أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
عباد الله! إن البلايا التي تنزل بالمسلمين والمصائب المتنوعة التي تحل بهم في أبدانهم وأموالهم، سببها معصية الله تعالى ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم، فاللهم مغفرتك أوسع من ذنوبنا فاغفر لنا، ورحمتك أرجى عندنا من أعمالنا فارحمنا، ربنا ظلمنا أنفسنا واعترفنا بذنوبنا، فاغفر لنا ذنوبنا جميعها، يا أرحم الراحمين.
إن البلاء لا يمكن دفعه، والمصيبة لا يمكن رفعها، إلا بالأخذ بالأسباب المنجية من ذلك، فمن أسباب دفع البلاء ورفعه:
الرجوع إلى الله تعالى، قال الله عز وجل: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم:41-43].
وقال سبحانه: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168].
وقال تعالى: وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:48].
وقال تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21].
فارجعوا أيها المسلمون إلى طاعة الله، واجتنبوا معصيته، يدافع الله عز وجل عنكم، وترفع عنكم البلايا والمصائب.
ولهذا قال بعض السلف رحمهم الله: من عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة.
ومن أسباب دفع البلاء والمصائب: التضرع إلى الله تعالى عند وقوع المصيبة، قال الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:42-43].
وقال سبحانه: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76].
وقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ [الأعراف:94].
وقال سبحانه: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55-56].
عباد الله! ومن أسباب رفع المصائب من الأمراض وغيرها: دعاء الله عز وجل في تفريج الكرب، فإن الله لا يرد من دعاه، ولا يخيب من رجاه، فادعوا الله عز وجل وتضرعوا إليه.
فعلى المسلم دائماً وأبداً أن يعلق قلبه بالله عز وجل رغبة ورهبة، وخوفاً ورجاء ومحبة، فمن توكل على الله كفاه ما أهمه من أمر دينه ودنياه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:3]، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:49].
وليحذر المسلم العُجب عند عمل الصالحات، فإن هذا محبط للعمل، ولقد لقن الله المؤمنين درساً يوم حنين حينما أعجبوا بكثرتهم، وظنوا أنها كافية في نصرهم، قال الله عز وجل: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [التوبة:25-26].
قال بعض العلماء: عجبت لأربعة كيف يغفلون عن أربع: عجبت لمن أصابه ضر كيف يغفل عن قوله تعالى وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، والله تعالى يقول: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ [الأنبياء:84]. وعجبت لمن أصابه حزن وغم كيف يغفل عن قوله تعالى: أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، والله تعالى يقول: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]، وعجبت لمن يمكر به الناس كيف يغفل عن قوله تعالى: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]، والله تعالى يقول: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا [غافر:45]، وعجبت لمن كان خائفاً كيف يغفل عن قوله تعالى: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، والله تعالى يقول: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:174]!.
إن التوكل على الله سبب للهداية للحق، وسبب للوقاية من الشر، أخرج الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال: (بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله، فيقال له: كفيث ووقيت، وتنحى عنه الشيطان).
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: من أراد دوام العافية فليتق الله.
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: من أحسن في ليله كفي في نهاره.
فاتقوا الله أيها المسلمون! وتواصوا بها.
قيل لرجل من التابعين عند موته: أوصنا، فقال: أوصيكم بخاتمة سورة النحل: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].
وفي الترمذي أيضاً من حديث معاذ رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدقة لتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار).
وصنائع المعروف هي: الإحسان إلى عباد الله بعمل المعروف، من قرض حسن، أو بر، أو هدية، أو صدقة، أو إعانة على قضاء حاجة، من شفاعة أو تحمل دين أو بعضه أو غير ذلك من وجوه الإحسان المتنوعة، هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]، مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:91].
فأحسنوا أيها المسلمون، ولا تحقروا من المعروف شيئاً، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
أسأل الله عز وجل أن يدفع عنا وعن إخواننا المسلمين في كل مكان المصائب والبلايا والآفات، اللهم اكفنا شرور ذنوبنا ومعاصينا وشؤمها، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، فاغفر لنا ذنوبنا، وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.
عباد الله! ومن أسباب رفع الآفات والمصائب: الاستغفار، فإن الاستغفار مرضاة للرب ومنجاة من سخطه، قال الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33].
ومن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب.
وقال سبحانه: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46].
ومن أسباب دفع المصائب: التوبة إلى الله عز وجل، قال الله عز وجل: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا [التوبة:74].
وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
فتوبوا إلى ربكم واستغفروه يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ * إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [هود:3-4].
ومما يشرع أن يتذكر المسلم عند وجود شدة البرد زمهرير جهنم، فإن جهنم اشتكت إلى ربها، وأن بعضها أكل بعضاً، فأذن الله عز وجل لها بنفسين: نفس في الصيف ونفس في الشتاء، فأشد ما تجدون من الحر والبرد، فعندما تلامسون شدة هذا البرد، فتذكروا زمهرير جهنم، وشدة برودتها؛ مما يدفعكم إلى المبادرة والمسارعة إلى التوبة وامتثال الأمر، واجتناب النهي.
ومما ينبغي أن يتذكر المسلم إخوانه الفقراء والمحاويج والمساكين في كل مكان، فإن الجوع في مثل هذه الأيام يشتد، والبدن يحتاج إلى وسائل التدفئة، وإلا كان عرضة للآفات والأمراض، فبادروا رحمكم الله إلى مواساة إخوانكم، والإحسان إليهم، والتصدق عليهم، وقد سمعتم في الخطبة أن من أسباب دفع المصائب ورفعها صنائع المعروف والصدقة.
وأيضاً علينا -عباد الله- ونحن نسعى إلى وقاية أبنائنا وأهلنا من شدة هذا البرد، أن نسعى إلى وقايتهم من شدة برد جهنم يوم القيامة، البرد الحقيقي الذي لا يزول ولا يتحول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نسألك رحمة من عندك، تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترد بها عنا المصائب والبلايا، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك.
اللهم أصلح ولاة أمرنا، وولاة أمور المسلمين، وأيد لهم الجلساء الصالحين الناصحين، وأبعد عنهم يا ذا الجلال والإكرام جلساء السوء، ومن لا خير فيه.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ربنا اغفر لنا وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم أعذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، واقض الدين عن المدينين، اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم اجعل ما أصابهم كفارة لسيئاتهم، ورفعة لدرجاتهم، يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لموتى المسلمين، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر