أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة القصص المكية المباركة الميمونة، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، قال تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:68-70].
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ [القصص:69]، ويظهرون ولا يخفون، فهذا الذي يختار من يشاء من عباده يبعثهم أنبياء ورسلاً وأولياء وصالحين، فيغنيهم ويعزهم ويذلهم، أما هؤلاء فما كان لهم الخيرة في شيء، بل هو جهل مركب، أما العليم الحكيم الذي يعلم ما في الصدور وما تقول به الألسن وتنطق به فهو الذي له الحق أن يختار، لا هؤلاء الأصنام أو هؤلاء الزعماء.
مرة أخرى: عندما تقول: لا إله إلا الله، فهذه جملة كلامية، أي: خبر، فلا يوجد إله حق إلا الله، وقد قلت: لو يجتمع علماء الدنيا كلهم على أن ينقضوا هذه الجملة ويبطلوها ما استطاعوا إلا بأحد شيئين: إما بأنه لا إله بالمرة! أو بأنه يوجد آلهة مع الله! فإذا قالوا: لا إله والحياة مادة، فهم ينفون وجود الله تعالى، فنقول لهم: أما تخجلون؟ أما تستحون؟ أنتم مخلوقون ومربوبون فمن خلقكم؟ أنتم تنطقون وتتكلمون فمن وهبكم النطق حتى تتكلموا؟ ثم من خلق هذا الكون العلوي والسفلي من الذرة إلى المجرة؟ هل كل هذا يوجد بدون خالق؟! إن هذه سخرية واستهزاء، ولهذا ما كان البشر ينكرون وجود الله إلا في أيام الشيوعية فقط، وإلا فالكفار إذا سألتهم من خلقهم يقولون: الله، لكن ما كانت البشرية تنفي وجود الله قط إلا أيام أن وضع اليهود هذا المذهب الشيوعي وقالوا: لا إله والحياة مادة، أما المشركون الكافرون من أي جنس كانوا من عهد آدم إلى نبينا وإلى هذه الفترة كلهم يشهدون بأن الله موجود! قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، فهؤلاء الكفار والمشركون لئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن: الله، ولا يقولون اللات والعزى وهي صنم أمامهم، إذ ماذا تخلق هذه الأصنام؟!
مرة أخرى: جاء عن جابر بن عبد الله أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله اختار أصحابي على العالمين )، أي: فضلهم على العالمين، ( سوى النبيين والمرسلين )، إذا هم دونهم، ( واختار لي من أصحابي أربعة )، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ( فجعلهم أصحابي، وفي أصحابي كلهم خير )، أي: في أصحاب الرسول كلهم خير، ( واختار أمتي على سائر الأمم )، وهي كذلك، ( واختار لي من أمتي أربعة قرون )، لكن بعد القرن الرابع هبطت هذه الأمة، وأصبحت ليست أهلاً لولاية الله عز وجل إلا من شاء الله.
قال: [ ثانياً: تعين طلب الاختيار في الأمر كله من الله تعالى بقول العبد: اللهم خر لي واختر لي ]، وهذه لطيفة علمية ينبغي ألا ننساها، وهي: طلب الخيرة من الله عز وجل، والرسول الكريم كان يقول: ( اللهم خر لي واختر لي )، كما أنه قد علم أصحابه أن من أراد منهم أن يفعل شيئاً كأن يتزوج أو يطلق أو يسافر أو يبني أو يهدم منزلاً أو أي شيء مباح، وهو لا يعرف الخير في أي عمل، أن يصلي ركعتين يقرأ في الأولى بالحمد لله والكافرون، وفي الثانية بالحمد لله والصمد، وذلك في وقت تجوز فيه النافلة لا في وقت الكراهة مثل: بعد العصر أو بعد الصبح، ثم يسأل الله عز وجل بعد أن يصلي ركعتين أن يختار له، وقد ثبت هذا في الحديث الذي صح في الكتب، وهو وموجود في هذا الكتاب، قال عليه السلام: ( اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي، في عاجل أمري أوآجله فاقدره لي ويسره لي وأعني عليه، وبارك لي فيه، وإن كنت تعلم أنه لا خير لي فيه لا في ديني ولا في دنياي، لا في عاجل أمري ولا آجله، فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به )، ثم يذكر حاجته كأن يقول: أنا أريد أن أتزوج من فلانة، أو أريد أن أسافر إلى بلد كذا، أو أريد أن أبني منزلاً، أو أريد أن أفتح دكاناً.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـأنس: ( استخر سبع مرات )، يحض أصحابه على أن يطلبوا الخير سبع مرات، بل من استطاع أن يطلبه شهراً كاملاً فليفعل، وقد طلبناه أكثر من شهرين في مسألة من المسائل! فهل عرفتم لمن تكون الخيرة؟ إنها لله عز وجل، وبالتالي فنطلبها من الله عز وجل، فالرسول الكريم كان يقول: ( اللهم خر لي واختر لي فإنك تعلم ولا أعلم )، فنحن لا نعلم ما يحدث غداً وما يجيء به الغد، والله عز وجل يعلم، فلهذا نصلي ركعتين ثم نطلب منه أن يختار لنا الخير في الذي عزمنا على فعله أو تركه.
قال: [ ثالثاً: تأكيد سنة الاستخارة ]، أي: تنفيذ سنة الاستخارة، وهذه السنة معروفة بين المسلمين ولا يجهلها إلا الجهال، قال: [ وهي إذا هم العبد بالأمر يصلي ركعتين في وقت لا تكره فيه صلاة النافلة، ثم يدعو بدعاء الاستخارة كما ورد في الصحيح وهو: ( اللهم إني أستخيرك بعلمك وقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وفي عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي وفي عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به )، ويسمي حاجته التي هم بها ]، أي: ويسمي حاجته التي أراد أن يفعلها، قال: [ من سفر أو زواج أو بناء أو تجارة أو غرس.
رابعاً: تقرير التوحيد وإبطال التنديد ]، فلا إله إلا الله محمد رسول الله، والدار الآخرة حق.
قال: خامساً: وجوب حمد الله وشكره على كل حال، وذلك لتجدد النعمة في كل آن ]، أي: وجوب شكر الله على كل نعمة أنعم بها علينا، بل في كل حال، إذ ما في ساعة إلا ونحن في نعمة من الله تعالى، لذا ما نترك كلمة: الحمد لله أبداً، فإذا سألنا أحد: كيف حالكم؟ الحمد لله، فدائماً الحمد لله على ألسنتنا، ولهذا وصفنا للأمم السابقة كما في التوراة والإنجيل بأننا أمة الحمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر