يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا * سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
إخواني الكرام! إن دين الله جل في علاه لا يؤخذ بالأهواء، ولا بالعاطفة, ولا بالرؤى والمنامات, ولا يؤخذ بالآراء وبالقياسات الفاسدة, بل إن دين الله جل في علاه لا يؤخذ إلا مما شرعه الله.
فإن الله خلق الخلق ليعبدوه, وشرع لهم الشرائع ليمتثلوها, وليعبدوا الله بها, ولا يتبعوا الهوى, فإن الهوى يضل عن سبيل الله جل في علاه, قال الله جل في علاه: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [يونس:66]، وقال جل في علاه: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23] وقال الله تعالى ناهياً لرسول كريم من رسله: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ [ص:26]، فبين الله له أن إتباع الهوى يضل الإنسان, فالآراء الفاسدة,والقياسات العاطلة, هي التي تضل الإنسان عن الطريق القويم, وعن الطريق المستقيم.
و علي بن أبي طالب يقول: أيها الناس! لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من الأعلى؛ لأنه المباشر للنجاسات والمباشر للقاذورات.
فالدين بالشرع ومنه يؤخذ؛ ولذلك قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، والإمام مالك يقول: أسوأ أهل الأرض هم أهل الأهواء. و
قال الإمام الشافعي : حكمي في أهل الأهواء: أن يضربوا بالجريد والنعال, ثم يطاف بهم في القبائل والعشائر, ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة, واتبع الهوى والآراء وعلم الكلام.
فعلم الكلام علم فاسد يفسد صاحبه, ويفسد على المرء قلبه, ويبعده أشد البعد عن الله جل في علاه, لأن الذي يتبع الهوى يبتدع في دين الله لا محالة، وما ازداد عبد ببدعة إلا بعداً من الله جل في علاه, وما ازداد إلا بعداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم, بل يوم القيامة يمنع من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويحرم من أن يشرب من هذا الحوض الذي هو أحلى من العسل, وأبيض من اللبن؛ لأنه ابتدع في دين الله, ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي, بعداً بعداً لمن بدل بعد).
وغيره يقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وعمرها ست سنوات, فيقول: لا يمكن أن أقبل ذلك؛ إن لي عقلاً أفكر به، فيضرب حديث النبي صلى الله عليه وسلم, ويضرب شرع الله جل في علاه بالأهواء العاطلة, والقياسات الباطلة, وإمامه في ذلك إبليس, وإن كانت نيته حسنه, فقد قالوا لـابن مسعود : يا أبا عبد الرحمن : والله ما أردنا إلا الخير, فقال: وكم من مريد للخير لم يبلغه.
فاجتهد كيفما شئت ليلاً نهاراً, وصم النهار وقم الليل, فإن لم يكن ذلك على شرع الله جل في علاه فأنت منبوذ مطرود من رحمة الله جل في علاه.
إذاً: فإبليس قاس قياساً فاسداً، وقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12] وقلنا: هذا فاسد, لأنه رد الشرع به, وأيضاً إذا حررت المقال ترى أن هذا القياس فيه من الأباطيل ما فيه:
أولاً: أن النار فيها خفة، وهذه الخفة يتبعها الإفساد, وأما الطين ففيه الثبات والرصانة.
ثانياً: النار فيها الإحراق والإفساد, وأما الطين فإذا بذرت فيه البذر فإن الأرض تنبت وتثمر ففيها الخير, فالنار فيها الخفة والفساد, وأما الطين ففيه الرصانة وأيضاً فيه الخير.
وإبليس في نظره أن النار أفضل من الطين ويظهر بالحكمة والعقل الصحيح أن قياسه فاسد, وكفار العرب إمامهم وقدوتهم هو إبليس, ولذلك كفر من كفر من العرب, وكفر من كفر من الأمم السابقة بسبب هذه الأقيسة الفاسدة الباطلة.
أولاً: أن هذا قياس فاسد الاعتبار؛ لأنهم بهذا القياس ردوا أمر الله جل في علاه وشرعه، والله يقول:( (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216], ويقول: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140].
