إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة.
فاللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد:
فحيا الله هذه الوجوه المشرقة الطيبة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه.
أمة محمد أولى الأمم اعتزازاً بماضيها
أحبتي في الله! النبي القدوة صلى الله عليه وسلم، هذا هو عنوان محاضرتنا مع حضراتكم في هذه الليلة الطيبة، ودعونا ندع اللقاء مفتوحاً دون تقييد أو تحديد؛ لأن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث جميل رقيق رقراق طويل لا حد لمنتهاه.
أيها الأحبة! إذا كان الوقوف على الماضي لمجرد البكاء والنحيب والعويل فهذا شأن الفارغين العاطلين، وازدراء الماضي بكل ما فيه من خير ونور شأن الحاقدين الجاهلين، ولقد حاول أعداء الأمة بكل سبيل أن يضعوا بين الأمة وبين هذا الماضي المجيد المشرق الوضيء الطاهر الحواجز والموانع والسدود، حتى لا تستمد الأمة من هذا الماضي نوراً يضيء لها الطريق، ودماء زكية لتتدفق في عروق مستقبلها وأجيالها، مع أن كل أمم الأرض تفخر بماضيها وتفخر برجالها، وتفخر بأبنائها، وأولى أمم الأرض بهذا الاعتزاز والفخار بجدارة واقتدار، بل وبشهادة العزيز الغفار هي أمة نبينا المختار، قال جل وعلا:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، فلا ينبغي أبداً -مع هذا الواقع النازف- أن نجرد الأمة من خيريتها، ولا ينبغي أبداً -مع حالة الضعف التي تعتري الأمة الآن- أن نسلب الأمة مكانتها التي أرادها لها ربها تبارك وتعالى، فشتان بين الإيمان والكفر! وشتان بين الطاعة والمعصية، قال تعالى:
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ *
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36]، وقال تعالى:
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ [السجدة:18]، قال تعالى:
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28].
أين الثرى من الثريا؟ وأين الأرض من كواكب الجوزاء؟ وأين الحق من الباطل؟ وأين الليل من النهار؟ لا يلتقيان أبداً.
هذه الأمة هي أولى أمم الأرض بالاعتزاز والفخار، فلقد أنجبت الأمة على طول تاريخها رجالاً سيظل التاريخ يقف أمام سِيرَهِمْ وقفة إعزاز وإجلال وإكبار، وعلى رأس هذه الأمة قدوتنا الأعظم وأسوتنا ومعلمنا ونبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الطاهر الذي فاضت طهارته على العالمين، وهو الأسوة والقدوة والمثل الأعلى، وما أحوج الأمة الآن إلى هذه القدوة وإلى هذا المثل الأعلى لاسيما ونحن نعيش زماناً قَلَّتْ فيه القدوة من ناحية وقدم فيه كثير من التافهين ليكونوا القدوة من ناحية أخرى.
النبي صلى الله عليه وسلم يحول الإسلام إلى منهج عملي
رسول الله قدوة في شتى مجالات الحياة
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عجيبة من عجائب الكون، وآية من آيات الله، ومعجزة من معجزات الله في هذه الأرض -وتدبروا معي هذا التأصيل الذي لابد منه- فهو رسول يتلقى الوحي من السماء ليربط الأرض بالسماء بأعظم رباط وأشرف صلة، وهو رجل سياسة، يقيم للإسلام دولة من فتات متناثر، وسط صحراء تموج بالكفر موجاً، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، وهو رجل حرب يضع الخطط ويقود الجيوش بنفسه، بل إذا حمي الوَطِيْسُ واشتدت المعارك وفر الأبطال والشجعان، وقف على ظهر دابته لينادي على الجمع بأعلى صوته ويقول:
(
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)
وهو رب أسرة كبيرة تحتاج إلى كثير من النفقات من نفقات الوقت والفكر والتربية والشعور، فضلاً عن النفقات المادية، فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدور على أعلى وأثم وجه شهدته الأرض وعرفه التاريخ.
فهو صلى الله عليه وسلم رجل إنساني من طراز فريد كأنه ما خلق في الأرض إلا ليمسح دموع البائسين، وليضمد جراح المجروحين، وليذهب آلام البائسين المتألمين.
وهو رجل عبادة قام بين يدي الله حتى تورمت قدماه، فلما قيل له: أولم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال قولته الجميلة: (
أفلا أكون عبداً شكوراً).
هو رجل دعوة أخذت عرقه ووقته وفكره وروحه، قال له ربه:
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *
قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2]، فقام ولم يذق طعم الراحة حتى لقي ربه جل وعلا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم.. ما تعلقت به قلوب أصحابه إلا لأنه قدوة، ما أمرهم بأمر إلا وكان أول المنفذين له، وما نهاهم عن نهي إلا وكان أول المنتهين عنه، وما حد لهم حداً إلا وكان أول الوقافين عند هذا الحد.
إن رسول الله هو أسوتنا وقدوتنا، فلننظر أيها الأفاضل! كيف كان يتعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الخلق؟ وهذا ما أود أن أركز الحديث فيه مع أحبابنا وإخواننا جميعاً.
لماذا نجح أهل الباطل في جذب قلوب الجماهير إلى باطلهم، مع أنهم لا يملكون على الإطلاق حجة تقنع عقلاً ولا قلباً، ومع ذلك استطاعوا أن يجذبوا جماهير المسلمين -فضلاً عن أهل الأرض- إلى الباطل الذي معهم؟!
انظر كيف يدعو غير المسلِم المسلَم، أو غير المسلم وكيف يخاطبه ويحاوره؟
لماذا نخسر قضيتنا مع أنها قضية مضمونة؟! لماذا صار الإسلام في قفص اتهام؟
بكل أسف لا يوجد إلى الآن مجموعة من المدافعين الصادقين المخلصين الذين يدافعون عن هذا، ولا أقول: يدافعون بل يبينون الحق بالحق وبقوة الإيمان، بل نقف أمام كل تهمة يتهم بها ديننا وقفة الضعيف المهزوم المخذول، الذي يود أن لو وضع أنفه ورأسه في الرمال وكأنه لا يملك حجة ليبلغها لأهل الأرض، بل صارت ردودنا سلبية مهزومة، ونسينا قول الله جل وعلا:
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29].
إن مكمن الخطر إلى الآن أننا لم نشهد لهذا الإسلام على أرض الواقع بأخلاقنا وسلوكنا، ولم نبلغ هذا الحق لأهل الأرض كما بلغه أسوتنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، فإنه ما جهة إلا وخاطبها: خاطب الملوك .. خاطب الرؤساء .. خاطب العشائر والقبائل، ما ترك مجلساً من مجالس الكفار إلا وغشيهم في أنديتهم؛ ليبلغهم دين الله بأدب جم .. بحكمة بالغة .. بموعظة حسنة .. بكلمة رقيقة رقراقة، ولو تتبعت منهج رسول الله في البلاغ والدعوة إلى الله لرأيت العجب العجاب حتى مع أكفر أهل الأرض.
تعامله صلى الله عليه وسلم مع ثمامة سيد اليمامة
أيها الأحبة! تدبروا هذه الرواية كما في الصحيحين من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه قال: (
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، وربط الصحابة
ثمامة في سارية من سواري المسجد النبوي -أي: في عمود- ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فوجد
ثمامة بن أثال مربوطاً في السارية، فاقترب النبي صلى الله عليه وسلم منه)، فإذا به يرى
ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة،
ثمامة الذي أعلن الحرب بضراوة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى دينه. (
فاقترب النبي صلى الله عليه وسلم منه وقال: ماذا عندك يا ثمامة ؟! فقال
ثمامة : عندي خير يا محمد ! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط من المال ما شئت).
قول واضح صريح قوي: (إن تقتل تقتل ذا دم) يعني: إن قتلتني فاعلم بأن دمي لن يضيع هدراً ولن تفرط قبيلتي في هذا الدم.
(وإن تنعم تنعم على شاكر)، أي: إن أحسنت إلي وأطلقت سراحي فلن أنسى لك هذا الجميل والمعروف ما حييت، فأنا رجل أصيل لا أنسى إحسان من أحسن إلي.
(وإن كنت تريد المال فسل تعط من المال...) أي: أما إن كنت تريد المال والفدية فسل تعط من المال ما شئت. (
فتركه النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي غير رواية الصحيحين: (
أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يحسنوا إلى ثمامة) .
(
ثم دخل عليه في اليوم الثاني واقترب منه وقال: ماذا عندك يا ثمامة ؟! فقال: عندي ما قلت لك يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دخل عليه في اليوم الثالث، فقال: ماذا عندك يا
ثمامة ؟! قال عندي ما قلت لك يا محمد ! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا
ثمامة) أي: لا نريد مالاً ولا جزاءً ولا شكوراً.
ولاحظ -أخي- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أبقاه في المسجد، ولم يأمر بإخراجه، فدل هذا على جواز أن يدخل المشرك المسجد ما لم يدخله بقصد الإهانة والإساءة، وقصد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى
ثمامة في المسجد ليستمع
ثمامة القرآن غضاً طرياً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليرى النبي صلى الله عليه وسلم كيف يربي الصحابة، وليرى كيف يتعامل الصحابة مع رسول الله، فالمسجد مدرسة تعلم فيها
ثمامة في ثلاثة أيام عظمة هذا الدين.
أيها الأحباب! منذ متى ونحن ندخل المساجد؟ منذ كم سنة؟ فهل تعلمنا هذا الدين كما ينبغي في بيوت الله وكما علم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
ثمامة في ثلاثة أيام عظمة وجلال هذا الدين؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
أطلقوا ثمامة ، فانطلق
ثمامة إلى حائط فاغتسل) أولم أقل لك إنه تعلم في المسجد؟ ثم عاد إلى المسجد النبوي ووقف بين يدي رسول الله وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله.
اسمع أيها الحبيب اللبيب! إلى قول
ثمامة؟ (
يا رسول الله! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فأصبح وجهك الآن أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان على الأرض دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله ما كان على الأرض بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك الآن أحب البلاد كلها إلي، ثم قال: يا رسول الله! لقد أخذتني خيلك وأنا أريد العمرة، فبماذا تأمرني؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمره بإتمام العمرة) .
قال الحافظ
ابن حجر : (فبشره) أي: بالجنة، أو بمغفرة الذنوب، أو بقبول التوبة، وأمره بأن يتم عمرته.
أيها الحبيب! انطلق
ثمامة إلى مكة شرفها الله فجهر بالتلبية -كما في غير رواية الصحيحين- وهو القائل:
ومنا الذي لبى بمكة محرماً برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم
فلما رفع صوته بالتلبية قام المشركون إليه: من هذا الذي يرفع صوته بالتلبية بين أظهرنا؟ فقاموا إليه وضربوه ضرباً شديداً حتى أنقذه
أبو سفيان من بين أيديهم وقال: إنه
ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة وأنتم تحتاجون إلى الحنطة من هذه البلاد، فتركوه، فلما سمع ذلك جلس
ثمامة ، وقال: والله لا تصل إليكم بعد اليوم حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله.
خلع رداء الشرك على عتبة الإيمان فوظف كل طاقاته لخدمة دينه، وهذا هو حقيقة الانتماء لهذا الدين.
منذ متى قد شرح الله صدورنا لهذا الدين؛ لكن ماذا فعلنا؟ ماذا بذلنا؟ ماذا قدمنا؟
أنت تخطط لمستقبل أولادك ولتجارتك ما لا تخطط عُشر معشاره لدين الله جل وعلا.
أيها الأحباب! لو خططنا لهذا الدين عشر ما نخططه لأولادنا وبيوتنا ومستقبل تجاراتنا لغيَّر الله هذا الحال، لكنك قد لا تتذكر العمل لدينك إلا في محاضرة كهذه، أو إذا استمعت شريطاً لرجل من أهل العلم الصادقين، يحترق قلبك حينئذ أنك تنتمي إلى دين يجب عليك أن تضحي من أجله وأن تبذل له أغلى ما تملك.
لكن
ثمامة رضي الله عنه وظف طاقاته وإمكانياته وعقله وفكره وماله ومكانته لدين الله تبارك وتعالى، وكان
ثمامة أول من فرض حصاراً اقتصادياً على الشرك وأهله في مكة، حتى أكلت قريش (العلهز) وهو وبر الإبل مع الجلد، يضعونه على النار ويأكلونه من شدة الجوع، حتى ذهب
أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ يناشده الله والرحم أن يرسل إلى
ثمامة ليخلي بينهم وبين الميرة، فرد عليه معدن الكرم وصاحب الخلق والأسوة الطيبة ورحمة الله للعالمين، وأرسل إلى
ثمامة أن خل بينهم وبين الميرة.
والشاهد أيها الأفاضل: انظروا كيف حول خلق النبي صلى الله عليه وسلم وأدبه ورحمته وتواضعه البغض في قلب
ثمامة إلى حب مشرق وود.
انظروا كيف حول خلق النبي صلى الله عليه وسلم البغض في قلب
ثمامة إلى حب مشرق وود!
انظروا كيف حول الرفق
واللين قلبه!
وهذه الأمثلة والأحاديث نحفظها، لكنني لا أدري هل نظن هذه الأحاديث ليست لنا؟ ولسنا مكلفين بأن نحولها في حياتنا جميعاً إلى منهج حياة، وإلى واقع عملي؟
تعامله صلى الله عليه وسلم مع شاب جاء يستأذنه في الزنا
أيها الأحبة: لقد روى الإمام
أحمد في مسنده بسند صحيح: أن شاباً -تغلي الشهوة في عروقه- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وقال: يا رسول الله! أتأذن لي في الزنا؟ -يستأذن رسول الله في الزنا- فقال الصحابة: مه! مه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ادن -أي: اقترب، لم يقل: اطردوه، أخرجوه، أخرجوا هذا النجس الفاسد الفاسق، لا- ويقترب الشاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسأله النبي صلى الله عليه وسلم برفق وحب وحنان وخلق: أتحبه لأمك؟ فيقول: لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك، فيقول: أتحبه لأختك؟ قال: لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه لابنتك؟ أتحبه لخالتك؟ أتحبه لعمتك؟ والشاب يقول: لا والله جعلني الله فداك، فيقول: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم وبناتهم، وأخواتهم، وعماتهم وخالاتهم، ومع كل ذلك يرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده المباركة الشريفة ليضعها على صدر هذا الغلام ويدعو الله عز وجل له ويقول: (
اللهم اشرح صدره! واغفر ذنبه! وحصن فرجه)، فيخرج الشاب من عند رسول الله ولا يوجد على الأرض شيء أبغض إليه من الزنا.
والله يا إخوة! لقد رأت عيني وسمعت أذني، رأيت أخوين من إخواننا العاديين البسطاء في طريقهم إلى مسجد كهذا، وأمام مكان الوضوء وقفا يتحدثان ويبدو أن أحدهما كان على سفر لأنهما تعانقا، وقفا فتحدثا حتى شرع المؤذن في إقامة الصلاة، وإذ بأحد الإخوة يمر عليهما وأراد أن يأمرهما بالتعجيل إلى الصلاة، فنظر إليهما وقال: (صل يا حمار أنت وهوه)، فاقتربت من الأخ وقلت: لا يا أخي! لن يصلوا يا أخي! قال: كيف يا شيخ! قلت: يا أخي! متى فرض الله الصلاة على الحمير؟ الحمير لا تصلي!
هل هذه طريقة بلاغ.. طريقة دعوة.. طريقة تعامل مع الخلق؟ إننا لا نتعامل أيها الإخوة مع ملائكة بررة، ولا مع شياطين مردة، ولا مع أحجار صَلدةٍ، بل نتعامل مع نفوس بشرية فيها الإقبال والإحجام.. فيها الحلال والحرام.. فيها الخير والشر.. فيها الطاعة والمعصية.. فيها الفجور والتقوى.. فيها الهدى والضلال، فلابد أن نكون على بصيرة بمفاتيح هذه النفوس البشرية؛ لنتغلغل إلى أعماق أعماقها، هذا إن كنا قد صدقنا الله بالفعل في أننا نريد أن ننقل الناس من البدعة إلى السنة، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الباطل إلى الحق، ومن الشر إلى الخير، ومن الضلال إلى الهدى، أما إن كنا نعمل من أجل أنفسنا ومن أجل الهوى فذاك شأن آخر، لكن إن كنت تريد بالفعل أن تنقل الناس من الباطل إلى الحق، فبحق، ولن تنقلهم أبداً إلا بحق، قال جل وعلا لنبينا صلى الله عليه وسلم:
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].
قال
ابن القيم رحمه الله: ولا يكون الرجل من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حقاً حتى يدعو إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم على بصيرة.
تعامله صلى الله عليه وسلم مع الأطفال
واجبنا في تعليم أطفالنا القدوة