل : سأبلغهم ما تقول). قول الراوي: (فبينما هم كذلك إذ جاء بديل ) (فبينا هم) وفي رواية أخرى: (فبينما هم كذلك إذ جاء بديل ) وبديل هذا صحابي مشهور، (في نفر من قومه، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم) العيبة: ما توضع فيه الثياب لحفظها. والمقصود: أنهم كانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: أنهم كانوا موضع النصح له والأمانة على سره، وكأنه شبه الصدر الذي هو مستودع السر بالعيبة التي هي مستودع الثياب؛ لأن موضع إيداع الأسرار هو الصدر، فشبه موضع استيداع السر الذي هو الصدور من الإنسان بالعيبة التي هي موضع حفظ الثياب، فهذا معنى: (وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: يأتمنهم على أسراره، وكانوا ينصحون له، وهم من أهل تهامة. وزاد ابن إسحاق في رواية: (وكانت خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها ومشركها لا يخفون عليه شيئاً كان بمكة). إذاً: كان هناك حلف مع خزاعة بمؤمنيها وكافريها، كلاهما كان ناصحاً لرسول الله عليه السلام، فمعنى هذا الكلام أن خزاعة المؤمنون منهم كانوا عيبة نصحه، وأيضاً المشركون كانوا في حالة حلف مع النبي عليه السلام، وكانوا موالين له مع كونهم مشركين. ووقع عند الواقدي : أن بديلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (لقد غزوت ولا سلاح معك، فقال: لم نجئ لقتال، فتكلم أبو بكر ، فقال له بديل : أنا لا أتهم ولاء قومي)، وكان الأصل في موالاة خزاعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن بني هاشم في الجاهلية تحالفوا مع خزاعة، فاستمر هذا الحلف حتى بعد الإسلام؛ لأن رسول الله عليه الصلاة والسلام من بني هاشم، وهذا يؤخذ منه حكم شرعي، وهو جواز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة، فيمكن أن يستنصح المعاهد أو الذمي إذا دلت القرائن على نصحهم، وشهدت التجربة إيثارهم أهل الإسلام على غيرهم ولو كانوا من أهل دينهم. ويستفاد منه جواز استنصاح بعض ملوك العدو استظهاراً على غيرهم، ولا يعد ذلك من موالاة الكفار ولا مودة أعداء الله، بل من قبيل استخدامهم، وتقليل شوكة جمعهم، وإنكاء بعضهم ببعض، ولا يلزم من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين على الإطلاق، فالاستعانة هنا بالرأي فقط والمشورة والاستنصاح، بشرط أن تدل القرائن على نصحهم، وأن تشهد التجارب بأنهم يميلون ويفضلون أهل الإسلام على غيرهم من الكفار حتى ولو كانوا من أهل ملتهم. يقول: (فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية) اقتصر على ذكر هذين (إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي ) لكون قريش الذين كانوا بمكة أجمع ترجع أنسابهم إلى هذين الشخصين، فيقول: (إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية) الأعداد: جمع عد، وهو الماء الذي لا انقطاع له، فهم سبقوا إلى الأماكن التي فيها الآبار والمياه الجوفية التي لا تنقطع، فهذا يشعر بأن الحديبية كان فيها مياه كثيرة، وأن قريشاً سبقوا إلى النزول عليها، فلهذا عطش المسلمون حين نزلوا على الثمد المذكور. قوله: (ومعهم العوذ المطافيل) وفي بعض الروايات: (وجمعوا لك الأحابيش) قلنا: التحبيش هو: التجمع، والعوذ: جمع عائذ، وهي الناقة ذات اللبن، والمطافيل: الأمهات التي معها أطفالها، والإنسان يسر جداً إذا قرأ الأحاديث الطويلة، فهذه الأحاديث الطويلة تجد فيها متعة الفصاحة، وحلاوة اللغة العربية، ومن هذه الأحاديث الطويلة حديث الإفك، وحديث سمرة بن جندب في عذاب القبر، وحديث أم زرع .. وهكذا، فتجد فيها طعم اللغة العربية التي نحن محرومون منها الآن في وسط هذا الركام الهائل من الركاكة والعجز والجهل في العربية والعدوان عليها، ففعلاً نحن نحب تذوق اللغة العربية عندما تطول هذه النصوص الرائعة، ونحس أننا نكاد نكون أعاجم حينما نضطر كثيراً لشرح الغريب لتقصيرنا في حق لغة القرآن! فقوله: (ومعهم العوذ المطافيل) العوذ كما قلنا: هي النوق ذوات اللبن، والمطافيل: الأمهات التي معها أطفالها، يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها، ولا يرجعوا حتى يمنعوه، فمعنى: (معهم العوذ المطافيل) أنهم أتوا إلى الحديبية ومعهم النوق ذوات اللبن، حتى يشربوا من ألبانها إذا طالت مدة الإقامة هناك، وهذا فيه كناية على إصرارهم، وعلى عدم السماح له الصلاة والسلام بالدخول إلى مكة، وأنهم لن يرجعوا حتى يمنعوه، أو أن المقصود بقوله: (ومعهم العوذ المطافيل) أنه كنى بذلك على النساء ومعهن الأطفال، والمراد: أنهم خرجوا بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقامة، وليكون أدعى إلى عدم الفرار، ويحتمل إرادة المعنى الأعم، ويؤيده أن في بعض الروايات: (معهم العوذ المطافيل والنساء والصبيان).

    قوة فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم

    قوله: (وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل : سأبلغهم ما تقول) انظروا إلى حلاوة فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم وبلاغته، فيقول: (إن قريشاً قد نهكتهم الحرب) أي: أبلغت فيهم حتى أضعفتهم، إما أضعفت قوتهم أو أضعفت أموالهم، (فإن شاءوا ماددتهم) يعني: جعلت بيني وبينهم مدة، فيترك الحرب بيننا وبينهم خلال هذه المدة، هذا معنى (فإن شاءوا ماددتهم) أي: اتفقت معهم على مدة تتوقف فيها الحرب (ويخلوا بيني وبين الناس) أي: من كفار العرب وغيرهم، وهذا هو سر تسمية صلح الحديبية فتحاً كما سنبين إن شاء الله تعالى، وقد كان فتحاً عظيماً جداً بكل معنى الكلمة، والسر هو في هذه الجملة بالذات، في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويخلوا بيني وبين الناس) يعني: لما توقفت الحروب بدأت الحمية تهدأ عند أهل الشرك، وبدأ الكافر يستمع إلى المؤمن، ويعرض عليه الإسلام ومحاسنه، فكان هذا سبباً في دخول الناس في دين الله أفواجاً. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس) أعظم فتح للإسلام أن يخلى بين المسلمين الدعاة وبين الناس، ولا تكون هناك حواجز وموانع، وتشويش وتشنيع، إذا حصل ذلك فإن الناس سيدخلون في دين الله أفواجاً، فهذا نصر بكل معنى الكلمة، والإسلام في أي مكان وفي أي زمان إذا سمح بأن يتكلم أهله بحرية حقيقية، ولم تشن عليهم الحملات الشيطانية من وصفهم بإرهابيين ومتطرفين، ونحو هذه الاصطلاحات الغريبة التي تصد الناس عن دين الله سبحانه وتعالى، وكان المتكلمون باسم الإسلام أناساً على وعي وعلم وبصيرة؛ فالغالب أن العمي المقلدين الجهلة من الناس ينقادون -وأيضاً علماؤهم وعقلاؤهم- ويدخلون في دين الله أفواجاً، لكن الذي يحصل -وهو أقوى سلاح من أسلحة الباطل- التشويه الظالم، وعدم معرفة شرف الخصومة، وإلا فلا يمكن للإسلام أن ينهزم أبداً في معركة شريفة، سواء كانت معركة قتالية أو معركة فكرية، ففي المعركة القتالية المسلم في كل حال لا يهزم، ولا تنسب له هزيمة أبداً إذا قتل في سبيل الله، وهذا هو الذي دلنا عليه القرآن الكريم، فقد قال الله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ [النساء:74] لم يقل: ويهزم أو يُغلب، بل قال: (فيقتل أو يغلب) هذان الخياران هما اللذان سماهما الله سبحانه وتعالى إحدى الحسنيين في قوله تعالى: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ َ [التوبة:52] الحسنى مؤنث أحسن وليس مؤنث حسن، يعني: أن كلاً منهما أحسن من الآخر، فهي نصر أو شهادة، فالشهيد في الحقيقة لا يسقط وإنما يرتفع، قال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]؛ ولهذا يرتعد أعداء الإسلام دائماً من كلمة الجهاد، وإذا ذكر فإنهم يرتعشون ويرتعدون؛ لأنهم عرفوا خلال قرون طويلة ما معنى هذا الكلمة وتأثيرها عند المسلمين الذين يحبون الموت والقتل في سبيل الله كما يحبون هم الحياة ويعبدونها، فالمؤمن لا تنسب إليه هزيمة: (فيقتل أو يغلب) يقتل في سبيل الله أو يغلب وهي عزة الدنيا، أما الهزيمة فلا يهزم أبداً. كذلك أيضاً في المناظرات العلمية والفكرية إذا تصدر للنقاش والمناظرة من هو من أهل العلم والحق والبصيرة فلا يمكن أن ينهزم لضعف حجة أبداً، ولا يمكن أن يقف الباطل على الإطلاق أمام عالم مسلم يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، ويحاج الناس بالأدلة، والشيء الوحيد الذي يحصل فيه غير ذلك هو التشويه المتعمد، وتنفير الناس وصدهم عن سبيل الله سبحانه وتعالى بالحيل الشيطانية أو بالقهر أو غيره من الأساليب الغير الشريفة كما قلنا. فلذلك هذه العبارة في الحقيقة هي في غاية الأهمية فلا تمرن عليكم مرور الكرام، (فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس) أي: يستمعون دعوتي بدون تشويه وبدون حمية جاهلية تصد عن سبيل الله، هذا هو جوهر الفتح في صلح الحديبية. قال: (فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا) يا للفصاحة! يا لفصاحة خير من نطق بالضاد صلى الله عليه وآله وسلم! يقول لهم: (فإن أظهر فإن شاءوا) هذا شرط بعد شرط، (فإن أظهر) شرط (وإن شاءوا) شرط يعني: جاء بعد أداة الشرط الأولى جواب مقدر، والتقدير: فإن ظهر غيرهم علي كفاهم المؤنة، فإن أحد من المشركين غير هؤلاء القرشيين الذين يعاهدونني في هذا الصلح أتى وغلبني وقضى علي، فقد كفاهم المؤنة وأراحهم مني، (وإن أظهر) أنا على غيرهم فإن شاءوا أطاعوني، وإلا فلا تنقضي مدة الصلح إلا وقد جموا يعني: قد استراحوا، وفي رواية ابن إسحاق : (وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة) سيكونون واستراحوا في هذه المدة، وتلاحظون هنا اللباقة والكياسة، انظر كيفية إقناعهم بأن يقبلوا الصلح، وغرض النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك هو كما صدر في بداية الكلام: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها) الهدف: هو تعظيم حرمات الله، وعدم حصول قتال في الحرم، وفي حالة الإحرام، وفي الشهر الحرام.

    مسألة التنزل مع الخصم وضابطها

    قوله: (فإن أظهر فإن شاءوا) يلاحظ هنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام ردد الأمر، وجعل فيه احتمالين: إذا حصل صلح إما أن يغلبه غيرهم، وإما أن يظهر هو فيكونون قد استفادوا من هذه الهدنة بأن يقووا ويستريحوا من القتال، خاصة بعد قوله: (قد نهكتهم الحرب)، وإنما ردد -الأمر مع أنه صلى الله عليه وسلم جازم بأن الله تعالى سينصره ويظهره؛ لوعد الله تعالى له بذلك- على طريق التنزل مع الخصم، وترك الأمر على ما زعم الخصم، فهذا نوع من التنزل في النقاش ولا يضر صاحب الحق، فيجوز للإنسان في أثناء المناظرة أو المناقشة أن يفعل هذا النوع من التلطف والتنزل؛ لأن هدفك ليس إفحام الخصم، وإنما هدفك أن تهديه إلى الحق، فيجوز للإنسان في أثناء النقاش أن يفعل نوعاً من التنزل وتحويل العبارة بحيث يحصل به جذب لهذا الشخص إلى الحق. قوله عليه السلام: (فإن أظهر فإن شاءوا) قلنا: هذا ردده الرسول عليه الصلاة والسلام -مع أنه جازم بأن الله تعالى سينصره ويظهره بوعده تعالى له- على طريق التنزل مع الخصم وجعل الأمر على ما زعم الخصم، وبهذه النكتة حدث القسم الأول، وهو التصريح بظهور غيره عليه، يعني: فإن ظهر غيري علي فقد استراحوا مني، وإن أظهر أنا فإن شاءوا دخلوا فيما دخل فيه الناس، وإن وقد وقع التصريح بهذا في رواية ابن إسحاق ولفظه: (فإن أصابني كان الذي أرادوا)، وفي رواية أخرى: (فإن ظهر الناس علي فذلك الذي يبتغون)، فالظاهر أن الحذف وقع من بعض الرواة تأدباً، فيقول الحافظ : الظاهر أن بعض الرواة حذف منها هذه الجملة التي فيها: إن يغلب النبي عليه الصلاة والسلام أو يظهر عليه أحد؛ تأدباً، فإن بعض الروايات ذكرت هذا، فحذفها تأدباً، واقتصر على قوله: (فإن أظهر فإن شاءوا دخلوا فيما دخل فيه الناس). وذكرنا أنه قد يحتاج الإنسان إلى هذا الأسلوب من التنزل في المحاورة والمناقشة، وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم من هذا النوع، كما في سورة سبأ قال تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]، ركز الأمر على سبيل الاحتمال إما أننا نحن على الحق أو أنتم على الحق: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)، وذكر السورة لهذه الطريقة المحتملة هل يضر الحق شيئاً؟ لا يضر، لكن هي فيها استدراج للخصم لكي يكون أقرب إلى الانقياد للحق. كذلك الشاهد في قصة يوسف بدأ بالشيء الذي هو أقرب إلى هواهم، لكن هل يضر هذا يوسف شيئاً؟ لا يضره شيئاً، ما دام أنه مع الحق، قال الله: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27]، فهذا نوع آخر من التنزل لإثبات النزاهة لمن يدافع عنه، مع أنك تجادل في الحق على صورة محتملة فيها نوع من الاستدراج واستنزال الخصم، حتى يعي ما تقول وينقاد إلى الحق. كذلك قول مؤمن آل فرعون كما قال تعالى: وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28] فهذه دعوة إلى التدبر في أمر موسى عليه السلام، والتعامل مع دعوته بالعقل والمنطق: ( وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا ) فالكذب لا يضر أحداً إلا هو (فعليه كذبه)، يعني: افترضوا أنه صادق فيما يهددكم به من عذاب الله، فخذوا الأمر بجدية ( وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ )، فهذا من التنزل مع أن موسى عليه السلام حاشاه الكذب. أيضاً قول المؤمن: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا [غافر:29] يعني: كلنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا [غافر:29]. أيضاً في قصة يوسف قال تعالى: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيِه [يوسف:76] دفعاً للتهمة عن نفسه.

    قوة جزم النبي صلى الله عليه وسلم في نصرة الله لدينه

    قوله: (فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا) أي: إن شاءوا أن يدخلوا في الإسلام فعلوا (وإلا فقد جموا) أي: إن أصروا على قتالي يكونون قد استراحوا واستردوا قوتهم، ويستطيعون القتال بعد ذلك، (وإن هم أبوا) أي: فإن هم أبوا هذه العروض كلها، (فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره) قوله: (حتى تنفرد سالفتي) هي صفحة العنق، وكنى بذلك عن القتل؛ لأن القتيل تنفرد مقدمة عنقه، وقال الداودي : المراد بقوله: (حتى تنفرد سالفتي) الموت أي: لأقاتلنهم حتى أموت وأبقى منفرداً في قبري، ويحتمل أن يكون أراد أن يقاتل حتى ينفرد وحده في مقاتلتهم، يعني: أقاتلهم حتى لو لم يبق أحد يقاتلهم غيري، فسوف أقاتلهم ولو كنت وحيداً، وقال ابن المنير : لعله صلى الله عليه وسلم نبه بالأدنى على الأعلى أي: أن لي من القوة بالله والحول به ما يقتضي أن أقاتل عن دينه ولو انفردت وكنت وحيداً منفرداً ليس معي أصحاب ولا أنصار، فكيف لا أقاتل في سبيل إعزاز الدين مع وجود المسلمين، وكثرتهم، ونفاذ بصائرهم في نصرة دين الله تعالى؟ يعني: لو كنت وحدي فإني سأقاتلهم فما بالكم لو لم أكن وحدي ومعي أتباع وأنصار سوف يبذلون أرواحهم في سبيل الله عز وجل. (وليمكنن الله أمره) أي: ليمضين الله أمره في نصرة دينه، نلاحظ هنا الجزم بعد التردد في العبارة الأولى، (فإن أظهر فإن شاءوا دخلوا فيما دخل فيه الناس) إلى آخره، فذكره بصورة التردد للحكمة التي أشرنا إليها، أما في هذه الحالة فقال عليه الصلاة والسلام: (وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده) انظروا إلى الجزم والقطع (لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره) يعني: لينصرن الله دينه يقول الحافظ : وحسن الإتيان بهذا الجزم بعد ذلك التردد للتنبيه على أنه لم يورده إلا على سبيل الفرض يعني: أن التردد الذي وقع أولاً ما كان إلا على سبيل الفرض، أما اعتقاده الحقيقي فهو جازم بأن الله سوف ينفذ أمره، وينصر دينه عز وجل. أضف إلى هذا أن النبي عليه السلام في أثناء هذه المفاوضات أرسل عثمان رضي الله تعالى عنه إلى مكة برسالة إلى المستضعفين من المؤمنين داخل مكة، فأرسله يبشرهم بفتح الله وبنصر الإسلام، فهذا معناه أن الله أخبره أنه سوف يعز الإسلام وينصره ويفتح عليه، فهذا ينضم إلى قوله: (ولينفذن الله أمره) يعني: أنه كان جازماً من تحقق وعد الله بنصره، وأن هذا التردد كان على سبيل التنزل ومجرد الافتراض فقط في أول الأمر. وفي هذا الفصل الندب إلى صلة الرحم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نوى وعزم على أن يجيبهم إلى أي خطة فيها تعظيم لحرمات الله التي منها صلة الرحم، والإبقاء على من كان من أهلها، وبذل النصيحة للقرابة. وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من القوة والثبات في تنفيذ حكم الله وتبليغ أمره، ولا شك أن هذا التعبير يستحق أن يكون درساً مستقلاً تستخرج منه العبر، وهو قول النبي عليه السلام: (وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره) وهذه الجملة أقوى بكثير -والله تعالى أعلم- مما يروى أنه قال في الحديث الضعيف: (يا عم! والله! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه) فالتعبير هنا أقوى، وهذا الحديث في صحيح البخاري، وهو قوله: (والذي نفسي بيده! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل : سأبلغهم ما تقول) يعني: أذن له في الذهاب ليبلغهم ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.

    إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن عفان سفيراً إلى قريش

    قال: (فانطلق حتى أتى قريشاً، قال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا)، (فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء) بادر بالجواب سفهاؤهم الذين لا عقل لهم، وما يحسنوا إلا الحمية الجاهلية، يعني: لا نريد أن نسمع، (لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم! ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهمونني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آتيه قالوا: ائته فأتاه). قوله: (فقال سفهاؤهم) سمى الواقدي منهم عكرمة بن أبي جهل والحكم بن أبي العاص فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول: كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد ابن إسحاق : (فقال لهم بديل: إنكم تعجلون على محمد) أي: تستعجلون في الحكم، (إنكم تعجلون على محمد! إنه لم يأت لقتال، إنما جاء معتمراً؛ فاتهموه) يعني: اتهموا بديلاً؛ لأنهم كانوا يعرفون ميله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، (فقالوا: إن كان كما تقول فلا يدخلها علينا عنوة)، يعني: إن كان الأمر كما تقول في هذه الرسالة التي حملك إياها، فلا يدخلها علينا عنوة. قوله: (فقام عروة بن مسعود ) وفي بعض الروايات قالوا: (لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية أحب أن يبعث رجلاً من أصحابه إلى قريش يعلمهم بأنه إنما قدم معتمراً، فدعا عمر فاعتذر؛ لأنه لا عشيرة له بمكة، فدعا عثمان فأرسله بذلك، وأمره أن يعلم من بمكة من المؤمنين بأن الفرج قريب). إذاً: بعث عثمان بهذه الرسالة؛ ليبلغ قريشاً أنه ما أتى لقتال، وإنما أتى للعمرة، وفي نفس الوقت ليعلم المستضعفين من المؤمنين في مكة بأن الفرج قريب، فهذا يعني أنه كان جازماً بنصر الله سبحانه وتعالى. (فأعلمهم عثمان بذلك، فحمله أبان بن سعيد بن العاص على فرسه.. إلى أن قال: فقال: المسلمون هنيئاً لـعثمان) لما ذهب عثمان إلى مكة المسلمون (هنيئاً لـعثمان ! خلص إلى البيت فطاف به دوننا)، أي: استطاع أن يدخل إلى مكة كرسول أو مبعوث، فسيذهب ويستمتع بالطواف حول الكعبة، أما نحن فقد حرمنا من ذلك، فقالوا: (هنيئاً لـعثمان خلص إلى البيت فطاف به دوننا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ظني به ألا يطوف حتى نطوف معه)، استبعد النبي صلى الله عليه وسلم من عثمان أن يفعل هذا، وقال: ظني به أنه لا يمكن أن يطوف قبل أن أطوف أنا، (فكان كذلك، ثم جاء عروة بن مسعود).

