إسلام ويب

فقه الموازناتللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الإسلام العظيم هو شريعة الله الخالدة، وهو المنهج الرباني الوسطي المتزن، وإن المنتمين إلى هذا الدين العظيم عليهم الحذر من الإفراط أو التفريط فيه، وعليهم أن يفقهوا فقه الموازنة في جانب العلم والعمل والدعوة إلى هذا الدين.

    1.   

    منهج الإسلام المتوازن بين الإفراط والتفريط

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين, أحمده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى, وأصلي وأسلم على أفضل الخلق وأكرمهم على الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

    أما بعد:

    فإن من مهمات المشتغل بالدعوة في زماننا هذا أن يتعلم فقه الموازنات الذي يحتاج إليه الإنسان في كل الظروف, وبالأخص في مثل هذه الظروف الحالكة التي يعتريها كثير من الأمور وتتشعب فيها المناهج والمشاغل، ولا يجد فيها الإنسان وقتاً للتقويم ولا للمتابعة، فكان لا بد من وضع ضوابط وقواعد ينطلق منها الداعية في حياته الدنيوية.

    وأول ما ابتدئ به في بيان خاصية الاعتدال والتوازن في المنهج الرباني الوسطي، فأقول: إن الله سبحانه وتعالى قد اختار لعباده هذا الصراط السوي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وكان كل الأديان إعداداً له، فجعله من بين فرثٍ ودمٍ لبن خالصاً سائغاً للشاربين، منهجاً سوياً معتدلاً لا إفراط فيه ولا تفريط، ولا وكس فيه ولا شطط، يؤدي فيه الإنسان إلى كل ذي حقٍ حقه, ينطلق فيه من مبدأ: ( إن لنفسك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه ), كما بين النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص .

    نبذ الإسلام للإفراط

    ومن هنا فهذا المنهج الرباني المعتدل يدعو إلى نبذ الإفراط مطلقاً، فكل ما فيه عنت ومشقة، وكل ما فيه تجاوز للطاقات البشرية فهو منفي، فقد قال الله تعالى: مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78], وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اكلفوا من الأعمال ما تطيقون ), وقال: ( إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ).

    نبذ الإسلام للتفريط

    وكذلك فيه نفي للتفريط، فلا مجال للعامل العابد في هذه الحياة القصيرة للتكاسل والتراجع والإهمال, فلا يمكن أن يتنازل عن الحق وهو يعلم، ولا أن يسكت عن الباطل وهو يراه، ولا يمكن كذلك أن يركن إلى هذه الدنيا فليس من أهلها, ( ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة )، ( إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح).

    وبين الإفراط والتفريط مسلك واسع هو الصراط المستقيم، الذي ارتضاه الله لعباده, وقد بين الله ذلك في كتابه في عدد من الآيات، منها قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67], فالتوسط بين الإسراف والإقتار هو القوام المطلوب شرعاً، وهو المنهج المعتدل الذي أرشد الله إليه عباده وسار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرب عليه أصحابه طيلة حياته، وهو الذي وصلت به هذه الأمة إلى أعلى المستويات.

    وما حصل انحراف إلا بسبب ترك هذا الصراط إما إفراطاً، وإما تفريطاً, فالإفراط فيه قد يأتي من جهة التصور، بأن يتصور الإنسان الشيء أكبر من حجمه، كأن يتصور الغلط أكبر من حجمه، أو الصواب أكبر من حجمه، أو المصلحة أكبر من حجمها، أو المفسدة أكبر من حجمها فيغلو فيها، فهذا الغلو منفي، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عنه في كتابه: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171].

    وكذلك في المقابل يأتي الغلط من جهة التقصير والتفريط, فيظن الإنسان الأمر أيسر مما هو عليه شرعاً، ويتصوره أقل من ذلك فيهون عليه، وبسبب ذلك يفرط فيه حتى يفوت الأوان.

    1.   

    فقه الموازنات في حياة المسلم

    إن مدة الامتحان يسيرة محدودة، وبقاؤنا في هذه الدار محصور فلا مجال لذلك, ومن هنا كان لزاماً على الإنسان أن ينظر إلى التوازن في حياته بين هذه الأمور التي سنبينها في القواعد التالية:

    الموازنة بين العلم والعمل

    القاعدة الأولى: الموازنة بين العلم والعمل, فمن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى رسم للمؤمن خطة رباعية يسير عليها طيلة حياته، تبدأ أولاً بالعلم، ثم بالعمل، ثم بالدعوة، ثم بالصبر على طريق الحق. وهذه الخطة هي التي تضمنتها سورة العصر التي قال فيها الإمام الشافعي : لو لم ينزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سورة العصر لكفت حجة على الناس, يقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا[العصر:1-3], وهذا أول ما يلزم بأن يتعلم الإنسان الإيمان، ويصحح إيمانه، ولا يمكن أن يصححه إلا بتعلم الوحي الذي به يصح الإيمان، فلا يمكن أن يصحح عن طريق الأهواء ولا عن طريق العقول, ثم بعد هذا قال: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:3], وهذا العمل الذي يتقرب به إلى الله، وهو الحكمة من خلقنا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].

    وهو الذي يجده الإنسان أمامه: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:30].

    وبعد هذا قال: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ [العصر:3], وهذه الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بتواصي الناس فيما بينهم بالحق، والحق كما قال أهل العلم: السعي في تحصيل حسنة المعاد أو درهم المعاش، فيشمل ذلك الدعوة إلى منهج الحق عموماً، والنصيحة للسالكين له, فهذا يقتضي السعي لهداية الناس إلى منهج الله، ثم بعد هذا السعي لإظهار النصيحة للناس في أمور دينهم ودنياهم.

    ثم قال: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3], وهذا تنبيه إلى أهمية الصبر للسالك لهذا الطريق الذي هو محفوف بالمكاره، وفيه كثير من الابتلاءات والعقبات، لا يقطعها إلا كل ضامر مهزول، كما قال الرجل عمر بن عبد العزيز رحمه الله.

    ولا شك أن الذي يبصر هذا الطريق من الناس ويهدى له نسبتهم يسيرة قليلة, ثم إن الذين يستمرون على الطريق ويسلكون هذا الطريق بعد رؤيته وإبصاره أقل, ثم الذين يستمرون على الطريق ولا يفتنون عنه هم أقل القليل؛ ولهذا قال خليل رحمه الله: قل من أبصر، ثم قلّ من أراد، ثم قلّ من سلك، ثم قل من وصل, فطريق الحق عليه نكبات وعقبات يصرف الله بها من لا يرتضي سلوكهم له؛ ولذلك قال: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الأعراف:146], وقال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9], وقال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46], وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11], فمن هنا أحتاج الإنسان إلى الصبر على هذا الطريق حتى يلقى الله.

    وهذا الأربع أيضاً هي وصية لقمان لابنه التي أخبرنا الله بها في كتابه إقراراً لها فقال سبحانه وتعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13], وهذا تعليم وما بعده كذلك, ثم قال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17], وهذا العمل، ثم قال: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ[لقمان:17], وهذه الدعوة, ثم قال: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17], وهذا الصبر على هذا الطريق.

    ولاشك أن الإنسان أخرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً, كما قال الله وتعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [النحل:78], فهذه هي وسائل العلم، فأول ما يخرج الإنسان يخرج محتاجاً إلى أن يتعلم ما أرشد الله إلى تعلمه، وما أنزل به الوحي على رسله, وأن يتعلم ما هو بحاجة إليه في أمور حياتيه الدنيوية والأخروية, ولكن كثيراً من الناس يرى أن العلم طبقات لا حصر لها وأبواب غير متناهية، وإذا دخل في طريق العلم انكفأ عليه وترك العمل، فكثير من الناس قد يستغرق طلب العلم وقته كله أو اهتمامه وشغله, أو مكان الإبداع فيه والإنتاج, فيتجه إلى هذا الاتجاه، ويشتغل به حتى يتجاوز ما كان ينبغي له من المقارنة بين العلم والعمل، والواقع إن هذا العلم حينئذٍ سيكون حجة عليه لا له؛ ولهذا قال أبي الدرداء رضي الله عنه: إن أخوف ما أخافه أن يقال لي يوم القيامة: أعلمت؟ أجهلت؟ فأقول: بل علمت، فيقال: ففيمَ عملت بما علمت؟

    وكذلك قال: إن أخوف ما أخافه كتاب الله، ألا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك آمرةً فلم تأتمر بي، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبي الدرداء ! قد أتيتك زاجرة فلم تنزجر بي.

    والله سبحانه وتعالى نعى عن اليهود أنهم علموا وما عملوا، فقال: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5], وجعل الأعراض عن العمل تكذيباً فقال: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [الجمعة:5], فهم علموا ولم يعملوا فكان ذلك تكذيباً لما علموا.

    وكذلك فإنه سبحانه وتعالى جعل تعلم هذا العلم مقصداً للعمل ليعمل الإنسان بما تعلم، ولينطلق منه في كل تصرفاته حتى لا يتصرف على أساس الجهل المحذور, وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن الزمان الأول أهله كانوا يتعلمون اليسير من العلم ويعملون الكثير من العمل، وأن ذلك سينقلب فيكثر العلم ويقل العمل، فقال: ( أنتم في زمان قليل قراؤه، كثير من يسأل قليل من يجيب، وسيأتي على الناس زمان كثير قراؤه قليل من يسأل، كثير من يجيب ).

    وتنبيه على أن السالك لطريق العلم لا بد أن يوازن بين ما يتعلمه وما يعمل به، وقد ورد في كثير من النصوص؛ لأن الحجة قائمة على الإنسان بما تعلمه, وإذا لم يبادر إلى العمل به فاتت الفرصة وكان كالسراج الذي يحترق ليضيء للآخرين.

    ومن هنا حرص السلف الصالح على العمل بما تعلموا، فقد روى أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله قال: أخبرنا الذين كانوا يعلموننا القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر منهم: ابن عباس و أبا هريرة و أبياً و زيد بن ثابت و عثمان و علياً قالوا: ما كنا نقرأ عشر آيات فنجاوزها حتى نتعلم ما فيها من العلم وحتى نعمل بها، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل.

    والموازنة بين طلب العلم والعمل به ضرورية للعامل أيضاً في تقويته على العلم وحفظه؛ لأن من وسائل بقاء العلم أن يعمل به صاحبه؛ ولذلك قال سفيان بن عيينة : إن العلم ينادي بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.

    وقد مثل أهل العلم للعلم بالشجرة، وللعمل بالثمرة، وقالوا: لا ثمرة إلا بشجرة، ولا خير في شجرة لا ثمرة لها.

    ثم إن بعض الناس في المقابل قد يقدمون جانب العمل على جانب العلم فيشتغلون بالتزهد والتنسك، وإكثار النوافل على حساب الازدياد من العلم الشرعي ومن العلم الذي يحتاج إليه في دينه ودنياه، وربما عاب على المشتغلين بالعلم ورأى أن ما هو فيه خير مما هم فيه، فيكون ذلك باباً للغرور ومدخلاً من مداخل الشيطان.

    والعمل على غير علمٍ سبب للضلالة والانحراف، وقد قال الله وتعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36], وقال تعالى في ذكر النصارى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27]؛ ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى جعل اليهود مغضوباً عليهم وجعل النصارى ضالين، فاليهود غضب عليهم؛ لأنهم قامت عليهم الحجة بما أوتوا من العلم فلم يعملوا به, والنصارى عملوا على غير علم؛ ولهذا قال في كتابه: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7], فالمغضوب عليهم اليهود والضالون النصارى، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ولهذا فقد ذكر كثير من أهل العلم أن على سالك طريق العلم أن يكون أجدر بالتطبيق من غيره، وأن يحرص على التطبيق كما يحرص على الازدياد من العلم، فكلما ازداد علماً ازداد عملاً، والموازنة في هذا تقتضي مراجعة الدافع الذي حمل الإنسان على الاشتغال بأحدهما، فالذي ينقطع للعلم والذي ينقطع للعبادة والعمل كلاهما لا بد أن يراجع الدافع الذي دعاه إلى ذلك, فإن علم أن الدافع الذي دعاه هو حب الله والتقرب إليه، وطلب رضوانه، واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم اقتضى منه ذلك الحرص على الجانبين معاً، وألا ينطلق من هواه، وألا يقبل للشيطان مكيدة تجعله يسرف في أحد الجانبين على حساب الآخر.

    الموازنة بين العمل الوظيفي والعمل الدعوي

    القاعدة الثانية: هي الموازنة بين العمل الوظيفي والعمل الدعوي، فإن كثيراً من الناس إذا التحقوا بهذه الدعوة المباركة وساروا في ركابها آثروا عمل الدعوة على عملهم الوظيفي وتكاليفهم المختصة, ومن هنا فإن كانوا في مرحلة الطلب من الطلاب المنتظمين في الجامعات وغيرها كانوا أكثر الطلاب تقاعساً في الدراسة النظامية، وأكثرهم تخلفاً عن الدروس والأنشطة لاشتغالهم بأمور الدعوة, وإن كانوا في العمل الوظيفي كانوا من الذين لا يترقون ولا يبدعون في أعمالهم لكثرة انشغالاتهم بالجوانب الدعوية.

    وفي المقابل أيضاً نجد آخرين من الذين التحقوا بهذه الدعوة يقدمون العمل الوظيفي كالدراسة أو الوظيفة والعمل المكتبي على أعمال الدعوة، ولا تأخذ أعمال الدعوة من حيز وقتهم ما تستحق، ولا من حيز تفكيرهم واهتمامهم ما تستحق, فيجعلونها أمراً هامشياً جانبياً، ولا يعطونه القدر المستحق مع أنها مقتضى بيعتهم مع الله سبحانه وتعالى، ومقتضى قناعتهم حيث يعلمون أنها أعظم ما يشتغلون به وأنفع ما ينتجونه.

    فنحتاج إلى الموازنة بين هذين الجانبين, والموازنة بينهما تقتضي الرجوع إلى ما ذكرناه من خصائص المنهج الرباني في الاعتدال والتوازن، بلا إفراط ولا تفريطٍ ولا وكسٍ ولا شطط، فيحتاج الإنسان إلى أن يعطي كل ذي حقٍ حقه, وأن ينظم الوقت، وأن يقسمه تقسيماً عادلاً، فيحاول الإنسان أن يجعل لوقت الوظيفة إتقاناً واهتماماً، ولوقت الدعوة أيضاً إتقاناً واهتماماً, ويوزع اهتماماته وإبداعاته بين الجانبين بعدل، فلا يفرط في أحدهما ويفرط في الآخر، بل يجعلهم كجناحي الطائر يسير بهما في اعتدال وتوازن.

    والدعوة لا يصلح لها المتردية والنطيحة، وما أكل السبع, فالفاشلون في أعمالهم ودراساتهم ليسوا هم الذين يعتمد عليهم في الدعوة، وإنما يحتاج في الدعوة إلى الرواحل الأقوياء الذين يحطمون الأرقام القياسية في كل المجالات, وهم الذين يمكن أن يبدعوا في مجال الدعوة.

    والذين يظنون أنهم في أوقات العمل الوظيفي ينبغي أن يؤثروا ذلك العمل في اهتماماتهم وإبداعاتهم على الدعوة، وأنهم إذا وصلوا إلى مرحلة التقاعد سيجعلون الدعوة جل اهتمامهم فهؤلاء مغرورون, ومرحلة التقاعد لو بلغوها ولم يموتوا قبلها فليست مرحلة إنتاج ولا إبداع؛ بل في كثير من الأحيان لا يصل إليها الإنسان إلا وقد انتهت طاقته ونفد ما فيه، كالعلبة التي أخذ ما فيها وأصبحت خالية.

    فمن هنا لا بد من الموازنة في الوقت والاهتمام والطاقة بين هذين العملين, وأن يعلم الإنسان أنه موظف في هذه الحياة في ديوان الخدمة عند الله سبحانه وتعالى في الاستخلاف في هذه الأرض، وهو فرد من البشر الذين كلفوا بالاستخلاف واستخراج ما فيها من الخيرات، وهو مطالب بالإتقان في كل عمل يتولاه، ومطالب كذلك بأن تكون أعماله على وفق قناعاته، فأعظم قناعة يقتنع بها الإنسان تصديق ما جاء به النبي الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، وأن هذا الدين وحده هو المرضي عند الله، وأن ما سواه لا نفع فيه ولا خير فيه : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]؛ فلذلك لا بد أن يحرص الإنسان على تحقيق هذه القناعة واقعياً في حياته؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كان خلقه القرآن )، فخلقه وتصرفه يمثل ما أنزل إليه من ربه، فمن نظر إلى تصرفاته وأعماله وحياته وجدها مطابقة تماماً لما أنزل إليه من ربه.

    الموازنة بين حقوق الأهل وحقوق الدعوة

    القاعدة الثالثة: الموازنة بين حقوق الأهل وحقوق الدعوة، فإن كثيراً من الناس يشق عليه الجمع بين هذين الحقين، فيرى نفسه بين أهله من والدين وأهل وأولاد وأرحام وجيران لهم حقوق عظيمة، لا ينكرها المسلم ولا يتنكر لها, ويجد عليه حقوقاً أخرى للدعوة كبيرة، فيشق عليه الجمع بين هاذين الحقين، وربما حصل لديه تعارض بينهما، فمنهم من يفرط في حقوق الأهل، ويفرط في حقوق الدعوة, ومنهم من يفرط في حقوق الأهل، ويفرط في حقوق الدعوة, ولا بد للمسلم السالك لهذا المنهج السوي بالموازنة بين الأمرين بإعطاء كل ذي حق حقه, وأن يعلم أن من له عليك حق في هذه الحياة الدنيا، إذا جاء يوم القيامة وهو يطالبك به فلا يرجى سماحه حينئذٍ؛ لأن الأنساب والأسباب قد تقطعت؛ ولأنه في أمس الحاجة إلى حقه, وقد قال الله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101].

    فلهذا لا بد من إعطاء كل ذي حق حقه, وذلك يقتضي من الإنسان أن يوزع طاقته ووقته بإنصاف وعدل, فيعطي الأهل ما لهم من حق دون أن يبالغ فيه ويسرف فيه حتى يكون ذلك تقصيراً في جانب الدعوة, ويعطي الدعوة أيضاً الحق الذي تستحقه من وقته وجهده واهتمامه, فإذا دخلت في كيانه وتمت تربيته عليها كان مشتغلاً بمنهج الله وبالدعوة إليه في كل مكان كان فيه, وكان في أداء حقوق أهله داعيةً قائماً بأمور الدعوة، وفي خارج بيته كذلك متصفاً بهذا الوصف, فيترسخ هذا الوصف في نفسه فيكون منطلقاً منه في كل أموره.

    ومن هنا احتاج المشتغل بالدعوة إلى درجة كبيرة من الربانية والاتصال بالله سبحانه وتعالى، وزيادة التوكل عليه حتى يكون نوراً مشعاً، وإذا خالطه إنسان ولو بجلسة واحدة استطاع التأثير فيه، فيكون وقته مباركاً وجهده متقبلاً، فإذا جلس إلى الأهل ولو سويعات متقطعة قليلة أثرت فيهم ذلك التأثير البليغ الذي يشاهد أثره ويصل إلى الأعماق.

    ومن هنا تظهر تربيته على أهل بيته، وتظهر في أولاده بصماته وآثاره فيضمن ولاءهم للدعوة ولدين الله، ويضمن استمرارهم على منهجه هو فما هم إلا قطعة منه قد انفصلت، وهو قد اختار هذا الطريق الذي اقتنع به، فلا يمكن أن تذهب أجزاء منه إلى طريق آخر.

    ومن هنا فهو يجتهد على أن يسلك أهل بيته جميعاً هذا المسلك وهذا الطريق؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أراد أن يتقدم إلى الناس في النهي عن أمر جمع آل بيته، فقال: إني متقدم إلى الناس في النهي عن هذا الأمر فوالذي يحلف به عمر بن الخطاب لا ينقل إلي أن أحداً منكم وقع فيه إلا جعلته نكالاً، فيبدأ بهم قبل غيرهم, والله تعالى يقول لرسوله الله صلى الله عليه وسلم: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214].

    ومن المؤسف أن كثيراً من الدعاة والعلماء في زماننا هذا يهملون أولادهم وذويهم، فيكثر الفساد في أولاد العلماء والدعاة، ويكثر فيهم الانحراف عن طريق الحق, وقديماً قال مالك رحمه الله حين كان الناس يتنافسون في مجلسه وسماع حديثه وكان ابنه يحيى يلعب بالحمام فقال: سبحان الله! أبى الله أن يكون هذا الشأن بالوراثة. فلا يكفي أن يكون الإنسان ابن داعية أو ابن عالم، بل لا بد أن ينفق جهداً في سبيل تربيته وإصلاحه، وما لم ينل ذلك جهداً فسيكون مثل غيره أو أشد منهم ضياعاً وانحرافاً؛ لأنه في كثير من الأحيان قد يجد اعتباراً من الناس، وقد يسكتون في مقابله على الباطل ولا يهتمون بدعوته؛ لأنهم يرون أن ذلك عنده، ويصاب هو بغرور أيضاً، فلا يمكن أن يستفيد من داعيةٍ آخر لظنه أن ما يقوله مملوك له في بيته وبيئته, ومن هنا يتربى أهل الدعاة والعلماء على الغرور، وأزهد الناس في العالم أهله؛ فلهذا كان لا بد من الموازنة بين حقوقهم، وبين حقوق الدعوة.

    ونجد كثيراً من الناس في المقابل ينشغل بأهله أكثر مما ينشغل بدعوته، فيعطيهم من الوقت ما ليس لهم على حساب الدعوة, ومن هنا يعتذر عن كثير من الأعمال الدعوية بأعذار غير مقبولة، تارة بحقوق الأولاد ودراستهم وتربيتهم، وتارة بحقوق الأهل، وتارة بحقوق الوالدين، وهو يعلم أن وظيفته في هذه الأرض هداية الناس، وأن أهل بيته عددهم يسير، وهداية طفلٍ صغيرٍ أو امرأة واحدة أو نحو ذلك لا يقارن بما لو عمل في حقلٍ دعويٍ كبيرٍ، فأثر في عددٍ كبير من الناس.

    وبالأخص إذا تذكر أن الأنساب ستنقطع يوم القيامة إلا النسب الديني, فالذين يؤثر فيهم تأثيراً دينياً هم أولاده على الحقيقة، فالنسب الديني مقدم على النسب الطيني كما قال ابن عباس .

    ولا شك أن إيثار الأقارب في هذا المجال كثيراً ما يقتضي أيضاً من الإنسان كسلاً في مجال الدعوة، وتراجعاً عن كثيراً من أولوياتها واهتماماتها، وربما كان سبيلاً للشيطان ليدخل على الإنسان من باب الاعتذار، فينسى أن كل الناس لهم أهل وأولاد وأقارب وجيران وأعمال, فلست أنت يا أخي وحدك الذي تشغل بهذه المشاغل؛ بل كل الآخرين كذلك يمكن أن يعتذروا بمثل ما تعتذر به، ولو اعتذر الجميع به فمن الذي سيقوم بأعباء الدعوة، ومن الذي سيخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمة، ومن الذي سيتولى تعليم الناس وإرشادهم.

    إن انكفاء كل أحدٍ على بيئته الخاصة هو مما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ضرره عندما ينفرد كل إنسان في ضيعته ويترك أمر العامة، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من التعرض بعد الهجرة، أي: أن ينكف الإنسان على مصالحه وينطلق فيها ويترك أمر قيام دولة الإسلام والجهاد في سبيل الله.

    والرجوع إلى الأهل في ذلك ينبغي للإنسان أن يتهم في نفسه، وأن يتذكر أن الله سبحانه وتعالى يبتلي المؤمنين على منهج الحق بكثيرٍ من البلايا العظام والفتن الجسيمة, وإذا حصلت تلك الفتن والبلايا ستتباين مواقف الناس على أربعة، قد ذكرها الله سبحانه وتعالى واضحة في قضية الأحزاب، ولا تزال تتكرر, فهذه المواقف:

    أولها: موقف المؤمنين الصادقين: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:22-23].

    الموقف الثاني: موقف الصلحاء من المنافقين، وقد بينه بقوله: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12].

    الموقف الثالث: موقف مرض القلوب المخذلين، وبينه بقوله: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا[الأحزاب:13], وبقوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:18].

    الموقف الرابع: موقف ضعفة الإيمان الذين ينكفئون على أمورهم الخاصة ويتركون أمر العامة، وقد بين الله موقفهم بقوله: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا [الأحزاب:13-15], وهؤلاء المنكفئون على مصالحهم الذين يقولون: إن بيوتنا عورة، أي: ليست داخل الحصن، وما هي بعورة، إن يريدون إلا فراراً، جعلهم الله مثل الذين يفرون من الزحف، ولا شك أن الفرار من الزحف من أكبر الكبائر, وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات السبع، ورتب الله عليه الوعيد الشديد.

    فإذاً: لا بد من الموازنة بين هذه الحقوق، وترتيبها حسب الألوية، والعدل بينها، وأن يتهم الإنسان نفسه فيما هو أقرب إلى الهوى.