ثانياً: لو دققنا النظر فإننا نجد أن العقل الصحيح يرضى بذلك, ويقرر أن الرسل ليسوا كالبشر وهم كالبشر, كيف ذلك؟ نعم هم كالبشر يأكلون ويعتريهم ما يعتري البشر من نسيان وتعب وإعياء وإرهاق، فهم كالبشر في هذا, لكنهم ليسوا كالبشر في السمو البشري وفي الخُلُق, فإن الله جل في علاه لما ابتعث واصطفى من البشر رسلاً جعلهم أشرف الناس نسباً, وأحسن الناس خُلُقاً, وأتم الناس وأكملهم خَلْقاً, وجعل فيهم الصبر والحلم والعزة والغنى, وجعل فيهم القوة, والقدرة, وجعل فيهم الإخلاص لله جل في علاه, فهم أخلص البشر على الإطلاق لنشر دين الله جل في علاه, ولذلك كان الفرق بينهم وبين عامة البشر كما بين السماء والأرض, فلا قياس هنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيته وقسته بجميع البشر فلن تجد أحداً يدانيه, فهو رسول الله، وهو أكمل البشر خُلُقاً وخَلْقاً ونسباً، وهو أعبد الناس لله جل في علاه, وأذلهم الله جل في علاه, وأخلصهم الله جل في علاه, وأصبر الناس على ما يحصل له بسبب نشر دعوة الله جل في علاه.
فهذا القياس الباطل الفاسد هو الذي ردهم عن دين الله جل في علاه, ولم يرضوا بالرسل؛ لأنهم من البشر, وهذا القياس الفاسد أوقعهم في الشرك.
فقاسوا الخالق على المخلوق, حيث إن المخلوق إذا وجد في محل الكلام سمعه وعلمه, فإذا غاب عنه لم يعمله, فقالوا: إن الخالق إذا غاب عنهم فإنه لا يسمع ولا يعلم ما يقولونه, فهذا قياس الخالق على المخلوق وهذا قياس باطل فاسد، فإن الله ليس كمثله شيء.
فقياس العلة: هو القياس الجامع بين الأصل والفرع لعله مشتركة بينهما.
وقياس الشبه: هو أن يكون هناك شيء أكثر شبهاً بشيء من شيء آخر، كالعبد هل يقال فيه: هو أشبه بالبهيمة أو هو أشبه بالحر كما فصلت سابقاً.
والقياس الثالث: قياس الأولى: وهذا يكون في حق الله فقط, وهذا الذي يصح أن تقره في حق الله، كأن تقول: كل كمال لا يشوبه نقص يتصف به المخلوق فالله أولى أن يتصف به, لكن الكفار قاسوا قياس العلة وقياس الشبه بين الخالق وبين المخلوق, قالوا: إذا كان المخلوق معنا فإنه يسمع ويعلم ما نقول، لكنه إن غاب عنا فلا يعلم، وهم الآن لا يرون الله جل في علاه، فقالوا: إذاً فهو لا يعلم.
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها, قالت: (سبحان الذي وسع سمعه الأصوات كلها! فإن المرأة تشتكي زوجها للنبي صلى الله عليه وسلم ويخفى عني بعض حديثها, فأنزل الله من فوق سبع سماوات قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1]) .
وكذلك ابن مسعود عند ما وصف أن ما بين كل سماء وسماء خمسون ألف سنة, في الرواية المشهورة عنه، ثم قال: (والله فوق العرش ويعلم ما أنتم عليه) , فالله جل في علاه أحاط بكل شيء سمعاً وبصراً وعلماً وقدرة.
وكذلك حينما قال موسى: إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45] فقال الله جل وعلا رداً عليه: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46].
وأيضاً عندما ارتجف أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه في الهجرة خوفاً على رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مثبتاً إياه: (يا أبا بكر ما بالك باثنين ثالثهما الله, إن الله معنا لا تحزن), وأنزل الله قوله: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40], أي: معنا بسمعه وعلمه وقدرته ونصره وتسديده وتوفيقه سبحانه جل في علاه.
فهذا القياس الباطل الذي وقع فيه أهل الجاهلية هو من هذه القياسات التي أوقعتهم في الضلال وفي الشرك.
وذلك أن الشافع -عند المخلوق- إذا دخل بغير إذن المشفوع عنده فإنه لا يقبل شفاعته، وكذلك الشافع لا بد أن يكون له منزلة ومكانة عند المشفوع عنده، وله كلمة عنده، ويستحي المشفوع عنده أن يرد هذا الشافع, وهذا في البشر, ولذلك هم يقولون: بأننا نتخذ هؤلاء الأنداد بيننا وبين الله وسائط؛ ليشفعوا لنا عند الله. وهنا قاسوا قياساً فاسداً فقالوا: إن الله كالبشر لا يدخل عليه إلا من هو ذو مكانة, ولا يسمع إلا لمن له الكلمة عليه, وحاشا لله جل في علاه, وهل هناك أحد يجبر الله على شيء؟ حاشا لله جل في علاه, ولذلك فالمشركون عندما صرفوا العبادة للوسائط والشفعاء قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] ، فرد الله عليهم قال: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [يونس:18] أي: أتعلمون الله بأن هؤلاء لهم الكلمة عليه؟ أو بأن الله له حُجَّاب لا أحد يدخل عليه إلا بها؛ فإن هذا قياس باطل، وهو الذي جعلهم يقولون: إن هناك من كلمة عند الله، كما توسل قوم بجاه الرسول صلى الله عليه وسلم, وسنبين بعض ما وقع فيه من أقيسة باطلة في العقائد.
إن قياس المذكاة على الميتة قياس باطل من وجوه كثيرة, وسنرد على هذه الشبهة وعلى أقيسة أهل الضلال؛ لأن أهل الضلال موجودون في كل عصر كأهل البدع والضلالات، فهم يعتمدون على شبه وتلبيسات إبليس كما قال تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام:121]، بشبههم يخلطون بين الحق والباطل؛ ليزينوا الباطل للناس, ويلبسون بقولهم: أنتم تقولون/ إن ذبحكم أولى من ذبح الله جل في علاه, وإن قتلكم أولى من قتل الله جل في علاه, فقاسوا المنخنقة والمتريدة على المذبوحة المذكاة, وهذا قياس فاسد الاعتبار من عدة وجوه:
الوجه الأول: أنه قياس صادم النص, والله جل وعلا يقول: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ الأعراف:54]، فالدين: هو ما شرعه الله جل في علاه ويقول الله: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140].
الوجه الثاني: أن الميتة التي قدر الله موتها ينجس دمها في عروقها، وإذا حبس الدم أصبحت نجسة منتنة, وكذلك لحمها ينتن ويحدث فيه الأضرار التي لا يعلمها إلا الله جل في علاه, ولكن المذكاة بإراقة الدماء لا تحبس الدماء فيها فلا تحدث فيها هذه الأضرار.
الوجه الثالث: أن هذه الميتة وإن قتلها الله جل في علاه فقد منعها، وأما المذكاة فقد أباحها الله تعالى.
وهذا قياس صريح, والآن أهل الباطل يفعلون هذا لكن بتورية كما سنبين, فيقولون: الربا ليس فيه شيء, قياساً على التجارة, وهذا من قياسات أهل الجاهلية، وهي من صفات أهل جاهلية عصرنا الذين يفعلون مثل ما يفعل أهل الجاهلية, فلا تحسبن أن الأمر قد مات وفات, قد قال الله تعالى: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة:118].
وقال صلى الله عليه وسلم: (لتركبن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه).
أولاً: أن الربا فيه ظلم.
ثانياً: فيه عدم التراضي.
ثالثاً: ينشىء الحقد والحسد والغل من المقترض على المقرض.
رابعاً: أن النفع فيه لا يعود إلا على المقرض, فيزداد المقرض غنى على غناه, ويزداد الفقير فقراً على فقره, وأغلالاً على أغلاله.
فأربع وجوه كافية لتحريم الربا، وأما البيع فهناك فوارق بينه وبين الربا:
أولاً: فيه التراضي, ولذلك الله جل وعلا قال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ [النساء:29]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما البيع عن تراضٍ).
ثانياً: البيع فيه العدل والمساواة, وليس فيه ظلم؛ لأن التراضي يمنع الظلم، فهذا يكسب وهذا يكسب.
ثالثاً: النفع في البيع يتعدى إلى الطرفين البائع والمشتري, حتى وإن كان البائع أكثر ربحاً, فهذا رزق الله يؤتيه من يشاء, لكن كل منهما سيفوز بالربح وبالرضا.
رابعاً: أن البيع فيه تعاون على البر والتقوى, وعدم انتشارٍ للغل والحقد في المجتمع الإسلامي؛ لأنهم يترابطون ويتعاونون, وكل منهم يكسب الآخر ربحاً, ويربح هو, والتراضي حاصل, ويعم الخير عندهما معاً الغني والفقير, وتختفي الطبقية في المجتمع بفضل الله سبحانه وتعالى، ويتعاونون على البر والتقوى في دين الله جل في علاه, وفي الدنيا ينتفعون من هذه الأموال.
فهذه أربع فروقات بين الربا وبين البيع الصحيح, ولذلك لما قاس المشركون البيع على الربا, أبطل الله هذا القياس، وبين أن هذا القياس قياس فاسد, وقياسهم هذا مثل قياس إبليس, فلما قالوا: (إنما البيع مثل الربا) رد الله تعالى بقوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].
فهؤلاء الأقوام يقيسون بالأهواء والآراء, وليس عندهم شرع من دين الله جل في علاه، وقال: (يحرمون ما أحل الله، ويحلون ما حرم الله) , ومن أحل ما حرم الله فقد وقع في الإثم, قال الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل:116].
إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذر هذه الأمة من هذه الفرق التي هي كلها في النار والعياذ بالله, ويحذر أشد التحذير من فرقة تضرب الكتاب والسنة بالأهواء والآراء والعاطفة الجياشة, وهم أقوام يقيسون بالأهواء والآراء, فيحلون ما حرم الله, ويحرمون ما أحل الله, فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم هذه القياسات, ويا ليتنا ننتفع بهذه الأحاديث، ونعرف هذه القياسات الباطلة حتى نتوقاها, وذلك من باب:
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لم يعرف الشر من الخير يقع فيه.
فالأقيسة في زماننا هذا مثل الأقيسة في الأزمنة التي مضت, وهناك قوم غالوا في إثبات صفات الله جل في علاه, وهذا الغلو ما جاء إلا من القياس الباطل, فقاسوا الخالق على المخلوق, وقالوا: نحن نثبت ما أثبته الله لنفسه، نثبت له اليد والسمع والبصر, ونثبت له الرجل والقدم, لكنهم قالوا: إن يد الله كيد المخلوق, ورجْل الله كرجل المخلوق, وعين الله كعين المخلوق, غالوا في الإثبات, فأنزلوا الخالق منزلة المخلوق, عملاً بقياس أهل الجاهلية الذين قاسوا الله بخلقه في مسألة الشفاعة.
ففي مسألة التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم قاسى بعض الناس حياة النبي صلى الله عليه وسلم البرزخية بحياته الدنيوية, وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حياته يأتي إليه الناس ويقولون: يا رسول الله! ادع لنا, كما في حديث عثمان بن حنيف (عندما جاء الأعمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله لي).
فنقول إنه ما قال: أتوسل بالنبي أو بك ذاتاً أو جاهاً, بل قال: ادع الله لي, والسياق يبين أنه طلب منه الدعاء، وفي آخر الحديث قال: (اللهم شفعه في), يعني: اللهم اقبل دعاءه لي، فالتوسل كله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
وقالوا: كما جاء الناس والنبي في حياته يدعو لهم ويستغفر لهم, أيضاً يجوز أن يأتوه بعد مماته عند قبره ويقولون: استغفر لنا يا رسول الله! ادع لنا يا رسول الله! وهذا من القياس الباطل، وهذا نجده الآن عياناً بياناً ويحدث أمامنا, بل قد عم وطم, وأصبح هو السنة الآن.
والجواب: ذلك على الرحب والسعة، ونحن نقبل ذلك, فهم جاءوا إلى رسول الله ليستغفر لهم, ويدعو لهم.
قالوا: إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته فعل ذلك, وأيضاً هو في قبره يفعل ذلك.
قلنا: لكنه قد مات, قالوا: لا، بل هو حي في قبره, قلنا: كيف؟ قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه: (ما من أحد يسلم عليه إلا رد الله عليه روحه، فيرد عليه السلام) فما من أحد في مشارق الأرض ومغاربها إلا ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً: فلا يمكن أن تخلو ساعة من الساعات في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فمفهوم هذا الكلام أنه حي في قبره كما كان حياً في حياته فيستغفر لهم, فيجوز للإنسان أن يذهب إلى قبر النبي ويقول: يا رسول الله! استغفر لي, يا رسول الله! ادع الله لي أن يرزقني الولد.
وهناك فرق بين أن يقول: يا رسول الله! ارزقني الولد, وبين أن يقول: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني الولد، وهو أن اللفظة الأولى شرك في الربوبية؛ لأنه اعتقد في النبي مالا يُعْتَقَدُ إلا في الله، فاعتقد أن رسول الله يستطيع أن يرزقه الولد, وهذا الأمر إنما هو بيد الله جل في علاه, فهذا شرك في الربوبية.
وهو أيضاً شرك في الألهية؛ لأن الدعاء عبادة لله، وهنا صرفها لغير الله، وكل عبادة ثبت في الشرع أنها عبادة فصرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك، فلو قال: يا رسول الله! ارزقني واغنني واشفني فقد كفر في الإلهية، فالدعاء لا يكون إلا لله قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55].
وأما اللفظة الثانية فهو يقول: نعوذ بالله من الشرك والكفران, وأنا أقول إن الله هو الخالق الرازق المدبر, ولا أدعو غير الله جل في علاه, ولكن أقول: يا رسول الله! ادع الله لي أن يغفر لي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره كما هو حي في حياته, فقد جاءه كثير من الناس في حياته وقالوا له: استغفر لي, ادع لي، كما في الحديث: (أنه جاءته المرأة التي كانت تتكشف فقالت: يا رسول الله! ادع الله لي، فإني أصرع وأتكشف, فقال: لو شئت دعوت لك)، وهذا إقرار منه.
وأيضاً عكاشة بن محصن قال: (يا رسول الله! ادع الله لي أن أكون منهم)، ففعل رسول الله ذلك؛ لأنه كان حياً بين أظهرهم، والنبي صلى الله عليه وسلم الآن حي في قبره هم يقولون هذا.
فهذا الرجل اتخذ وسيلة لم يشرعها الله جل في علاه, ومع ذلك يقول: إن الله شرعها؛ لأن الله جل وعلا يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64]، ويقول: هذه الوسيلة مشروعة الآن, ونحن نتكلم الآن على هذه المسألة أن فيها قياس الحياة البرزخية على الحياة الدنيوية, فإما أن نقر هذا القياس وإما أن نبطل هذا القياس.
فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حياً بين الصحابة وقد مات، والله جل وعلا يقول: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، وقال: أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144]، فقالوا: إننا نبين لكم أنه حي في قبره, قلنا: هاتوا, قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله عليَّ روحي ...)، وهناك حديث ضعيف يستدلون به أيضاً، وهو: (حياتي خير لكم ومماتي خير لكم)، وهذا حديث باطل, ولكن الحديث الصحيح الذي نقر به هو: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه).
ثانياً: عند تدقيق النظر نجد أن الحياة البرزخية تفارق الحياة الدنيوية, ومن هذه الفوارق أن الحياة الدنيوية أعطى الله للعبد فيه القدرة على أن يشفع ويدعو ويستغفر, وأما الحياة البرزخية فلم يعطه الله ذلك, فقد بين الله أنه أعطاه في الحياة هذا بقوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ [النساء:64]، و(إذ) ظرف للزمان الماضي، أي: ولو أنهم جاءوك وأنت في حياتك, وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ [النساء:64]، فالله أعطاك هذه القدرة والقوة على أن تستغفر لهم ويستفيدوا من دعائك، كما قال عكاشة بن محصن: (ادع الله لي)، فأعطونا دليلاً من الشرع يبين أن الله أعطى النبي صلى الله عليه وسلم القدرة في أن يستغفر للمؤمنين, أو يدعو للمؤمنين بعد مماته، لا يوجد إلا قوله صلى الله عليه وسلم: (ومماتي خير لكم).
وحتى في هذه الخيرية التي تذكرون ليس فيها أي تصريح أنه يستغفر ويدعو ويتوسل لهؤلاء عند ربهم جل في علاه, مع أن هذا الحديث باطل مردود ابتداءً, فهذا هو الفارق الأول.
الفارق الثاني: أننا لم نجد في الواقع أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر لأحد وهو في قبره, وما رأينا أن أبا بكر ذهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له، فجاءه في المنام فقال له: لقد جئتني لأستغفر لك فاستغفرت لك، فقبل الله مني هذا الاستغفار.
أو عندما أجدبوا ما ذهب عمر فقال: يا رسول الله! إننا نتوسل بك عند ربنا لتمطر السماء, أو ادعو الله لنا لتمطر السماء, وما جاءه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: قد استغفرت لك وتوسلتُ لتمطر السماء، فأمطرت السماء, لم يحدث ذلك لا شرعاً ولا كوناً ولا واقعاً, وهذا من الفوارق بين الحياة البرزخية وبين الحياة الدنيوية.
الفارق الثالث: إن الحياة البرزخية هي حياة بين الحياة الدنيوية والحياة الأخروية, وقد كتب الله جل في علاه أن العمل في الحياة الدنيوية والحساب في الحياة الأخروية, إلا ما دل الدليل على التخصيص في أن هناك ثمة عمل لبعض الأنبياء في قبورهم, كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم موسى يصلي في قبره, وهذه حالة خاصة, وما خرج عن القياس فغيره لا يقاس عليه، والخصوصيات والفضائل لا تعمم, وهذه قاعدة عند المحدثين.
فنقول: إن قياس حياة النبي صلى الله عليه وسلم البرزخية على حياته الدنيوية باطل من وجوه: فهو مصادم لشرع الله جل في علاه, وأيضاً مصادم للعقل الصحيح, فلا يجوز لأحد أن يقول ذلك, فيسعنا ما وسع الصحابة، فما ذهب أبو بكر يفعل ذلك, ولا عمر, ولا غيرهما من الأفاضل، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، فعدم فعلهم يدل على شيء من اثنين: إما أنهم جهلوا, ولا يمكن أن نقول: إننا علمنا ما جهلوه, وإما أنهم علموا أنه باطل فكفوا عنه، فلا بد أن يسعنا ما وسعهم، وأن نفعل مثل ما فعلوا، ولن نفلح ولن نصلح إلا يفعل ما فعله الأولون (السلف الصالح).
إذاً: فمن القياسات الباطلة: قياس حياة النبي صلى الله عليه وسلم البرزخية على حياته الدنيوية.
فإذا قال للنبي صلى وهو ميت: يا رسول الله! ادع الله أن يستغفر لي, فهذا شرك أصغر؛ لأن عندهم تأويلات.
ونرد عليهم شرعاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بالحجر الأسود ولم يتمسح بقبر حمزة رضي الله عنه وأرضاه, ولا بقبر الأفاضل والأخيار الذين قتلوا, وكذلك عمر ما تمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم, ولكنه ذهب يتمسح بالحجر, وقال: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)، وهذا محض الإتباع, والعبادة توقيفية, فلا يمكن أن تتعدى إلى غيرها إلا بدليل.
وهناك فوارق أخرى أيضاً منها: أن الحجر الأسود من الجنة وهذا القبر ليس من الجنة, فلا يجوز لأحد أن يفعل ذلك ويقارن بين الحجر الأسود وبين هذه القبور.
ومن القياسات الباطلة أيضاً: أنهم قالوا: تقبيل قبر المعظم الولي كتقبيل رأس العالم. وهذا من القياسات التي نعيشها الآن, وقد سمعتها بأذني من شيخ جليل غفر الله لنا وله, وهذه المقولة تغمر إن شاء الله في بحر حسناته؛ لأنه عاش دهراً يدعوا إلى الله جل في علاه, ولا أحد منا معصوم، لكن نحن نبين الخطأ حتى نتجنبه.
وكان يقول: إن تقبيل قبر الولي كتقبيل رأس العالم, فالعالم معظم والولي قال الله عنه: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وهذا قياس فاسد الاعتبار؛ لأنه قد ورد في السنة تقبيل رأس المعظم ويده، فعن ابن عباس, وعن ابن عمر قال: (كانوا يقبلون يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله)، وقد قبل ابن عباس يد زيد بن ثابت) إذاً: فالسنة وردت بتقبيل يد العالم ورأسه فهذا موافق للشرع, وأما تقبيل قبر الولي فلم يأت الشرع به، فهو مصادم للشرع.
والفارق الثاني: أن هذا العالم حي وهذا الولي ميت، والفارق بين الحياة والموت كما بين السماء والأرض, فهذا قياس مع الفارق.
والفارق الثالث: أن هذا ما فعله الصحابة، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.
والفارق الرابع: أن تقبيل الحجر غير تقبيل البشر، فليس هناك أحد يذهب إلى الكرسي الذي يجلس عليه العالم ويقبله, ولكن هناك الآن من يقبله هو.
وهذه القياسات الباطلة يحاكون بها أهل الجاهلية, ونحن نقول: يا إخواننا الأفاضل ويا علمائنا! ارجعوا إلى دين الله جل في علاه, إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم, وقد قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي: كتاب الله وسنتي)، فأهل الجاهلية بعدما قاسوا هذا القياس الفاسد, تصادموا مع شرع الله، وردوا القياس الصحيح, وإن الله جل في علاه في شرعه لا يفرق بين المتماثلين, ولا يسوي بين المختلفين, ولكنهم قالوا: لا بد أن نعارض, فسووا بين المختلفين, وفرقوا بين المتماثلين, وجاءوا للقياسات التي قاسها الله جل في علاه وهي قياسات صحيحة فردوها.
إذاً: لهم وجهان من الضلال: الوجه الأول: جاءوا للقياس الصحيح فردوه.
الوجه الثاني: أنهم جاءوا للقياس الباطل فأقروه إن من القياسات التي قاسها الله فردها الكفار كثيرة منها.
فالله جل وعلا قاس لهم عيسى على آدم, وهذا قياس صحيح جلي، وهو قياس الأولى, فردوا القياس الصحيح, وقالوا: لا، إن عيسى غير آدم, من غير حجة، فردوا القياس الصحيح بأهوائهم؛ لأنهم أرادوا الكفر والضلال, فهذا من دأب أهل الجاهلية -والعياذ بالله- أن يردوا القياس الصحيح، ويقروا بالقياس الباطل.
قال الله جل وعلا: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، فلم الاعتراض، ولم الكفر بهذا القياس الواضح؟!
ومن القياسات الصحيحة التي ردها المشركون على الله جل في علاه: قياس إعادة الخلق على البداية, فالله في كتابه العزيز قاس المرجع والبعث بأول الخلق، قال الله تعالى: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:15]، فالخلق الأول أهون عليه من الخلق الآخر وهو البعث، قال الله تعالى من أجل أن يبين القياس: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]، فقاس الإعادة على البداية, فهذا قياس من الله جل في علاه, وهو قياس بديع ظاهر جلي، إذ يقول لهم: إن الله الذي خلق الخلق الأول سيخلق الآخر, فالبعث كالمبتدأ, فقالوا: لا. لابد أن نرد فقالوا: قل من يعيدنا, واعترضوا على النبي صلى كما قال الله تعالى: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء:51].
ولما رأوا هذا القياس البديع, وأن الله بين لهم ذلك ردوه بمثل ضربوه: فأخذ أحدهم العظام وهي رميم ففركها, فأصبحت تراباً, فقال: من يحي هذه العظام وهي رميم، قال تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78]، فرد الله عليه: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:79]، فنظروا إلى هذا القياس الصحيح فردوه ولم يقبلوه, فانظروا إلى أهل الضلال والأهواء كيف يردون القياسات الصحيحة طمساً للحقائق وتلبيساً على الناس، وأما القياسات الباطلة فيقرونها ويظهرونها على أنها هي الحق.
وردوا أيضاً القياس الصحيح للمعاد وإحياء البشر على إحياء الأرض, بجامع إحياء الموات, فقد كانت الأرض ميتة فأحياها الله, فالله جل وعلا أراد منهم أن يعتبروا، فهذه الأرض ميتة أمامكم، وبعد أن ينزل الله المطر تنبت وتحيا، قال الله تعالى: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39] وفي الآية الأخرى، قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:6-7] فهذا قياس ظاهر جداً. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن البشر يفنون وتصير العظام رميماً، فيمطر الله مطراً كالمني)، وفي رواية: (كالطل، فينزل على الأرض فينبت البشر كالزرع) , ينبت ويحيا مرة أخرى, وهذا مثل إحياء هذه الأرض البور, فعندما نزل عليها الماء أحياها الله وأنبتت وربت.
وهذا القياس الصحيح لم يرضوا به بل وردوه وقالوا كما حكى الله عنهم: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24]، فهذه هي عادات أهل الجاهلية, يقرون بالباطل ويدفعون الحق, فالأقيسة الصحيحة لا يرضون بها, والأقيسة الباطلة يرضون بها, والعياذ بالله من الخذلان, ونعوذ بالله من أن نفعل مثل ما فعل أهل الجاهلية.
فأنا أهيب بإخواني أن يهتموا بالعقيدة؛ لأن هذا هو محل التمييز بين طلبة العلم, وهو محل التمييز والرفعة عند الله من عدمها، فالزنا وشرب الخمر لا يساوي شيئاً بجانب الشرك الأصغر, فالشرك الأصغر أكبر من هذه الكبائر، فلم نوقع أنفسنا في هذا بالجهل منا, فلابد أن نتقي الله, وأن تكون عقيدتنا عقيدة نقية كما كانت عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم, وجزاكم الله عنا خيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر