إسلام ويب

التقوىللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التقوى سر دخول الجنة, وهي وصية الله للأولين والآخرين, فعلى العبد المؤمن أن يسعى بتحقيقها في قلبه وجوارحه, وعلاقته بأهله وإخوانه وجيرانه, وذلك بفعل المأمور, وترك المحظور. والتقوى ليست مجرد قول باللسان؛ بل هي درجات, ولها علامات, ولها آثار على الفرد والمجتمع, فينبغي الحرص على تحقيقها, والحذر من الصفات الذميمة المحيطة بها من الإفراط والتفريط.

    1.   

    مفهوم التقوى وأقسامها

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أما بعد:

    فإن موضوع التقوى هو من الموضوعات التي يجب تدارسها؛ لأنها وصية الله للأولين والآخرين، كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ[النساء:131]، وقد ربط الله تعالى أوامره في القرآن بالتقوى؛ فيأمر بالتقوى قبل الأمر ثم يأمر بالتقوى بعده أيضاً, كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ[الحشر:18]؛ فيأتي الأمر بالتقوى مكرراً في مثل هذا النوع من الآيات، وكل ذلك يدل على العناية بالتقوى.

    والتقوى في الأصل: (وقوى) من الوقاية، وهي مؤنثة؛ لأنها مصدر، ومعناها: أن تجعل بينك وبين سخط الله وقاية بطاعة الله.

    وهي أربعة أقسام: اجتناب ما نهى الله عنه في الظاهر؛ أي: فيما يتعلق بالبدن، واجتناب ما نهى الله عنه في الباطن؛ أي: فيما يتعلق بالقلب، وامتثال ما أمر الله به في الظاهر, وامتثال ما أمر الله به في الباطن، فهذه أربعة أقسام ولا يمكن أن يكون الإنسان متقياً إلا إذا جمعها.

    1.   

    أهمية تحقيق التقوى

    والتقوى سر دخول الجنة، والله سبحانه وتعالى أمرنا بها, وأمر بها من قبلنا, وأوصى بها الأولين والآخرين؛ فدل ذلك على العناية بها, وأنها مطلوبة للجميع, وأنه لا يستطيع أحد أن يحقق مراد الله من عباده إلا باتقاء ما نهى الله عنه, والسعي إلى امتثال أوامره؛ فلذلك كان لزاماً علينا أن نتدارس التقوى, وأن نحرص على أداء ما نسمع؛ ففائدة سماع مثل هذا النوع من الدروس إنما هو تطبيق ما يسمعه الإنسان؛ بعرض الإنسان نفسه على هذه النصوص التي يسمعها من الوحي، ثم بعد ذلك يطبق ما استطاع تطبيقه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

    1.   

    المجاهدة والتربية على تحقيق التقوى

    إن التقوى لا يمكن أن تكتب للإنسان إلا بالتدريب والمجاهدة؛ لأن الإنسان خلق في الأصل قابلاً للتحلي بالصفات الحميدة, وقابلاً للتحلي بالصفات الذميمة كذلك، ولا يستطيع التخلي عن الصفات الذميمة والتحلي بالصفات الحميدة إلا إذا درب نفسه على ذلك، وهذا التدريب هو المجاهدة التي أمر الله بها، وهي من جهاد النفس الذي هو أولى مراتب الجهاد، ولابد أن يتعود الإنسان عليه.

    تربية القلب على التقوى

    فلابد إذاً من تقسيم ما يتقى على الجوارح حتى يستطيع الإنسان محاسبة كل جارحة وحدها، وليبدأ الإنسان أولاً بالقلب؛ لأنه مناط الصلاح, كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: ( وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )؛ فيحتاج الإنسان إلى أن يبدأ أولاً بمحاسبة قلبه على الأوامر والنواهي فيعرضها عليه, ومن هنا يحتاج إلى أن يعرض على نفسه أولاً: ما أمر الله به من الإيمان, فيراجع إيمانه حتى يتحقق أنه مؤمن, وأن قلبه قد شرب هذا الإيمان واقتنع به؛ فيعرض على نفسه الإيمان بالله, والإيمان بملائكته, والإيمان بكتبه, والإيمان برسله, والإيمان بقدره خيره وشره, والإيمان باليوم الآخر وما تضمنه؛ فإذا وجد نفسه قد اقتنع بهذه الأركان الستة, ووجد قلبه قد اطمأن إليها, ونزلت فيه السكينة بها؛ فليعلم أن هذا هو بداية الأمر، وبعد ذلك يستطيع أن يعمل على محاسبة جوارحه, فهذا في الامتثال.

    ثم بعد ذلك في الاجتناب أيضاً: لابد أن يعرض على قلبه التخلي عن أنواع الشرك؛ فلابد أن يعرض على قلبه أولاً: أن يتخلى عن التوكل على غير الله سبحانه وتعالى, والاعتماد على غيره، وأن يعرض على قلبه كذلك ترك الاستغاثة بغير الله واللجوء إليه حتى لو كان ذلك بحوائج الدنيا؛ فالإنسان المؤمن بالله يعلم أنه هو الغني الحميد, وأنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين؛ فيعلق جميع حوائجه بالله سبحانه وتعالى, ويستغني به عمن سواه؛ أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ[الزمر:36]، فلذلك لابد أن يعرض الإنسان هذه الآية على نفسه، وعلى قلبه؛ هل هو مستغن بالله تعالى عمن سواه، وهل التجاؤه إلى الله تعالى صادق، وهل توجهه إليه صادق؛ فإذا حصل ذلك فليحمد الله فإن ذلك بداية طريق التقوى.

    ثم بعد هذا يعرض على قلبه الاتصاف بصفات المؤمنين, والتخلي عن صفات الكافرين والمنافقين؛ فلابد أن يعرض على قلبه الاتصاف بالصدق في التعامل مع الله؛ فالقناعات التي يقتنع بها الإنسان إذا لم يصاحبها عمل فهي ضائعة لا فائدة فيها؛ فلذلك لابد أن يعرض الإنسان على نفسه قناعاته جميعاً؛ فأنت تقتنع بأن الصدق واجب, وأنه من صفات المؤمنين, وتقتنع بأن الكذب حرام, وأنه من صفات المنافقين، فاعرض ذلك على عملك, وانظر هل أنت عامل بمقتضى قناعتك هذه أو لست عاملاً بها؛ فإذا كنت عاملاً بمقتضى قناعتك فاحمد الله تعالى؛ فهذا بداية التقوى، وإذا كنت غير عامل بمقتضى قناعتك فاعلم أن ذلك صفة من صفات المنافقين لابد من التخلي عنها, ومعالجتها قبل أن تتفاقم وتزداد, وهكذا في كل صفة من صفات المؤمنين, وفيما يقابلها من صفات المنافقين والمشركين لابد من عرض ذلك على القلب جميعاً، ومحاسبة القلب عليه محاسبة دقيقة.

    إن كثيراً من المفاهيم تختلط في المجتمعات كلها نتيجة بعض المفاهيم المستوردة أو الموروثة, فتختلط في أذهان الناس فتشوش الإيمان في القلب, فيحتاج القلب إلى تصفية هذه المفاهيم, ومعرفة من أين حصلت هذه القناعة.

    فقناعتك يا أخي! بالإيمان لابد أن تكون منبثقة من نفسك ومن داخلك, حتى لا تكون من المقلدين الذين إذا سئلوا في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هاه.. هاه! لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، لابد أن تكون قناعاتك منبثقة منك, وأن تكون مؤصلة بالأدلة الشرعية؛ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]؛ فإذا حصل ذلك فاعلم أن ذلك بداية تقوى الله سبحانه وتعالى.

    تربية الجوارح على التقوى

    ثم بعد مراجعة القلب اعدل إلى الجوارح, فانظر إلى البصر ماذا رتب الله عليه من الأوامر, وماذا رتب عليه من النواهي؛ فاعرضها عليه بدقة ومحاسبة كما يفعل التاجر الشحيح مع شريكه؛ فإذا وجدت العين مطيعة لا تنظر إلا ما أذن الله بالنظر إليه, وتترك النظر إلى ما نهى الله عن النظر إليه فاعلم أن ذلك من التقوى، ثم اعدل إلى السمع أيضاً فاعرض على سمعك ألا يسمع إلا ما أذن الله بسماعه, وأن يترك سماع كل ما نهى الله عن سماعه؛ فإذا استجاب السمع لذلك فقد قطعت شوطاً آخر من أشواط التقوى، ثم اعرض ذلك كذلك على اللسان, واعلم أنه من أخطر هذه الجوارح؛ لكثرة روغانه وشروده؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وتؤثم الجوارح اللسان تقول: اتق الله فينا فإننا بك؛ إن استقمت استقمنا, وإن اعوججت اعوججنا )، وقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه دخل على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فوجده يجذب لسانه؛ فقال: يا خليفة رسول الله! ماذا تعمل؟! فقال: إن هذا أوردني الموارد، يحاسب لسانه فيمسك به وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له, وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة, وحل عليه رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده, ومع ذلك يؤثم لسانه فيقول: إن هذا أوردني الموارد، وكذلك فإن أصحاب السنن أخرجوا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حديثه الطويل الذي قال فيه: ( ألا أدلك على جماع ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله؛ فأمسك بلسانه وقال: أمسك عليك هذا، قلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم ).

    فلهذا لابد أن يجلس الإنسان جلسة مصارحة مع لسانه, ويقومه على اجتناب ما نهى الله عنه من الأقوال, وعلى امتثال ما أمر به من الأقوال، وحتى إذا تعدى هذه المرحلة فليحاسبه أيضاً على اللغو الذي لا خير فيه من الكلام؛ فالله تعالى جعل لك عينين وأذنين ويدين ورجلين ولم يجعل لك إلا لساناً واحداً؛ ليكون ما تقوله أقل مما تسمعه ومما تراه؛ ولهذا لابد أن تعود نفسك على الإمساك عن الكلام حتى تعرف نتيجته وما يترتب عليه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( وإن الرجل ليتكلم بالكلمة الواحدة من سخط الله لا يلقي لها بالاً ) أي: لا يظن أنها عظيمة، وليس معنى (لا يلقي لها بالاً) أي: لا يلقي لها نية؛ لأن الأعمال كلها بالنيات؛ فالمقصود هنا: لا يلقي لها بالاً أي: لا يقدرها ولا يظن أنها عظيمة، ( يتكلم بالكلمة الواحدة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها سبعين خريفاً في قعر جهنم ).

    فلذلك لا يمكن أن يكون الإنسان متقياً حتى يمسك بزمام لسانه, وحتى يمنعه عن الكلام فيما لا خير فيه، وقد أخرج مالك في الموطأ وأحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذات الله فتقسو قلوبكم؛ فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب, وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى؛ فارحموا أهل البلاء, واحمدوا الله على العافية.

    ثم بعد ذلك لابد من محاسبة بقية الجوارح، ويجمعها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( استحيوا من الله حق الحياء؛ أتدرون ما الاستحياء من الله حق الحياء؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: أن تحفظ الرأس وما وعى, والبطن وما حوى, وأن تؤثر الآخرة على الأولى )؛ فالرأس وما وعى يشمل ذلك السمع والبصر والكلام والشم، والبطن وما حوى يشمل ذلك ما يأكله الإنسان وما يشربه، ثم ما يتعلق بفرجه؛ فهو كذلك مما لابد من محاسبته, فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ[المؤمنون:5-7]؛ فلهذا لابد من محاسبة هذه الجوارح جميعاً, وأطرها على اتقاء ما نهى الله عنه, وتعويدها على الاكتفاء بما أحل الله تعالى.

    ثم بعد ذلك محاسبة اليدين على ما تعملان, والرجلين على ما تمشيان إليه، ولا يستطيع الإنسان تقويم ذلك إلا بالتدبر والتذكر, فإذا أراد أن يخطو خطوة فلابد أن ينظر إلى أي الكفتين هي، هل هي إلى كفة السيئات أو إلى كفة الحسنات، فإذا استطعت ذلك استطعت إمساك كثير من جوارحك فيما بعد، وأعرف رجلاً من العلماء بترت رجله -نسأل الله أن يغفر له ويرحمه- فلما بترت دعا بها فجيء بها إليه؛ فقبلها وقال: مرحباً بهذه الرجل التي لم تمش بي إلى معصية أربعين سنة؛ فلذلك يحتاج الإنسان إلى إمساك رجله عن أن تمشي به إلى معصية، وأنتم تعرفون أن هذه الطاقات والقوى التي منحنا الله تعالى إنما هي لطاعته؛ ( فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أتى سعد بن أبي وقاص يعوده وهو مريض؛ وضع يده على رأسه وقال: اللهم ارفع عبدك هذا؛ ينكأ لك عدواً أو يمشي لك إلى صلاة )، فقوة الإنسان يقصد بها أمران: أن ينكأ عدواً لله أي: أن يضر عدواً لله، وهذا تحقيق ولاية الله، أو أن يمشي إلى صلاة، والصلاة تشمل كل القرب؛ فالصلاة المقصود بها الطاعة؛ فإذا تذكر الإنسان أن مشيه إنما هو إلى نكاية عدو لله أو إلى قربة يتقرب بها إلى الله؛ استطاع أن يمسك نفسه عن الذهاب إلى ما لا ينفعه من المشاهد, وكل مشهد يشهده الإنسان سيعرض عليه ويقرؤه في طائره يوم القيامة؛ فيحتاج إلى إمساك نفسه عن تلك المشاهد التي لا خير له فيها.

    التربية على التقوى في علاقات الإنسان بغيره

    ثم بعد هذا لابد كذلك في مجال التقوى من مراجعة العلاقات جميعاً؛ علاقات الإنسان مع أهله, وعلاقاته مع والديه, وعلاقاته مع أولاده, وعلاقاته مع أصحابه, وعلاقاته مع جيرانه، كل هذه العلاقات لابد أن يحقق الإنسان فيها التقوى؛ بأن يجتنب ما نهى الله عنه منها, وأن يمتثل ما أمر الله به منها, وأن يأطر نفسه على ذلك أطراً, ويحاسب نفسه عليه، وهذا الأطر قد لا يتيسر للإنسان وحده في خاصة نفسه، لكنه بإعانة إخوانه على ذلك يستطيع التغلب على هذه النوازع؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه؛ فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[المائدة:78-79] )، ثم قال: ( كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر, ولتأطرن الظالم على الحق أطراً, ولتقصرنه على الحق قصراً؛ أو ليضربن الله بقلوب بعضكم بعضاً ثم ليلعنكم كما لعنهم ). فمساعدة الإنسان غيره على أطر نفسه على الحق تعينه على سلوك هذا الطريق.

    1.   

    درجات التقوى

    إن امتثال الإنسان لأوامر الله تعالى واجتنابه لنواهيه درجات كثيرة؛ فيبدأها الإنسان أولاً: بامتثال الواجبات واجتناب المحرمات، وبعد ذلك يصل إلى مقام آخر يزيد فيه بالتزام السنن جميعاً وترك المكروهات جميعاً, ثم بعد ذلك يصل إلى مقام أعلى من هذا فيلتزم المندوبات ويترك خلاف الأولى, ويحرص على استغلال العمر في الطاعة، ثم يصل إلى مقام أعلى من هذا فيشتغل بالأفضل فالأفضل؛ فيقدم الأفضل من المندوبات على غيره؛ لأنه تاجر يعامل الله سبحانه وتعالى, ويحرص على الربح في أوقاته, وفي كل ما وهبه الله تعالى من الطاقات والنعم؛ فلا يريد أن تذهب نعمة مما أنعم الله به عليه في الوجه الآخر في كفة السيئات، بل يحرص على أن تكون جميعاً عوناً على الطاعة وامتثال أمر الله واجتناب نهيه؛ وبهذا يكون الإنسان من المتقين.

    1.   

    علامات التقوى

    إن ما ذكر عملية شاقة, ولا يمكن أن يكون الإنسان من المتقين إلا بعد المرور بها, ومعالجة نفسه عليها، لكن لذلك علامات يمكن أن يعرف الإنسان بها هل هو متق أو لا:

    السرور عند عمل الحسنة والحزن عند عمل السيئة

    أول هذه العلامات: ما حدده النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( المؤمن من سرته حسنته, وساءته سيئته )، فإذا كان الإنسان تسره حسنته, وتسوؤه سيئته فهذا مقام يدل على صدق التوجه في البداية، فإذا انتظر الصلاة بعد الصلاة في المسجد احتسبها نعمة لله تعالى عليه, وشكرها لله, وسر بها، وإذا استيقظ في جوف الليل والناس نيام فذكر الله وتوضأ وقام يصلي سره ذلك، وإذا وفق بأية طاعة من الطاعات أو صدقة من الصدقات سر بذلك؛ فليعلم أن هذا بداية طريق التقوى.

    التأثر بالقرآن الكريم

    ثم بعد هذا من علامة التقوى: أن يكون الإنسان متأثراً بهذا القرآن؛ فهذا القرآن كما وصفه الله سبحانه وتعالى: الــم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ[البقرة:1-2]؛ فإن ما يهتدي به من كان من أهل التقوى؛ فإذا كنت كلما سمعت شيئاً من القرآن أو قرأت شيئاً منه نفعك الله به, فانتفعت في كل آية تسمعها أو في كل مقطع تسمعه أو في كل سورة تسمعها ازددت بذلك هداية ونوراً؛ فاعلم أنك من المتقين؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لقد أنزل علي الليلة آيات ويل لمن قرأهن ولم يتدبرهن، خواتم سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[آل عمران:190-191] ).

    لذلك لابد أن يحرص الذي يريد أن يكون من المتقين على الهداية بالقرآن, وأن يهتدي به, وينتفع مما فيه من الخيرات, فقد قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهمْ عَذَابًا أَلِيمًا[الإسراء:9-10].

    كف النفس عن المعصية

    كذلك من علامات التقوى: أن يستطيع الإنسان كف نفسه عن المعصية عندما تعرض عليه؛ فإذا كان الإنسان الذي عرضت بين يديه المعصية فاستطاع أن يكف نفسه عنها فليعلم أنه من أهل التقوى؛ فقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ[الأعراف:201-202]، فقوله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا[الأعراف:201]: هم المتقون، إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ[الأعراف:201]: الطائف هو الهواء والنسيم الذي يمر في الأفق؛ فإنه يمر مروراً سريعاً، إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ[الأعراف:201]، وشبه وسواس الشيطان الذي يحصل في القلب بالطائف الذي يلم من النسيم؛ وفي القراءة السبعية الأخرى: (إذا مسهم طيف من الشيطان), والطيف: الخيال الذي يرى في المنام، وهو خفيف جداً، فكذلك لمة الشيطان هي مثل الطيف الذي يأتي الإنسان في نومه، إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا[الأعراف:201] أي: ذكروا الله سبحانه وتعالى فأقلعوا عن ذلك الطيف ولم يستمرئوه ولم يستحلوه.

    تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ[الأعراف:201]: يزيدهم الله نوراً وبصيرة فيرون ضرر ما كانوا سيقدمون عليه, ويرون نعمة الله عليهم حين صرفهم عنه.

    وَإِخْوَانُهُمْ[الأعراف:202] أي: إخوان الشياطين، يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ[الأعراف:202] أي: يزيدونهم فيه، ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ[الأعراف:202] أي: لا يتراجعون عن غيهم، نسأل الله السلامة والعافية.

    ترك انتهاك حرمات الله في الخلوة

    كذلك من علامات التقوى: أن يكون الإنسان إذا خلا بمحارم الله لم ينتهكها؛ فالذين إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها لم يستشعروا رقابة الله سبحانه وتعالى ولم يتقوه؛ لأنهم إنما تركوا هذه المحارم بحضرة الناس خوفاً من الناس أو خجلاً منهم أو خوفاً من العار والذنب، أما إذا كان الإنسان يترك محارم الله في خلواته فإذا خلا بمحارم الله لم ينتهكها؛ فهذه علامة من علامات التقوى.

    الحرص على الازدياد من الخير

    كذلك من علامات التقوى: أن يحرص الإنسان على الازدياد من الخير؛ فيحرص على أن يكون يومه خيراً من أمسه, وأن يكون غده خيراً من يومه؛ فيحاول الازدياد من الاعتياد على الخير كلما تقدم به العمر.

    ورجي الفتى للخير ما إن رأيته على السن خيراً لا يزال يزيد

    1.   

    آثار التقوى على الفرد

    فإذا جمع الإنسان هذه الخصال ترتب عليها من الآثار الشيء الكثير:

    الحصول على الفرج والرزق السهل

    أولاً من الآثار: ما يتعلق بالفرد؛ فإذا كان متقياً فسييسر الله له فرجاً ومخرجاً من كل ما يهمه من أمور الدنيا والدين، فقد قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[الطلاق:2-3], فيجعل الله له مخرجاً في كل ما يهمه من أمور الدين والدنيا؛ إذا عرض له أي أمر فإن علاقته بالله سبحانه وتعالى غير منقطعة فبذلك يعجل الله له الفرج العاجل فيما يهمه من أمور الدنيا، وفي أمور الدين كذلك يعينه الله تعالى على ذكره وشكره وحسن عبادته، وييسر له الطاعة.

    كذلك يرزقه الله من حيث لا يحتسب؛ فيجعل الله سبحانه وتعالى رزقه من حيث لا يحتسب, حتى لا يتعلق بالدنيا ويهتم بأسبابها؛ فالإنسان الذي يرزق من حيث يحتسب يأتيه رزقه من جهة مرتبه أو من جهة تجارته, هذا لا يستطيع الخلاص من التفكير في ذلك الرزق؛ لأنه يعرف أسبابه فيحاول تنميته وتوفيره، أما الإنسان الذي يرزق من حيث لا يحتسب فلا يفكر في أمور الدنيا, ولا تأخذ حيزاً من تفكيره، كما قال الشيخ محمد عالي رحمه الله:

    يا قلب ثق بضمان القادر الباري على يقين من الباري بإخباري

    ولا تحرك بتدبير المعاش يداً ولا لساناً بإيراد وإصدار

    كم ليلة بت فيها بين أربعة يأس وفقر وخوف الذل والعار

    فبينما أنت فيها غير مكتسب ولا معلق تأميل بديار

    وافتك من نفحات الله سارية تؤم دارك من دار إلى دارمأم

    فإذا شهد الإنسان رزق الله له من حيث لا يحتسب فهذا أثر من آثار تقواه.

    تكفير السيئات

    وكذلك من آثار التقوى على الفرد: تكفير السيئات؛ فإن الإنسان إذا كان متقياً لله يكفر الله عنه سيئاته كما قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ[الطلاق:5]؛ فهي سبب لتكفير السيئات، وذلك في درجتين:

    الدرجة الأولى: إذا كان الإنسان يتقي الكبائر فإن الله يكفر عنه الصغائر, كما قال الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ[النساء:31].

    والمرتبة الثانية: إذا تاب الإنسان من السيئات فاتقاها واجتنبها؛ فإن الله يكفرها عنه بتوبته وإقلاعه، وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهمْ عَذَابًا أَلِيمًا[النساء:17-18].

    الحصول على نور القلب والبصيرة

    كذلك من آثار التقوى على الفرد: نور القلب والبصيرة؛ فالإنسان إذا كان من أهل التقوى يجعل الله له فرقاناً يميز به بين الحق والباطل, وبين الهدى والضلال؛ فلا يلتبس عليه الحق بالباطل أبداً، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ[الأنفال:29]؛ فيجعل الله له فرقاناً يميز به بين الحق والباطل؛ فإذا عرضت له المشكلات والفتن استطاع النجاة منها؛ لأنه هدي إلى طريق الحق.

    الحصول على نور الوجه والقلب والقبر

    ثم بعد ذلك من آثار التقوى كذلك: النور الذي يجعله الله تعالى في وجوه المتقين؛ فإن الله تعالى يبيض وجوههم وينورها؛ فهذا النور قد لا يدركه الناس إدراكاً حسياً؛ ولكنه موجود محسوس، وهو كذلك باق مع الإنسان ليوم القيامة؛ فبالتقوى ينور الوجه والقلب والقبر، هذه كلها يحتاج الإنسان إلى نورها؛ فالنور الذي في وجه الإنسان يصرف عنه المعصية ويباعدها عنه؛ فيكون متصفاً بهيبة من عند الله سبحانه وتعالى تمنعه من أهل المعصية, فلا يرغبون في مجالسته ولا النظر إليه ولا الاجتماع به، وتصرفه هو عنهم كذلك، وكذلك النور القلبي يقتضي من الإنسان ألا تتعلق نفسه بمعصية الله؛ بل يكون هواه تبعاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

    وكذلك نور القبر الإنسان محتاج إليه غاية الاحتياج, كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن هذه القبور مظلمة على أهلها, وإن الله ينورها لهم بدعائي وصلاتي )؛ فيحتاج الإنسان إلى النور في قبره.

    الرضا بقضاء الله وقدره

    كذلك فإن من آثار التقوى على الفرد: أنها تقتضي منه الرضى بما كتب الله له؛ فهو في سعادة عجيبة في هذه الحياة؛ لأن رضاه إنما هو بما رضي الله له؛ فإذا جعله الله غنياً رضي بذلك؛ لأنه من أمر الله، وإذا جعله فقيراً رضي بذلك؛ لأنه من أمر الله، وإذا جعله جميلاً رضي بذلك؛ لأنه من أمر الله، وإذا جعله قبيحاً رضي بذلك؛ لأنه من أمر الله، وإذا قوي بدنه رضي بذلك؛ لأنه من أمر الله، وإذا ضعف رضي بذلك؛ لأنه من أمر الله، فهو راض في كل حال، فأي حال يمر به فهو راض عن الله فيه، وبذلك يكون في سعادة عجيبة كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف؛ فالملوك وأبناء الملوك يبحثون عن الراحة والسعادة والاطمئنان، وهذا الذي يجده العابدون لله سبحانه وتعالى أهل التقوى؛ فهم مطمئنون مرتاحون، لا يجزعون إذا جزع الناس, ولا يرتاعون لأي شيء من أمور هذه الحياة الدنيا؛ لأنهم يعلمون أن ذلك قد سبق أن جرى به القلم, وأنه لا يصيبهم إلا ما كتب الله لهم، ومن هنا فهم راضون عن كل ما يأتي من الله سبحانه وتعالى، مبادرون إلى الخطاب الوقتي الذي يوجهه الله إليهم؛ فإذا جاءهم خطاب بأمر بادروا إليه, وإذا جاءهم خطاب بنهي أيضاً اجتنبوه، وبهذا يشغلون أوقاتهم فيما خلقوا من أجله؛ وهو عبادة الله.

    وأذكر شيخاً كبير السن كان من الذين ينتظرون الصلوات ويتأهبون لها؛ فكان يقول: ليس لي عمل إلا هذه الطاعات التي كلفني بها ربي؛ فأنا أقوم بها كما يرعى الراعي غنمه؛ يأتيها عند الصباح الباكر فيبدأ بضعافها, ويعالج ما يحتاج إلى العلاج منها, ويحتلب ما يحتاج إلى الحلب منها، ثم يرسلها إلى المرعى ثم يديرها فيه ثم يحرص على سقيها في وقت شربها, ثم يعيدها أيضاً في الرواح إلى مراحها ثم يربط منها ما يحتاج إلى ربط, ويعلف ما يحتاج إلى علف.. وهكذا، يقول: أنا هذه مهمتي في هذه الحياة, وهذه العبادات التي أمرني الله بها؛ فأنا أتعاهدها كما يتعاهد الراعي غنمه.

    إن الإنسان إذا وصل إلى هذا المقام عاش مع الله سبحانه وتعالى فكان من الحاضرين الغائبين، الذين هم يحضرون مع الناس في جلوتهم, ولكنهم غائبون عن دنياهم, لا يبالون بما يقع فيها ولا يهتمون لما فيها؛ فليست هذه الدار دارهم, وليس هذا القرار قرارهم، بل هم مع الله سبحانه وتعالى؛ أنسوا بقربه, وأحبوا ما لديه, ورغبوا فيما عنده؛ فهم ينتظرون رسله؛ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ[الأنعام:61]، وبذلك لا يبالون ما يأتي من الأمور في الزمن؛ ولهذا قال المحدثون: لو قيل لـمكي بن إبراهيم: إنك تموت غداً لما استطاع أن يزيد شيئاً؛ لأن كل الوقت عنده مليء بالطاعة؛ فلا يستطيع أن يزيد أي شيء، فهذا من آثار التقوى بالنسبة للفرد.

    إصلاح الأهل والذرية

    كذلك من آثارها بالنسبة للفرد من تيسير الله لأمره: أن يصلح له أهله, وأن يعينه بصلاحهم, كما قال الله تعالى في قصة زكريا عليه السلام: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ[الأنبياء:90]، فمن كان كذلك فإن الله يصلح له أهله, ويختار له الأهل الصالحين والذرية الصالحة، كما قال الله تعالى: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ[النور:26]، يختارهم الله سبحانه وتعالى انتقاءً واختياراً واصطفاءً؛ فيصلح الأولاد والأهل دون كبير عناء، لا يتكلف فيهم الإنسان ولا يتعب.

    بقاء الصلاح في النسل والذرية

    وكذلك من آثار التقوى: أن بقاءها في النسل أيضاً قد يستمر مدة, فـإبراهيم عليه السلام تركها كلمة باقية في عقبه؛ وهي الولاء لله تعالى والبراء من أعداء الله جميعاً، والله سبحانه وتعالى في قصة موسى مع الخضر ذكر أن الكنز كان لغلامين في المدينة, وأن أباهما كان صالحاً, فلذلك روعي حال أبيهما فيهما، وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى ذكر في قصة موسى والخضر أن الغلام الذي قتله الخضر -وهو غلام فاسد- أراد الله تعالى أن يعوض أبويه -وهما صالحان- خيراً منه؛ فقال: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا[الكهف:80-81]؛ فلذلك يختار الله تعالى للمتقين ما يحتاجون إليه من الأهل والأولاد وما يصلح لهم.

    إدراك منزلة السلف الصالح

    كذلك من آثار التقوى على الفرد: أنها تقتضي اختصار المسافات؛ فالإنسان الذي يعيش في هذه القرون المتأخرة إذا كان من أهل التقوى فإنه يلتحق بالسلف السابقين, فيكون من المقربين الذين هم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين؛ وبذلك يلتحق بأولئك السابقين فيعد في عدادهم ويكون منهم، يحلق بمن سبقه بأعماله الصالحة وبتقواه لله سبحانه وتعالى.

    1.   

    آثار التقوى على المجتمع

    أما آثار التقوى على المجتمع فمنها:

    حصول المصالح ودفع المفاسد

    أولاً: أن كل ما حرمه الله هو مضرة على المجتمع، وكل ما أمر الله به فهو مصلحة للمجتمع؛ فإن الله تعالى لا يبلغ إليه عباده بنفع ولا ضرر؛ فما نهى عنه فلا يمكن أن يكون ضرره إلا عائداً إلى المنهيين عنه، وما أمر به فلا يكون نفعه عائداً إلا إلى المأمورين به؛ ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا سمعت الله يدعوك فاعلم أنه إما إلى خير يقربك إليه أو إلى شر يصرفك عنه.

    وحيث وجد شرع الله فثمة مصلحة الناس؛ فلذلك قد نهى الله سبحانه وتعالى عن كثير من المحرمات التي في اقترافها وارتكابها من الضرر بالمجتمعات الشيء الكثير، فإذا عمت التقوى أرجاء المجتمع فستترك تلك الكبائر والمعاصي التي هي مضرة بالمجتمعات، وإذا عمت التقوى فسيكون ذلك سبباً لاجتناب اقتراف القتل, وسبباً لاجتناب اقتراف الزنا، وسبباً لاجتناب اقتراف شرب المخدرات, وسبباً للابتعاد عن عقوق الأبوين, وسبباً للابتعاد عن الربا، وسبباً للابتعاد عن كل ما لا يرضي الله تعالى، وهذه أضرار كبيرة جداً تلحق بالمجتمعات، فأي مجتمع تفشى فيه الربا فإنه ستفشو فيه الأمراض والأوجاع التي لم تكن معروفة من قبل، ولابد أيضاً ألا يستجاب دعاء أهله؛ فإن الإنسان الذي يعيش من الحرام لا يستجاب دعاؤه، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين؛ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا[المؤمنون:51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب.. يا رب! ومطعمه حرام, وملبسه حرام, وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب لذلك؟! ).

    التماسك بين أفراد المجتمع

    كذلك من آثار التقوى على المجتمعات أنها تؤدي إلى التماسك؛ فمن كان من أهل التقوى لا يمكن أن يكون قاطعاً للرحم, ولا يمكن أن يكون عاقاً لأبويه, ولا يمكن أن يكون ساعياً لإفساد المجتمع، ولا يمكن أن يكون ماشياً بالنميمة, ولا يمكن أن يكون آكلاً للربا وهو من أهل التقوى؛ فهذا مما يحتاج إليه المجتمع؛ يحتاج إلى اللبنات الصالحة التي هي مأمونة على دين الله؛ لا تفتري الكذب, ولا تأكل الربا, ولا تمشي بالنميمة, ولا تأكل الغيبة, ولا تغش ولا تخون؛ فإذا وجد هذا النوع من النماذج فهم ركائز المجتمع، وهم الذين يثبت الله بهم الدين في الأرض؛ ولذلك قال القرطبي رحمه الله في تفسيره: أربعة إذا اجتمعوا في قرية عصمت بهم من البلاء: إمام عادل لا يظلم، وعالم على طريقة الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ونساء ساترات ما أوجب الله عليهن ستره متصفات بالحياء، لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، ولا يتمردن على الحجاب.

    هذه أربعة إذا اجتمعت في مدينة أو قرية فإنها تعصمها من البلاء وترفعه عنها؛ لأن من البشر من هم بمثابة المظلات يعصم الله بها من حولها من البلاء النازل، وقد صح في ذلك عدد من النصوص؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( والله لولا بهائم رتع, وشيوخ ركع, وصبيان رضع؛ لصب عليكم العذاب صباً )، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم )؛ فضعفة المؤمنين لهم فضل عظيم عند الله سبحانه وتعالى، يرفع بهم البلاء عن الناس؛ ولذلك فدعاؤهم ينتفع به العاصون أيضاً؛ فإن الله تعالى يهب بعض العاصين لبعض المحسنين, ومن الناس من يشفع يوم القيامة في مثل ربيعة ومضر.

    كذلك في الحياة الدنيا فإن وجود متق واحد في صفوف كثيرة مثلاً ترفع عبادتهم على قلبه, فيكون هو شفيعهم بين يدي الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا شرع لنا اختيار الأئمة وانتقاؤهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً فأقدمهم سلماً )، وفي رواية: ( أقدمهم سناً )، وفي رواية: ( أسبقهم هجرة )؛ فكل ذلك انتقاء واختيار للأئمة؛ لأنهم الذين يقفون بين يدي الصف فيناجون الرب سبحانه وتعالى, ويرفعون إليه حوائج الجميع؛ ولهذا قال: ( من أم قوماً ولم يشركهم في دعائه فقد خانهم )، وقال: ( الإمام ضامن, والمؤذن مؤتمن )، فالإمام ضامن؛ ولهذا كان لابد من اختيار الأئمة؛ لأنهم الذين يتكلمون باسم جميع المصلين بحضرة الملك الديان سبحانه وتعالى.

    الرقي والسمو في المجتمع

    كذلك من آثار التقوى على المجتمع: أنها أيضاً إذا فشت في مجتمع من المجتمعات فلابد أن يكون ذلك المجتمع راقياً سامياً، يصرف الله عنه كثيراً من المكاره والآفات؛ لأن كثيراً من هذه المكاره والآفات إنما هي من شؤم الذنوب؛ ولذلك أخرج ابن ماجه في السنن وأحمد في المسند والحاكم في المستدرك وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً: ما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأوجاع والأمراض التي لم تكن في من مضوا من أسلافهم، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وعسف السلطان ونقص المئونة، ولا نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط الله عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، ولا منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، وما حكمت أئمتهم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم )، فهذه المشكلات العظيمة التي تشكو منها شعوب أهل الأرض اليوم وتضج منها إلى الله سبحانه وتعالى إنما هي من شؤم الذنوب؛ ولذلك إذا فشت التقوى في مجتمع من المجتمعات فسترفع هذه المشكلات المنتشرة الكثيرة؛ فقد قال الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَهمْ يَرْجِعُونَ[الروم:41]؛ فلا يمكن أن يرفع البلاء إلا باتقاء هذه الأدواء والأمراض التي هي سببه؛ ولذلك فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام الرمادة لما خرج للاستسقاء قدم العباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فتسقينا، فأما إذ قبضته إليك فإنا نتوسل إليك بعم نبينا، يا عباس! قم فادع؛ فقام العباس فاستغفر وذكر فكان مما قال: إنه لم ينزل بلاء من السماء إلا بذنب ولم يرفع إلا بتوبة؛ فلذلك لما استسقى العباس رفع الله عنهم ما كانوا فيه من الجهد واللأواء والضنك, وأمطرهم الله سبحانه وتعالى؛ فكل ذلك بسبب التوبة إليه والدعاء والاستغفار بين يديه.

