لا يخفى على الناظر في حال الأمة الإسلامية اليوم ما هي فيه من انغماس في الملذات والشهوات، وغفلة عن رب الأرض والسماوات، سادرة في غيها، لاهية لاعبة، معرضة عن أوامر الله مستخفة بشرعه، وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا، وأوعدنا بالعقاب الشديد من الله، فيجب علينا الرجوع والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.
-
الغفلة عن الآخرة والانكباب على الدنيا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحيَّاكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا الجمع الكريم المبارك على طاعته أن يجمعنا معكم مع سيد النبيين في الآخرة في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! لقاؤنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، بعنوان: (الغفلة) وسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية:
أولاً: التهالك على الدنيا والتغافل عن الآخرة.
ثانياً: الاستخفاف بأوامر الله عز وجل.
ثالثاً: الغفلة عن الغاية.
وأخيراً: ففروا إلى الله.
فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا الموضوع بين يدي شهر رمضان من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
قال الله جل وعلا:
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ *
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ *
لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء:1-3].
آيات تهز الغافلين هزاً، فالحساب قد اقترب والناس في غفلة!! وآيات الله تتلى، ولكنهم معرضون لا يأتمرون بأوامر الله عز وجل، ولا يقفون عند حدوده جل وعلا.
إنك لو نظرت الآن إلى واقع كثير من المسلمين كاد قلبك أن ينخلع وكأن المسلم لا يعلم عن دين الله شيئاً ولا يعنيه أن يسمع قال الله، قال رسوله، فهو لا يعيش إلا لشهواته ونزواته الرخيصة، وكأنه نسي أنه سيعرض يوماً على الله جل وعلا ليسأل عن كل شيء، مصداقاً لقوله سبحانه:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه *
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].
أيها المسلمون! أليس عجيباً أن يعرض المسلم عن الله؟!
أليس عجيباً أن يتغافل المسلم عن لقاء مولاه وأن يقضي جل عمره في معصية الله جل وعلا؟!
-
النعمة مع الإقامة على المعصية استدراج ونقمة
إن من الناس الآن من هو مقيم على معصية الله، ولكن الله يستره ويحفظ عليه نعمه، فيظن المسكين أن المعصية هينة حقيرة، ولولا أنها كذلك لعجل الله له العقوبة في الدنيا، بل ربما يفتخر بأنه عصى الله بليل فيصبح ليهتك ستر الله عليه بنهار، ونسي المسكين أن حلم الله عليه استدراج له من الله جل وعلا.
وتدبر معي قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (
إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]).
أيها المظلوم! إياك أن تظن أن الله قد أهمل الظالم، أو أن الله عز وجل قد نسي الظالم فتعالى ربنا فلا يظل ربنا ولا ينسى، بل إن الله ليملي لأهل الظلم، والطغيان حتى إذا ما أخذهم فلن يفلتهم ربنا جل وعلا.
أين الطواغيت والظالمون في كل زمان؟! أين
قارون ؟! أين
فرعون ؟! أين
هامان ؟! أين
النمرود بن كنعان ؟! أين أصحاب الأخدود؟! أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي؟!
أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان
هل فارق الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان
لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان
قال ربنا:
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].
يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (
إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) فمن الناس من يغتر بالنعم، ومن الناس من يغتر بحلم الله وستره عليه، ومن الناس من صرف قلبه وهمه ووقته إلى الدنيا، فأصبحت الدنيا غايته التي من أجلها يعيش ويبذل العرق والجهد والفكر والعقل، لا هم له إلا هذه الحياة، يسمع الأذان فلا يقوم.. يتعلم التوحيد فلا يتأثر.. يوعظ بالقرآن والسنة فلا يتحرك قلبه ولا يعيش إلا من أجل هذه الحياة الدنيا.
والله لقد أخبرني إخواني في أمريكا عن رجل ينتسب إلى الإسلام، ولكنه قد فتح محلاً كبيراً يبيع فيه الخمر والخنزير وقد ضيع الصلاة، فلما ذهبت إلى هنالك يوماً أراد مني إخواني أن أذهب لزيارة هذا الرجل لأذكره بالله عز وجل، فذهبت إليه، ولما قمت بتذكيره بآيات القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام رد عليّ هذا الغافل اللاهي وقال: يا شيخ! والله ما أتيت إلى هذه البلاد لأصلي أو لأذهب إلى المساجد وإنما أتيت لأجمع مبلغاً من الدولارات وأعدك إن عدت إلى بلدي مرة أخرى فسأفتح مشروعاً وبعد أن أستقر فسأقضي جل عمري في بيت الله عز وجل، قلت: والله لا أضمن لك ذلك؛ لأنني ما وقعت لك ولا لنفسي صكاً مع ملك الموت أن يمهلك أو أن يمهلني حتى أرجع إلى بلدي مرة أخرى، فنظر إلي المسكين وقال: أريد أن أصارحك بشيء، قال: أبشرك! -يظنها بشارة- أنني إذا أصبت بحالة من الصداع أخرجت ورقة مائة دولار ووضعتها على رأسي فيذهب الصداع في الحال، قلت: صدق سيد الرجال إذ يقول: (
تعس عبد الدرهم.. تعس عبد الدينار) فقلت له: أنت عبد الدولار أنت عبد لشهواتك.. أنت عبد لهذه الحياة الدنيا.
إلى متى تعبد الكرسي الذي جلست عليه؟! إلى متى تعبد المال الذي من أجله ضيعت حقوق الله؟! إلى متى تعمل من أجل هذه الحياة الدنيا، وكأنك لن تعرض على الله جل وعلا؟
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ *
أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8].
(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا)، أي: هو لا يرجو لقاء الله، بل إذا ذكّر بلقاء الله قال لك: ذكرنا بموضوع آخر وإن ذكرته بالموت قال: نريد أن نشعر بالحياة.. نريد أن ننعم بالحياة.. لماذا تريدون أيها المشايخ أن تعقدونا من هذه الحياة الدنيا.
كلا، نحن لا نعقدك بل إننا نحذرك من الركون إليها، ونحذر أنفسنا، والله نسأل أن يختم لنا ولكم بخاتمة الإيمان؛ لأننا نعلم أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فهأنذا الآن أذكرك بالله جل وعلا، ولكن ورب الكعبة لا أضمن ولا تضمن ما هي الخاتمة، ولكننا نستعين بالله عز وجل، من باب قول الحافظ
ابن كثير : لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.
لقد عاش شيخنا المبارك فضيلة الشيخ
عبد الحميد كشك طيب الله ثراه وجمعنا به في جنات النعيم لدعوة الله ولدين الله، ما نافق ظالماً ولا طاغوتاً من طواغيت أهل الأرض، وإنما تمنى رضوان الله جل وعلا، فكانت الخاتمة أن تقبض روحه وهو في الصلاة بين يدي الله جل وعلا.
إنها الخواتيم، وإنما الأعمال بالخواتيم، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.
ووالله لقد أخبرت في المنصورة في الأيام القليلة الماضية: أن رجلاً ما صلى لله جل وعلا، وما عرف الصلاة، ذُكّر بالله فكان يسخر بالمذكرين، نصح فكان يهزأ بالناصحين، أصيب بحالة إغماء ثم بعد ذلك لما أفاق قال: أريد أن أتقيأ فدخل الخلاء أعزكم الله، ووضع وجهه في هذه القاعدة التي يجلس عليها؛ ليخرج ما في جوفه وما في بطنه فغلبه القي ووضع رأسه في هذا الموطن القذر النجس! وظل يقيء حتى خرجت روحه في هذا الموطن النجس القذر ولا حول ولا قوة إلا بالله: (
إنما الأعمال بالخواتيم).
فإلى متى تعيش من أجل الدنيا وكأن الدنيا هي الإله الذي من أجله تركع ومن أجله تبذل الوقت والعرق والجهد؟!
إلى متى هذه الغفلة؟!
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا [يونس:7]، أي: اطمأن بهذه الحياة، فهو يظلم خلق الله، وهو يعتقد أنه مخلد على الكرسي في هذه الدنيا، ونسي أنه سيعرض يوماً على الله جل وعلا ليقف إلى جوار هذا المظلوم ليقتص له ملك الملوك جل وعلا، فأبشر أيها المظلوم! إذا ما علمت أن الذي سيقتص لك من الظالم هو ملك الملوك وجبار السماوات والأرض:
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ [يونس:7] يذكر بآيات الله فلا يتذكر فهو في غفلة عن القرآن، وغافل عن السنة.
ما مصير هؤلاء؟ مصيرهم بنص القرآن:
أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:8] مأواهم النار لا جزاء لهم إلا النار.
-
الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر
-
تذكر الموت والعرض على الله
-
التحذير من الركون إلى الدنيا
-
خطورة الاستخفاف بأوامر الله
أيها الأحباب! إن الغاية التي من أجلها خلقنا هي عبادة الله وحده، والناس غافلون عنها الآن إلا من رحم ربك.
قال الله تعالى:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
هذه هي الغاية التي من أجلها خلقت، ما خلقك الله عز وجل إلا لطاعته وعبادته، وإن أنعم الله عليك بالزوجة وبالأولاد وبالمنصب والأموال، فيجب أن تسخر هذا من أجل الغاية التي من أجلها خلقت، فلو عشت لهذه الغاية فاستعمل كل الوسائل للوصول إلى هذه الغاية، لكن إن ضيعت الغاية وعشت بلا غاية فسيضيع عمرك في غير طاعة، وكم من الناس الآن ينتسبون إلى الإسلام ولا يعيشون لهذه الغاية، بل لا يعرفون شيئاً عن هذه الغاية!
ألم تسمعوا قول هذا المتسكع التائه الضائع الذي يقول:
جئت لا أعلم من أيـن ولـكني أتـيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأمضي في طريقي شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟! كيف أبصرت طريقي؟!
لست أردي
ويقطع الطريق كالسائمة.. كالبهيمة لا يعرف لحياته معنى ولا لوجوده غاية، جهل الغاية وضل طريقها، فهو يتسكع كالبهيمة، ولقد قال الله عز وجل في هذا الصنف الغافل عن الغاية:
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
فيها أيها المسلم! ويا أيتها المسلمة! لابد أن نضع الغاية نصب أعيننا فإننا نعيش من أجل هذه الغاية.. من أجل طاعة الله وعبادته وحده، ومن أجل الآخرة، فلنسخر كل وسيلة من وسائل هذه الحياة الدنيا من أجل هذه الغاية، فإن كنت صاحب منصب إن عشت للغاية فستفكر كيف تسخر منصبك وكرسيك لطاعة الله، وكيف يقودك هذا الكرسي إلى رضوان الله وجنة الله.
أما إن غفلت عن الغاية وجلست على الكرسي فلن تتورع عن ظلم العباد، ولن تتورع عن أكل أموال الناس بالباطل، ولن تتورع عن نهب المال العام الذي أصبح الآن سمة من سمات هذا العصر الذي فسد فيه من كلفوا بالرعاية، ورحم الله من قال:
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الراعاة لها الذئاب
ضل عن الغاية وما فكر فيها، وظن أن هذه الحياة أبدية سرمدية، فقال لنفسه: أدركي الوقت قبل فوات الأوان، أنفقت كذا وكذا في الدعاية الانتخابية، أدركي الوقت لتحصلي هذا المبلغ وأضعاف أضعافه.
يقول: وجلست على هذا الكرسي وأنا لا أضمن كم سأمكث عليه، فهيا لأقتنص هذه الفرصة وأغنم ولو من الحرام!
أيها الأحباب! ما قال هذا إلا لأنه لا يفكر في الغاية، وظن هذا المسكين أنه سيأخذ هذا إلى قبره، ونسي قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (
إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (
يتبع الميت ثلاثة: ماله وولده وعمله، فيرجع اثنان: يرجع المال والأهل، ويبقى العمل) فلن ينفعك بين يدي الله إلا العمل الصالح فلا تغفل عن هذه الغاية، ولا تغفل عن طاعة الله.
ويوم أن عرف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الغاية وعاشوا من أجلها، سادوا في الدنيا والآخرة، يقول
ربعي بن عامر لقائد الجيوش الكسروية
رستم، ليعلمه الغاية التي من أجلها وجدوا ولها خلقوا: (إننا قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).
فلتعش أخي لهذه الغاية ولا تغفل عنها لأنك لو عشت لغاية لحددت الهدف وحددت الطريق، ولو غفلت عن الغاية ستنطلق في الطريق جاثماً على وجهك لا تدري إلى أين تذهب وإلى أين ترجع، فاعمل للغاية تفز وتسعد.
أسأل الله عز وجل أن يقينا ويقيكم حر جهنم، وأن يكتب لنا هذا الوقت في ميزان حسناتنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.