    إرسال قريش لعروة بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

    يقول: (فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم) وهذا الأمر كان لما رآهم سمعوا رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام مع بديل بن ورقاء ، (فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم! ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى)، وفي بعض الروايات: (ألستم بالولد وألست بالوالد؟ قالوا: بلى)، وبعض الروايات بالعكس: (ألستم بالوالد وألست بالولد؟) وهذا هو الصواب، والمقصود من هذا: أن أم عروة هي سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف ، فأراد بقوله: (ألستم بالوالد) يعني: أنكم حي قد ولدوني في الجملة؛ لكون أمي منكم، وعلى رواية: (ألستم بالولد) يعني: أأنتم عندي في الشفقة والنصح بمنزلة الولد؟! ولعله كان يخاطب بذلك قوماً هو أسن منهم، يعني: يشير إلى أنه مخلص لهم، سواء على أنه ابن أو والد، ففي كلا الحالتين يكون ناصحاً ومخلصاً لمن ينصحه ويجتهد في نصحه، فهو يريد أن يستنزلهم ويقنعهم -قبل أن ينصح- بأنه جدير بأن يثقوا في نصيحته ولا يتهموه، فإذا كانوا اتهموا بديلاً فهو أراد أن يقول: أنا غير متهم، وأراد أن يقررهم أولاً بذلك كما حصل ذلك من النبي عليه السلام في مواضع معينه معروفة. فقال: (فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ) يعني: دعوتهم إلى نصركم، (فلما بلحوا علي) يعني: فلما امتنعوا من الإجابة؛ لأن التبلح هو التمنع، وبلح الغريم إذا امتنع من أداء ما عليه، وزاد ابن إسحاق : (فقالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ كي يجيئوا وينصروكم، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ -يعني: لأنصركم- قالوا؟ بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته)، (قد عرض عليكم خطة رشداً) يعني: خصلة خير وصلاح وإنصاف، وبين ابن إسحاق أن سبب تقديم عروة لهذا الكلام عند قريش ما رآه من ردهم العنيف على من يجيء من عند المسلمين، فقد كانوا يردون بعنف وشدة؛ فلذلك احتاج أن يستدرجهم في الكلام بهذه الطريقة، قوله: (ودعوني آته) يعني: أجيء إليه، (قالوا: ائته، فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لـبديل ، فقال عروة ..)، وفي رواية ابن إسحاق : (وأخبره أنه لم يأت يريد حرباً).

    جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لمن بدا منه ما يستحق ذلك

    قوله: (فقال عروة عند ذلك) أي: عند قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي) قال عروة عند ذلك: أي محمد! أرأيت إن استأصلت أمر قومك! هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني لأرى وجوهاً، وإني لأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك). لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم نفس الكلام الذي قاله لـبديل وهو قوله: (وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره، قال له: أي محمد! أرأيت إن استأصلت أمر قومك) أي: لو نجحت في أن تستأصل قومك قريشاً، (هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟) يعني: أهلك أصله بالكلية، وحذف الجزاء من قوله: (وإن تكن الأخرى) تأدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وإن تكن الغلبة لقريش لا آمنهم عليك مثلاً. فهو ذكر هذين الاحتمالين: يقول: (أي محمد! أرأيت أن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى) يعني: إن تكن الغلبة لقريش، وهذا من فصاحة العرب ودقتهم في التعبير، دائماً التعبير يكون في جانب الهزيمة يكون بقولهم: وإن تكن الأخرى؛ تجنباً للفظ الهزيمة، وأن يغلب الإنسان، فقال: (وإن تكن الأخرى) يعني: معناها إن غلبتك قريش، وكان لابد من القتال، (فإني والله لأرى وجوهاً) فهو ينظر باحتقار إلى الصحابة، ويريد أن يذم الصحابة الذين كانوا حول النبي عليه الصلاة والسلام، (وإني لأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك)، فقوله: (فإني والله لأرى وجوهاًً) كالتعليل لهذا القدر المحذوف. والحاصل: أن عروة ردد الأمر بين شيئين غير مستحسنين عادة، وهو هلاك قومه إن غلب، وذهاب أصحابه إن غُلب، فهو لأنه لم يكن مسلماً فالاحتمالان عنده غير مستحسنين، فيريد أن يقنع النبي عليه السلام بأن كلا الأمرين غير مستحسن، وهذا من وجهة نظره هو، يقول الحافظ : لكن كل من الأمرين مستحسن شرعاً، كما قال تعالى: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52]. قوله: (وإن تكن الأخرى فإني لأرى وجوهاً، وإني لأرى أوباشاً)، وفي بعض الروايات: (أوشواباً) والأشواب: الأخلاط من أنواع شتى، والأوباش: الأخلاط من السفلة، فالأوباش أخص من الأشواب، (خليقاً) يعني: حقيقاً وجديراً (أن يفروا ويدعوك) يعني: يتركوه، وفي بعض الروايات: (وكأني بهم لو قد لقيت قريشاً قد أسلموك، فتؤخذ أسيراً، فأي شيء أشد عليك من هذا؟). وفيه أن العادة جرت أن الجيوش المجمعة لا يؤمن عليها الفرار، بخلاف من كانوا من قبيلة واحدة، فإنهم يأنفون الفرار في العادة. والحاصل أن عروة ردد الأمر بين شيئين غير مستحسنين عادة، لكن شرعاً هما مستحسنان، لقوله تعالى: (قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ). أيضاً: لأنه لم يكن تشرف بنور الإسلام؛ احتقر الصحابة، فسماهم أوباشاً سفلة من الناس أو أخلاطاً، هذا رومي! وهذا حبشي! وهذا قرشي! وهذا كذا.. فهم عبارة عن أخلاط، فيقول الحافظ : وفيه أن العادة جرت أن الجيوش المجمعة من الخليط لا يؤمن عليها الفرار، بخلاف من كانوا من قبيلة واحدة؛ لأن أصحاب القبيلة الواحدة يأنفون ويستمسكون عن الفرار -لأن هذا يعيبهم، ويكون عاراً في حقهم- وما درى عروة أن مودة الإسلام أعظم من مودة القرابة؛ لأنه لم يكن مسلماً، فمودة الإسلام التي تربط بين هؤلاء الصحابة أعظم من مودة القرابة، وقد ظهر له ذلك من مبالغة المسلمين في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، فالمسلمون لقنوه درساً لا ينساه بالقول والعمل، بالقول حين رد عليه أبو بكر رضي الله عنه مباشرة بقول شديد شنيع، وكما رد أيضاً المغيرة بن شعبة كما سيأتي، وبالعمل حينما بالغوا في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمام هذا الكافر؛ ليدرك أنهم ليسوا كما ظن بهم، وإنما هم أشد الناس تعظيماً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما قال: (وإني لأرى وجوهاً وإني لأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك قال له أبو بكر : امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟! فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر ، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة فقال: أي غدر! -لأنه عمه- ألست أسعى في غدرتك؟! وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء). قول أبي بكر له: (امصص بظر اللات)، اللات هي الآلهة التي كان يعبدها عروة، وكانت عادة العرب الشتم بذلك، لكن بلفظ الأم، فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة بإقامة من كان يعبد مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار، وفيه جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه ما يستحق به ذلك، وقال ابن المنير : في قول أبي بكر تخسيس للعدو، وتكذيبه، وتعريض بإلزامهم من قولهم: إن اللات بنت الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً؛ لأنها لو كانت بنتاً كان لها ما يكون للإناث. قوله: (أنحن نفر وندعه؟) هذا استفهام إنكار، (قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر )، وفي رواية: فقال: (من هذا يا محمد؟ فقال: هذا ابن أبي قحافة) رضي الله عنه، ثم قال له: (أما) وهذا حرف استفتاح، (والذي نفسي بيده)، وهذا يدل على أن القسم بهذا كان من عادة العرب، (لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك) لولا يد أي: نعمة، وهو إحسان كان أحسن إليه أبو بكر فيما مضى، وهو لم يرد له هذا الإحسان أو هذا الجميل، (لم أجزك بها) يعني: لم أكافئك بها، (لأجبتك) لكن هذه بها، فسأتوقف وأمتنع من الرد عليك عن هذه الكلمة الشنيعة التي قلتها مقابل النعمة أو الجميل الذي فعلته في، ففي الجاهلية كان يوجد أخلاق، أما الآن كما يقول بعض الناس: أصبحنا في زمان ليس فيه آداب الإسلام، ولا أخلاق الجاهلية، ولا أحلام ذوو المروءة! فقال: (لولا يد لك عندي لم أجزك بها) يعني: لم أكافئك بها لأجبتك، وذكر بعضهم أن هذه اليد المذكورة: أن عروة كان تحمل دية، فأعانه أبو بكر بعون حسن، وفي رواية الواقدي : أعانه بعشر قلائص.

    الغدر مذموم في الجاهلية والإسلام إلا في الحرب

    قال: (وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته) أمسك بلحية الرسول صلى الله عليه وسلم. (و المغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف)، وهذا فيه جواز القيام على رأس الأمير بالسيف لقصد الحراسة ونحوها من ترهيب العدو، ولا يعارضه النهي عن القيام على رأس الجالس؛ لأن محله ما إذا كان على وجه العظمة والكبر، أما هذا فبقصد الحراسة، وإرهاب الأعداء. وفي رواية: (فكلما كلمه أخذ بلحيته)، وفي رواية: (فجعل يتناول لحية النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة قائم)، وفي رواية أخرى: (أن المغيرة لما رأى عروة بن مسعود مقبلاً لبس لأمته، وجعل على رأسه المغفر ليستخفي من عروة عمه)؛ لأن عروة عمه، فـالمغيرة كان حريصاً على ألا يعرفه من هو، فغطى وجهه، ولبس لباس الحرب واللأمة والمغفر، بحيث لا تظهر ملامح وجهه. يقول: (وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته، والمغيرة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف، وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف)، وهو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيرها، (وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم) أخر: فعل أمر من التأخير، وفي رواية ابن إسحاق : (كلما أخذ بلحية الرسول عليه الصلاة والسلام يضربه بنعل السيف، ويقول له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألا تصل إليك) يعني: قبل أن أقطع لك هذه اليد التي تمتد وتمسك بلحية رسول الله صلى الله عليه وسلم! وزاد عروة بن الزبير في رواية أخرى أنه كان يقول له: (أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألا تصل إليك، فإنه لا ينبغي لمشرك أن يمسه)، وفي رواية ابن إسحاق : فيقول عروة يرد عليه: (ويحك! ما أفظك وأغلظك!) وكانت عادة العرب أن يتناول الرجل لحية من يكلمه لاسيما عند الملاطفة، وفي الغالب لا يصنع ذلك إلا النظير بالنظير، فالنظراء يفعلون هذا بعضهم مع بعض، لكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضي لـعروة عن ذلك، يعني: لم يمنعه من ذلك استمالة له وتأليفاً، لكن المغيرة لم يتجاوز عن ذلك، فالرسول صلى الله عليه الصلاة والسلام كان يغضي ولا يعنفه على إمساكه بلحيته، مع أنه ليس نظيره، وإنما استمالة لقلبه وتأليفاً له، والمغيرة كان يمنعه إجلالاً للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له. (فقال: من هذا؟) أي: من هذا الذي كل وقت يضرب يدي بالسيف، ويقول هذا الكلام الفظ الغليظ؟ (فقال من هذا؟ قال: المغيرة )، وفي رواية لـأبي الأسود عن عروة : (فلما أكثر المغيرة مما يقرع يده غضب) أي: من كثرة الضرب على يده غضب، (وقال: ليت شعري) يعني: ليتني أعلم، (ليت شعري من هذا الذي قد آذاني من بين أصحابك؟! والله لا أحسب فيكم ألأم منه ولا أشر منزلة)، وفي رواية ابن إسحاق : (فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عروة : من هذا يا محمد؟! قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة). فقال له عمه عروة : (أي غدر)، يعني: عرفتك يا غادر! (أي غدر! ألست أسعى في غدرتك؟)؛ (أي غدر) صيغة مبالغة في صفة الغدر، ألست أسعى في غدرتك أي: ألست أسعى في دفع شر غدرتك، وفي مغازي عروة قال له: (والله! ما غسلت يدي من غدرتك، لقد أورثتنا العداوة في ثقيف)، وفي رواية ابن إسحاق : (وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس)، قال ابن هشام في السيرة: أفاد عروة بهذا إلى ما وقع للمغيرة قبل إسلامه؛ وذلك أنه خرج مع ثلاثة عشر نفراً من ثقيف من بني مالك، فغدر بهم وقتلهم، وأخذ أموالهم، فتهايج الفريقان بنو مالك ورهط المغيرة ، فسعى عروة بن مسعود عم المغيرة حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفساً واصطلحوا. وحاصل القصة عند ابن الكلبي والواقدي : أنهم كانوا خرجوا زائرين المقوقس بمصر، فأحسن أليهم وأعطاهم، وقصر بـالمغيرة ، فحصلت له غيرة منهم، فلما كانوا في الطريق شربوا الخمر، فلما سكروا وناموا وثب المغيرة فقتلهم، ولحق بالمدينة فأسلم، لذلك يقول هنا في رواية البخاري : (فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة قال: أي غدر! ألست أسعى في غدرتك؟! وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء). قوله: (أما الإسلام فأقبل) يعني: أقبله منك (وأما المال فلست منه في شيء) أي: لا أتعرض له لكونه أخذه غدراً، فالغدر لا يحل حتى مع الكافر إلا في حالة الحرب، لكن في الحالة التي يكون آمناً فيها لا ينبغي للمسلم أن يغدر أبداً. يقول الحافظ : ويستفاد منه أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدراً؛ لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة، والأمانة تؤدى إلى أهلها مسلماً كان أو كافراً يعني: ينبغي أن يكون خلق المسلم الأمانة مع كل أحد، حتى لو كان كافراً، قال صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)، فأموال الكفار تحل بالمحاربة والمغالبة، كغنيمة في حالة حرب، أما في الحالة التي أعطاك فيها الأمان أو يوجد نوع من الأمان بينك وبينه، فالتعرض له من الغدر، ومعلوم وعيد الغادر يوم القيامة. وهذا الأدب وهذا الخلق يحتاج إليه كثير ممن يزعمون الالتزام والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى من بعض الجماعات في بلاد الكفار، وحتى في باقي بلاد المسلمين، حيث يقع كثير من الغدر والخيانة في موضوع الأموال بالنصب والسرقة، وهذا موجود كثير جداً للأسف الشديد، وهو في أمريكا بصورة أكبر، وكان للأسف الشديد جداً في أول الأمر يوجد عندهم نوع من التسامح الشديد في المعاملات، حتى بدأت تشيع الخيانة والكذب والغدر ممن ينتسبون إلى الإسلام، فكانت تزيد التعقيدات بمرور الوقت، وبالذات في موضوع المكالمات الهاتفية ونحوها، فأصبحوا الآن -وللأسف الشديد- يقارنون أصحاب البلاد ببعضهم البعض، ففي أمريكا أي مكالمة خارج البلاد يكون فيها إجراءات استثنائية كمصر وباكستان وإسرائيل عصابة اليهود، فإذا تريد أن تتصل فلابد أن يتأكدوا أولاً من الهوية، تحرزاً من سرقة كروت الاتصالات، فتخيل أن شخصاً يستخدم مكالمة من وراء البحار لمدة ساعة ونصف ويكون صاحبه أو قريبه هنا يشغل له التلفاز ليتابع المباراة، وهو مستمر في فتح خط الهاتف؛ لأنه لص لا يدفع المال من جيبه؛ لأنه ليس من الممكن أن يبذل هذا المبلغ الضخم الذي سيدفع مقابل هذه الساعة والنصف من جيبه، فهو يسرق. وقد حصل في يوم من الأيام أن شخصاً من هؤلاء اللصوص اتضح له أن الكرت الذي يتصل به ملك لشخص مسلم! يعني: آذى مسلماً بهذه السرقة وهذه اللصوصية، فهذه لصوصية ولا يمكن أبداً أن تسمى بغير ذلك، فينبغي للإنسان أن يتنزه عن هذه الأشياء، فبعض الناس يتحايل بصورة دنيئة جداً وقبيحة وكريهة في السرق والنصب، بحجة أن هؤلاء كفار! والحديث في هذا يطول. فهذا ليس من خلق المسلم، والإسلام بريء من أخلاق هؤلاء الناس، لأن أقل ما في هذا الموضوع هو صد الناس عن سبيل الله عز وجل، يقول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:94] فهذه الآية مهمة جداً لنا جميعاً، وبالذات لهؤلاء الناس الذين يفعلون أشياء من الخيانة والغدر واللصوصية، ويزينونها لأنفسهم بأهوائهم، ففي هذه الآية ينهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عندما يتعاملون مع الكفار أو مع غيرهم أن يؤكدوا العهد والميثاق أو الاتفاق الذي يتفقون عليه بأن يقسموا بالله سبحانه وتعالى، فإذا أقسموا بالله فإن الطرف الآخر يصدقه؛ لأنه لا يتصور أن يحلف بالله كاذباً، فهؤلاء مؤمنون ومسلمون ولا يمكن أن يكذبوا، قال تعالى: (( وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ ))، فجاءت الآية تحذر المؤمن من أن يستعمل الحلف باسم الله سبحانه وتعالى وسيلة لخداع الناس وغشهم: ( َلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ ) أي: لا تستعملوا اسم الله والحلف بالله للإفساد بين الناس وأخذ حقوقهم، فإذا فعلتم ذلك ووقعتم في هذه الورطة فإنه يترتب على ذلك شران: الأول: ( فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ) بعدما كنتم موصوفين بوصف الأمانة صرتم خونة، وبعد التقوى صرتم فجاراً، وهكذا.. ( فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ) عن الطريق المستقيم، فهذا انحراف وانحياز عن الطريق المستقيم، فهذا هو الوعيد الأول، قال تعالى: بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ [الحجرات:11]. الوعيد الثاني: قوله: (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ الله) يعني: إن هذا السلوك منكم من الخيانة والغدر والكذب يترتب عليه أن الناس يصدقونكم، فإذا خنتم وغدرتم فسيقولون: لو كان في دينهم خير لما سرقوا ونصبوا، ولما حلفوا كاذبين، لو كان في دينهم خير لما فعلوا ذلك! وهذا الاتهام غير صحيح؛ لأنهم بشر غير معصومين، ولكن أنتم تعطونهم الذري

    حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له

    الموقف الأخير الذي نتعرض له في هذه القصة قول الراوي: (ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -أي: يلاحظ تصرفاتهم بعينيه- فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً صلى الله عليه وسلم، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده! وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها). قوله: (فجعل يرمق) يعني: يلحظ، (أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه)، وكأن الصحابة أرادوا أن يلقنوه الدرس الثاني بعد ما لقنه أبو بكر الدرس الأول لما قال: (وإني لأرى حولك أوباشاً أو أشواباً خليقاً أن يفروا ويدعوك) فرد عليه أبو بكر بهذه الكلمة الشديدة، ثم رد المغيرة أيضاً بضربه على يده، وما حصل بينهم من الحوار، ثم عملياً جعل عروة يرمق سلوك الصحابة رضي الله عنهم بعينيه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يقول: (فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده) وهذا تبركاً بآثار أو فضلات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتبرك بما ينفصل عن جسد النبي صلى الله عليه وسلم أو أجزائه كشعره وغير ذلك جائز شرعاً. زاد ابن إسحاق : (ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه). قوله: (وإذا أمرهم ابتدروا أمره) إذا أمرهم بأمر تسابقوا أيهم يكون الأول امتثالاً لهذا الأمر، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه. وهذا الحديث فيه دليل على طهارة النخامة، وطهارة الشعر المنفصل، ولعل الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عروة ، وبالغوا في ذلك؛ إشارة منهم إلى الرد على ما خفي عليه منهم، وكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحب إمامه هذه المحبة، ويعظمه هذا التعظيم؛ كيف يظن به أن يفر عنه ويسلمه لعدو؟! بل هم أشد ارتباطاً به وبدينه وبنصره من القبائل التي يراعي بعضها بعضاً بمجرد الرحم، فيستفاد منه جواز التوصل إلى المقصود بكل طريق سائغ، فهم أرادوا أن يوصلوا له هذه الرسالة عن طريق هذه الوسائل، فإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه الذي يتناثر من أعضائه عند الوضوء، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وهكذا كان أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعدم إحداد النظر، هو أدب أصلاً مع كل كبير، حتى مع الوالدين أو غيرهم ممن يعظم، لا ينبغي للإنسان أن يحد النظر في أبيه أو في شيخه أو في مدرسه أو أستاذه، بخلاف هذه الأشياء التي نسمع فيها العجب الآن من طلاب المدارس وما يصنعونه مع مدرسيهم، فمن الأدب أنه لا يحد النظر بهذه الطريقة مع الوالدين وغيرهما ممن يعظم، وقد ذكر عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أنه قبل أن يسلم ما كان أحد أبغض إليه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أما بعد أن أسلم فيقول: فلم يكن أحد أحب إلي منه، ولم أكن -يعني: مع صحبته للرسول عليه الصلاة والسلام- أطيق النظر إليه، ولو أني سئلت أن أصفه ما أطقت! يعني: لو قال له أحد: صف لي صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وملامحه، لما استطاع ذلك! قال: لأني لم أكن أحد النظر إليه تعظيماً له صلى الله عليه وسلم أو كما قال رضي الله تعالى عنه، فـعمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه كان إذا جلس الرسول عليه الصلاة والسلام لا يملأ عينيه منه إجلالاً له، وتعظيماً واستحياء منه عليه الصلاة والسلام، حتى أنه لو سئل أن يصفه لما أطاق ولما استطاع أن يصف ملامح النبي صلى الله عليه وسلم. يقول: (فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على كسرى وقيصر) هذا من إطلاق الخاص بعد العام؛ لأن قيصر وكسرى والنجاشي من الملوك، وذكر الثلاثة لأنهم كانوا أعظم ملوك ذلك الزمان. وفي بعض الروايات: (فقال عروة : أي قوم! إني قد رأيت الملوك ما رأيت مثل محمد صلى الله عليه وسلم وما هو بملك، ولكن رأيت الهدي معكوفاً وما أراكم إلا ستصيبكم قارعة) أي: لأنكم إذا تعرضتم لهؤلاء الناس الذين قصدوا البيت محرمين فلابد أن يعاقبكم الله؛ فتصيبكم قارعة إذا منعتموهم من دخول الحرم، فانطلق هو ومن اتبعه إلى الطائف خشية أن ينزل العذاب وهو قريب من قريش. وفي قصة عروة بن مسعود من الفوائد ما يدل على جودة عقله ويقظته، وما كان عليه الصحابة من المبالغة في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، ومراعاة أموره، وردع من جفا عليه بقول أو فعل. والتبرك بآثاره. ولنذكر الجزء الذي شرحناه من هذا الحديث الطويل: يقول: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش. وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل! فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده! لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش؛ فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه. فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين, إن قريشاً قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإنهم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل : سأبلغهم ما تقول. قال: فانطلق حتى أتى قريشاً قال: إنا جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذووا الرأي منهم: هات ما سمعته، قال: سمعته يقول كذا وكذا.. فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم! ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟! قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته، قالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لـبديل ، فقال عروة عند ذلك: أي محمد! أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟! وإن تكن الأخرى، فإني والله لأرى وجوهاً، وإني لأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات! أنحن نفر عنه وندعه؟! فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر ، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بك لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة ، فقال: أي غدر! ألست أسعى في غدرتك؟! وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شي. ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله! إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن؛ فابعثوها له، فبعثت له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت! فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فم

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757217442