    تحقيق استجابة الدعوات للمجتمعات

    كذلك فإن من آثار التقوى أيضاً: تحقيق استجابة الدعوات للمجتمعات كما ذكرنا؛ لأن التقوى سبب لترك الأسباب المانعة لاستجابة الدعاء، والدعاء يمنع استجابته سببان منصوصان:

    أحدهما: أكل الحرام كما سبق. والثاني: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن أي مجتمع ترك فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يستجاب دعاء أهله, كما أخرج الترمذي في السنن من حديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لتأمرن المعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن ينزل بكم عقاباً من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم )، فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لعدم استجابة الدعاء.

    حفظ الضروريات الخمس

    كذلك من آثار التقوى في المجتمع: حفظ الخمس التي لم يأت نبي قط إلا بالحفاظ عليها؛ فالمجتمعات محتاجة إليها, وهذه الضروريات هي أولاً: الدين؛ فلا يمكن أن يحفظ إلا بالتقوى؛ لأنه إذا فشا الفسق والفجور فلا يثق الإنسان بمن يعامله, ولا بمن يصلي معه, وبذلك لا يستطيع الإنسان الثقة بإقامة أمر دينه, فعماد الدين وعموده الصلاة، وإذا لم تفشو التقوى في الناس فلا يمكن أن يثق الإنسان بأدائها على الوجه الصحيح؛ لأن الصلاة مثلاً سبب وجوبها الوقت، وجميع الحاضرين الآن لا يمكن أن يراقبوا طلوع الفجر وغروب الشمس وزوال الشمس ودلوكها وغيبوبة الشفق؛ هذه أمور لا يستطيع الجميع أن يلازم النظر إليها، بل إنما يقوم بذلك القائمون بفرض الكفاية فقط؛ فأئمة المساجد والمؤذنون هم المؤتمنون على مثل هذا؛ فهم الذين يحددون للناس دخول الوقت، وهم مؤتمنون على ذلك؛ فإذا لم تفشُ التقوى فلا يستطيع الإنسان أن يثق بأداء عبادته على وجهها الصحيح.

    ارتفاع الظلم عن المجتمع

    كذلك من آثار التقوى على المجتمع: أنها إذا فشت في مجتمع ارتفع عنه الظلم؛ فالظلم إنما سببه نقص التقوى؛ فقد حرم الله الظلم على نفسه وجعله محرماً بين عباده، وهو ظلمات يوم القيامة، وإذا لم تفشُ التقوى في مجتمع من المجتمعات فسيفشو الظلم في مقابل ذلك، وهو من الشيم التي تكثر في المجتمعات التي تنقطع عن رسالة السماء، كما قال أبو الطيب المتنبي:

    والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم

    فإذا فشت التقوى في مجتمع من المجتمعات فسيرفع الظلم عن أهله؛ لأنه إذا كان الأقوياء يتصفون بالتقوى فستمنعهم تقواهم عن الوقوع في الظلم المحرم؛ ولهذا ففي الصدر الأول من هذه الأمة كان الأئمة والخلفاء من أهل التقوى ومن أهل خوف الله سبحانه وتعالى، فكانوا دائماً يخافون الله تعالى في سرهم وعلانيتهم, ويحرصون على أداء حقوق رعيتهم، وقد حصلت قصة لـهشام بن عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين: وهي أنه جاء حاجاً إلى مكة, فطاف بالبيت وصلى ركعتين خلف المقام، فقام رجل من قريش فقال: يا هشام! إن لي مظالم فمتى تعيدها إلي؟! وأغلظ عليه في القول؛ فسكت هشام طويلاً، ثم قال لذلك الرجل الذي تظلمه: يا هذا! لقد أسخطت ربك بالكذب عند بيته وأغضبت إمامك -يقصد نفسه- والله لولا هذا المقام لكنت جلدتك سوطاً، هذا الخليفة يقال له هذا الكلام الغليظ بملأ من الناس وبمحضرهم، ومع ذلك يهم فقط أن يجلد هذا القائل سوطاً واحداً، ولكنه تركه؛ لأنه في هذا المقام المهيب لديه.

    وكذلك فإن هشاماً رحمه الله جيء إليه برجل من الخوارج الذين كانوا يقاتلونه، فجيء به أسيراً إليه, فلما جلس بين يديه قال: أأنت القائل كذا؟ الفاعل كذا؟ فقال: نعم، فقال: اسكت يا ابن الفاعلة! قذفه وكانت زلة لسان؛ فقال الخارجي: يا أمير المؤمنين! ألا تستحيي من الله أن يجعلك خليفة المسلمين فتقول مثل هذا الكلام؟! فجعل هشام يديه على وجهه, وجعل يبكي حياءً من الله أن يقول كلمة واحدة لهذا الخارجي الأسير حين ذكره أنه في مقام عظيم؛ وهو خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا من آثار التقوى على المجتمع.

    أمن الناس على مصالحهم

    كذلك من آثار التقوى على المجتمع: أمن الناس على بقية مصالحهم؛ فإن الإنسان إذا كان يعامل الناس فلا يستطيع أن يعاملهم دائماً من دون دين، بل يحتاج في كثير من المعاملات إلى المعاملة بالدين الآجل، والتأجيل كثيراً ما يقع فيه الغش والكذب وعدم الوفاء؛ فإذا فشت التقوى في مجتمع من المجتمعات فإن الإنسان سيأمن في معاملته على ماله؛ ولذلك قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: لقد مكثت زماناً لا أبالي من عاملت منكم؛ لأن كان مؤمناً رده عليَّ إيمانه، ولأن كان ذمياً رده عليَّ ساعيه، ولقد أصبحت وأمسيت ولا أعامل إلا فلاناً وفلاناً.

    فالمجتمع إذا فشت فيه التقوى استطاع الإنسان أن يعامل أهله جميعاً؛ فمن كان منهم من أهل الإيمان رده إيمانه, ومن كان من أهل الذمة رده ساعيه، والساعي الذي يقوم عليه هو المسئول الذي يوثق به في الدولة.

    فإذا عمت التقوى مجتمعاً من المجتمعات وشاعت فيه؛ فإن أهل ذلك المجتمع سيأمن بعضهم بعضاً, وبالتالي يكون تعاملهم تعاملاً لا غش فيه ولا خداع.

    انتشار الصحبة الصالحة في المجتمع

    كذلك من آثار التقوى على المجتمع: أنه أمان في ما يتعلق بالصحبة, فإن كثيراً من الناس يتأثرون بمن يخالطون، وكثير من الناس لديهم نقص في الشخصية؛ لا يجدون استقلالاً في أنفسهم, فهم عرضة للعدوى بفيروسات الإيمان وأمراض القلوب، فإذا كان المجتمع منيسود فيه طابع التقوى لدى الناس؛ فسيجدون أهل التقوى يخالطونهم ويخالونهم ويجالسونهم فيتأثرون بما هم عليه، أما إذا فشا فيه الفساد والفسق فإن أولئك ستسري إليهم تلك الصفات الذميمة, وتتعدى إليهم من غير قصد منهم؛ لأنهم من ضعاف الشخصيات فيتشبثون ويتعلقون بما يشيع في مجتمعاتهم؛ فهم مع الأكثرية أينما وجدوها.

    الحصول على رحمات الله والسلامة من العقاب الشامل

    كذلك فإن من فوائد التقوى وآثارها على المجتمع: أن المجتمع الذي تفشو فيه التقوى مرحوم برحمات الله سبحانه وتعالى, وبذلك لا يعاقب عقاباً شاملاً؛ فلا تظهر فيه الأوبئة العامة, ولا تنزل به ما يعجل للمسرفين على أنفسهم من الأخذ الوبيل، بل إن ذلك يرفع عن المجتمعات المتقية؛ ولهذا فإن المجتمعات السابقة كانت إذا كذبت الرسل فرأت العذاب لا يرفع عنها بالتوبة, إلا قوم يونس لما آمنوا فإن الله كشف عنهم العذاب بعد أن رأوه، وما سوى ذلك من المجتمعات إذا كان فيها من هو من أهل الصلاح والالتزام وكان واحداً لا يطاع؛ فإن البلاء لا يرفع عنها به كقرية قوم لوط, فإن الملائكة لما أتوا إبراهيم أخبروه أنهم أتوا بالعذاب والدمار لتلك القرية, فقال: إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ[العنكبوت:32]، فأولئك الملائكة بحثوا في تلك القرية فلم يجدوا فيها بيتاً من المسلمين إلا بيت لوط فقط؛ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ[الذاريات:36] بيت واحد، مِنَ المُسْلِمِينَ[الذاريات:36]؛ فأخذها الله بالعذاب بعد أن أمر لوطاً بالهجرة عن تلك القرية؛ فهاجر منها بالليل, فصبحها الله تعالى فرفعها بالحاصب حتى سمع أهل السماء أصوات كلابها ثم ردها على الأرض، نسأل الله السلامة والعافية!

    فلذلك يرفع البلاء عن القرى التي تفشو فيها التقوى ولو كان فيها بعض العصاة؛ فإن أولئك العصاة يؤخر عنهم بلاءهم بسبب أهل التقوى.

    1.   

    الحرص على التقوى

    إن هذه الآثار العظيمة التي سمعنها سواءً تعلقت بالفرد أو تعلقت بالمجتمع تحضنا على أن نحرص على أن نكون من أهل التقوى, وأن نبادر إلى تطبيق ذلك على أنفسنا, وأن ننظر في الصفات التي سمعنا؛ وهي علامات التقوى؛ فنعرض عليها أنفسنا, وأن نطبق البرنامج العملي الذي سمعنا أيضاً بأرض الجوارح جميعاً على التقوى والتزام ذلك، ولابد أن يكون ذلك بمنهجية دقيقة يبدأ فيها الإنسان بالذي يستطيعه ثم يتعداه إلى ما فوقه، ولا يحاول الإنسان إجهاد نفسه بها دفعة واحدة؛ فإن ذلك يشق عليه الامتثال له، والنفس إذا جاءها الإنسان بالشدة نفرت منه, وإذا جاءها باللين أطاعت؛ فيحتاج الإنسان أولاً إلى تمرينها بالأسهل فالأسهل، كتمرينها في طلب العلم؛ فإن الإنسان لابد أن يبدأ باليسير القليل؛ ولذلك قال ابن عباس في تفسير قول الله تعالى: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ[آل عمران:79] قال: هم الذي يربون الناس بصغار العلم قبل كباره, فيحتاج الإنسان إلى أن يأخذ نفسه باللين أولاً ثم بعد ذلك إذا قطعت مرحلة وصل معها إلى المستوى المطلوب، وهذا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال: ( إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ فسددوا وقاربوا وأبشروا, واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ).

    الصفات الذميمة المحيطة بالتقوى

    ولابد أن نعلم أن التقوى صفة حميدة, وكل صفة حميدة لابد أن يحيط بها وصفان ذميمان يكتنفانها؛ وهما: الإفراط, والتفريط؛ فالتفريط أن يكون الإنسان مقصراً عاصياً؛ فيهمل محاسبة نفسه, ومحاسبة جوارحه، ويهمل ما أوجب الله عليه من التقوى، والصفة الأخرى الذميمة هي: الإفراط؛ وهو تعدي الحد حتى يتجاوز الإنسان ذلك فيصل إلى مقام الوسواس؛ فيمتنع عمَّا أحل الله له ويظن ذلك من التقوى، وهذا لا خير فيه؛ فإن: ( ثلاثة نفر أتوا بيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألوا عن عبادته فكأنهم تقالوها؛ فقال أحدهم: أما أنا فأقوم ولا أرقد، وقال الآخر: وأما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب حتى عرف الغضب في وجهه فقال: أما أنا فأقوم وأرقد, وأصوم وأفطر, وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني )؛ فهذا التوسط هو التقوى ولا خير في المجاوزة.

    نعم لا شك أن أهل التقوى سيتفاوتون تفاوتاً عظيماً في منازلهم ودرجاتهم؛ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ[المطففين:26]، لكن لابد أن يعلم أن الإسراف أيضاً لا خير فيه حتى لو كان في الطاعة، فالسرف منهي عنه مطلقاً حتى لو كان في الطاعة؛ لأن الإنسان مأمور بالعدل, والعدل يقتضي إنصافاً لبدنه وعينه وأهله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعبد الله بن عمر: ( إن لعينك عليك حقاً, ولأهلك عليك حقاً, ولزورك عليك حقاً؛ فأعط كل ذي حق حقه )، وهذا العدل به قامت السموات والأرض، ولا يستطيع الإنسان أن يصل إلى هذه الصفة الحميدة من التقوى إلا إذا كان عادلاً فيؤدي الحقوق كلها على وجهها الصحيح.

    نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتقين، وأن يلهمنا رشدنا, وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجمع لنا خيري الدينا والآخرة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767427177