    الموازنة بين الاستعجال والتقوقع في أمور الدعوة

    القاعدة الخامسة: الموازنة بين الاستعجال والتقوقع؛ فإن كثيراً من المشتغلين في الدعوة، إما أن يتجهوا إلى جهة الاستعجال فيحاولوا الإقدام على المغامرات والمخاطرات غير المدروسة، ويريدون أن تنطلق الدعوة انطلاقاً صاروخياً، وأن لا يسير قطارها على السكة، بل ينطلق بأسرع وقتٍ ممكن، ويتناسون أن الدعوة هي علاج لمرض موجود، وأن المريض لا يمكن أن يتناول الدواء كله في وقتٍ واحد، بل لا بد أن يوزع له على جرعات، وأنه إن استعمل الدواء دفعة واحدة كان قاتلاً، فهؤلاء المستعجلون لا بد أن يكونوا من أول المتساقطين؛ لأنهم يظهر لهم وميض وبرق، فتتعلق آمالهم به فإذا خبا ذلك الوميض -ومن سنة الله أن يقع ذلك- تراجعوا وقالوا: ما أنتجت هذه الدعوة شيئاً، ولم تثمر ما كنا نتوقع أن تثمر، ونحن جئنا بالسعي لإقامة دولة الإسلام وإعلاء كلمة الله، وما رأينا هذا العمل الذي نعمله موصلاً إلى ذلك، وهؤلاء كثيراً ما يصيبهم الإحباط والملل من التربية والدروس، وكثيراً ما يتخلفون بغير إذن، فيتصفون حينئذٍ بصفات المنافقين المتسللين لواذاً, وقد قال الله في محكم تنزيله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:62-63].

    وكثير من الناس أيضاً قد يتوهم أن هذا الخطاب مختص بشخص النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وهذا غلط بين؛ لأنه لو كان كذلك فلماذا نزل فيه القرآن الذي يتلى وهو باقٍ للأمة كلها؟ وإنما المقصود مع النبي صلى الله عليه وسلم كل من قام مقامه، وكان خليفة له في جانب من جوانب هذا العمل أياً كان ذلك الجانب؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني ), وأميره المقصود به: من يقوم بوظيفته وعمله.

    ثم إن آخرين يصابون كذلك بتقوقع وبطءٍ زائد، فتسير الأحداث بسرعة هائلة ولا يكون لهم مواكبة لأحداث العالم، ويهدرون الطاقات فتفتح أمامهم الفرص ولا يستغلونها أخذاً بالهدوء وطول النفس، وهؤلاء كثيراً ما يضيعون كثيراً من الفرص التي يحتاج إليها في الدعوة، ويهملون كثيراً من المواقع التي ينبغي أن تصل إليها الدعوة؛ وبذلك قد خانوا الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ لأنهم فرطوا في كثير من المكاسب والفتوحات التي كان بالإمكان أن يوصل إليها بسبب تراخيهم وعجزهم.

    ولذلك لا بد من الموازنة بين الأمرين، ومعرفة أن الغاية القصوى والهدف المنشود من الدعوة هو تحقيق رضوان الله, فإذا رضي الله عنا فوالله لا يضرنا ما لم يتحقق من أهدافنا، وإذا لم يرض عنا والله لا ينفعنا لو تحققت أهدافنا مائة بالمائة.

    فلذلك لا بد أن نحرص على تحقيق رضوان الله، وأن نعلم أن لله سنناً في هذا الكون، وأن الأخذ بها هو من الأخذ بالأسباب الذي هو عبادة، والتوكل على الأسباب شرك وتركها معصية، وهذه قاعدة مهمة في الموازنات وهي أن التوكل على الأسباب شرك بالله، وأن ترك الأسباب معصية لله، فيعملها الإنسان ولا يتوكل عليها.

    ومن هنا فالمستعجلون الذين يريدون حرق المراحل وتجاوز المسافات بسرعة هائلة هم المنبتون، لا أرضاً قطعوا ولا ظهراً أبقوا، ولا يمكن أن تستجيب الدعوة لرغباتهم وجموحهم وطموحهم الزائف الذي لا يراعي الظروف الزمانية والمكانية والأحوال، ولا يأخذوا بالسنن الكونية في التدرج.

    وكذلك في المقابل أصحاب الجمود والهمود والتكاسل الذين عرفوا حلقة واحدة من حلقات الدعوة فجعلوا يدورون فيها، ولم يعرفوا كيف ينطلقون منها إلى حلقة فوقها، ولم يروا من سلم الدعوة الطويل إلا درجة واحدة، فهم باقون على هذه الدرجة لا يتجاوزونها، وسيتجاوزهم الزمن، ولا يمكن أن ينفعوا هذه الدعوة؛ بل هم معطلون لها يمسكون بزمامها وخطامها إلى الوراء.

    فلا بد إذاً من الموازنة بين هذين الجانبين، والعدل في ذلك، والرجوع إلى أهل العلم والخبرة فيه، وبالإمكان أيضاً الاستعانة بمن كان مراقباً للعمل؛ لأن الإنسان في سيره لا يمكن أن يلحظ وضع أقدامه، فلو فعل لاختلت مشيته، فإذا كان لا يضع قدمه اليمنى إلا إذا نظر، ولا يضع اليسرى إلا إذا نظر وفكر فستختل مشيته، لكن إذا انطلق في سيره وسدده مراقب آخر ومرشد من خارجه فإنه بذلك سيستفيد كثيراً, والذي يتفرج على الشيء قد يرى فيه من الخلل والنقص ما لا يراه من هو فيه؛ لأن الإنسان المتعود على بيئة محددة لا يشعر بالتغير الذي يحصل فيها، كما لا يشعر وقت طلوع الفجر بالتغير الكبير وانسلاخ الليل وزوال الظلمة إلا بالتدريج.

    الموازنة بين الكم والكيف في الدعوة

    القاعدة السادسة: هي الموازنة بين الكم والكيف في هذه الدعوة، فإن محور الاحتكاك والخلاف بين حزب الله وحزب الشيطان البشر، فحزب الله يريد هداية أكبر قدر ممكن من البشر, وحزب الشيطان يريد إغواء أكبر قدر ممكن من البشر، تحقيقاً ليمين إبليس فقد أقسم بعزة الله ليغوين أكثر البشر: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83], وقد أخبر الله أن يمينه صدقت على أكثر الناس, فقال تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20], فجمهور البشر قد استجابوا لدعوة إبليس وتحققت فيهم يمينه بعزة الله في الإغواء.

    وفي المقابل فإن حزب الله يسعى لهداية أكبر قدر ممكن من البشر لعلمهم أن هذه هي وظيفة الأنبياء، وهم يخلفون رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ويحرصون عليه، فهو الذي قال لعلي رضي الله عنه: ( فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ), وقال صلى الله عليه وسلم: ( إنما مثلي ومثلكم كمثل رجلٍ استوقد ناراً حتى إذا أضاءت ما حوله جعل الفراش يتساقط فيها، وهذه الدواب فجعل ينفيهن بيده وهن يقتحمن فيقعن فيها، ألا وإني ممسك بحجزكم عن النار ), فهذه وظيفة الأنبياء.

    ومن هنا فيحرص حزب الله سبحانه وتعالى على هداية الناس, ولكنهم مع هذا يعلمون الفوارق التي جعلها الله في الناس ولا يتعدونها ولا يريدون أن يكون الناس كالشخص الواحد، بل يعلمون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة ), ومن هنا فلا بد أن يعلم أن الكسب لصالح الدعوة من الناس لا بد فيه من التقسيم إلى نوعين:

    النوع الأول: كسب استراتيجي يقصد به الرواحل، وذوو المهارات الكبيرة المكانة العالية، والمبدعون الذين يوثق بتحملهم أعباء هذه الدعوة، فيكون كل واحد منهم قائداً جاهزاً، فلو قتل إخوانه أو ماتوا أو سجنوا أو فتنوا نسأل الله السلامة, فسيستمر هو على طريق الحق ويكون حاملاً للواء، ولا يتردد، ولا يتراجع, كما كان حال أبي بكر رضي الله عنه عند موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وقف في الناس خطيباً فقال: (أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت).

    وعندما أتاه أن العرب قد ارتدوا عن دين الله كسر قراب سيفه، وقال: أينقص هذا الدين وأنا حي؟ فهذا النوع لا بد من الحرص على كسبهم للدعوة، ولا يزالون موجودين في المجتمع في مختلف شرائحه وأوجه.

    النوع الثاني: الكم أي: كسب العدد الكبير من الناس الذين قد لا يوجد فيهم أمثال أولئك الرواحل، ولن يكون فيهم من التضحية ما فيهم، ولا من المستوى العلمي والتأثير ما فيهم، إلا أنهم هم لحاف هذه الدعوة وحصنها ووقايتها، وهم عروقها التي تتمدد في المجتمع وأشرعتها التي تتمدد في الأفق الواسع، وهؤلاء ضرب الله لهم مثلاً عجيباً في قوله: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29], فالسنبلة التي تحمل الحب ضعيفة، لكنها تكون في الوسط ويحيط بها عدد من السنابل التي ليس فيها حب فتتحمل عنها الضربات وتحجز عنها الطفيليات، وتساعدها في وجه الرياح العاتية, فأولئك مهمتهم هكذا.

    وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج هؤلاء في المناسبات التي تستدعي ذلك، وفي حديث أم عطية رضي الله عنها ( كنا نؤمر بإخراج العواتق والحيض وربات الخدور يشهدن الخير ويكثرن سواد المسلمين ), فلا يمكن أن يزدرى أحد من هؤلاء؛ ولهذا فإن نوحاً عليه السلام عندما قال له أصحابه: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ [هود:27], كان جوابه في ذلك أنه لا يمكن أن يطرد هؤلاء وهو لا يعلم أيهم أفضل عند الله سبحانه وتعالى؟ وبين لهم أنه إن طرد هؤلاء فإنه بذلك قد اعتدى على المنهج ورد الذين جاءوا يريدون الحق.

    وهكذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً عاتبه الله في عبوسه في وجه ابن أم مكتوم رضي الله عنه، فأنزل الله في ذلك عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [عبس:1-4], وفي سورة الأنعام يقول: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:52].

    ثم إن الموازنة بين الكم والكيف تقتضي أيضاً الحرص على الاستيعاب مع الاكتساب، فالذين يلتحقون بهذه الدعوة لا يكفي مجرد القناعة المبدئية لأن يكون الإنسان قد التحق بالمنهج وسار عليه، بل لا بد في المقابل أن توضع أنشطة تستوعب هذا الكم الكبير من الناس، وهذه الأنشطة لا بد أن تتنوع بتنوع الناس، فلا يمكن أن يحشر الناس في باب واحد، ولا أن تكون خدمتهم من نوع واحد، فقد جعل الله عقولهم متفاوتة وتخصصاتهم متفاوتة، واهتماماتهم متفاوتة، ومن هنا لا بد أن تتسع الدعوة للجميع، وأن يكون فيها تخصصات متنوعة وأبواب شتى لاستيعاب كل أولئك الذين يلتحقون بها، والبشر إذا لم تستغل طاقتهم فإن جمعهم والتحاقهم فيه ضرر, فبينهم وبين الجن نسبة في ذلك.

    ولهذا فإن سليمان عليه السلام عندما ملكه الله الجن استعان الله عليهم فأعانه بالأعمال الشاقة: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ [سبأ:13], وبعد ذلك: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [ص:38], فإما أن يعملوا وإما أن يقرنوا في الأصفاد, فكذلك المكتسب لا بد أن يجد مجالاً يبدع فيه وينتج، أو أن يكون ضرراً وسبباً للخلل في داخل صفوف الدعوة.

    ومن هنا احتيج إلى التفكير في الاستيعاب أبلغ من التفكير في الاكتساب، ومجالات ذلك متنوعة كثيرة ليس المجال الآن متسعاً للتعريج عليها.

    ثم إن كثيراً من الناس في مجال الدعوة أيضاً لا يوازن بين الكم والكيف من وجهٍ آخر وهو أنه يظن أن المطلوب أن نجد حشداً كبيراً من البشر ينطقون بأدبيات الدعوة ويقتنعون بمنهجها، أو يتعصبون لها في بعض الأحيان ولأهلها دون أن يكونوا مثالاً حسناً لحملة هذا الدين، ودون أن يحققوا صفات جيل التمكين التي بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه، فلا يراهم ربانيين، ولا مهتمين بالعلم الشرعي، ولا بتطبيق السنن الفعلية، ولا يراهم من أولئك الذين يحرص على دعواتهم وينتفع من خلطتهم، وبمجرد النظر إلى حال أحدهم لا يدل على الله سبحانه وتعالى، فيقول: أهؤلاء دعاة؟! أهؤلاء سالكون لطريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟!

    والواقع أنه لا بد الموازنة بين الكم والكيف في ذلك أيضاً, فالدعوة مدرسة فيها مقامات كبيرة متنوعة، فلا شك أن فيها من هو في مستوى الروضة ومن هو في مستوى الابتدائية، ومن هو في مستوى المتوسطة، ومن هو في مستوى الثانوية، ومن هو في مستوى الجامعات، ومن هو في مستوى الدراسات العليا، ومن قد تخرج فأصبح أستاذاً, وهكذا فمقامات أهلها متفاوتة، وهم درجات عند الله، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا كذلك فلم يكونوا على مستوى واحد، ولم تكن مستوياتهم متقاربة، ولا تخصصاتهم متساوية، ولا اهتماماتهم كذلك متساوية، بل كل جانب فيه رجاله والمبدعون فيه.

    ومن هنا فلا شك إن دراسة حال السلف قد حصل فيها اعوجاج وعرج، فكثير من الناس يدرسونها من الجانب الناصع الأبيض المشرق، فيظن الناس أن السلف جميعاً كانوا كذلك، وإذا قرءوا في سيرة أبي بكر أو عمر أو سعد بن أبي وقاص أو عثمان بن عفان أو عبد الرحمن بن عوف أو علي بن أبي طالب أو عمار بن ياسر أو غير ذلك ظنوا أن هؤلاء هم النماذج الذين كان الناس جميعاً مثالاً لهم، وهذا غير صحيح الله تعالى يقول: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آل عمران:152].

    وكل عصر من العصور لا بد أن يتفاوت أهله وأن تتفاوت مستوياتهم واهتماماتهم وأداؤهم؛ ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم فاضل بين أصحابه، وحتى بين بطون الأنصار ودورهم، ولا شك أن القرآن أيضاً جاء فيه كثير من الإشارات إلى ذلك التفاضل: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10], وكذلك قال تعالى: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً[النساء:95-96], وقال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100], وقال تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:8-9].

    فهم درجات عند الله وهم متفاوتون, وأيضاً حتى في حياة الشخص الواحد، فالذي له هذه المواقف المشرفة قد تقع منه مواقف أخرى غيرها, فالمواقف المشرفة تكفر ما هنالك من الهنوات والهفوات والزلات؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كتب حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه كتابه إلى قريش أخبرهم: ( أن الله نظر إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )، فهذه لا شك زلة قد وقع فيها حاطب رضي الله عنه، ولكنها غفرت بسابقته في الإسلام وجهاده فيه؛ ولأنه شهد بدراً وبايع تحت الشجرة؛ ولهذا فإن عبيد حاطب حين شكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يطعمهم، وقال أحدهم: ( والله ليدخلن حاطب النار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت والذي نفس محمد بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة ).

    اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756536230